الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1943.
وهذا الإحصاء المادي شاهد عدل على أن إهمال شخصية المجرم في الجرائم الخطيرة هو العامل الأول في محاربة الجريمة، وأن نظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة هي النظرية المثلى، بل إن هذا الإحصاء في ذاته دليل قاطع على تجربة أخرى ناجحة لنظرية الشريعة في العقوبة.
* * *
الفصل السادس
العقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها
497 -
أنواع العقوبات: تختلف أنواع العقوبات في القانون المصري باختلاف الجرائم، وقد قسم القانون المصري الجرائم ثلاثة أقسام، وجعل جسامة الجريمة أساس لهذا التقسيم، فأجسم الجرائم تدخل تحت القسم الأول وتسمى جنايات، وأقل جسامة تدخل تحت القسم الثاني وتسمى جنحاً، والجرائم التافهة تدخل تحت القسم الثالث وتسمى مخالفات.
وجعل القانون لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عقوبات خاصة، فعقوبات الجنايات هي الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقته والسجن. وعقوبات الجنح هي الحبس والمراقبة والغرامة، وعقوبات المخالفات هي الحبس والغرامة، والفرق بين الحبس في الجنح وبينه في المخالفات أنه لا يزيد في المخالفات عن سبعة أيام وقد تصل في الجنح إل ثلاثة سنوات، والفرق بين الغرامة في الجنح وبينها في المخالفات أنها لا تزيد في المخالفات عن مائة قرش وتزيد عن ذلك في الجنح.
وعقوبة الإعدام هي إزهاق روح المحكوم عليه، وتختلف قوانين البلاد المتمدينة في كيفية تنفيذ العقوبة، ففي بعض البلاد تنفذ بالشنق كما هو الحال في مصر، وفي بعضها تنفذ بقطع الرقبة بآلة حادة كما قي فرنسا، وبعضها ينفذ العقوبة بصعق المحكوم عليه بتيار كهربائي كما في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعقوبة الأشغال الشاقة سواء كانت مؤبدة أو مؤقتة هي وضع المحكوم
عليه في محبس مع تشغيله في أشق الأشغال التي تعنيها الحكومة (المادة 14 من قانون العقوبات) . وإذا كان المحكوم عليه امرأة أو رجلاً جاوز الستين من العمر استوفيت العقوبة في أحد السجون العمومية (المادة 15 عقوبات) والسجن العمومي هو السجن الذي يقع في دائر المديرية.
أما عقوبة السجن فهي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة (المادة 16 عقوبات) .
ولا يجوز أن تنقص عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن عن ثلاث سنوات كما لا يجوز أن يزيد على خمس عشر سنة إلا بنص (المادة 14، 16 عقوبات) .
وعقوبة الحبس هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية ولا تنقص عقوبة الحبس عن أربع وعشرين ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا بنص، والحبس إما أن يكون مع الشغل أو بسيطاً، فإن كان مع الشغل اشتغل المحكوم عليه داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة.
ويمكن القول أن عقوبة الأشغال الشاقة مؤبدة أو مؤقتة وعقوبة السجن وعقوبة الحبس هي كلها في جوهرها هي عقوبات حبس يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه، أما اختلاف العمل الذي يزاوله المحكوم عليه من حيث مكان العمل أو قسوته فلا يغير من طبيعة الحبس شيئاً، وعلى هذا الأساس تكون العقوبات الجنائية التي يعترف بها القانون المصري هي الإعدام والحبس والمراقبة والغرامة.
وكان القانون المصري يعترف بعقوبة الجلد ويخصصها للأحداث حتى سنة 1937، فلما عدل القانون في هذه السنة استبدلت هذه العقوبة بعقوبة التوبيخ.
كذلك كان القانون المصري يعترف وقت وضعه بعقوبة النفي مؤبدة أو مؤقتة، فلما عدل سنة 1904 ألغيت هذه العقوبة بحجة أن سهولة المواصلات
أضعفت من أثر العقوبة الملغاه، ولكن الرأي يتجه أخيراً إلى إعادة عقوبة النفي، بل لقد اضطرت الحكومة إلى فرض عقوبة النفي الإداري إلى الطور في بدأ الحرب الأخيرة في سنة 1940، كما فرضت الجلد عقوبة لمخالفة الأوامر العسكرية الخاصة بالتموين والتسعير، وظل الحال كذلك حتى انتهت الحرب.
ومن العقوبات الأساسية في القانون المصري عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية، وهي خاصة بمعتادي الإجرام والأحداث، وهذه العقوبة في جوهرها حبس وإن اختلف نظام الإصلاحيات عن نظام السجون.
498 -
سلطة القاضي في تطبيق العقوبات: وقد نص القانون على كل جريمة وعلى العقوبة المقررة لها، وحين اختيرت العقوبة لكل جريمة روعي فيها أن تكون مناسبة للجريمة، وجعل الشارع لكل عقوبة عدا الإعدام والتوبيخ حدين: أحدهما يصعد بالعقوبة إلى أعلى درجاتها، والثاني: ينزل بها إلى أدنى هذه الدرجات، وفي أغلب الأحوال جعل الشارع لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى.
وأعطى القانون للقاضي سلطة واسعة في تطبيق العقوبات التي قررت للجرائم؛ فترك للقاضي أن يختار العقوبة الملائم إذا كان هناك أكثر من عقوبة، وأن يختار من بين حديها الكمية التي يراها كافية لتأديب المجرم.
ثم أعطى القانون بعد ذلك للقاضي الحق في أن يستبدل بالعقوبة أو بالعقوبتين المقررتين للجريمة عقوبة أخرى أخف منهما إذا اقتضت ظروف الجريمة الرأفة، وقصر استعمال هذا الحق على جرائم الجنايات دون غيرها، فللقاضي أن يستبدل بعقوبة الإعدام عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وله أن يستبدل بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، وله أن يستبدل عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة السجن أو الحبس، وله أن يستبدل بعقوبة السجن الحبس (المادة 17 عقوبات) .
وأعطى القانون أخيراً لقاضي الإحالة الحق في أن يحيل بعض الجنايات على محكمة الجنح لتحكم فيها لا بالعقوبات المقررة للجنايات وإنما بعقوبة الحبس فقط المقررة للجنح، وليس على قاضي الإحالة قيد في تجنيح الجنايات ما دامت مقترنة بعذر قانوني معين أو بظروف مخففة تبرر تطبيق عقوبة الجنحة، وما دامت عقوبة الفعل الأصلية ليست الإعدام أو الأشغال الشاقة المربدة. والنتيجة العملية للسلطة المعطاة لقاضي الإحالة هي استبدال عقوبة الحبس المقررة للجنح بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن في كل جناية تحال إلى محكمة الجنح، وهي نتيجة تتفق مع النتيجة التي تؤدي إليها المادة 17 عقوبات.
وللقاضي بعد هذا كله أن يأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا كانت بالحبس لمدة لا تزيد على سنة إذا رأى من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون (المادة 55 عقوبات) .
