الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
تعدد العقوبات
507 -
تعدد العقوبات وتعدد الجرائم: تتعدد العقوبات كلما تعددت الجرائم، وتتعدد الجرائم كلما ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه نهائياً في واحدة منها، وهذا هو المعنى الفني للتعدد.
وتعدد الجرائم إما صوري وإما حقيقي، فهو صوري إذا ارتكب الجاني فعلاً واحداً يدخل تحته صور شرعية مختلفة، ويحدث ذلك كلما انطبق على الفعل أكثر من نص واحد، كضرب الموظف أثناء تأدية وظيفته، فالفعل يمكن أن يكون ضرباً ويمكن أن يكون كل واحد منها جريمة مستقلة.
الفرق بين تعدد العقوبات وبين العود: ويخلف تعدد العقوبات عن العود، ففي تعدد العقوبات يرتكب الجاني عدة جرائم قبل أن يحكم عليه في إحداها. أما في العود فيرتكب الجاني جريمته الثانية بعد أن يعاقب على جريمته الأولى.
ويقضي المنطق بأن لا يعاقب المجرم في حالة تعدد الجرائم على كل جرائمه ولو أن ارتكابه لهذه الجرائم المتعددة يدل على ميوله الإجرامية؛ لأنه عندما عاد لارتكاب الجرائم لم يكن عوقب على أية جريمة سابقة وأخذ درساً عنها، فهو يختلف من هذه الوجهة عن العائد الذي سبق عقابه وأنذر بهذا العقاب أن يسلك سلوكاً مستقيماً.
508 -
القوانين الوضعية والتعدد: عرفت القوانين الوضعية ثلاث طرق مختلفة في حالة تعدد الجرائم:
الأولى: طريقة الجمع: ويأخذ بهذه الطريقة القانون الإنجليزي، ومقتضاها أن يوقع على الجاني مجموع العقوبات المقررة لكل الجرائم التي ارتكبها.
وعيب هذه الطريقة الإفراط في العقاب؛ لأن الجمع بين العقوبات قد يؤدي إلى أن تبلغ العقوبة حداً مفرطاً في الشدة، فالحبس - وهو عقوبة مؤقتة - إذا تعدد أصبح عقوبة مؤبدة، والغرامات إذا تعددت قد يؤدي إلى مصادرة تامة لأموال المحكوم عليه.
الثانية: طريقة الجب: ومعنى الجب أن تقضي العقوبة الأشد على غيرها من العقوبات، فمقتضى هذه الطريقة أن لا يوقع على الجاني سوى أشد العقوبات المقررة للجرائم التي يرتكبها.
وعيب هذه الطريقة التهاون والتفريط، فالشخص الذي يرتكب عشر جرائم مثلاً يعاقب بعقوبة الجريمة الأشد فقط دون غيرها من العقوبات، ومعنى هذا أن من يرتكب جريمة خطيرة يعاقب عليها بعقوبة شديدة يكون في حل من ارتكاب الجرائم الأبسط منها طالما أنه لم يعاقب على جريمته الخطيرة.
الثالثة: الطريقة المختلطة: وقد عولجت عيوب الطريقتين السابقتين بهذه الطريقة الثالثة وتدعى بالمختلطة أو المتوسطة. وتعني بالجمع بين الطريقتين الأوليين أو بتقييد إطلاقهما. فهي تجيز الجمع بين العقوبات على أن لا يجاوز مجموعها حداً معيناً، وتعيين الحد الأقصى للعقوبة قصد منه منع الإفراط في العقاب، وهي تعالج طريقة الجب بتشديد العقوبة الواحدة التي يحكم بها.
وقد جمعت أكثر التشريعات الوضعية الحديثة بين طريقة التعدد والجب مع تقييدهما.
