الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلطة أعطيها ليتمكن من علاج المجرم والجريمة، وهي سلطة الاختيار وتقدير لا سلطة تحكم واستعلاء، قصد منها تمكين القاضي من تقدير خطورة الجريمة والمجرم واختيار العلاج المناسب لهما، وإنها لسلطة قمينة أن تحقق العدل، وترفع الرحج، وتضع الأمور في مواضعها، وتعاقب كلاً بما يستحقه.
وهذه الطريقة التي ابتكرتها الشريعة من ثلاثة عشر قرناً لمعالجة جرائم التعزير هي الطريقة التي اتجهت إليها القوانين الوضعية أخيراً، فهي تنجو نحو توسيع سلطان القضاء في اختيار العقوبة الملائمة للمجرم وللجريمة وتقدير هذه العقوبة، فتجعل للقاضي أن يختار في الغالب بين عقوبتين، أو يوقعهما معاً، وأن يرتفع بالعقوبة إلى حدها الأعلى، أو ينزل بها إلى الحد الأدنى، وتجعل للقاضي أيضاً أن يوقف تنفيذ العقوبة أو يمضيها بشروط معينة، ولكن سلطة القاضي في القوانين الوضعية لا تزال أضيق بكثير من سلطة القاضي في الشريعة الإسلامية، وكثيراً ما يتعرض الأول للحرج حيث يجد نفسه عاجزاً عن توقيع العقوبة التي تتلاءم مع الحالة المعروضة عليه، ولقد كان هذا سبباً دعا الكثيرين من علماء القانون إلى أن يطالبوا بتوسيع سلطان القاضي، واقترح بعضهما حلاً للمشكلة ألا ينص القانون على عقوبة كل جريمة بذاتها، بل تعين الجرائم دون تعيين عقوبتها، ثم تعين العقوبات التي يستطيع القاضي تطبيقها، ويترك له أن يختار هو لكل جريمة العقوبة الملائمة بعد تقدير ظروف الجريمة وظروف الجاني. وهذه الطريقة التي يقترحها بعض علماء القانون هي نفس الطريقة التي تسير عليها الشريعة في جرائم التعزير.
* * *
القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة
106 -
التعزير للمصلحة العامة: القاعدة العامة في الشريعة أن التعزير
لا يكون إلا في معصية، أي في فعل محرم لذاته منصوص على تحريمه، ولكن الشريعة تجيزاستثناء من هذه القاعدة العامة أن يكون التعزير في غير معصية، أي فيما لم ينص على تحريمه لذاته إذا اقتضت المصلحة العامة التعزير (1) .
والأفعال والحالات التي تدخل تحت هذا الاستثناء لا يمكن تعيينها ولا حصرها مقدماً؛ لأنها ليست محرمة لذاتها، وإنما تحرم لوصفها، فإن توفر فيها الوصف فهي محرمة وإن تخلف عنها الوصف فهي مباحة، والوصف الذي جعل علة للعقاب هو الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام، فإذا توفر هذا الوصف في فعل أو حالة استحق الجاني العقاب، وإذا تخلف الوصف فلا عقاب، وعلى هذا يشترط في التعزير للمصلحة العامة أن ينسب إلى الجاني أحد أمرين:
(1)
أنه أرتكب فعلاً يمس المصلحة العامة أو النظام العام.
(2)
أنه أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام.
فإذا عرضت على القضاء قضية نسب فيها للمتهم أنه أتى فعلاً يمس المصلحة العامة أو النظام العام، أو أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام، وثبت لدى المحكمة صحة ما نسب إلى المتهم لم يكن للقاضي أن يبرئه، وإنما عليه أن يعاقب على ما نسب إليه بالعقوبة التي يراها ملائمة من بين العقوبات المقررة للتعزير، ولو كان ما نسب إلى الجاني غير محرم في الأصل ولا عقاب عليه لذاته.