499 -
العلة في منح القاضي هذا السلطان: وقد اضطر واضعو القانون اضطراراً إلى إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع؛ لأنهم رأوا العلماء يخفقون في وضع نظرية علمية للعقوبة ويعجزون عن التوفيق بين مختلف المبادئ التي يراد أن تقوم عليها هذه النظرية، فآثروا أن يحلوا هذه المشكلة المعقدة حلاً عملياً وتركوا للقاضي من بعد التسليم بهذه المبادئ وإقرار نصوص القانون لها أن يوفق هو بين هذه المبادئ المتعارضة، وأن يراعى مختلف الاعتبارات، فعليه أن يقدر خطورة الجريمة وأثرها في الجماعة، وعليه أن يقدر ظروف المتهم الشخصية، وظروفه التي أحاطت به وقت ارتكاب الجريمة، وصلحه مع المجني عليه وصلته به، فإن رأى أن ظروف الجريمة والجماعة تقتضي إهمال شخصية الجاني أهملها وشدد العقوبة. وإن رأى أن ظروف الجاني تقتضي الرأفة أخذ الجاني بالرأفة ما دامت الرأفة لا تضر بالجماعة.
وكان الفروض أن ينجح القضاة فيما أخفق فيه العلماء؛ لأن القاضي يراد منه أن يعالج حالات فردية واحدة بعد واحدة غير متأثر إلا بظروف هذه الحالة وحدها، أما العلماء فيراد منهم أن يعالجوا كل الحالات مرة واحدة ويضعوا لها قواعد تنطبق عامة عليها وتحكمها جميعاً. كان هذا هو المفروض المقدور، فهل صح الفرض ونجح التقدير أم أخفق القضاة كما أخفق من قبلهم العلماء؟ إن مقياس النجاح في هذا الباب هو أثر العقوبة في علاج الجريمة وكبح جماح المجرمين، ونظرة واحدة إلى إحصائيات الجرائم سنة بعد أخرى تقطع بأن القضاة قد أخفقوا إخفاقاً لا يساويه إلا إخفاق من سبقهم من العلماء في معالجة نظرية العقوبة.
500 -
لماذا أخفق القضاة في تطبيق نظرية العقوبة؟: والواقع أن الذين قدروا للقضاة النجاح أخطأوا التقدير الصحيح، ولو أنهم أحسنوا تقدير الأمور بعض الشيء لما وقعوا في هذا الخطأ الشنيع، لقد عرفوا أن العلماء قد عجزوا عن تكوين نظرية سليمة للعقوبة؛ لأنهم أرادوا أن يجمعوا بين مبادئ متعارضة ويجعلونها ماثلة في كل العقوبات، فكيف يتوقعون نجاح القضاة وهم يجبرونهم على أن يسلكوا نفس السبيل حين أباحوا لهم يراعوا كل هذه المبادئ في كل جريمة دون استثناء؟ وهل يستطيع القاضي أن يوفق في أي جريمة خطيرة بين خطورة الجرائم وبين ظروف الجاني المخففة إلا على حساب الجريمة بأن ينزل عن العقوبة التي تقتضيها خطورة الجريمة ليحكم بعقوبة تتلاءم مع ظروف الجاني بقدر الإمكان، وهذا الحكم الذي ينقذ الجاني من العقوبة المغلظة يضحي في الوقت نفسه بأمن الجماعة ونظامها، ويؤدي إلى نتيجة لا محيص عنها هي استخفاف المجرمين بالعقوبة وتهالكهم على الجريمة؛ فتزداد الجرائم ويختل الأمن، فالعقوبة التي وضعت لصلاح المجتمع يؤدي إلى إفساده إذا ما أسيء استعمالها، ولابد للقاضي أن يسيء استعمالها على الوجه الذي بينا بحكم الظروف القاهرة التي أحاطه بها القانون الوضعي.
لقد رتب القانون تخفيف العقوبة على ظروف الجاني، فهل يصعب في أية جريمة مهما كانت خطورتها أن لا تجد لجانٍ عذراً مخففاً؟ فتارة الجاني شاب يافع وتارة هو متقدم في السن، وتارة دفعته للجريمة الغيرة على الشرف والعرض، وتارة استفز لارتكاب الجريمة، وتارة وقع تحت مؤثرات قوية، وتارة دفعته للجريمة عقيدته السياسية أو الوطنية، إلى غير ذلك من الأعذار التي لا تفرغ منها جعبة الجناة والمدافعين عنهم، وهل يستطيع القاضي أن يصم أذنيه فلا يسمع دفاعاً، ويغلق قلبه فلا يرحم ضعيفاً، ويوقف علقله فلا يفكر في ظروف المتهم ولا يقدرها، خصوصاً إذا أحكم ترتيبها وأحسن عرضها؟ صحيح أن القانون أجاز للقاضي أن يأخذ بظروف الرأفة ولم يلزمه بها، ولكن هذا الجواز بالنسبة للقاضي يساوي تماماً الإلزام بل هو عين الإلزام؛ لأن الاعتراف بالظروف المخففة وترتيب أثر قانوني لها هو بمثابة تقرير حق الجاني قبل القاضي أساسه هذه الظروف المخففة، فأي قاضٍ يستطيع أن ينكر على الجاني حقه، أو يستطيع أن لا يرتب على دفاعه إذا صح أثره؟
وإذا كان واضعو القانون قد غلب على ظنهم نجاح القضاة؛ لأنهم سيعالجون حالات فردية فذلك هو الظن المجرد، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، فالقاضي يعالج حقيقة حالات فرادى، ولكنه يعالجها على نفس الأساس الذي كان يعالج به العلماء نظرية العقوبة، فالعلماء ينظرون إلى الجريمة وإلى المجرم معاً، والقاضي ينظر إلى الجريمة والمجرم معاً، والعلماء لا يريدون أن يضحوا بأحد هذين الاعتبارين أحياناً في سبيل الاحتفاظ بالآخر، والقاضي يفعل مثلهم ولا يستطيع أن يضحي بأحد الاعتبارين ويستبقي الآخر، فيؤدي به موقفه إلى أن يضحي بهما معاً وبمصلحة الجماعة وأمنها في أغلب الأحوال.
ولقد نسى من وضع هذا السلطان العظيم في يد القضاة أنهم بشر، وأم من طبيعة البشر التهرب من حمل المسئولية، وأن الإنسان إذا خير بين مسئوليات
سارع إلى حمل أخفها كما يسارع إلى الابتعاد عن أثقلها، ولا يتعرض لحمل المسئوليات الثقيلة إلا كارهاً أو مضطراً حين يجد بداً من حملها أو لا يجد مخرجاً لتركها، فالقاضي يشعر عادة بثقل مسئوليته حين يفكر في الحكم بالإعدام وتنفر نفسه غالباً من مثل هذا الحكم ولا يقدم عليه ما دام يستطيع أن يستبدل الإعدام الأشغال الشاقة، وكذلك ينفر من الحكم بالأشغال الشاقة ويشعر بثقله على نفسه طالما كان في استطاعته أن يحكم بالسجن أو بالحبس، وقد يضايق القاضي أن يحكم على شخص ما لظروفه بالحبس مع النفاذ، ولكنه لا يرى غضاضة في الحكم عليه بالحبس مع إيقاف تنفيذ العقوبة، كذلك لا ينفر القاضي ولا يتردد أن يحكم بعقوبة ما أياً كان نوعها إذا لم يكن يستطيع أن يختار غيرها أو يستبدل بها أخف منها، وليس القاضي بدعاً في هذا، وإنما هي طبيعة الإنسان لا تتغير حتى يتغير تكوينه، فمن طلب منه أن يأتي بما ليس في طبيعته فقد طلب المحال وباء بالخسران والخزلان.