509 -
قانون العقوبات المصري: ويأخذ قانون العقوبات المصري بقاعدة تعدد العقوبات، حيث نصت المادة 33 منه على أن العقوبات المقيدة للحرية تتعدد إلا ما استثنى بنص المادتين 35، 36. والأولى منهما تنص على أن عقوبة
الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة المذكورة. والثانية منهما تنص على أنه إذا ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه من أجل واحدة منها وجب ألا تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة على عشرين سنة ولو في حالة تعدد العقوبات، وأن لا تزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس على عشرين سنة، وأن لا تزيد مدة الحبس وحده على ست سنوات.
فالقانون المصري يأخذ بنظرية التعدد ولكنه يقيدها من ثلاثة وجوه:
الأول: أن عقوبة الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة، فمن كان محكوماً عليه بالسجن عشر سنوات ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات نفذت عليه عقوبة الأشغال الشاقة ونفذ عليه من عقوبة السجن خمس سنوات فقط، ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجب ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الثاني: أن لا يزيد الحد الأعلى مهما تعددت العقوبات على عشرين سنة إذا كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة، وأن لا يزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس معاً على عشرين سنة، وأن لا تزيد مدة الحبس على ست سنوات، ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجمع بين العقوبات ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الثالث: في حالة التعدد الصوري تطبق عقوبة الصورة القانونية الأشد، وفي حالة التعدد الحقيقي تطبق العقوبة الأشد أيضاً بشرط أن تكون الجرائم ارتكبت لغرض واحد، وأن تكون مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة كما تنص على ذلك المادة 32 عقوبات، وهذا قيد على طريقة الجمع.
ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تقيد نظرية تعدد العقوبات على الوجه السابق إلا في القرن الماضي، أما قبل ذلك فكانت العقوبات تتعدد بصفة مطلقة دون أي قيد.
510 -
الشريعة والتعدد: عرفت الشريعة من يوم وجودها نظرية تعدد العقوبات ولكنها لم تأخذ بها على إطلاقها، وإنما قيدتها بنظريتين أخريين، الأولى: هي نظرية التداخل، والثانية: هي نظرية الجب.
نظرية التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم في حالة التعدد تتداخل عقوبتها بعضها في بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة، ولا ينفذ على الجاني إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة (1) . وتقوم نظرية التداخل على مبدأين:
أولهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من نوع واحد كسرقات متعددة أو زناً متعدد أو قذف متعدد فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عنها جميعاً عقوبة واحدة، فإذا ارتكب الجاني جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت عليه عقوبة أخرى.
والعبرة بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها. فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها بعد.
وتعتبر الجرائم على الرأي الراجح من نوع واحد ما دام موضوعها واحداً ولو اختلفت أركانها وعقوبتها. كالسرقة العادية والحرابة فكلتاهما سرقة وإن اختلفت أركانهما وعقوباتهما، وكالزنا من محصن والزنا من غير محصن فكلاهما زناً، وفي مثل هذه الحالات تكون العقوبة الأشد هي الواجبة.
تعليل هذا المبدأ: وأساس هذا المبدأ أن العقوبة شرعت بقصد التأديب والزجر، وأن عقوبة واحدة تكفي لتحقيق هذين المعنيين فلا حاجة إذن لتعدد العقوبات ما دام المفروض أن عقوبة واحدة تكفي لإحداث أثرها وتمنع المجرم من ارتكاب الجريمة مرة أخرى، وإذا كان من المحتمل عقلاً أن يعود المجرم
(1) شرح فتح القدير ج4 ص208، شرح الزرقاني ج8 ص108، أسنى المطالب ج4 ص157، المغني ج10 ص197.
من ارتكاب الجريمة فإن هذا الاحتمال وحده لا يكفي ما دام لم يثبت قطعاً أن العقوبة لم تردعه، فإذا ثبت هذا بأن ارتكب جريمة فعوقب عليها ثم عادلها بعد ذلك فقد وجب أن يعاقب على جريمته الأخيرة؛ لأنه قد تبين وجه اليقين أن العقوبة الأولى لم تكن زاجرة ولا رادعة للجاني.
ثانيهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعاً عقوبة واحدة، بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة؛ أي لتحقيق غرض واحد، فمن أهان موظفاً وقاومه وتعدى عليه عوقب بعقوبة واحدة على هذه الجرائم الثلاث التي وضعت عقوباتها لغرض واحد هو حماية الموظف والوظيفة، ومن تناول ميتة ودماً ولحم خنزير عوقب على هذه الجرائم الثلاث بعقوبة واحدة؛ لأن عقوبتها جميعاً وضعت لغرض واحد هو حماية صحة الفرد والجماعة.
والعبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها، فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها.
ويرون في مذهب مالك أن عقوبة الشرب وعقوبة تتداخلان فلا يعاقب على الجريمتين عند التعدد إلا بعقوبة واحدة، وحجتهم في ذلك أن الغرض من العقوبتين واحد؛ لأن من شرب هذى ومن هذى افترى، فعقوبة الشرب وضعت إذن لمنع الافتراء، ولكن المذاهب الأخرى تخالف مذهب مالك في هذا المثل بالذات؛ لأن عقوبة القذف قصد بها حماية الأغراض وعقوبة الشرب قصد بها حماية العقول فكلتاهما وضعت لغرض يخالف الغرض الذي وضعت له الأخرى.
ويرى بعض المالكية أن التداخل بين عقوبة الشرب وعقوبة القذف يرجع إلى اتحاد مقدارهما، وهؤلاء يجعلون أساس التداخل اتحاد الموجب وليس اتحاد الغرض من العقوبة. ولكن ليس لهذا الرأي صدى في المذاهب الأخرى (1) .
(1) شرح الزرقاني ج8 ص108.
أما إذا كانت الجرائم المتعددة من أنواع مختلفة ولم يجمع بين عقوباتها غرض واحد كأن ارتكاب الجاني سرقة في المرة الأولى ثم زنا في الثانية وقذف في الثالثة، فإن العقوبات لا تتداخل في هذه الحالة وإنما تتعدد بتعدد الجرائم المختلفة.
نظرية الجب: معنى الجب في الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التي يمتنع من تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى، ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل، فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها، ومن ثم فهي العقوبة الوحيدة التي تجب ما عداها.
ولم يتفق الفقهاء على تقرير نظرية الجب، فمالك وأبو حنيفة وأحمد يقررونها ولكن الشافعي ينكرها، والذين اعترفوا بها يختلفون في مدى تطبيقها.
فمالك يرى أن كل حد اجتمع مع القتل لله قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل، والقتل يجب جميع ذلك إلا الفرية (أي القذف) فإن حد الفرية يقام عليه ثم يقتل، ولا يقام عليه مع القتل غير حد الفرية وحداها لئلا يقال لصاحبه: ما لك لم يضرب لك فلان حد الفرية؟ (1) .
ويرى أحمد أنه إذا اجتمعت حدود الله تعالى وفيها قتل، مثل أن سرق وزنا وهو محصن، وشرب وقتل في المحاربة، استوفى القتل وسقط سائرها. فإذا اجتمعت الحدود حقوق الآدميين وفيها قتل استوفى حق الآدمي ودخلت حدود الله في القتل سواء كان القتل حداً أو قصاصاً، فمن قطع إصبع شخص وقذفه ثم شرب وسرق وزنا وقتل آخر فإن إصبعه تقطع قصاصاً ثم يحد للقذف ثم يقتل ويسقط ما عدا ذلك (2) .
والأصل عند أبي حنيفة أنه إذا اجتمعت الحدود أن يقدم حق العبد في الاستيفاء على حق الله عز وجل أي على حق الجماعة - لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه، فإذا
(1) المدونة ج16 ص12.
(2)
الإقناع ج4 ص248 وما بعدها.
