الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الاشتراك المباشر
258 -
اشتراك المباشرين: الأصل أن هذا النوع من الاشتراك يوجد في حالة تعدد الجناة الذين يباشرون ركن الجريمة المادي، وهو ما نسميه اليوم بتعدد الفاعلين الأصليين أو اشتراك أكثر من فاعل أصلي في الجريمة، ولكن الفقهاء يلحقون هذا النوع من الاشتراك بعض صور الاشتراك بالتسبب ويجعلون حكمها واحداً ولو أن الشريك بالتسبب لا يباشر ركن الجريمة المادي بنفسه، وعلى هذا يعتبر مباشراً للجريمة:
أولاً: من يرتكبها وحده أو مع غيره، فمن قتل إنساناً أو سرق متاعاً فهو مباشر لجريمة القتل أو السرقة، وإذا اشترك اثنان أو ثلاثة في قتل فأطلق كل منها عياراً على المجني عليه فأصابه إصابة قاتلة فكل منهم مباشر لجريمة القتل، وإذا سرقوا من حرز أمتعة لآخر فكل منهم سارق.
مسئولية المباشر في حالتي التوافق والتمالؤ: يفرق أغلب الفقهاء بين مسئولية الشريك المباشر في حالة التوافق وبين مسئوليته في حالة التمالؤ، ففي حالة التوافق يسأل كل شريك عن نتيجة فعله فقط، ولا يسأل عن نتيجة فعل غيره، كشخصين ضربا ثالثاً فقطع أحدهما يده وقطع الثاني رقبته، فسأل الأول عن القطع، ويسأل الثاني عن القتل، أما في حالة التمالؤ فيسأل كل منهما عن القتل.
والتوافق معناه أن تتجه إرادة المشتركين في الجريمة إلى ارتكابها دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بل يعمل كل منهم تحت تأثير الدافع الشخصي والفكرة الطارئة، كما هو الحال في المشاجرات التي تحدث فجأة، فيتجمع لها أهل المتشاجرين
دون اتفاق سابق، ويعمل كل منهم بحسب ما تمليه عليه رغبته الذاتية وفكرته الطارئة، ففي هذه الحالة وأمثالها يقال أن بين المشتركين توافقاً، ولكن كلاً منهم لا يسأل إلا عن فعله فقط، ولا يتحمل نتيجة فعل غيره.
أما التمالؤ فيقتضي الاتفاق السابق بين الشركاء المباشرين على ارتكاب الجريمة، بمعنى أنهم يقصدون جميعاً قبل ارتكاب الحادث الوصول إلى تحقيق غرض معين، ويتعاونون أثناء وقوع الحادث على إحداث ما اتفقوا عليه، فإذا اتفق شخصان على قتل ثالث، ثم ذهبا لتنفيذ الجريمة فضربه أحدهما بسكين فقطع إصبع يده، وذبحه الثاني، فإنهما يعتبران متماثلان على جريمة القتل، وكلاهما مسئول عن القتل لهذا التمالؤ.
ولا يفرق أبو حنيفة بين التوافق والتمالؤ، فحكمهما عنده واحد، والجاني لا يسأل في الحالين إلا عن فعله فقط (1) . أما بقية الأئمة فيفرقون بين التوافق والتمالؤ على الوجه الذي سبق بيانه (2) . على أن بعض الفقهاء في مذهب الشافعي وأحمد يأخذون برأي أبي حنيفة (3) .
متى يعد الجاني شريكاً مباشراً؟: يعد الجاني شريكاً مباشراً كلما أتى فعلاً يعتبر به أنه بدأ في تنفيذ الجريمة، وهو يعتبر كذلك كلما أتى فعلاً يعتبر معصية قاصداً به تنفيذ الجريمة، فهو يعد مباشراً للجريمة كلما اعتبر شارعاً في تنفيذها بتعبيرنا العصري، سواء تمت الجريمة أو لم تتم؛ لأن تمام الجريمة أو عدم تمامها ليس له أثر على اعتباره شريكاً مباشراً، وإنما قاصر على العقوبة، فإن تمت الجريمة وكانت حداً وجبت عقوبة الحد، وإن لم تتم وجبت عقوبة التعزير فقط،
(1) الزيلعي ج6 ص114، البحر الرائق ج8 ص310.
(2)
شرح الدردير ج4 ص217، 218، نهاية المحتاج ج7 ص261، 263، تحفة المحتاج ج4 ص14، 15، حاشية البيجيرمي على المنهج ج4 ص140، الإقناع ج4 ص71.
(3)
المغني ج9 ص366، الشرح الكبير ج9 ص335، المهذب ج2 ص716.
فإذا كانت الجريمة من جرائم التعزير فالعقوبة هي التعزير في حالة التمام وعدم التمام.
وقد بينا من قبل أن نظرية الشريعة الإسلامية في الشروع تتفق من نظرية أصحاب المذهب الشخصي في القوانين الوضعية (1) ، وهي النظرية السائدة في معظم القوانين والتي يتجه إليها معظم الشراح، ونزيد هنا أن نظرية الشريعة في الشريك المباشر قامة على نفس الأساس الذي قامت عليه نظرية الشروع، ومن ثم فهي تتفق مع ما تأخذ به معظم القوانين الوضعية الحديثة ومنها القانون المصري.