501 -
فشل واضعي القانون في علاج مشكلة العقاب ومظاهره: ونستطيع أن نتبين مما سبق أن واضعي القانون قد أخفقوا ذريعاً حين أرادوا معالجة مشكلة العقاب علاجاً عملياً عن طريق القضاة، ويتمثل ذلك الإخفاق في مظهرين لكل منهما أهميته وأثره وهما:
أولاً: تعطيل العقوبات الأصلية: ترتب على إعطاء القضاة السلطان التام في اختيار العقوبة واستبدال غيرها بها أن تعطلت العقوبات التي وضعت أصلاً للجرائم بحيث أصبحت في حكم الملغاة؛ لأن القاضي كما قلنا لا يلجأ إلى التشديد إذا سد أمامه باب التخفيف، ويندر أن يغلق دونه هذا الباب، ولا يطبق القاضي العقوبة الأصلية طالما استطاع أن يطبق العقوبة الاحتياطية، وهو لا يكاد يعجز عن ذلك في كل الأحوال.
فعقوبة الإعدام وهي مقررة لحوالي عشرين جريمة يندر تطبيقها الآن، مع أن جريمة القتل - وهي إحدى الجرائم العشرين التي يعاقب عليها بالإعدام - تقع بمعدل
تسع جرائم يومياً؛ خمس منها جرائم تامة وأربع منها تقف عند الشروع. وفي سنة 1936 - 1937 كانت جرائم القتل والشروع فيه 3093 جريمة، وفي سنة 1938 - 1939 بلغت 3211 جريمة فهي على خطورتها تزداد عاماً بعد عام، وهذه الزيادة سبب يدعو إلى التشدد في تطبيق عقوبة الإعدام، وإن كانت خطورة الجريمة في ذاتها أدعى إلى هذا التشدد دون نظر إلى غير ذلك من العلل والأسباب.
ولكن الإحصائيات - وا أسفاه - ترينا ما لا يراه العقل وتنتهي بنا إلى غير ما ينتهي إليه منطق الأشياء، ترينا أن جرائم القتل تزداد باسمرار والأحكام الرادعة تقل باستمرار، ففي سنة 1936 - 1937 (1) فصلت محاكم الجنائية بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام، وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 22 شخصاً، ولكن محاكم الجنايات لم تحكم بالإعدام إلا على 17 شخصاً فقط واستبدلت للباقين بعقوبة الإعدام عقوبات أخرى، ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 7.6} . وفي سنة 1937 - 1938 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 127 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 181 شخصاً حكم على ستة عشر شخصاً منهم بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبة الإعدام عقوبات أخرى، ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 8.8} . وفي سنة 1938 - 1939 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 150 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام، وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 206 شخصاً حكم على تسعة أشخاص فقط من هؤلاء بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبات مخففة بعقوبة الإعدام، أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.4} . وفي سنة 1939 - 1940 قضت محاكم الجنايات
(1) هذا الإحصاء وما يليه مأخوذ من الإحصاء القضائي السنوي لوزارة العدل، وليس لنا فيه إ استخراج النسب المئوية.
بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام، وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 195 شخصاً حكم على ستة منهم فقط بالإعدام واستبدلت بعقوبة الإعدام عقوبات مخففة للباقين، أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.1} .
فمتوسط نسبة الأحكام التي قضت بعقوبة الإعدام في هذه السنوات الأربع المتتالية هي 5.9} وضآلة هذه النسبة وتفاهتها ترجع إلى أنها تحدد أحكام الإعدام لا في جرائم القتل بصفة عامة، ولكن في جرائم التي يوجب فيها القانون الحكم بعقوبة الإعدام دون غيرها.
لا يظن أحد أن نسبة أحكام الإعدام كانت مرتفعة في القديم، فإن الإحصائيات تدل على أن هذه النسبة كانت 5.7} في سنة 1926 - 1927، وأنها كانت في السنة التالية لها 2.9} ، ويا لها من نسبة قمينة بأن تحيل النظام فساداً والأمن خوفاً!! ولعل واضع القانون لم يدر بخلده يوماً ما أن يصل إلى هذه النتيجة، ولو أنه توقعها لما سمح باستبدال العقوبات المخففة بالعقوبات المشددة.
ولعل فيما سبق الدليل الكافي على أن عقوبة الإعدام معطلة، وأنها تكاد تكون حبراً على ورق يعترف بها القانون وينكرها الواقع.
وما قيل عن عقوبة الإعدام يمكن أن يقال عن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، فإنها لا تكاد تطبق كعقوبة أصلية. وإنما تطبق بدلاً من عقوبة الإعدام.
وإذا راجعنا إحصائية العقوبات الصادرة من محاكم الجنايات في سنة 1936 - 1937 نجد أن مجموع المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء تسعة عشر شخصاً حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية، أما الباقون فعقوبتهم مستبدلة بعقوبة الإعدام. وفي سنة 1938 - 1939
كان عدد المحكوم عليهم الأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء 33 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام. وفي سنة 1939 - 1940 كان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 123 شخصاً؛ من هؤلاء 31 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام.
ولا تكاد محاكم الجنايات تحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية إلا في القتل الذي لم يقترن بظروف، وإلا في بعض جرائم الشروع في القتل المعاقب عليه بالإعدام، أما بقية الجنايات الأخرى فيندر أن يحكم فيها بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، فمثلاً تدل الإحصائيات على أنه لم يحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما بين سنة 1936 - 1937 وبين سنة 1939 - 1940 إلا من أجل القتل والشروع فيه، فيما عدا خمسة أشخاص حكم عليهم في كل هذه المدة لسرقات.
ومن السهل أن نبين نسبة تطبيق عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية في جرائم القتل الذي لم يقترن بظروف، ففي سنة 1936 - 1937 كانت 7.8} ، وفي سنة 1937 - 1938 كانت 15.7} ، وفي سنة 1938 - 1939 كانت 8.9} ، وفي سنة 1939 - 1940 كانت 12.9} ، ومتوسط النسبة في السنوات الأربع هو 11.3} .
ولكن من الصعب أن نبين النسبة في جرائم الشروع؛ لأن الإحصائيات تجمل عدد القضايا ولا تبين ما يجب فيه عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة وما لا يجب فيه. ولا نعتقد أنها تزيد على النسبة في جرائم القتل بل إنها قد تقل عنها كثيراً، ففي سنة 1936 - 1937 مثلاً حكم على 438 شخصاً في جرائم الشروع في القتل، ومن هؤلاء أربعة فقط حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبد'.