لم يمكن استيفاء حقوق الله بعد ذلك تسقط ضرورة، أما إذا أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شئ منها إسقاط البواقي يقام ذلك المسقط درءاً للبواقي لقوله عليه الصلاة والسلام:"ادرءوا الحدود ما استطعتم". فإذا قتل شخص آخر وزنا وهو غير محصن وشرب خمراً قتل قصاصاً وسقط حد الزنا والشرب. وإن زنا وهو محصن وقذف وسرق وشرب يبدأ بحد القذف لأنه متعلق بحق آدمي، ثم يرجم، ويسقط ما عدا ذلك من الحدود. وإذا اجتمع مع هذه الحدود قصاص في النفس بدئ بالقذف ثم قتل قصاصاً ويدرأ ما سوى ذلك، إلا أن المحكوم عليه يضمن في ماله السرقة في الحالين (1) . ورأي أبي حنيفة كما هو ظاهر يتفق مع رأي أحمد.
أما الشافعي فلا يعترف كما قلنا بنظرية الجب، ويرى أن تنفذ العقوبات كلها واحدة بعد أخرى ما لم يتداخل بعضها في الآخر، على أن يبدأ أولاً بحق الآدميين فيما ليس فيه قتل. ثم بحق الله أي بحق الجماعة فيما لا نفس فيه أي لا قتل فيه، ثم يجئ القتل من بعد ذلك. فإذا اجتمعت مثلاً على رجل حدود: حد بكر في الزنا، وحد في القذف، وحد في سرقة، وحد في قطع طريق يقطع فيه أو يقتل، وقصاص في قتل رجل، فيحد أولاً في القذف، ثم يحبس حتى يبرأ فيحد في الزنا، ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى للسرقة وقطع الطريق، ثم يقتل بعد ذلك، فإذا مات في أحد الحدود سقطت بموته الحدود التي لله عز وجل وبقيت في ماله حقوق الآدميين كالدية والمال والمسروق. وهكذا يؤخر الشافعي القتل لأنه لا يسلم بنظرية الجب (2) .
ويرى بعض الشافعية أن الجاني لو سرق سرقة عادية ثم قطع الطريق لم يقطع
(1) شرح فتح القدير ج4 ص208، بدائع الصنائع ج7 ص62.
(2)
المهذب ج2 ص305.
للسرقة العادية وقتل لقطع الطريق، وأنه إذا زنا قبل أن يحصن فجلد ثم زنا ثانية قبل أن يغرب كفاه تغريب واحد، وأنه إذا زنا غير محصن ثم زنا بعد إحصانه وقبل تنفيذ عقوبة الجلد دخل الجلد في الرجم، وأساس امتناع القطع والتغريب والجلد ليس الجب وإنما أساسه تطبيق نظرية التداخل، فالسرقة العادية من نوع قطع الطريق وإن كانت أقل درجة حتى ليسمى قطع الطريق بالسرقة الكبرى والسرقة العادية بالسرقة الصغرى، والتغريب عقوبة للزنا فإذا لم ينفذ في الزنا الأول أجرأ تغريب واحد عن الزنا مرتين، والجلد عقوبة الزاني غير المحصن فإذا زنا قبل أن يجلد أجزأه عقاب واحد هو عقاب الزنا المحصن (1) .
511 -
مقارنة بين الشريعة والقانون: أساس القيود الموضوعة لنظرية التعدد في الشريعة هو نفس الأساس الذي تقوم عليه هذه القيود في القوانين الوضعية، فكلاهما يرى أن الجاني كان معذوراً عندما ارتكب جريمته الثانية لأنه لم يكن عوقب على الأولى، وكلاهما يرى أن تعدد العقوبات دون قيد يؤدي إلى النتائج يأباها العقل ومنطق التشريع.
وبالرغم من هذا الاتفاق بين الشريعة والقانون فإن الشريعة جاءت أدق منطقاً من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التعدد وتقييد هذه النظرية، ونجد هذه الدقة متمثلة في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها الشيعة على إطلاقها بل طبقتها فقط في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها، وفي الجرائم المختلفة التي يجمع بين عقوباتها غرض واحد، ولم تطبقها فيما عدا ذلك من الجرائم، وعلة هذا أن لكل جريمة عقوبتها فإذا ارتكب الجاني جريمة وتكرر منه ارتكاب نفس الجريمة قبل أن يعاقب على ما ارتكبه سابقاً فمن المعقول أن يعتذر للجاني بأنه لم يعاقب على جريمته الأولى فلا معنى لتعدد العقوبة، أما إذا ارتكب الجاني جرائم مختلفة فإن عدم عقابه على إحداها لا يقوم له عذراً في ارتكاب الجريمة الثانية؛ لأن
(1) أسنى المطالب ج4 ص157.