ثانياً: يعتبر مباشراً للجريمة الشريك المتسبب إذا كان المباشر آله في يده يحركه كيف يشاء، ولا خلاف بين الفقهاء على تقرير هذا المبدأ، ولكنهم يختلفون في تطبيقه، فمن يأمر شخصاً حسن النية بقتل آخر فيقتله فإن الآمر يعتبر فاعلاً مباشراً للجريمة عند مالك والشافعي وأحمد ولو أنه لم يباشر الفعل المادي؛ لأن المأمور كان أداة في يد الآمر يحركه كيف يشاء (2) . أما أبو حنيفة فلا يعتبر الآمر مباشراً إلا إذا كان أمره إكراهاً للمأمور فإن لم يبلغ الأمر درجة الإكراه فهو شريك بالتسبب فقط وليس مباشراً ولا يأخذ حكم المباشر (3) .
واعتبار الشريك بالتسبب مباشراً هي نظرية محل خلاف بين القوانين الوضعية وبين الشراح، فمن القوانين والشراح من يأخذ بها ومنهم من لا يأخذ بها، وكان القانون المصري يأخذ بهذه النظرية قبل سنة 1904 حيث كان يعاقب الرئيس الآمر بالقتل والقادر على استعمال الوسائل
(1) راجع الفقرة 250.
(2)
الشرح الكبير للدردير ج4 ص216، 218، المهذب ج2 ص189، الشرح الكبير ج9 ص344، المغني ج9 ص331.
(3)
بدائع الصنائع ج7 ص180.
الجبرية باعتباره فاعلاً أصلياً لا شريكاً للفاعل (1) . أما بعد سنة 1904 فقد أصبح القانون المصري يعتبر الآمر شريكاً كما هو ظاهر النص، ولكن المحاكم المصرية لا يزال مع ذلك على اعتبار الشريك المتسبب مباشراً متأثرة في هذا بقوة النظرية ورجوح رأي مؤيديها، فكأن المحاكم المصرية تأخذ اليوم في هذه المسألة بنظرية الشريعة الإسلامية.
259 -
عقوبة المباشرين: القاعدة في الشريعة أن تعدد الفاعلين لا يؤثر على العقوبة التي يستحقها كل منهم لو كان قد ارتكب الجريمة بمفرده، فعقوبة من اشترك مع آخرين في مباشرة جريمة هي نفس العقوبة المقررة لمن ارتكب الجريمة واحدة، ولو أن الجاني عند التعدد لا يأتي كل الأفعال المكونة للجريمة.
260 -
أثر ظروف المباشر على العقوبة: وإذا كانت عقوبة الجريمة واجبة على كل مباشر وإن اشترك مع غيره إلا أن عقوبة كل مباشر تتأثر بظروفه الخاصة. والأصل في ذلك أن العقوبة المستحقة على كل جان تتأثر بصفة الفعل، وصفة الفاعل، وقصد الفاعل، فقد يكون الفعل بالنسبة لأحد الجناة اعتداء، وبالنسبة للثاني دفعاً لصائل، أي دفاعاً شرعياً، وبالنسبة للثالث تأديباً. وقد يكون أحد الفاعلين مجنوناً وأحدهم عاقلاً، وقد يكون أحدهم عامداً وأحدهم مخطئاً. وكل هذا يؤثر على العقوبة، فمن كان في حالة دفاع أو تأديب لا عقاب عليه إذا لم يجاوز حد الدفاع أو التأديب، ومن كان مجنوناً فلا عقاب عليه، بخلاف العاقل المميز، ومن كان مخطئاً نزلت عقوبته عن عقوبة العامد.
261 -
هل تتأثر عقوبة الشريك بظروف شريكه؟: القاعدة في
(1) راجع المادتين 223، 224 من قانون العقوبات المصري الصادر في سنة 1883.
الشريعة أنه إذا تأثرت عقوبة أحد الشركاء لصفة في الفعل، أو لصفة في التفاعل، أو لقصد الفاعل، فإن عقوبة الشريك الآخر الذي لم تتوفر له هذه الصفات لا تتأثر بفعل غيره أو صفته أو قصده. فإذا جرح شخصاً آخر دفاعاً عن نفسه وتعمد ثان جرحه بقصد قتله، فمات من الجرحين، فإن الجاني الأول يعفي من العقاب؛ لأن وجوده في حالة دفاع شرعي أباح له الفعل، ويعاقب الثاني بعقوبة القتل العمد؛ لأن فعله عدوان متعمد، ولا يؤثر على عقوبته أنه اشترك في القتل مع من يباح له القتل؛ لأن إعفاء الأول كان لصفة في فعله لم تتوفر في فعل الثاني. وإذا اشترك مجنون مع عاقل في ارتكاب جريمة أعفى الأول من العقوبة لجنونه، وعوقب الثاني بالعقوبة المقررة للجريمة دون أن يكون للإعفاء الأول أثر على عقوبة الثاني، إذ الإعفاء أساسه معنى أو صفة توفرت في الأول ولم تتوفر في الثاني.
والأب حين يشترك مع غيره في قتل ولده لا يقتص منه، ولكن الغير يقتص منه؛ لأن أساس إعفاء الأب صفة الأبوة في الأب وهي صفة خاصة به لا تتوفر في شريكه فلا يستفيد منها الشريك. والعامد والمخطئ إذا اشتركا في جريمة قتل عوقب كل منهما على أساس قصده، فعلى العامد عقوبة العمد، وعلى المخطئ عقوبة الخطأ، ولا تتأثر عقوبة الأول بتخفيف عقوبة الثاني؛ لأن أساس التخفيف انعدام قصد الجاني وهو معنى لا يتوفر في العامد (1) .
هذه هي القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية ولا خلاف عليها بين الفقهاء، وإذا كانوا قد اختلفوا عند تطبيق القاعدة على جرائم الحدود والقصاص فإن الخلاف ليس في الواقع على تطبيق هذه القاعدة، وإنما الخلاف على تطبيق قاعدة أخرى هي قاعدة درء الحدود بالشبهات، كما أن الخلاف محصور في
(1) مواهب الجليل ج6 ص242، الشرح الكبير للدردير ج4 ص218، 219، بدائع الصنائع ج7 ص439، البحر الرائق ج8 ص301، نهاية المحتاج ج7 ص262 وما بعدها، المهذب ج2 ص297، المغني ج9 ص373، 379 وما بعدها.