أما النسبة في جرائم السرقة فهي تكاد تكون معدومة، ففي سنة 1936 - 1937 أدين 128 شخصاً، كان يجب أو يجوز طبقاً لنص القانون أن يحكم عليهم
بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولكن لم يحكم على أحد منهم بهذه العقوبة. وفي سنة 1937 - 1938 أدين 124 شخصاً منهم أثنان فقط هما اللذان حكم عليهما بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كقعوبة أصلية؛ أي بنسبة 1.6} . وفي سنة 1938 - 1939 عوقب 147 شخصاً منهم ثلاثة فقط هم الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية؛ أي بنسبة 2} . وفي سنة 1939 - 1940 عوقب 148 شخصاً لم يحكم على أحد منهم بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة. وإذن فالإحصائيات تدل على أن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة تطبق في جرائم السرقة كعقوبة أصلية بنسبة متوسطها 0.9} فقط.
وإذا كانت عقوبة الإعدام وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة قد أصبحت كلتاهما معطلة لا تطبق على الجرائم التي فرضها لها القانون، فإن عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة وعقوبة السجن قد لقيت كلتاهما مثل هذا المصير؛ ذلك أن الجنايات المعاقب عليها بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن تحال على محكمة الجنح للفصل فيها على أساس عقوبة الجنحة إذا كان للمتهم أعذار معينة أو ظروف مخففة، وهذه الجنايات التي تحال إلى محكمة الجنح قد تبلغ أحياناً نصف ما يحال على محاكم الجنايات، ومعنى هذا أن ثلث مجموع الجنايات تقريباً يعاقب عليه بعقوبة الحبس بينما عقوبته الأصلية الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن.
والمفروض في القضايا التي تحال على محاكم الجنايات أنها نوعان: نوع عقوبته الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تدعو ظروف المتهمين فيه إلى استعمال الرأفة وقد لا تدعو لذلك، ونوع عقوبته الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، وظروف المتهمين فيه كما رأى قاضي الإحالة لا تدعو لاستعمال الرأفة، فكان المنطق يقضي بأن هذا النوع الثاني يحكم فيه على المتهمين بالعقوبات الأصلية، ولكن الواقع لا يتفق دائماً مع المنطق، فإن كثيراً من قضايا هذا النوع يحكم فيه
بالحبس بدلاً من العقوبات الأصلية (1) ؛ لأن ظروف الرأفة تظهر دائماً أمام محكمة الموضوع وإن لم تظهر في كل أدوار التحقيق، ولأن المتهمين لا يعجزون عن إظهار أنفسهم في مظهر المستحق للرأفة.
ونستطيع أن نصل إلى نسبة دقيقة في كل الجنايات إذا راجعنا العقوبات التي تصدر فيها سواء من محاكم الجنايات أو محاكم الجنح. ففي سنة 1936 - 1937 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2482 جناية على 3063 شخصاً، ومن هؤلاء 941 شخصاً حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محاكم الجنح في 1154 جناية على 1416 شخصاً بعقوبة الجنحة، فأصبح عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2122 شخصاً، والمحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2375 شخصاً، أي أن 52.6} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من عقوبتها الأصلية. وفي سنة 1937 - 1938 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2408 جناية على 2915 شخصاً منهم 832 حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محكمة الجنح في 1045 جناية على 1362 شخصاً، فكان عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجناية 2103 وعدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2194 شخصاً، أي أن 51} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من العقوبات الأصلية. وفي سنة 1938 - 1939 كانت النسبة 49.7} وفي سنة 1939 - 1940 كانت النسبة 49.6} . فمتوسط ما يحكم فيه سنوياً من الجنايات بعقوبة الجنحة 50.7} من مجموع كل الجنايات.
وهكذا تنتهي عقوبات الجنايات هذه النهاية السيئة، فعقوبة الإعدام لا تطبق إلا على أقل من 6} من الجرائم التي جعلت عقوبة لها، وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لا تطبق في بعض الجرائم كعقوبة أصلية، فإذا طبقت في البعض
(1) أخذت هذه النسبة من كشف العقوبات التي حكمت بها محاكم الجنايات في سنة 1939- 1940 من مقارنة المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤقتة والسجن بعدد المحكوم عليهم بالحبس في كل الجنايات عدا جنايات القتل.
الباقي تراوحت نسبتها المئوية بين 11.1} . وعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن لا تطبق إحداهما إلا على 35} من الجرائم المقررة لها باعتبار أن نصف الجرائم جنح، وأن 30} من الباقي يحكم فيه بعقوبة الجنحة.
ومعنى ما سبق أن تطبيق العقوبات على الجرائم نزل بها درجة أو أكثر، فنزل بالإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، ونزل بهذه إلى الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، ونزل بكل من هاتين إلى عقوبة الحبس. ولعلنا بهذا الاستدلال قد أدركنا إلى أي حد تعطلت العقوبات الأصلية وأحطنا جيداً بمعنى هذا التعطيل.
ثانياً: الميل إلى تخفيف العقوبات: قلنا: إن القانون جعل لكل عقوبة حدين يرتفع أحدهما بالعقوبة إلى نهاية التغليظ، وينزل بها الثاني إلى نهاية التخفيف، وقد خول القانون القضاة حق تقدير العقوبة من بين هذين الحدين، ولكنهم يميلون غالباً للتخفيف وينزلون في أكثر من الأحوال إلى حدها الأدنى؛ متأثرين في ذلك بمختلف العوامل التي سبق شرحها.
ولست أسوق دليلاً على هذا القول إلا الإحصاءات الرسمية (1) . ففي سنة 1936 - 1937 حكم على 1165 شخصاً بالأشغال الشاقة المؤقتة فكانت نسبة المحكوم عليهم من هؤلاء بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 33.2} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 15.4} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 51.4} . وفي نفس السنة حكم بالسجن على 744 شخصاً فكانت نسبة من حكم عليهم بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 58} ، وكانت نسبة من حكم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.8} ، وكانت نسبة من حكم عليهم بمتوسط العقوبة 40.2} . وفي نفس السنة حكم على 40090 شخصاً بالحبس مع الشغل
(1) أخذت هذه الإحصاءات من تقارير مصلحة السجون السنوية، واستخرجت النسبة المئوية بمعرفتنا.
، وكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 56.3} وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة واحدة 32.4} ،وكانت نسبة المحكوم عليهم بسنة فأكثر 11.3} . وفي نفس السنة حكم بالحبس البسيط على 23925 شخصاً، فكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 99.6} ونسبة المحكوم عليهم بأكثر من تسعين يوماً 0.4} .
وفي سنة 1938 - 1939 كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة إلى مجموع المحكوم عليهم 48.9} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وهمس عشرة سنة 13.4} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 37.7} . وفي نفس السنة كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة السجن 69.3} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.6} ، وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 29.1} ، وفي نفس السنة كانت النسبة بين الحكوم عليهم بالحبس مع الشغل أو الحبس البسيط تكاد تعادل النسب التي بيناها عن سنة1936 - 1937.
وهذا هو لسان الإحصاء الذي لا يكذب، وإنه لقاطع في أن المحاكم تنفر من التشديد، وإنها تميل بالعقوبة إلى التخفيف أكثر مما تميل بها إلى الاعتدال.