كل جريمة محرمة لذاتها ولها عقوبة خاصة، وعقوبة الجريمة الواحدة لم توضع لمنع الجاني عن كل الجرائم وإنما وضعت لمنعه عن ارتكاب جريمة بالذات، وقد روعي في وضع كل عقوبة اعتبارات خاصة لا تتوفر في غيرها، فروعي مثلاً في تقرير عقوبة السرقة اعتبارات خاصة لمنع الجاني من السرقة، وروعي في عقوبتي الجلد والرجم اعتبارات خاصة لمنع الجاني من مقارفة الزنا، وهكذا. ومن ثم كانت عقوبة القذف لا تصلح عقوبة للسرقة ولا تجدي في الردع عنها، وكانت عقوبة السرقة لا تصلح عقوبة للقتل ولا تفيد في منع هذه الجريمة، وكان الواجب نتيجة لهذا المنطق أن تتعدد العقوبة في الجرائم المختلفة وأن يعاقب الجاني على كل نوع منها بعقوبته الخاصة.
أما القوانين الوضعية فتخالف الشريعة في هذه النقطة وتجعل عدم العقاب في جريمة ما عذراً للجاني في ارتكاب أية جريمة أخرى سواء كانت الجريمتان من نوع واحد أو من نوعين مختلفين.
ونظرية التداخل في الشريعة أوسع مدى منها في القانون الوضعي؛ لأن القانون لا يعرف التداخل إلا في حالة واحدة فقط هي ارتكاب الجاني عدة جرائم لغرض واحد وبشرط أن تكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة. والشراح يصفون هذه الحالة بأنها جب على أساس أن العقوبة الأشد هي التي توقع، ولكن الوصف الصحيح لها أنها تداخل؛ لأن كل الجرائم يعاقب عليها بعقوبة واحدة، والأصل أن الجب يكون بعد الحكم بالعقوبة، أما التداخل فيكون قبل الحكم بها وبعده، وحالة التداخل التي يسلم بها القانون تشبه إلى حد كبير المبدأ الثاني للتداخل في الشريعة.
وإذا كانت القوانين الوضعية قد أخذت بنظرية التداخل على الوجه السابق فإنها تخالف الشريعة في الأساس الذي بنى عليه التداخل، فالقانون الوضعي يجعل أساس التداخل أن يرتكب الجاني جرائمه لغرض واحد، وأن تكون الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة، أما الشريعة فتجعل أساس التداخل في هذه الحالة
أن تكون عقوبات الجرائم وضعت لغرض واحد، وهذا الفرق يمثل الروح التي تسيطر على كل تشريع، فالقانون يجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي يتوخاه الجاني من الجريمة، أما الشريعة فتجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي توخاه الشارع من التشريع، وهكذا نجد القانون الوضعي مضطرب المنطق متناقص الاتجاهات بينما نجد الشريعة سليمة المنطق موحدة الاتجاهات.
ومن أوجه الخلاف بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذا الباب أن القوانين جعلت حداً أعلى للعقوبات لا يصح أن تتعداه بحال مهما تعددت، ولم تضع الشريعة مثل هذه القاعدة، والضرورة وحدها هي التي أوجدت هذه القيد في القوانين الوضعية؛ لأن العقوبة الأساسية في القوانين هي الحبس بأنواعه المختلفة؛ من حبس بسيط إلى حبس مع الشغل إلى سجن إلى أشغال شاقة مؤقتة ومؤبدة، فلو لم يوضع حد أعلى لمدة العقوبة في حالة التعدد لاستحالت العقوبات المؤقتة عند التعدد إلى عقوبات مؤبدة وانتهى عمر المحكوم عليه قبل أن تنتهي العقوبة، أما في الشريعة الإسلامية فالعقوبات الأساسية هي القطع والجلد وهي عقوبات مؤقتة بطبيعتها ومهما تعددت فلن تستحيل إلى عقوبات أبدية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو لوضع حد أعلى للعقوبات عند التعدد.
