الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصوص وهي قليلة، ويستنبط القواعد والمبادئ والنظريات التي تترتب على هذه النصوص ويترتب على أساسها الأحكام، فأكثر عمله فقه وأقله شرح، ومن ثم غلب عليه لفظ الفقيه. والعالم في القانون أكثر عمله شرح النصوص التي لا حد لها من الكثرة، وهو يشرحها طبقاً للقواعد والمبادئ التي جاءت بها النصوص العامة، وهذا لا يمنعه أن يستنبط بين الحين والآخر مبدأ جديداً أو نظرية حديثة، إلا أن استنباط المبادئ والنظريات هو أقل عمله وشرح النصوص هو أكثر عمله، لأن ورود النصوص في كل ما يتصور من حالات يسد عليه باب التفكير والاستنباط ويوجهه إلى الشرح، ومن ثم غلب عليه لفظ الشارح.
8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي
؟: ولقد بدأت بالقسم الجنائي لأنه القسم المنبوذ المظلوم في الشريعة. فنحن معشر القانونيين لا ندرس من الشريعة إلا الجزء الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً، وبخاصة القسمين المدني والجنائي. وقد أدى بنا هذا الإهمال إلى نتيجة لابد منها وهي أنا نجهل أحكام هذين القسمين جهلاً فاضحاً. ولكننا بالرغم من ذلك نعترف بان الشريعة بلغت في المسائل المدنية مستوى لا يقل عن المستوى الذي بلغته القوانين الوضعين.
وقد ساعدنا على هذا الاعتراف من وجه أن رجال القانون يرجعون إلى الشريعة مجبرين في قليل من المواضع المدنية، لأن نصوص القانون المدني التي تحكم هذه المواضيع أخذت عن الشريعة الإسلامية، وهذه النصوص على قلتها يمكن أن تعطي فكرة لا بأس بها عن الشريعة. كذلك ساعد على هذا الاعتراف من وجه آخر أن المرحوم محمد قدري باشا سهل بكتابه "مرشد الحيران" المقارنة بين القسم المدني من الشريعة على مذهب أبي حنيفة وبين القوانين الوضعية، حيث نظم أحكام المذهب الحنفي في المسائل المدنية في مواد وأبواب متتالية على غرار مواد وأبواب القانون المدني المصري، فمكن رحمه الله بعمله هذا لكل من يطلع
على كتابه أن يقارن بسهولة بين أحكام الشريعة وأحكام القانون، وأن يعرف دون الرجوع إلى الكتب الفقهية مدى الائتلاف والاختلاف، وإن كانت هذه المعرفة وتلك المقارنة لا تنتهي في الغالب إلى نتائج صحيحة ما دام المطلع يجهل كل الجهل الأصول والقواعد العامة التي قامت عليها الأحكام الشرعية، وما دام يجهل كل شئ عن آراء فقهاء المذاهب الأخرى.
أما القسم الجنائي فهو في عقيدة جمهور رجال القانون لا يتفق مع عصرنا الحاضر ولا يصلح للتطبيق اليوم، ولا يبلغ مستوى القوانين الوضعية. وهي عقيدة خاطئة مضللة. وإذا حاول أي شخص منصف أن يعرف الأساس الذي قامت عليه هذه العقيدة فسيعجزه أن يجد لها أساساً سوى الجهل، وسيدهشه أن يعلم أننا نحكم على القسم الجنائي في الشريعة بعد الصلاحية ونحن نجهل كل الجهل أحكام الشريعة الجنائية مجملة ومفصلة.
ومن المؤلف للنفس أن تروج هذه العقيدة الخاطئة أو الأكذوبة الكبرى، وأن يلقنها الطلبة على أنها عقيدة مسلًّم بها من أولي العلم والقائمين على أمر التشريع، بالرغم من أنها قائمة على مخالفة الواقع، وإنكار الحقائق، والجهل الفاضح بأحكام الشريعة. ومن أراد أن يعرف مدى خطأ هذه العقيدة وضلالها فعليه أن يرجع إلى كتب الشريعة الإسلامية ليرى أن كل مبدأ وكل قاعدة وكل نظرية في الشريعة الإسلامية تنادي بخطأ هذه العقيدة وبعدها عن الصواب.
وقد رأيت في الواجب عليّ - بعد أن تبين لي ذلك - أن أحارب هذه العقيدة الخاطئة الظالمة، وأن أبدأ بالكتابة في القسم الجنائي الذي نبذناه دون حق، وجهلناه دون عذر؛ لأعرّف الناس بهذا القسم على حقيقته، ولأبين لهم أن الشريعة تتفوق على القوانين الوضعية تفوقاً عظيماً في المسائل الجنائية العامة، وأن القسم الجنائي في الشريعة صالح كل الصلاحية للتطبيق في عصرنا الحالي وفي المستقبل كما كان صالحاً كل الصلاحية في الماضي.