حالات التي يحتمل فيها أن يكون فعل أحد المباشرين هو الذي أدى إلى النتيجة المعاقب عليها دون فعل الآخر أو الآخرين، كحالة القتل من مخطئ وعامد ومن مدافع ومعتد، ومن مجنون وعاقل، ومن صبي وبالغ، ومن عمل الطبيب وعدوان الجاني. اختلفوا في هذه الحالات وأمثالها؛ لأن فعل الشريكين أدى للقتل ومن المحتمل أن يكون فعل أحدهما هو الذي أدى للقتل دون فعل شريكه، فرأى البعض في قيام هذا الاحتمال شبهة درأ على أساسها الحد عن الشريك الآخر، ورأى البغض أن لا شبهة فلم يدرأ الحد وعاقب كلاً بعقوبته المستحقة عليه، فالخلاف إذن ليس على القاعدة الأصلية، وإنما هو على قاعدة درء الحدود بالشبهات، وإن كانت النتيجة العملية عند من يدرأ الحد أن الشريك يتأثر بظروف شريكه عملاً سواء كانت هذه الظروف قائمة على صفة الفعل أو صفة الفاعل أو قصده.
ونظرية الشريعة في عدم تأثر عقوبة الشريك المباشر بظروف شريكه تتفق تمام الاتفاق مع النظرية التي أخذ بها قانون العقوبات المصري، وهي النظرية السائدة في القوانين الوضعية، فالقانون المصري ينص على أنه "إذا وجدت أحوال خاصة بأحد الفاعلين تقتضي تغيير وصف الجريمة أو العقوبة بالنسبة له فلا يتعدى أثرها إلى غيره منهم. وكذلك الحال إذا تغير الواصف باعتبار قصد مرتكب الجريمة أو كيفية علمه بها"(1) .
* * *
المبحث الثاني
الاشتراك بالتسبب
262 -
الشركاء المتسببون: يعتبر شريكاً متسبباً من اتفق مع غيره على
(1) راجع المادة 39 من قانون العقوبات المصري.
ارتكاب فعل معاقب عليه، ومن حرض غيره أو أعانه على هذا الفعل، ويشترط في الشريك أن يكون قاصداً الاتفاق أو تحريض أو الإعانة على الجريمة.
263 -
شروط الاشتراك بالتسبب: ويستخلص مما سبق أن الاشتراك بالتسبب لا يوجد إلا إذا توفرت ثلاثة شروط: أولها: فعل معاقب عليه هو الجريمة. وثانيها: وسيلة لهذا الفعل وهي اتفاق أو تحريض أو إعانة. وثالثها: أن يكون الشريك قاصداً من وسائله وقوع الفعل المعاقب عليه. وسنتكلم على هذه الشروط واحداً بعد الآخر فيما يلي:
الشرط الأول: الفعل المعاقب عليه: يشترط لوجود الاشتراك أن يكون هناك فعل معاقب عليه، وأن يقع هذا الفعل، وليس من الضروري أن يقع الفعل تاماً، بل يكفي لمؤاخذة الشريك أن يكون الفعل غير تام؛ أي شروعاً معاقباً عليه، وليس من الضروري أن يعاقب الفاعل المباشر ليعاقب الشريك، فقد يكون المباشر حسن النية فلا يعاقب ويعاقب الشريك، وقد يعفي الفاعل من العقوبة لصغره أو لجنونه ويعاقب الشريك.
الشريك الثاني: ويجب أن يكون الاشتراك باتفاق أو تحريض أو إعانة:
أ - الاتفاق: يفرق أغلب الفقهاء كما ذكرنا (1) بين التوافق والاتفاق أي التمالؤ، فالتوافق هو توارد خواطر أكثر من شخص على ارتكاب جريمة ما دون اتفاق فيما بينهم، ولا يعتبر الموافقون شركاء بالتسبب، وإنما يمكن اعتبارهم شركاء بالمباشرة إذا ارتكبوا الفعل المحرم.
أما الاتفاق فيقتضي تفاهماً سابقاً على ارتكاب الجريمة بين الشريك المتسبب والشريك المباشر، كما يقتضي اتجاه إرادتهما واتحادهما على ارتكاب الجريمة، فإذا لم يكن هناك اتفاق سابق فلا اشتراك، وإذا كان هناك اتفاق سابق ولكن
(1) راجع الفقرة 258.
على غير الجريمة التي ارتكبت فليس هناك اشتراك، فمن اتفق مع آخر على سرقة جاموسة شخص معين فذهب المباشر وضرب صاحب الجاموسة أو سرق الجاموسة شخص آخر فلا اشتراك، ولكن انعدام الاشتراك لا يمنع من العقاب على الاتفاق مستقلاً؛ لأنه معصية.
ولقيام الاشتراك يجب أن تقع الجريمة نتيجة للاتفاق، فإذا وقعت الجريمة المتفق عليها ولكن لم يكن وقوعها نتيجة الاتفاق فلا اشتراك، فمن اتفق مع آخر على قتل ثالث، وبعد اتفاقهما وقبل حلول الموعد المحدد لارتكاب الجريمة علم الثالث بما دبر له؛ فذهب إلى الموكل بمباشرة الجريمة وحاول أن يقتله، فقتله الآخر دفاعاً عن نفسه، فلا مسئولية على المباشر؛ لأنه كان في حالة دفاع عن النفس، ولكنه هو ومن اتفق معه مسئولان عن اتفاقهما على ارتكاب جريمة القتل ولو لم تنفذ هذه الجريمة؛ لأن الاتفاق على ارتكاب الجريمة معصية في ذاته سواء وضع موضع التنفيذ أو لم يوضع.