وإذا كانت الشريعة قد قررت عقوبة الحبس المؤقت في بعض الجرائم باعتبارها عقوبة تعزيرية فإنها مع هذا لم تكن في حاجة لوضع حد أقصى لعقوبة الحبس بعد أن قررت نظرية التداخل، إذ المجرم يتخصص عادة في ارتكاب جرائمه فلا يرتكب إلا جريمة واحدة أو جرائم متماثلة، فإذا ارتكب جريمة واحدة عدة مرات فهو لا يعاقب عنها إلا عقوبة واحدة طبقاً لنظرية التداخل، وإذا ارتكب جرائم متماثلة فلا يمكن أن تزيد هذه الجرائم على ثلاث أو أربع، فإذا عوقب عن كل واحدة منها بعقوبة خاصة فإن هذه العقوبات لا يشترط أن تكون جميعاً الحبس، وإذا فرض أنه حكم فيها بالحبس فإن مجموع العقوبات لن يصل إلى
حد غير معقول، خصوصاً إذا راعينا أن بعض الفقهاء يرون أن لا يصل الحد الأعلى لعقوبة الحبس إلى سنة كاملة، أو أن أولي الأمر يجعلون الحد الأعلى لعقوبة الحبس ثلاث سنوات غالباً، وفضلاً عن هذا فإن القاعدة الثانية من نظرية التداخل تعمل غالباً في هذه الحالة فتنزل بالعقوبة؛ لأن الجرائم المتماثلة توضع عقوباتها غالباً لحماية هدف واحد، وإذا كانت العقوبات موضوعة لغرض واحد تداخلت عقوبات الجرائم المتعددة.
وإذا كانت الشريعة تتفق مع القانون في تقرير نظرية الجب فإنهما يختلفان في مدى تطبيقها. ففي الشريعة لا تطبق نظرية الجب إلا إذا اجتمعت عقوبة القتل مع عقوبات أخرى على التفصيل الذي سبق ذكره، أما في القانون فتطبق نظرية الجب في هذه الحالة وفي حالة اجتماع عقوبة الأشغال الشاقة مع عقوبة أخرى مقيدة للحرية حيث تجب عقوبة الأشغال الشاقة بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية، ولم تكن الشريعة في حاجة لتقرير هذه الحالة الخطيرة؛ لأن عقوبة الحبس كما قلنا ليست عقوبة أساسية في الشريعة من ناحية، ولأن مددها قصيرة من ناحية أخرى، ولأنه لا يمكن من وجه ثالث أن تستحيل إلى عقوبة مؤبدة للأسباب التي بسطناها سابقاً، ولأن الشريعة فضلاً عن ذلك كله لم تنوع الحبس أنواعاً متعددة مختلفة؛ فالحبس فيها كله من نوع واحد ودرجة واحدة ما دام محدد المدة.
وإذا كانت الشريعة قد قررت نظرية الحبس غير المحدد المدة فإنها قد أخذت بها على إطلاقها وعلقت إخلاء سبيل المحكوم عليه على انصلاح حاله وتوبته توبة نصوحاً، فلم يكن هناك داع لتحديد مدة قصوى للحبس؛ لأن الإفراج يتم بالتوبة وصلاح حال المحكوم عليه لا بمضي مدة معينة عليه في الحبس، ويستوي بعد ذلك أن يتوب فيخلى سبيله أو يظل في محبسه حتى يموت؛ لأن الغرض من حبسه هو كف شره عن الجماعة فإذا انكف شره بالتوبة أخلي سبيله، وإذا لم يتب فالمحبس يكف شره حتى يأتيه الموت.
* * *