الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجماعة، وحينما يقول الفقهاء أن العقوبة حق لله تعالى يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط من الأفراد ولا من الجماعات، وهم يعتبرون أن العقوبة حقاً لله كما استوجبتها المصلحة العامة وهي رفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم.
وتمتاز العقوبات المقررة لجرائم الحدود بثلاث ميزات:
أ - أن هذه العقوبات وضعت لتأديب الجاني وكفه هو وغيره عن الجريمة، وليس فيها مجال لوضع شخصية الجاني موضع الاعتبار عند توقيع العقوبة.
ب - أن هذه العقوبات تعتبر ذات حد واحد وإن كان فيها ما هو بطبيعته ذو حدين؛ لأنها عقوبات مقدرة معينة، ولأنها عقوبات لازمة، فلا يستطيع القاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، كما أنه يستطيع أن يستبدل بها غيرها.
جـ - أن هذه العقوبات جميعاً وضعت على أساس محاربة الدوافع التي تدعو للجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، أي أن هذه العقوبات وضعت على أسا متين من علم النفس.
* * *
المبحث الأول
عقوبات الزنا
450 -
عقاب الزاني: للزنا في الشريعة الإسلامية ثلاث عقوبات هي:
(1)
الجلد.
…
...
…
(2) التغريب.
…
...
…
(3) الرجم.
والجلد والتغريب معاً هما عقوبة الزاني غير المحصن، أما الرجم فهو عقوبة الزاني المحصن، فإذا كان الزانيان غير محصنين جلدا وغربا، وإن كانا محصنين رجما، وإن كان أحدهما محصناً والثاني غير محصن رجم الأول وجلد الثاني وغرب.
451 -
عقوبة الجلد: تعاقب الشريعة الزاني الذي لم يحصن بعقوبة الجلد، وللعقوبة حد واحد فقط ولو أنها بطبيعتها ذات حدين؛ لأن الشريعة عينت العقوبة وقدرتها فجعلتها مائة جلدة، وذلك قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] .
وقد وضعت عقوبة الجلد على أساس محاربة الدوافع التي تدعو للجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، وهذا هو الذي يهدينا إليه التأمل والتفكير في الجريمة وعقوبتها.
فالدافع الذي يدعو الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الوحيد الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق مس العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق مس العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟!
فالشريعة حينما وضعت عقوبة الجلد للزنا لم تضعها اعتباطاً، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقليته، والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا تغلبت العوامل الداعية على العوامل الصارفة وارتكب الزاني جريمته مرة كان فيما يصيبه من ألم العقوبة وعذابها ما ينسيه اللذة ويحمله على عدم التفكير فيها.
…
الجلد في القوانين الوضعية: ولقد كانت عقوبة الجلد من العقوبات التي يعترف بها قانون العقوبات المصري سنة 1937، وكانت وسيلة من وسائل تأديب الأحداث، ثم ألغاها المشرع المصري مقلداً في ذلك معظم القوانين الوضعية التي ألغت هذه العقوبة.
وأغلب شراح القوانين اليوم يفكرون في العودة إلى تقرير عقوبة الجلد
ويسعون في وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ. وقد اقترح فعلاً في فرنسا تقرير عقوبة الجلد على أعمال التعدي الشديد التي تقع على الأشخاص، وذكر تأييداً لهذا اقتراح أن العادات قد تطورت تطوراً مخيفاً، وأن طبقات العامة أصبحت تلجأ إلى القوة والعنف لحسم المنازعات، وأن الإجرام تغير مظهره عن ذي قبل فأصبح أكثر شدة وأعظم حدة، وأن لا وسيلة لتوطيد الأمن إلا بإعادة العقوبات البدنية وأفضلها عقوبة الجلد.
ويعارض بعض شراح القوانين في تقرير عقوبة الجلد لسببين: أولهما: النفور من الألم البدني. وثانيهما: إنقاص الاحترام الواجب نحو شخص الإنسان. ولكن أصحاب الرأي المضاد يردون على هؤلاء بأن عقوبة الجلد تمتاز بأنها موجهة إلى حساسية الجاني المادية، وأن الخوف من ألم الجلد هو أول ما يخافه المجرمون فيجب الاستفادة من ذلك في إرهابهم، أما إنقاص الاحترام الإنساني ففكرة لا محل لها في العقاب ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه.