ويجب أن لا ننسى بعد هذا أن العقوبة خففت قبل ذلك مرة أخرى حين استبدلت بالعقوبة الأصلية عقوبة أخرى، ومعنى ها أن المحاكم تخفف العقوبة مرتين: مرة عند اختيارها أو عند قبول الظروف المخففة، ومن عند تقديرها والنطق بها.
502 -
علة تعطيل العقوبات وتخفيفها: رأينا فيما سبق كيف تعطلت العقوبات الأصلية وكيف تتجه المحاكم إلى تخفيف العقوبة بقدر الإمكان، ولهاتين الظاهرتين الخطيرتين علة واحدة هي أن القانون قد جعل العقوبة للزجر والتأدب، واعترف بأن لشخصية المجرم وظروفه أثراً على العقوبة، والقاضي ملزم حين يوقع العقوبة أن يراعي هذين المبدأين معاً في الجرائم الخطيرة والبسيطة
على السواء؛ لأن القانون لم يهمل شخصية المتهم في الجرائم الخطيرة الماسة بكيان الجماعة كما فعلت الشريعة، وكلا المبدأين مناقض للآخر، فتحقيق الزجر والتأديب يقتضي تشديد العقوبة، ومراعاة شخصية المتهم تقتضي تخفيف العقوبة، ولا يستطيع القاضي أن يفعل شيئاً لإزالة هذا التناقض إلا أن يوفق بين المبدأين بقدر الإمكان، ولكنه حين يفعل يتجه دائماً ناحية المتهم؛ لأنه هو الذي يكون ماثلاً أمامه بمادته ومعناه يسترحمه ويستعطفه ويعرض ظروفه ويبرر موقفه، أما مصلحة الجماعة فلا تكون وقت المحاكمة ممثلة في ذهن القاضي بالقوة التي تتمثل بها مصلحة المتهم، ولذلك لا تراعى بالقدر الذي يراعى به المتهم، وتكون النتيجة ما رأينا من تعطيل العقوبات وتخفيفها.
503 -
هل نجحت العقوبات القانونية في محاربة الإجرام؟: شرعت العقوبات ولا تزال لمحاربة المجرمين والإجرام، وحين يراد تحريم فعل معين تقدر له العقوبات التي يرى أنها كفيلة بزجر الناس عن إتيان هذا الفعل المحرم، فإن أدت العقوبة بالناس إلى أن يمتنعوا عن الفعل المحرم فقد نجحت العقوبة وأدت الغرض منها، وإن لم يزدجر الناس عن الفعل المحرم حاول أولو الأمر أن يعاقبوا عليه بعقوبة أكثر ردعاً من العقوبة السابقة.
فالمقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة، فإن نقص عدد المجرمين وقلت الجرائم فقد نجحت العقوبة، وإن زاد عدد المجرمين والجرائم فقد فشلت العقوبة، ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة بأن تردع المجرمين وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم.
ولقد علمنا أن القانون المصري قرر عقوبات الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن والحبس والإرسال للإصلاحية، ونحب أن نعرف إلى أي مدى نجحت هذه العقوبات، وكيف كان أثرها على المجرمين والجريمة. وهذه العقوبات على تعددها هي عقوبتان: الإعدام، والحبس بوجه عام.
504 -
الإعدام: فأما الإعدام فلا شك في أنه عقوبة رادعة، وقد قررت لأقل ما يمكن من الجرائم، ولا يكاد تقع في حياتنا اليومية جرائم يعاقب عليها بالإعدام إلا جرائم القتل، وقد بينا مستندين إلى الإحصاءات نسبة تطبيق عقوبة الإعدام في الجرائم الي يعاقب عليها وجوباً بالإعدام فإذا هي في المتوسط أقل من 6} ، وهي نسبة ضئيلة تشجع على الإجرام ولا تردع عنه، والذين يتصلون بدور القضاء يعلمون أن القاتل اليوم لا يبالي أن يقتل ويعترف بجريمته، وإنما يبالي ويهتم بأن يركز دفاعه في طلب الرأفة ليفلت بجلده من عقوبة الإعدام وهو يصل غالباً إلى ما يتمناه.
ولست أدري كيف نقبل أعذار القتلة والسفاحين وهم لا يقبلون عذراً من ضحاياهم؟ وكيف نرحمهم ولا يرحمون فرائسهم؟ وإذا كان القاتل لا يقتل وفي قلبه ذرة من الرحمة، ولا يقتل إلا بعد تفكير وتدبير وإصرار على القتل وترصد للمقتول، فليت شعري أية ظروف بعد هذا كله تحملنا على أن نعامله بالرأفة والرحمة؟ وإذا كان القانون نفسه قد فرق بين القتل بالتسميم، والقتل المسبوق بسبق إصرار وترصد أو المقترن بجريمة أخرى أو المقصود به تسهيل ارتكاب الجرائم، إذا كان القانون قد فرق بين هذه الأنواع وبين القتل الذي يقع دون ترتيب لوسائله أو تفكير سابق فيه، وجعل عقوبة الأنواع الأولى الإعدام وعقوبة النوع الثاني الأشغال الشاقة، فكيف سوينا بين المختلفين، ولم نفرق في العقوبة بين النوعين؟ وكيف طبقنا عقوبة الإعدام في حدود هذه النسبة الضيقة بحجة استعمال الرأفة؟ وهل أصبح المجرمون اليوم مستحقين للرأفة والرحمة بنسبة 94.1} في الجرائم التي لا تستحق أصلاً رأفة أو رحمة؟
إن جرائم القتل التي تقع كل عام تعادل 35} من مجموع الجنايات كلها، وهي تزداد عاماً بعد عام، ففي سنة 1935 - 1936 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 2857 وكان مجموع الجنايات 7976. وفي سنة 1936 - 1937 كان عدد
جنايات القتل والشروع فيه 3093 بينما كان مجموع الجنايات كلها 8618. وفي سنة 1937 - 1938 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 3319 جناية وكان مجموع الجنايات كلها 9232. ولعل هذه الزيادة المتجددة ترجع قبل كل شئ إلى استعمال الرأفة.
فعيب عقوبة الإعدام إذن يرجع إلى تطبيقها لا إلى طبيعتها، وقد جاء هذا العيب من إباحة قبول الظروف المخففة في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو على الأقل في جريمة القتل، أو حرم على القضاة أن يستبدلوا بعقوبة الإعدام عقوبة أخرى - لكان لعقوبة الإعدام أثرها الذي لابد منه في تقليل جرائم القتل، ولحل جانب خطير من مشكلة الإجرام.