نظرية لمالك: ويعتبر مالك من اتفق مع آخر على ارتكاب جريمة وحضر أثناء ارتكابها شريكاً مباشراً لا شريكاً متسبباً، ولو أنه لم يباشر الجريمة ولم يعن المباشر إذا كان بحيث لم يباشرها غيره باشرها هو. وهذه نظرية مالك في الشريك المتسبب على الإطلاق، سواء كانت وسيلة التسبب الاتفاق أو التحريض أو الإعانة (1) ، وينفرد مالك بهذه النظرية فلا يوافقه عليها غيره من الفقهاء.
ب - التحريض: يقصد بالتحريض إغراء المجني عليه بارتكاب الجريمة، والمفروض أن يكون الإغراء هو الدافع لارتكاب الجريمة، فإذا كان من وجه إليه الإغراء سيرتكب الجريمة ولو لم يكن إغراء ولا تحريض، فلا يمكن القول بأن التحريض هو الذي دفع الجاني للجريمة، وسواء كان للتحريض أثر أو لم
(1) شرح الزرقاني ج8 ص10، مواهب الجليل ج6 ص242.
يكن، فإنه يجوز طبقاً لقواعد الشريعة العقاب على التحريض مستقلاً؛ لأن التحريض على ارتكاب الجريمة معصية وأمر بإتيان المنكر.
ويعتبر تحريضاً الأمر بالقتل، والإكراه على القتل، والفرق بين الأمر والإكراه أن الأمر لا يؤثر على اختيار المأمور فيكون في وسعه أن يأتي الجريمة أو يتركها، أما المكره فليس كذلك؛ لأن الإكراه يؤثر على اختياره وليس في وسعه أن يختار إلا بين شيئين: إما إتيان الجريمة، وإما قبول ما يهدد به والصبر عليه.
وإذا كان الآمر ذا سلطان على المأمور كسلطان الأب على ولده الصغير والمعلم على تلميذه فقد يبلغ الأمر درجة الإكراه، وإذا لم يكن المأمور صغيراً ولا معتوهاً ولا مجنوناً ولم يكن للآمر عليه سلطان فليس الأمر إلا تحريضاً عادياً قد ينتج أثره وقد لا ينتجه.
ويفرقون في حالة وجود سلطان للآمر بين المميز وغيره، فإن كان المأمور غير مميز ولا يمكنه أن يخالف الآمر فهو أداة للآمر ولو أنه باشر الجريمة، ويعتبر الآمر هو المباشر لها ولا يعتبر في هذه الحالة شريكاً بالتسبب (1) .
ويرى مالك أن المحرض إذا حضر في محل الجريمة أثناء مباشرتها يعتبر فاعلاً أصلياً سواء ساعد المباشر أو لم يساعده، بشرط أن يكون بحيث إذا لم يباشر غيره الجريمة باشرها هو.
جـ - الإعانة: يعتبر شريكاً في الجريمة بالتسبب من أعان غيره على ارتكابها ولو لم يتفق معه على ارتكابها من قبل، فمن يرقب الطريق للقاتل أو السارق يعتبر معيناً له، ومن يستدرج المجني عليه لمحل الحادث ثم يتركه لغيره يقتله
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216، 218، المهذب ج2 ص189، المغني ج9 ص331، بدائع الصنائع ج7 ص180.
أو يسرقه فهو معين للقاتل أو السارق، ومن ينتظر خارج محل السرقة ليساعد الجاني أو الجناة في نقل المسروقات يعتبر معيناً لهم.
ويميز الفقهاء بين المباشر والمعين، فالمباشر هو الذي يأتي الفعل المحرم أو يحاول إتيانه، أما المعين فلا يباشر نفس الفعل ولا يحاول مباشرته، وإنما يعين المباشر بأفعال لا صلة لها بذات الفعل المحرم ولا يعتبر تنفيذاً لهذا الفعل.
وقد اختلف الفقهاء في حكم من أمسك إنساناً ليقتله ثالث، فرأى البعض أن الممسك شريك معين وليس مباشراً للقتل، وهو رأي أبي حنيفة والشافعي، ورأي في مذهب أحمد، وحجتهم أن الممسك إذا كان تسبب بفعله في القتل إلا أن الآخر هو الذي باشره، والمباشرة تتغلب على السبب إذا لم يكن ملجئاً.
ورأى البعض أن الممسك والقاتل كلاهما مباشر للقتل، وهذا رأي مالك والرأي الثاني في مذهب أحمد، وحجتهم أن القاتل باشر القتل والممسك تسبب فيه، وأن المباشرة والسبب تساويا في إحداث نتيجة الفعل وهي القتل، ولم يكن في الإمكان أن تحدث هذه النتيجة لو لم يكن أحد الفعلين (1) .
والخلاف بين الفقهاء لا يرجع إلى اعتبار هذا معيناً وذاك مباشراً، فلا خلاف بينهم في تعريف المعين والمباشر، وإنما الخلاف يرجع إلى تطبيق القواعد التي تبين الطريقة التي ارتكبت بها الجريمة، وهل هي المباشرة أو التسبب (2) .
هذه القواعد تتلخص في أن المباشرة إذا اجتمعت مع السبب لا تخرج عن حالات ثلاث:
الأولى: أن يتغلب السبب على المباشرة، ويحدث ذلك إذا لم تكن المباشرة عدواناً، كشهادة الزور على المتهم بالقتل والحكم عليه بناء على هذه الشهادة.