ويستدل الفقهاء على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً اتهم بسرقة بعير، ولما ظهر فيما بعد أنه لم يسرقه أخلى الرسول سبيله (2) ، ووجه الاستدلال أن الحبس عقوبة تعزيرية والعقوبة لا تكون
(1) نهاية المحتاج ج8ص18، 19، الإقناع ج4 ص269، ابن عابدين ج3 ص251، 259، تبصرة الحكام ج2 ص26
(2)
شرح فتح القدير ج4 ص117
إلا عن جريمة وبعد ثبوتها، فإذا كان الرسول قد حبس الرجل لمجرد الاتهام فمعنى ذلك أنه عاقبه على التهمة، وأنه أباح عقاب كل من يوجد نفسه أو توجده الظروف في حالة اتهام ولو لم يأت فعلاً محرماً، وهذا العقاب الذي فرضه الرسول بعمله تبرره المصلحة العامة، ويبرره الحرص على النظام العام؛ لأن ترك المتهم مطلق السراح قبل تحقيق ما نسب إليه يؤدي إلى هربه، وقد يؤدي إلى صدور حكم غير صحيح عليه، أو يؤدي إلى عدم تنفيذ العقوبة عليه بعد الحكم، فأساس العقاب هو حماية المصلحة العامة وصيانة النظام العام.
ويستدل الفقهاء أيضاً على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بما فعل عمر رضي الله عنه بنصر بن حجاج، فقد كان عمر يعس في المدينة فسمع امرأة تقول:
هل من سبيل لخمر فأشربها
…
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟
فدعا عمر نصر بن حجاج، فوجده شاباً حسن الصورة فحلق رأسه فازداد جمالاً، فنفاه إلى البصرة، خشية أن تفتتن النساء بجماله، مع أنه لم ينسب إليه أنه ارتكب فعلاً محرماً. ووجه الاستدلال أن النفي عقوبة تعزيرية وقعها عمر على نصر بن حجاج لأنه رأى أن وجوده في المدينة ضار بصالح الجماعة مع أن جماله هو الذي أوجده في هذه الحالة، ومع أنه لم يقصد الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام.
ومن أمثلة التعزير للمصلحة العامة تأديب الصبيان على ترك الصلاة والطهارة، وتأديبهم على ما يأتون من أفعال تعتبرها الشريعة جرائم، مع أن هذه الأفعال لا تعتبر جرائم في حق الصبيان غير المميزين؛ لأنهم ليسوا أهلاً للتكليف، فلا يعتبر إقدامهم على هذه الأفعال عصياناً، ولا تعتبر أفعالهم معاصي (1) ، ومن ثم فهم لا يعاقبون بالعقوبات المقررة لها، ولكنهم يعزرون لحماية المصلحة العامة.
(1) نهاية المحتاج ج8 ص18، الإقناع ج4 ص269، 273، بدائع الصنائع ج7 ص64، ويرى البعض اعتبار الفعل معصية بذاته.
ومن أمثلة التعزير للمصلحة العامة منع المجنون من الاتصال بالناس إذا كان في اتصاله بهم ضرر عليهم، وحبس من شهر بإيذاء الناس ولو لم يقم عليه دليل أنه أتى فعلاً معيناً.
ونظرية التعزير للمصلحة العامة تسمح باتخاذ أي إجراء، لحماية أمن الجماعة وصيانة نظامها من الأشخاص المشبوهين والخطرين، ومعتادي الإجرام، ودعاة الانقلابات والفتن، والنظرية بعد ذلك تقوم على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
107 -
سلطة القاضي في التعزير للمصلحة العامة ليست تحكمية: قلنا: إن الحالات التي يُعزَّر فيها على فعل لم ينص على تحريمه بذاته من قبل لا يمكن حصرها، وإن القاضي ليس له أن يحكم بالعقوبة في الحالة التي تعرض عليه إلا إذا كان فيها ما يمس النظام العام أو صالح الجماعة، فإن لم تكن كذلك قضى بالبراءة، وإذا عاقب فليس له أن يعاقب إلا بإحدى عقوبات التعزير، فسلطة القاضي إذن ليست مطلقة ولا تحكمية، وإنما هي مقيدة بقيود بينتها الشريعة وأوجبت توفرها.
وسلطة القاضي هنا لا تزيد شيئاً عن سلطته في جرائم التعزير المنصوص على تحريمها، وكل ما يمكن قوله عن هذه السلطة أنها سلطة واسعة أعطيت للقاضي ليحسن اختيار العقوبة وتقدير ظروف الجريمة والمجرم، ولم تعط إليه ليخلق الجرائم وينشئ العقوبات، ومهما وسعت الشريعة من سلطة القاضي فإنها لم تخرج عن قاعدتها العامة التي تقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، بل ظلت الشريعة متمسكة بهذه القاعدة، وإن طبقتها على وجه خاص في حالة التعزير للمصلحة العامة.
