الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الألفاظ وروداً في القرآن، وإن الشريعة لتلزم المسلم أن لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يسكن ولا يعمل ولا يتعبد ولا ينام ولا يستيقظ حتى يذكر اسم الله الرحمن الرحيم، فإذا ذكرنا الرحمة وتأثر بها في قوله وفعله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الراحمون يرحمهم الرحمن"، ويقول:"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، فالرحمة أساس من أسس الشريعة الأولية، وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تعرف للقسوة سبيلاً.
* * *
المبحث الخامس
عقوبة الحرابة
463 -
عقوبة المحارب: فرضت الشريعة لجريمة الحرابة أربع عقوبات هي:
(1)
القتل.
…
... (2) القتل مع الصلب.
…
... (3) القطع.
…
(4)
النفي.
ومصدر هذه العقوبات التشريعي هو القرآن، حيث يقول الله جل شأنه:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 32] .
464 -
القتل: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا قتل، وهي حد لا قصاص، فلا تسقط بعفو ولي المجني عليه. وقد وضعت العقوبة على أساس من العلم بطبيعة الإنسان البشرية، فالقاتل تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقى هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما يقتل نفسه أيضاً امتنع في الغالب عن القتل، فالشريعة بتقريرها عقوبة القتل دفعت العوامل النفسية الداعية للقتل بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي يمكن أن تمنع من ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر الإنسان في قتل غيره ذكر أنه سيعاقب على فعله بالقتل فكان في ذلك ما يصرفه غالباً عن الجريمة.
465 -
القتل مع الصلب: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا
قتل وأخذ المال، فهي عقوبة على القتل والسرقة معاً، أو هي عقوبة على جريمتين كلتاهما اقترنت بالأخرى أو ارتكبت إحداهما وهي القتل لتسهيل الأخرى وهي أخذ المال.
والعقوبة حد لا قصاص، فلا تسقط بعفو ولي المجني عليه.
وقد وضعت العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة القتل، لكن لما كان الحصول على المال هنا يشجع بطبيعة الحال على ارتكاب الجريمة وجب أن تغلظ العقوبة بحيث إذا فكر الجاني في الجريمة وذكر العقوبة المغلظة وجد فيها ما يصرفه عن الجريمة المزدوجة.
ويرى بعض الفقهاء تقديم الصلب على القتل، فيصلب الجاني حياً ثم يقتل وهو مصلوب، وحجة هذا الفريق أن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت. ويرى البعض الآخر تقديم القتل على الصلب فيقتل أولاً ثم يصلب، وحجتهم أن النص قدم القتل على الصلب في اللفظ فوجب أن يتقدمه في الفعل، وأن الصلب قبل القتل تعذيب للمحكوم عليه والشريعة تنهي عن التعذيب، وأن الصلب ليس عقوبة شرعت لردع القاتل ولو كان عقوبة ردع لجبه القتل طبقاً لقواعد الشريعة، وإنما هو عقوبة شرعت للزجر فالمقصود من الصلب اشتهار أمره فيرتدع بذلك غيره (1) ، والرأي الأول لمالك وأبي حنيفة، والرأي الثاني للشافعي وأحمد.
والصلب مع القتل يقابل في عصرنا الحاضر القتل رمياً بالرصاص، حيث يشد المحكوم عليه إلى خشبة على شكل الصليب ثم يطلق عليه الرصاص.
ولا يوافق الفقهاء على إبقاء المصلوب مدة طويلة، ويحدد بعضهم مدة الصلب بثلاثة أيام، ويحددها بعضهم ببدء تعفن الجثة فإذا بدأ التعفن أنزلت الجثة. ويرى البعض الاكتفاء بمجرد الصلب فيصلب بقدر ما يقع عليه اسم
(1) المغني ج10 ص308.
الصلب. ويرى البعض أن يصلب بقدر ما يشهر أمره على أن تنزل الجثة قبل بدء التعفن (1) .
وقد أحسنت الشريعة في التفريق بين عقاب القتل وحده والقتل المقترن بأخذ المال؛ لأن الجريمتين مختلفتان وكلتاهما لا تساوي الأخرى فوجب من ناحية المنطق والعقل أن تختلف عقوبة إحداهما عن الأخرى.
وقد يقال: إنه لا فائدة لأي عقوبة أخرى مع عقوبة القتل خصوصاً وأن الصلب مع القتل ليس إلا القتل مصحوباً بالتهويل؛ فالصلب زيادة لا فائدة منها. والرد على ذلك من أهون الأمور: فلكل عقوبة غرضان: تأديب الجاني وزجر غيره، وإذا كان كل تأديب لغواً بعد عقوبة القتل فكل عقوبة أخرى مهما صغرت لها أثرها في الزجر إذا صحبت عقوبة القتل، والصلب حقيقة لا يؤثر على المحكوم عليه خصوصاً إذا كان الصلب بعد الموت، ولكن أثر الصلب على الجمهور شديد بل قد يكون هو الشيء الوحيد الذي يجعل لعقوبة القتل قيمتها بين الجمهور عامة وبين قطاع الطرق خاصة، فالصلب له أثره الذي لا ينكر في زجر الغير وكفه عن الجريمة.
466 -
القطع: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخذ المال ولم يقتل (2) .