الثانية: أن تتغلب المباشرة على السبب، ويكون ذلك كلما قطعت المباشرة
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217، البحر الرائق ج8 ص345، نهاية المحتاج ج7 ص244، الشرح الكبير ج9 ص233.
(2)
راجع الفقرة 314 وما بعدها.
عمل السبب ولم يكن السبب ملجئاً، كمن ألقى بآخر في لجة لا تستطاع النجاة منها فلقيه ثالث في اللجة فقتله.
الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة، ويكون ذلك كلما تساوى عملهما، كالإكراه على القتل، فإن المكره هو الذي يحرك المباشر ويحمله على ارتكاب الحادث، ولولا الأول لما فعل الثاني شيئاً، ولولا فعل الثاني ما أدى الإكراه للقتل.
فالخلاف واقع في تطبيق هذه القواعد لا في غيرها، إذ الممسك يعتبر متسبباً في القتل والثاني مباشراً له، فقد اجتمعت إذن مباشرة وتسبب. فمن اعتبر الممسك شريكاً مباشراً فقد رأى أن المباشرة اعتدلت مع السبب وتساوى عملهما، ومن اعتبر الممسك شريكاً بالتسبب فقد رأى أن المباشرة تغلبت على السبب وأن عمل الممسك يعتبر إعانة على القتل لا مباشرة له.
ويعتبر مالك المعين شريكاً مباشراً في حالة التمالؤ على الجريمة، أي في حالة الاتفاق السابق على الجريمة إذا حضر المعين محل الحادث، أو كان على مقربة منه، بحيث لو استعين به على ارتكاب الجريمة لم يتأخر عن ارتكابها. فإذا لم يكن هناك اتفاق سابق عى الجريمة، وإذا حضر المعين محل الحادث ولم يكن على استعداد لارتكاب الجريمة لو استعين به، فهو شريك بالتسبب فقط. أما بقية الفقهاء فيعتبرون المعين شريكاً بالتسبب في كل الحالات ما دام أنه لم يباشر تنفيذ الجريمة.
الشرط الثالث: أن يكون الشريك قاصداً من وسائله وقوع الفعل المعاقب عليه. ويشترط أن يقصد الشريك من اتفاقه أو تحريضه أو عونه وقوع جريمة معينة، فإن لم يقصد جريمة بعينها فهو شيك في كل جريمة تقع ما دامت تدخل في قصده المحتمل، فإذا لم يقصد الشريك جريمة ما، أو قصد جريمة معينة فارتكب الجاني غيرها، فلا اشتراك. فمن أعطى إنساناً فأساً ليعزق بها أرضه فقتل بها آخر فلا يعتبر أنه أعان القاتل على القتل، ومن حرض إنساناً على ضرب آخر فأتلف زراعته فلا يعتبر شريكاً في جريمة الإتلاف. على أن عدم
مسئولية المحرض باعتباره شريكاً لا يمنع من مسئوليته عن التحريض على الضرب ولو لم تقع الجريمة المحرض عليها؛ لأن التحريض في ذاته معصية أي جريمة.
264 -
علاقة السببية بين الاشتراك والجريمة: لا يعتبر الاشتراك موجوداً إلا إذا كان بينه وبين وقوع الجريمة علاقة السببية المباشرة، فإذا كانت وسيلة الإشراك هي الاتفاق وجب أن تقع الجريمة نتيجة لهذا الاتفاق، فإن لم تكن الجريمة نتيجة للاتفاق فلا اشتراك. وإذا كانت وسيلة الاشتراك التحريض وجب أن تقع الجريمة نتيجة للتحريض، فإن وقعت نتيجة لغير التحريض أو لم يكن للتحريض أثر في نفس المباشر فلا اشتراك. ويجب أن يكون بين الإعانة ووقوع الجريمة علاقة السببية، فمن استدرج إنساناً إلى مكان معين ليقتله آخر فلم يجد القاتل في المكان المتفق عليه فتركه يعود لمنزله، ثم جاء الجاني بعد ذلك فلما علم بما حدث ذهب إلى المجني عليه وقتله في منزله، ففي هذه الحالة لا يسأل المعين باعتباره شريكاً لانعدام علاقة السببية بين فعله ووقوع الجريمة. وانعدام الاشتراك لا يمنع من العقاب على الاتفاق والتحريض والإعانة باعتبارها معاصي أي جرائم بذاتها، ولا يتوقف العقاب عليها على تنفيذ الجريمة التي قصدت منها.
265 -
هل يكون الاشتراك بعمل سلبي؟: وسائل الاشتراك هي الاتفاق والتحريض والإعانة. والاتفاق والتحريض وسيلتان إيجابيتان بطبيعتهما ولا يتصور نسبة الاتفاق والتحريض لمن لم يتفق ومن لم يحرض.
أما الإعانة فتحتمل بطبيعتها أن تكون سلبية، كمن رأى جماعة يسرقون منزلاً فسكت عليهم، أو رآهم يقتلون آخر فلم يمنعهم عنه، أو رأى رجلاً يلقي بصغير لا يحسن العوم في نهر فلم يمنعه ولم ينقذ الصغير، فهل يعتبر السكوت في هذه الأحوال وأمثالها إعانة يؤاخذ عليها أم لا؟ أغلب الفقهاء لا يرون في هذه الحالات وأمثالها إعانة لمن باشر الجريمة؛ لأن السكوت وإن أمكن اعتباره عوناً من الناحية
الأدبية إلا أنه لا يمكن اعتباره اشتراكاً بالتسبب وإعانة على الجريمة من الناحية الشرعية، إذ الإعانة المعاقب عليها تقتضي التفاهم بين المعين والمباشر، كما تقتضي أن يقصد الشريك من إعانته حدوث الجريمة، وأن تؤدي الإعانة إلى حدوثها.