ويخطئ خطأ جسيماً من يظن أن القاضي له أن يعتبر الفعل جريمة إذا كان ماساً بالنظام العام أو صالح الجماعة؛ لأن الشريعة تشترط للعقاب أن تكون الحالة
أو الفعل ماساً بالصالح العام أو النظام، وهذا في ذاته تحديد للجريمة، ونص صريح على أن كل إنسان أتى فعلاً يمس مصلحة عامة أو نظام الجماعة، أو وجد في حالة تؤذي المصلحة والنظام العامين - يعاقب بالعقوبات المقررة للمعاصي، والفعل المحرم إذا لم يعين بذاته فإنه يعين بوصفه.
108 -
لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في هذا النوع من التعزير: فالشريعة إذن لم تخرج على القاعدة القائلة بأن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، وإنما تساهلت في تطبيقها على هذا النوع من الجرائم أكثر مما تساهلت في تطبيقها على جرائم التعزير العادية. فبدلاً من أن تنص على الفعل المكون للجريمة وتحدد له عقوبة مقدرة كما فعلت في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية، وبدلاً من أن تنص على الفعل المحرم وتعينه ثم تترك القاضي أن يعاقب عليه بالعقوبة التي يراها ملائمة من بين العقوبات المقررة للتعزير، جاءت بدلاً من هذا كله تقرر: أن كا فعل أو حالة تمس نظام الجماعة أو مصلحتها يعاقب عليها بالعقوبة التي يراها القاضي ملائمة من العقوبات المقررة للتعزير.
ونستطيع أن نتبين فيما يلي الطرائق المختلفة التي اتبعتها الشريعة في تطبيق قاعدة أن لا عقوبة ولا جريمة بلا نص، ومدى الفرق بين هذه الطرائق:
أولاً: من حيث النص على الجريمة: حددت الشريعة عين الفعل المكون للجريمة، وعينته تعييناً لا شك فيه في جرائم الحدود، وفي جرائم القصاص والدية، وفي جرائم التعازير العادية، فهو جريمة في أي وقت، وفي أي ظرف، أما في التعزير للصالح العام فالفعل المحرم لم يحدد بعينه، وإنما حُدد بوصفه، ولما كان من الممكن أن يتخلف الوصف عن الفعل، فيترتب على هذا أن يكون فعل ما في بعض الظروف ماساً بصالح الجماعة أو نظامها، وفي ظروف أخرى غير ماس بهما.
ثانياً: من حيث النص على العقوبة: نصت الشريعة على العقوبات المقررة للجرائم في كل الأحوال، ولكنها عينت عقوبة كل جريمة على حدة، وجعلتها
لازمة في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، أما في جرائم التعازير جميعاً سواء كانت عادية أو مقررة لحماية المصلحة العامة والنظام العام فقد عينت الشريعة مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة.
هذا هو أثر قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير المقررة لحماية المصلحة العامة. فالقاعدة مطبقة ولكن في حدود واسعة، ومن ثم فلا يمكن القول بأن الجاني يعاقب على فعل لم يحرم، أو لم يعلم بسبق تحريمه؛ لأن الشريعة تعاقب على كل فعل يصدر من صاحبه ماساً بالنظام العام أو المصلحة العامة، وعلى كل حال يوجد فيها الجاني إذا مست بنظام الجماعة وصالحها، فعلى كل إنسان إذن أن يبتعد عن كل ما يمس بالصالح العام، وعليه أن يراعي الظروف ويحسب حسابها ويقدرها في كل وقت وآن.
109 -
العلة في إجازة التعزير للمصلحة العامة: والضرورات الاجتماعية هي المسوغ الوحيد لإقرار الشريعة هذا النوع من جرائم التعزير، فحماية نظام الجماعة وصوالحها العامة تقتضي نصوصاً مرنة تلائم كل وقت وآن، وكل ظرف وحالة، وليس أكثر مرونة وأكثر ملائمة لحاجات الجماعة من هذا الذي جاءت به الشريعة، فإنه قَمين أن يقمع كل من تحدثه نفسه بإلحاق الضرر بالجماعة أو بنظامها؛ لأنه إذا استطاع أن يفلت من أحكام النصوص الجامدة فلن يستطيع بحال أن يفلت من هذه النصوص المرنة، وسنرى بعد قليل أن أحدث القوانين الوضعية أخذت بنظرية الشريعة الإسلامية توصلاً لحماية النظام العام والصالح العام.
* * *