والمقصود بالقطع قطع يد المجرم اليمنى ورجله اليسرى دفعة واحدة؛ أي قطع يده ورجله من خلاف.
وقد وضعت هذه العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة السرقة. إلا أنه لما كانت الجريمة ترتكب عادة في الطرق وبعيداً عن العمران كان قاطع الطريق في أغلب الأمر على ثقة من النجاح وفي أمن من المطاردة، وهذا مما يقوي العوامل النفسية الداعية للجريمة ويرجحها على العوامل الصارفة
(1) المغني ج10 ص308.
(2)
راجع الفقرة 379.
التي تبعثها في النفس عقوبة السرقة العادية، فوجب من أجل ذلك تغليظ العقوبة حتى تتعادل العوامل النفسية التي تصرف عن الجريمة مع العوامل النفسية التي تدعو إليها.
وعقوبة قاطع الطريق هنا تساوي عقوبة السارق إذا سرق مرتين وهي عقوبة لا شك عادلة، لأن خطورة قاطع الطريق لا تقل خطورة عن ضعف خطورة السارق العادي، ولأن فرصة قاطع الطريق في النجاح والإفلات قد تزيد على ضعف فرصة السارق العادي.
وإذا كانت الشريعة تضاعف العقوبة المقررة للسرقة العادية وتجعلها عقوبة لقاطع الطريق فإن القانون المصري يجعلها خمسة أمثال العقوبة المقررة للسرقة العادية على الأقل؛ لأنه يعاقب على السرقة المصحوبة بظروف بسيطة بالحبس لمدة ثلاث سنوات، ويعاقب على السرقة التي تقع في الطرقات العمومية بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الأشغال الشاقة المؤقتة، وعقوبة الأشغال المؤقتة حدها خمسة عشر عاماً، فهي خمسة أمثال عقوبة الحبس من حيث عدد السنوات، وسنرى فيما بعد أن حوالي نصف المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يعودون إلى ارتكاب الجرائم في ظرف سنة من تاريخ الإفراج عنهم، وأنهم يخرجون من السجن وهم أشد ميلاً للإجرام وأكثر حذقاً له، وأنهم يصبحون بعد خروجهم من السجن خطراً يهدد الأمن والنظام، ومن السهل أن يصدق كل إنسان هذا القول ويؤمن به، ولكن هل يستطيع أحد مهما بعد به الخيال أن يصدق أن رجلاً مقطوع اليد والرجل يصلح لارتكاب الجرائم، أو ينفعه شيئاً حذقه للإجرام، أو يستطيع أن يصبح خطراً على الأمن والنظام؟
467 -
النفي: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخاف الناس ولم يأخذ مالاً ولم يقتل.
وتعليل هذه العقوبة: أن قاطع الطريق الذي يخيف الناس ولا يأخذ منهم
مالاً ولا يقتل منهم أحداً إنما يقصد الشهرة وبعد الصيت، فعوقب بالنفي وهو يؤدي إلى الخمول وانقطاع الذكر. وقد تكون العلة أنه بتخويف الناس نفى الأمن عن الطريق وهو بعض الأرض فعوقب بنفي الأمن عنه في كل الأرض.
وسواء صحت هذه العلة أو تلك فالعوامل النفسية التي تدعو للجريمة في كل حال قد دفعتها الشريعة بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي تصرف عن الجريمة، فهو إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر العقوبة فعلم أنها تجر عليه الخمول، وهو إذا فكر في الجريمة ليخيف الناس وينفي الأمن عنهم في بعض الأرض ذكر العقوبة فعلم أنه سينفي عنه الأمن في كل الأرض، وحينئذ ترجح في أغلب الأحوال العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية إليها، فأساس العقوبة هو العلم بطبيعة النفس البشرية.
والرأي الراجح: أن النفي يكون من بلد إلى بلد داخل حدود دار الإسلام (1) ، على أن لاتقل المسافة بين البلدين عن مسافة القصر (2) ، وعلى أن يحبس الجاني في البلد الذي ينفى إليه، وليس للحبس أمد معين بل هو متوقف على ظهور توبة المحكوم عليه وصلاحه فإن ظهرت أطلق سراحه. وحجتهم في حبس المحكوم عليه أن العقوبة يجب أن يكون لها معنى؛ لأن نقل قاطع الطريق من بلد إلى آخر لا معنى له إذا بقى مطلق السراح، ولا يمنعه أن يفعل ما فعله من قبل، فلكي يكون للنفي معناه يجب أن يحبس (3) .
وعقوبة النفي بالمعنى السابق تقابل عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية التي عرفتها أخيراً القوانين الوضعية، تلك العقوبة التي تقوم على حبس المحكوم
(1) يرى بعض الفقهاء أن النفي هو إخراج المنفي من أرض الإسلام إلى أرض الحرب، وهو رأي مهمل.
(2)
مسافة القصر هي مسيرة يوم بالسير الوسط، كما يرى مالك والشافعي وأحمد، وهي مسيرة ثلاثة أيام كما يرى أبو حنيفة، وهي سبعة عشر ميلاً كما يرى البعض.
(3)
شرح الزرقاني ج8 ص110، بداية المجتهد ج2 ص381، أسنى المطالب ج4 ص145، المغني ج10 ص313.