والسكوت على المجرمين في حالة من يرى جريمة ترتكب فلا يمنع من ارتكابها؛ السكوت في هذه الحالة لا يقوم على تفاهم، وإنما قد يكون نتيجة الخوف أو عدم المبالاة، كما أن الساكت لا يقصد من سكوته حدوث الجريمة، وليس بين سكوته وبين ارتكاب الجريمة علاقة السببية التي يجب توفرها بين عون المعين ووقوع الجريمة.
ولكن بعض الفقهاء لا يأخذون بهذا الرأي، ويفرقون بين القادر على منع الجريمة، ومن لا يقدر على منعها، فأما من يقدر على منع الجريمة أو إنجاء المجني عليه من الهلكة فهو مسئول جنائياً عن سكوته، ويعتبر مشاركاً في الجريمة ومعيناً للجناة، وأما من لا يقدر على منع الجريمة أو إنجاء المجني عليه من الهلكة فلا مسئولية عليه إذا سكت، ولا يعتبر معيناً على الجريمة حيث لم يكن في إمكانه أن يفعل شيئاً، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها (1) .
266 -
عدول الشريك وأثره: إذا عدل الشريك عن اتفاقه مع المباشر أو تحريضه له، أو عدل عن تقديم العون إليه، ثم وقعت الجريمة بالرغم من ذلك، فمن السهل في حالة الاتفاق والإعانة إعفاء الشريك من عقوبة الجريمة التي وقعت؛ لأن ما حدث منه لم يكن سبباً في وقوع الجريمة، أما في حالة التحريض فمن الصعب القول بإعفاء الشريك من العقاب، إلا إذا أثبت المحرض أنه أزال كل أثر لتحريضه، وأن المباشر ارتكب الجريمة وهو غير متأثر بتحريض الشريك. على أن هذا لا يمنع من العقاب على الاتفاق والتحريض باعتبار كل منهما معصية في ذاته وبغض النظر عن الجريمة التي وقعت، كما أن هذا لا يمنع من العقاب على العون الذي قدم كلما كان معصية.
267 -
عقوبة الشريك المتسبب: القاعدة في الشريعة أن العقوبات
(1) المغني ج9 ص580، 581.
المقدرة جعلت لمباشر الجريمة دون الشريك المتسبب، وتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن من اشترك في جريمة من جرائم الحدود أو القصاص لا يعاقب بالعقوبة المقررة للجريمة أياً كانت وسيلة الاشتراك، أي سواء كان الاشتراك بالاتفاق أو التحريض أو العون، وإنما يعاقب بالتعزير.
والعلة في اختصاص هذه القاعدة بجرائم الحدود والقصاص أن العقوبات المقررة لهذه الجرائم بالغة الشدة، وأن عدم مباشرة الشريك المتسبب للجريمة يعتبر شبهة تدرأ عنه الحد، ولأن الشريك المتسبب أياً كان الحال أخف جرماً وأقل خطراً من مباشر الجريمة، ومن ثم لم تستو عقوبتهما.
لكن إذا كان فعل الشريك المتسبب بحيث يجعله في حكم المباشر، كما لو كان المباشر مجرد أداة في يد الشريك المتسبب فإن الأخير يعاقب في هذه الحالة بعقوبة الحد أو القصاص؛ لأنه يعتبر شريكاً مباشراً لا شريكاً متسبباً.
وقد عرفنا نظرية مالك التي تعتبر الشريك المتسبب أياً كانت وسيلة الاشتراك شريكاً مباشراً إذا حضر تنفيذ الجريمة، وكان بحيث إذا لم ينفذها غيره نفذها هو، أو اشترك مع غيره في تنفيذها. وبمقتضى هذه النظرية يعاقب الشريك المتسبب بعقوبة الحد والقصاص كلما اعتبر شريكاً مباشراً.
أما جرائم التعازير فنستطيع أن ننظر إليها من وجهين:
1 -
فإذا قسناها على جرائم الحدود والقصاص وجب أن لا نسوي بين عقوبة الشريك المباشر وعقوبة الشريك المتسبب، ووجب أن نجعل عقوبة الأخير أخف من عقوبة الأول، ويمكن تعليل هذا الرأي بأن القواعد التي تنطبق على جرائم الحدود والقصاص، هي نفس القواعد التي تنطبق على جرائم التعازير في الغالب، وأن الشريك المتسبب أقل خطراً وأخف جرماً من الشريك المباشر، فلا معنى للتسوية بين مختلفين.
2 -
وإذا قلنا إن القاعدة خاصة بجرائم الحدود والقصاص، وإن سبب
التفرقة بين الشريك المباشر والشريك المتسبب هو شدة العقوبة، وجب أن نقول إن جرائم التعازير لا يفرق فيها بين عقوبة الشريك المباشر والشريك المتسبب، وهذا هو الذي نرجحه؛ لأن جريمة كل من الشريكين جريمة تعزيرية والعقوبة المقررة عليها عقوبة تعزيرية، والشريعة لا تفرق بين جريمة تعزيرية وأخرى، ولا تحدد لكل جريمة عقوبة بعينها، وتترك للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للجريمة والمجرم، كذلك فإن عقوبات التعزير غير مقدرة؛ أي غير ثابتة، وما دامت العقوبة غير ثابتة وتقديرها متروك للقاضي فمن الصعب وضع حدود لعقوبة المباشر والمتسبب، كما أنه لا فائدة عملية ترجى من وراء وضع هذه الحدود.