505 -
عقوبات الحبس وعيوبها: أما عقوبات الأشغال الشاقة بنوعها والسجن والحبس فهي كما قلنا من قبل ليست في جوهرها إلا عقوبة الحبس الذي يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه، وعقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم، يجازى بها المجرم الذي ارتكب جريمةته لأول مرة ويجازى بها المجرم العاتي الذي تخصص في الإجرام، ويجازى بها الرجال والنساء والشبان والشيب، ويجازى بها من ارتكب جريمة خطيرة ومن ارتكب جريمة تافهة، وتنفذ العقوبة على هؤلاء جميعاً بطريقة واحدة تقريباً، وقد أدى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة ومشاكل دقيقة نبسطها فيما يلي:
1 -
إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج: يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على اختلاف أنواعها في محابس يقيمون بها حتى تنتهي مدة العقوبة، ولهذه المحابس أسماء مختلفة، وأقلها درجة: السجون المركزية، ويوضع بها المحكوم عليهم بالحبس ثلاثة أشهر فأقل. ويليها في الدرجة: السجون العمومية،
ويوضع فيها المحكوم عليهم بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر والمحكوم عليهم بالسجن والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من النساء أو الرجال المتقدمين في السن. ويلي السجون العمومية: الليمانات، ويوضع فيها المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وهناك إصلاحيات الرجال ويوضع فيها معتادو الإجرام، أما إصلاحيات الأحداث فهي للأطفال الذين تزيد أسنانهم على سبع سنوات.
وقد بلغ عدد المحكوم عليهم بالحبس بمختلف أنواعه 127090 شخصاً في سنة 1938 - 1939، ولا يدخل في هذا العدد من حكم عليهم بالحبس من المحاكم المركزية. ويتزايد عدد المحكوم عليهم باستمرار سنة بعد أخرى، وقد بلغ متوسط المسجونين يومياً 25515 في سنة 1938 - 1939 بزيادة 5974 عن السنة السابقة.
والمحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل، فوضعهم في السجون هو تعطيل لقدراتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم وردع غيرهم.
ولا شك أن هنا من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفة الزجر والردع، ويكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه، كالجلد مثلاً فإن تنفيذ هذه العقوبة ليس له أثر في الغالب على إنتاج المحكوم عليه وقيامه بعمله اليومي.
ولقد حاولت مصلحة السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل، ولكنها لم تستطع حتى الآن أن توجد عملاً إلا لعدد قليل من المسجونين، أما الباقون فيكادون يقضون حياتهم في السجون دون عمل؛ يأكلون ويتطببون ويلبسون على حساب الحكومة.
وقد بلغت نفقات مصلحة السجون 862125ج في سنة 1938 - 1939
منها مبلغ 150000ج أثمان الخدمات التي يقوم بها المسجونون، فكأن ميزانية الدولة تتحمل 532125ج تنفق سنوياً على المسجونين، ولو أضيف إلى هذا المبلغ الضخم ما يخسره المجتمع كل عام من تعطل هؤلاء المسجونين عن الإنتاج على فرض أن كل مسجون ينتج سنوياً ما يساوي أربعة وعشرين جنيهاً لبلغت خسارة الأمة في سبيل عقوبة الحبس 2582285ج سنوياً.
2 -
إفساد المسجونين: وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد فساداً على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا مجرمين حقيقيين وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتباراً؛ كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة، أو لعد زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، واجتماع هؤلاء جميعاً في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم، فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة، والمتخصص في نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلمه عن زملائه، ويجد المجرمون الحقيقيون في نفوس زملائهم السذج أيضاً خصبة يحسنون استغلالها دائماً، فلا يخرجون من السجن إلا وقد تشبعت نفوسهم إجراماً.
ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة؛ كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين، ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترفه بل صار يتباهى به، وكان هذا مما أدى بالقضاة إلى أن صاروا يشفقون من الحكم بالحبس في الجرائم الاعتبارية التي لا يتمثل فيها روح الإجرام الحقيقي، كما أنهم يوقفون تنفيذ العقوبة في الجرائم الحقيقية إذا كان المجرم مبتدئاً، لأنهم يخشون
أن يدخل الجاني السجن بريئاً من الإجرام أو مبتدئاً فيه فيخرج من السجن مملوئاً بالإجرام متفقهاً في أساليبه.
فالسجن الذي يقال عنه أنه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع، وإنما هو معهد للإفساد وتلقين أساليب الإجرام.
وقد شعرت الحكومة بوطأة هذه الحالة فهي تحاول أن تصلح من هذا العيب. ولكن أساس الإصلاح يدل على أنه لن يكون ناجعاً، إذ أنها تريد أن تقسم السجون على أساس نوع العقوبة وأسنان المحكوم عليهم، وهذا التقسيم سيبقي الحالة على ما هي عليه؛ لأنه يجمع بين ذوي العقوبة الواحدة في محبس واحد، وبعضهم قد يكون مبتدئاً لا يعلم كثيراً عن الإجرام والبعض من عتاة المجرمين، واختلاط هؤلاء من نفس العيب الذي يراد علاجه، أما جمع الشبان في محبس واحد والكهول في محبس واحد فلن يكون علاجاً؛ لأن الإحصائيات تدل على أن أكثر المجرمين من الشبان، ففي سنة 1938 - 1939 كان عدد المسجونين الشبان 5277 أي نسبة 62} من مجموع من دخلوا السجن، ومن هؤلاء 1505 شخصاً يتراوح سنهم بين 16، 20 سنة والباقون يتراوح عمرهم بين 22 - 30 سنة، فعدد المجرمين من الشبان أكثر من عددهم من بين الرجال والمسنين، ووجود الشبان المحكوم عليهم لأول مرة مع شبان من وي السوابق كفيل بأن يخلق الأولين بأخلاق الآخرين.
3 -
انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة، ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة - وهي أقصى أنواع الحبس - لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة.
وتدل الإحصائية رقم 44 من تقرير مصلحة السجون عن سنة 1938 - 1939 على أن 45} من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة عادوا إلى ارتكاب الجرائم
بعد الإفراج عنهم بمدد تتراوح بين خمسة عشر يوماً وسنة، بل إن هذه الإحصائية تدل على أن 43} من المحكوم عليهم بالإرسال لإصلاحية الرجال ما كادوا يخرجون من الإصلاحية حتى ارتكبوا جرائم أعادتهم إليها، وأنهم ارتكبوا جرائمهم في مدة تتراوح بين 21 يوماً وسنة من تاريخ خروجهم من الإصلاحية، والمفروض أن عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية من أكثر العقوبات ردعاً، وأن المجرم لا يخرج منها إلا بعد أن تتوافر الأدلة على تركه الإجرام وميله إلى الاستقامة.
وتلد الإحصائية رقم 47 من تقرير مصلحة السجون المشار إليه سابقاً على أن حوالي ثلث الموجودين في إصلاحية الرجال دخلوها للمرة الثانية والثالثة والرابعة.
ومما يدل على أثر السجن بصفة عامة في نفوس المجرمين الإحصائية رقم 46 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938 - 1939، فهي تشير إلى أنصف من في الإصلاحية تقريباً لهم سوابق في الإجرام من خمس مرات إلى عشر، وأن حوالي الثلث لهم من عشر سوابق إلى خمس عشرة سابقة، وأن الباقين تتراوح سوابقهم بين خمس عشرة سابقة وأربعين سابقة، فلو أن السجن يردع المجرمين حقيقة لما عاد المجرم للإجرام خمس مرات وعشر مرات وأربعين مرة.
وتلد الإحصائية رقم 43 من التقرير المشار إليه سابقاً على أن الذين يعودون لإصلاحية الرجال بعد خروجهم منها يزداد عددهم باستمرار، ففي سنة 1916 كانت نسبة العائدين إلى مجموع من في الإصلاحية 10.8} وفي سنة 1926 ارتفعت النسبة إلى 20.6} وفي سنة 1936 بلغت 38.7} .
ومما يدل أيضاً على أن عقوبة الحبس ليس لها أثر على المجرمين ازدياد جرائم العود سنة بعد أخرى، فقد وصلت هذه الجرائم إلى 872 جناية في سنة 135 - 1936، ثم ارتفعت إلى 939 جناية في سنة 1936 - 1937، ثم بلغت 1023 جناية في السنة
التي تليها، وجنايات العود هذه لا تقع إلا من المجرمين أرباب السوابق المتعددة.
4 -
قتل الشعور المسئولية: وعقوبة الحبس غير أنها غير رادعة تؤدي إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرمين وتحبب إليهم التعطل، فالكثير من المسجونين يقضون في السجن مدداً طويلة نوعاً ما ينعمون فيها بالتعطل من العمل ويكفون فيها مئونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج، والمشاهد أن هؤلاء يكرهون أن يلقى بهم خارج السجن ليواجهوا حياة العمل والكد من جديد، وأنهم يموت فيهم كل شعور بالمسئولية نحو أسرهم بل نحو أنفسهم، فلا يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه، ولا حباً في الجريمة ولا حرصاً عليها وإنما حباً في العودة إلى السجن وحرصاً على حياة البطالة.
5 -
ازدياد سلطة المجرمين: ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال.
ولقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين يزاحم سلطان الحكومات بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة والأمر المطاع. ومن الوقائع التي أعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير الذي يحتله المجرمون إلى زيادة المجرمين الشبان الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز، كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عاراً وذلك في القديم أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلاً مهاناً أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان.
6 -
انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي: وتنفيذ عقوبة الحبس يقتضي وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرياتهم ومن الاتصال بزوجاتهم، ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاماً بعد عام والمحابس لا تزيد، فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشراً في غرف السجون كما يحشر السردين في علبته، وبحيث أصبحت السجون العمومية والليمانات تضم بين جدرانها عدداً يتراوح بين ثلاثة وأربعة أمثال العدد المقرر لها من الناحية الصحية (1) .
أما السجون المركزية هي عادة لا تزيد على غرفتين صغيرتين ولا يقل العدد الذي تضمه في المتوسط عن ستين شخصاً، وبينما تتوافر الوسائل الصحية نوعاً ما في السجون العمومية فإنها تنعدم في السجون المركزية، فلا يوجد في كل السجون المركزية بالقطر المصري فراش للمساجين الذين يقضون مدة حبسهم جلوساً أو نياماً على الأسفلت، كما أن الأغطية في هذه السجون تكاد تكون منعدمة.
وقد أدى ازدحام السجون وعدم توافر الوسائل الصحية بها وحرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض السرية والجلدية والصدرية، وغيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين، وتدل إحصائيات سنة 1939 (2) ، وهي خاصة بالسجون العمومية والليمانات، على أن 3993 مسجوناً أصيبوا بنزلات شعبية، و369 بالتدرن الرئوي وأدران أخرى، و422 بالسيلان، 1160 بالزهري، و4128 بالجرب، و1534 بالقراع، 5333 بأمراض جلدية أخرى، 219 بقمل العانة، و8618 بخراجات ودمامل، 926 بالروماتيزم، بل لقد بلغت حالة الإصابات والأمراض بين المسجونين 74000 حالة في سنة 1939. وفي عدد هذه الحالات الضخم وفي أنواع الأمراض التي بيناها ما يقطع بانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بين المسجونين.
(1) الإحصائية رقم 1 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939.
(2)
الإحصائية رقم 20 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939.
فالسجون إذن أداة لنشر الأمراض بين المسجونين، ولإفساد أخلاقهم وتضييع رجولتهم، ولا يقتصر شر السجون على هذا، بل إنها تؤدي إلى فساد الأخلاق في خارجها، لأن وضع الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال وبناتهم وأخواتهم إلى الحاجة وإلى الفتنة ووضعهن وجهاً لوجه أمام الشيطان.
7 -
ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة، ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل، فقد كان عدد الجنايات في سنة 1906 لا يزيد على 3586 جناية فإذا به في 1912 يبلغ 4008 جناية، ثم يصل في سنة 1918 - 1919 إلى 6779 جناية، وفي سنة 1926 - 1927 يصل إلى 8012 جناية. وفي سنة 1938 - 1939 يصل إلى 9286 جناية. أما الجنح فكان عددها في سنة 1906 لا يزيد على 32810، وفي سنة 1912 أصبح 93743، وفي سنة 1926 - 1927 بلغ عددها 167677 جنحة، وفي سنة 1938 - 1939 بلغ عدد الجنح 382828. وهكذا في ظرف أثنين وثلاثين عاماً بلغ عدد الجنايات ثلاثة أمثال ما كان عليه، وبلغ عدد الجنح أكثر من أحد عشر مثلاً.
وقد يقال: إن عدد الجنح لا يمثل الزيادة الحقيقية؛ لأن الجنح المعاقب عليها يزيد عاماً بعد عام فتزداد تبعاً لذلك في مجموعها، وهو قول صحيح إلى حد ما، فلنترك العدد العام للجنح ولنأخذ جريمة السرقة مقياساً فهي أحرى أن تصل بنا إلى نسبة الزيادة الصحيحة، ففي سنة 1991 كان عدد جنح السرقة 9356، وفي سنة 1901 بلغ عدد الجنح 15993 جنحة، وفي سنة 1912 بلغ 23834 جنحة، وفي سنة 1916 بلغ 44110، وفي سنة 1926 بلغ 54326 جنحة، وفي سنة 1939 بلغ 65587 جنحة. ومعنى هذا أن عدد جنح السرقة زاد في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كان عليه، وهي نسبة لا تبررها زيادة السكان ولا يقوم بها أي عذر مهما اختلفت المعازير، فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة
فكيف تتضاعف الجنح سبع مرات والجنايات ثلاث مرات؟ والحالة الاقتصادية مهما قيل فيها لا يكون سبباً في ازدياد الجرائم ما دامت العقوبة رادعة، وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في المملكة الحجازية، فلا شك أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز، ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر، وانتشر الأمن هناك واختل هنا.
ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام والجرأة على ارتكاب الجرائم وترويع الآمنين والحجاج المسافرين وقطع الطرق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الاقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً وهو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن وانعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، فهذه العقوبة الرادعة هي التي وطدت الأمن في الحجاز وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شئ إلا وجده دار الشرطة، ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان ولو لم يبلغ بضياعه ما دام مع المال ما يدل على اسم صاحبه.