ويترتب على هذا الرأي أنه يصح أن تزيد عقوبة الشريك المتسبب على عقوبة الشريك المباشر، كما يصح أن تقل عنها أو تساويها؛ لأن عقوبات التعازير ذات حدين في الغالب، وللقاضي حرية تقدير العقوبة من بين الحدين مراعياً في التقدير ظروف المجرم والجريمة، فإذا رأى القاضي أن ظروف الشريك المباشر تقتضي استعمال الرأفة خفف عنه، وإذا رأى أن ظروف الشريك المتسبب تقتضي استعمال الشدة غلظ عقوبته. ويستطيع القاضي على هذا الأساس أن يرفع عقوبة أحد الشريكين إلى الحد الأعلى، أو أن ينزل بها إلى الحد الأدنى، كما يستطيع أن يسوي بين عقوبة الشريكين إذا رأى أن الظروف تقضي بالتسوية بينهما.
268 -
أخذ الشريك بقصده الاحتمالي: ويسأل الشريك المتسبب عن الجريمة التي ارتكبها الشريك المباشر، ولو كانت أشد من الجريمة التي قصدها الشريك المتسبب، ما دامت الجريمة التي وقعت نتيجة محتملة لاشتراكه، وكان من الممكن توقع حصولها نتيجة لتنفيذ الجريمة المقصودة، فمن حرض شخصاً على ضرب آخر فضربة ضربة أدت لوفاته، فالشريك المتسبب لا يسأل عن الضرب فقط وإنما يسأل عن القتل شبه العمد؛ لأن القتل كان نتيجة محتملة الوقوع لتنفيذ جريمة
الضرب، وإذا ضربه فأحدث به إصابة أدت لبتر يده أو شللها فالشريك المتسبب مسئول عن جريمة إبانة الطرف أو إذهاب معناه؛ لأن هذا من النتائج المتوقعة للضرب.
269 -
أثر ظروف الشريك المباشر على الشريك المتسبب: قد تتأثر عقوبة الشريك المتسبب بالظروف التي تؤثر على عقوبة الشريك المباشر وقد لا تتأثر بها، وعقوبة الشريك المباشر تتأثر بعقوبة الفعل، وصفة الفاعل، وقصده، كما بينا سابقاً (1) .
فأما من جهة الفعل: فإذا ارتكب الشريك المباشر الفعل الذي قصده الشريك المتسبب، فعلى كل منهما عقوبته كلما كان الفعل من جرائم التعزير، أما إن كان الفعل من جرائم الحدود أو القصاص فلكل منهما عقوبته الخاصة؛ للأسباب التي بيناها (2) . وإذا ارتكب المباشر فعلاً غير الذي قصده الشريك المتسبب فلا يعاقب الأخير بعقوبة هذا الفعل إلا إذا كان داخلاً في قصده المحتمل.
وإذا كانت العقوبة قائمة على صفة الفاعل فشددت أو خففت أو انعدمت لصفته: فإن الشريك المتسبب لا يتأثر بشيء من هذا؛ لأن التشديد والتخفيف وامتناع العقاب راجع لمعنى في الشريك المباشر لا يتوفر في الشريك المتسبب، فإذا كان الشريك المباشر صبياً أو مجنوناً فلا عقاب عليه، وعلى الشريك المتسبب العقاب، وإذا كان الشريك المباشر معتاداً على الإجرام شددت عليه العقوبة دون الشريك المتسبب، وإذا كان الشريك المباشر صغير السن خففت عليه العقوبة لصغر سنه، ولم تخفف عن الشريك المتسبب.
وإذا كانت العقوبة قائمة على قصد الفاعل عوقب بها الشريك المتسبب إذا لم يكن قصده مخالفاً لقصد المباشر، ولا يعاقب بها إذا كان قصده الخاص يوجب عليه عقوبة أقل منها.
(1) راجع الفقرتين 260، 261.
(2)
راجع الفقرة 267.
ويراعى دائماً في كل الحالات أن هناك فرقاً بين عقوبة الشريكين في جرائم الحدود والقصاص.
270 -
ظروف الشريك الخاصة: إذا كان للشريك المتسبب صفات خاصة تستدعي تغيير وصف الجريمة أو العقوبة فإنها تسري عليه، فإذا كان عائداً شددت عقوبته، وإذا كان صغير السن خففت عقوبته، وإذا كان معتوهاً أو مجنوناً أعفى من العقوبة، وإذا كان للشريك المتسبب الحق في إتيان الفعل فحرض غيره عليه، كأن حرضه على تأديب ولده، أو تلميذه، أو زوجته، فالفعل يعتبر جريمة بالنسبة للمباشر، ولا يعتبر بالنسبة للشريك المتسبب؛ لأنه لو باشر الفعل بنفسه لما اعتبر مجرماً، وإذا زاد فعل المباشر على حد التأديب كانت مسئولية الشريك المتسبب قاصرة على تعدي حد التأديب فقط.
271 -
بين الشريعة والقانون: وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في تعريف الاشتراك بالتسبب، وشروط هذا النوع من الاشتراك، ووسائل الاشتراك، ووجوب توفر علاقة السببية بين وسيلة الاشتراك ووقوع الجريمة.
وتتفق نظرية الشريعة في عقوبة الشركاء في جرائم الحدود والقصاص مع النظرية التي يأخذ بها القانون البلجيكي اليوم، فهو يجعل عقوبة الشريك المتسبب أقل من عقوبة الشريك المباشر.
وتتفق كذلك مع ما أخذ به القانون المصري في القتل العمد. وتتفق نظرية الشريعة في عقوبة الشركاء في جرائم التعازير مع النظرية التي أخذ بها القانون المصري والقانون الفرنسي في معظم الجرائم، حيث يسوي كلاهما بين عقوبة الشريك المباشر وعقوبة الشريك المتسبب.