فمن الخطأ إذن بعد قيام هذا المثل العلمي أن نحتج لزيادة الجرائم بالحالة الاجتماعية والاقتصادية أو بازدياد السكان؛ لأن الجريمة مرض علاجه العقوبة، فإذا نجح أولو الأمر في وصف العلاج الذي يوافق المرض انتهى المرض أو سكنت حدته على أقل الفروض، وإن لم يوفق أولو الأمر في وصف العلاج الناجع طال المرض وأعضل وعانى منه المجتمع أشد المعاناة.
506 -
كيف نتخلص من عيوب الأنظمة الوضعية: تبينا فيما سبق النتائج السيئة للعقوبات التي فرضتها علينا الأنظمة الوضعية، فإذا هي تضييع للأموال والجهود وإفساد للنفوس والأخلاق والصحة، وليس بعد ذلك
إلا ازدياد الجرائم وجرأة المجرمين، والإخلال بالأمن وتوهين النظام، وذهاب هيبة الحكومة وسطوتها وفرض سلطان الأشقياء والمجرمين على السكان الآمنين، ولا خلاص من هذه النتائج المحزنة إلا بالتخلص من النظام كله، وإن في بعض هذه النتائج ما يكفي وحده لإلغاء هذا النظام. وإذا كان الناس لا يلغون أنظمتهم بسهولة ولو تيقنوا من فسادها إلا إذا وجدوا خيراً منها، فإن لدينا نظاماً هو خير الأنظمة التي عرفها البشر وأقدرها على حماية الجماعة ومكافحة الجريمة وإصلاح المجرم، ذلك هو النظام الإسلامي الذي أثبتت التجربة نجاحه في كفاح الجريمة والقضاء على الإجرام.
وليست ميزة النظام الإسلامي الوحيدة في أن التجربة أثبتت نجاحه وصلاحيته، ولكنه يمتاز أيضاً بأن الأسس التي يقوم عليها كفيلة بأن تقضي على العيوب التي تصحب العقوبة الوضعية، كما هي كفيلة بأن توفر على العالم المجهودات العظيمة التي تبذل لتخفيف أضرار هذه العقوبات والأموال الكثيرة التي تنفق في سبيل تنفيذها.
وأول عيوب النظام الوضعي أنه يؤدي إلى تعطيل العقوبات الأصلية وتخفيفها، وفي الشريعة ما يحول دون ذلك في الجرائم الخطيرة التي تمس كيان الجماعة، حيث تفرض الشريعة لهذه الجرائم عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يستبدل بها غيرها مهما كانت ظروف الجاني؛ لأن مصلحة الجماعة في هذه الجرائم الخطيرة توضع فوق كل مصلحة وتتغلب على كل اعتبار، أما الجرائم التي لا تمس كيان الجماعة فيجوز للقاضي فيها أن ينظر إلى شخصية الجاني ولو أدى ذلك لتخفيف العقاب ما دام يؤدي إلى إصلاح الجاني في الوقت نفسه (1) .
والعيب الثاني للنظام الوضعي أنه يفرض في معظم الجرائم عقوبات لا تتنوع هي الحبس الذي يختلف شدة وضعفاً بحسب نوع الحبس، والذي يؤدي تنفيذه
(1) راجع الفقرتين 51، 440.
إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء القادرين على العمل في المحبس والإنفاق عليهم دون أن يؤدوا عملاً مجدياً فتخسر الأمة من وجهين: تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين، وتخسر ما كان يمكن ينتجه هؤلاء لو لم يوضعوا في المحابس، ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي؛ لأن الشريعة لا تعرف الحبس في جرائم الحدود والقصاص، وهي كما بينا تبلغ ثلثي (1) الجرائم عادة.
كما أن الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس، ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبساً غير محدود المدة حيث يبقى المجرم بعيداً عن الجماعة مكفوفاً شره وأذاه حتى يموت، ولا يحكم هذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين. وإذا فرض أن عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي الأخير من الجرائم حوالي 15} من مجموع الجرائم يقسم بين عقوبات الحبس والغرامة والتغريب وغير ذلك من عقوبات التعازير المتعددة.
والمفروض أن الجرائم التي يجلد فيها هي جرائم التعازير الخطيرة، فالجرائم التي تبقى أخيراً ليعاقب عليها بغير الجلد والحبس غير المحددة المدة هي جرائم تافهة في الغالب يكفي في عقابها النصح والتوبيخ والغرامة والحبس مع إيقاف التنفيذ، فتكون النتيجة أن لا يحبس فعلاً إلا في حوالي 5} من مجموع الجرائم، وهذه نتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بتطبيق نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب.
وإذا قلت الجرائم التي يحكم فيها بالحبس إلى هذا الحد فإن عدد المحبوسين يصبح قليلاً جداً، وبذلك تنحل مشكلة اختلاط المسجونين وما ينشأ عنها من فساد الأخلاق والصحة ونشر وسائل الإجرام، كما تقل جرائم العود التي لا يشجع عليها إلا وجود المحابس والاستخفاف بعقوبة الحبس.
وإذا علمنا أن الجرائم القليلة التي يحكم فيها بالحبس حبساً محدد المدة هي
(1) راجع الفقرة 494.
جرائم تافهة من مجرمين غير خطرين تأكد لدينا أن الحبس في هذه الجرائم سيكون لمدد قليلة ولن يؤدي إلى نشر عدوى الإجرام ولا إلى فساد الأخلاق، وحتى إذا وجدت هذه المساوئ فلن يكون لها أثر خطير على المجرمين وعلى الأمن العام لقلة عدد المسجونين وقلة خطورتهم؛ ولأن المجرم لا يضمن أن يعاقب مرة ثانية بعقوبة الحبس. أما المجرمون الخطرون فهؤلاء تقضي عليهم الشريعة بالحبس غير المحدد المدة مهما كان نوع الجريمة المنسوب إليهم؛ لأن ارتكاب الجاني لأية جريمة مهما كانت بسيطة معناه أنه لا يزال على استعداد لإجرام وأن العقوبات السابقة لم تردعه.
ومن عيوب عقوبة الحبس في القوانين الوضعية أنه تقتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرم، وتحبب إليه التعطل، وتزين له أن يعيش عالة على الناس يبتز أموالهم بالتهديد والتخويف.
وفي عقوبة الشريعة علاج هذا كله، بل إن علاجه في عقوبة الجلد وحدها؛ إذ الجلد يحط من قدر المجرم في عين نفسه فلا يعود لجريمته، كما يحط من قدره في عيون الناس فلا يهابونه ولا يخافون سلطانه ولا يكبر المجرم في عيونهم حتى يزاحم بسلطانه سلطان الحكومات.
ولو أننا تتبعنا ما ذكرناه من عيوب العقوبات الوضعية عيباً عيباً لوجدنا لكل عيب علاجه الناجع في تطبيق عقوبات الشريعة الإسلامية وتطبيق نظريتها في العقاب.
هذه هي العقوبات الوضعية، وهذا هو أثرها في إفساد الأخلاق والأمن والنظام، وتلك هي عقوبات الشريعة الإسلامية، وذاك هو أثرها في إصلاح ما أفسدته القوانين الوضعية، ولن نجد بعد ذلك من يستطيع أن يفضل القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية؛ فإن وجدته فاذكر قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
* * *