وتتفق نظرية الشريعة في استفادة الشريك المتسبب من ظروفه الخاصة مع ما يأخذ به القانون الإيطالي الذي يقرر هذا المبدأ.
272 -
العقاب على وسائل الاشتراك إذا لم تقع الجريمة المقصودة: القاعدة العامة في الشريعة أن لا عقاب على حديث النفس ووسوسة الصدر وما ينتوي المرء عمله ما لم يعمل به أو يتكلم. وأساس هذه القاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفا لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم".
ويترتب على هذه القاعدة أن الفرد إذا فكر في الجريمة وانتواها وصمم عليها فلا عقاب عليه، ما دام لم يخرج نيته إلى حيز التنفيذ، سواء كان التنفيذ بعمل مثل ارتكاب الجريمة، أو بقول كأن يأمر غيره بارتكاب الجريمة أو يحرضه على ذلك أو يتفق معه على ارتكاب الجريمة.
والأصل في الشريعة أن الاتفاق على الجريمة والتحريض عليها وإعانة المجرم على جريمته، كل ذلك يعتبر بذاته جريمة مستقلة، سواء وقعت الجريمة المقصودة أو لم تقع. وهو يعتبر جريمة من وجهين:
أولهما: أن الشريعة تحرم الأمر بالمنكر والاتفاق والإعانة عليه، والجرائم هي أشد المنكرات وأكبرها في الشريعة.
وثانيهما: أن الاتفاق على الجريمة والتحريض والإعانة عليها يؤدي إلى ارتكاب ما تحرمه الشريعة وهو الجرائم والقاعدة الأصولية أن ما أدى إلى المحرم فهو محرم.
وعلى هذا يجوز عقاب من اتفق أو حرض أو أعان على جريمة ولو لم تقع هذه الجريمة؛ لأن مجرد الاتفاق والتحريض والإعانة لا يخرج عن كونه جريمة بذاته، فإذا وقعت الجريمة المقصودة اعتُبر المتفق أو المحرض أو المعين شريكاً بالتسبب فيها وكان عليه عقوبتها طبقاً للقواعد التي بيناها فيما سبق.
وينبني على ما سبق أن التحريض العام على الجرائم معاقب عليه في الشريعة، وأن الاتفاق الجنائي على الجرائم معاقب عليه، سواء أدى التحريض أو الاتفاق إلى نتائجه المقصودة أو لم يؤد لهذه النتائج.
ومبدأ الشريعة في العقاب على الاتفاق والتحريض والإعانة باعتبارها جرائم مستقلة يتفق تمام الاتفاق مع مبدأها في عدم العقاب على النية ما لم يصحبها عمل أو قول، فالمتفق أو المحرض على الجريمة ينوي إتيان الجريمة ويظهر نيته مصحوبة بقول هو الاتفاق أو التحريض، والمعين على الجريمة يظهر نيته مصحوبة بعمل هو المساعدة، فأصبح كل منهم أهلاً للعقاب على ما وسوست له نفسه بعد أن أظهره في عمله أو قوله.
وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة في أحد المبدأين وتخالفها في الآخر، فتتفق القوانين مع الشريعة في أن لا عقاب على النية مستقلة عن القول أو العمل، ولكن القوانين لا تطبق المبدأ بدقة حيث له مستثنيات، منها تشديد العقاب على الجرائم العمدية المصحوبة بسبق إصرار، وتخفيفه في الجرائم العمدية التي لم يصحبها سبق إصرار. ومعنى هذه التفرقة أن القوانين تعاقب على النية مستقلة عن الفعل.
أما الشريعة الإسلامية فتطبق المبدأ بدقة ولا تجعل له مستثنيات. أما المبدأ الثاني فتخالف فيه القوانين الشريعة، حيث تأخذ القوانين عامة بعدم العقاب على الاتفاق أو التحريض أو الإعانة، إلا إذا وقعت الجريمة المقصودة، سواء وقعت تامة أو لم تتم، على أن القوانين الوضعية قد خرجت على هذا المبدأ في كثير من الحالات، وأصبحت اليوم تعاقب على الاتفاقات الجنائية باعتبارها جرائم مستقلة، ولو لم تقع الجرائم المقصودة أو يشرع فيها. ومن هذا القبيل ما نص عليه قانون العقوبات المصري في المادة 47 منه. وهذا الاتجاه الذي اتجهت إليه القوانين الوضعية هو أخذ بنظرية الشريعة التي تمتاز بأنها أدق منطقاً وأوفى بتحقيق حاجات الجماعة.
فمن وجهة المنطق: إما أن يكون الاتفاق أو التحريض أو العون محرماً لذاته أو غير محرم، فإن كان محرماً لذاته فقد وجب العقاب عليه سواء وقعت الجريمة المقصودة أو لم تقع، وإن كان غير محرم لذاته فلا محل للعقاب عليه بعد وقوع الجريمة؛ لأن العقاب عليه عقاب على عمل غير
محرم، ولأن الجريمة وقعت ممن باشرها وهو مختار مميز فلا يسأل عنها غيره، ولأن المتفق أو المحرض أو المعين لم يعمل شيئاً ما بعد الاتفاق والتحريض والإعانة، وقد اعتبرناها غير محرمة لذاتها.
ومن وجهة تحقيق مصلحة الجماعة: فإن نظرية الشريعة تساعد على حفظ النظام وكبح تيار الإجرام، وليس أدل على ذلك من أن القوانين الوضعية أخذت بنظرية الشريعة أخيراً على الأقل في الاتفاقات الجنائية.
* * *