والقائلون بعقوبة الجلد يرون أن تكون مقصورة على المجرمين الذين لا يتأثرون بغيرها من أنواع العقوبات، سواء كانوا أحداثاً أم بالغين. ومنهم من يرى تخصيص عقوبة الجلد لجرائم السكر، وجرائم هتك العرض، وجرائم النهب والسرقة، وكسر الأسوار، وإتلاف المزروعات، وقتل المواشي، وعلى العموم لكل الجرائم التي تدل على القسوة وعدم المبالاة.
ويحتج هذا الفريق بأنه ما دام قد ثبت بشكل قاطع أن عقوبة الجلد تفوق غيرها من العقوبات في تأديب المسجونين وحفظ النظام بينهم وهم طائفة فاسدة، فيجب أن يكون الجلد عقوبة أساسية في القانون ووسيلة من وسائل التأديب والإصلاح لغير المسجونين.
ويعارض "جارو" في عقوبة الجلد، لا لأنها عقوبة غير صالحة، ولكن لأنه يخشى من سوء الاستعمال عند تنفيذ العقوبة، ولأنه يخشى أن يؤدي الرجوع إلى الجلد إلى تباري المشرعين في تقرير العقوبات القاسية (1) .
(1) الموسوعة الجنائية ج5 ص53 وما بعدها.
وعقوبة الجلد وإن كانت ألغيت من أكثر القوانين الجنائية الوضعية إلا أنها لا تزال عقوبة معترفاً بها في قوانين بعض الدول، ففي إنجلترا يعتبر الجلد إحدى العقوبات الأساسية في القانون الجنائي، وفي الولايات المتحدة يعاقب المسجونون بالجلد، وفي قانوني الجيش والبوليس في مصر وإنجلترا لا يزال الجلد عقوبة أساسية، وكذلك الحال في كثير من الدول.
وفي أثناء الحرب الأخيرة رجعت معظم بلاد العالم إلى عقوبة الجلد وطبقتها على المدنيين في جرائم التموين والتسعير وغيرها، وإن في اضطرار أكثر بلاد العالم إلى تطبيق عقوبة الجلد على المدنيين أثناء الحرب لشهادة قيمة لهذه العقوبة، واعترافاً من القائمين على القوانين الوضعية بأن عقوبة الحبس تعجز عن حمل الناس على طاعة القانون.
والعالم حين يقرر عقوبة الجلد في القوانين العسكرية يعترف بأن هذه العقوبة ضرورية لحفظ النظام بين الجند وحملهم على طاعة القانون، ولكن المدنيين في أنحاء العالم اليوم أشد حاجة من الجند إلى هذه العقوبة بعد أن أصبحوا لا يحرصون على النظام ولا يعترفون بالطاعة للقوانين، وما أعجب منطق الناس يريدون الطاعة والنظام للجند ولا يستلزمونها للمدنيين، وكأن المدنيين ليسوا من الأمة أو ليسوا هم الذين يمدون الجيش بالجنود. وأي عيب في أن يدين أفراد الأمة جميعاً بالخضوع للنظام وبالطاعة للشرائع؟
هذه هي عقوبة الجلد، وهذا هو رأي العلماء والدول فيها، فمن كان يود أن ينتقد هذه العقوبة فقيل إن العالم كله مخطئ وإنه هو وحده المصيب، بل ليقل ما شاء فإنه لن يستطيع أن يقول إن التجربة أثبتت عدم الحاجة لهذه العقوبة.
عقوبة الزنا في القوانين الوضعية: وتعاقب القوانين الوضعية على الزنا بالحبس وهو عقوبة لا يؤلم الزاني إيلاماً يحمله على هجر اللذة التي يتوقعها من
وراء الجريمة، ولا تثير فيه من العوامل النفسية المضادة ما يصرف العوامل النفسية الداعية إلى الجريمة أو يكبتها.
وقد أدى عقوبة الحبس إلى إشاعة الفساد والفاحشة، وأكثر الناس الذين يستمسكون عن الزنا اليوم لا تصرفهم عنه العقوبة وإنما يمسكهم عنه الدين أو الأخلاق الفاصلة التي لم يعرفها أهل الأرض قاطبة إلا عن طريق الدين.
وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للزنا قد حاربت الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره، أما العقوبة التي قررها القانون فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه إذ الحبس علاج إن صلح لأية جريمة أخرى فهو لا يصلح بحال لجريمة الزنا.
452 -
عقوبة التغريب: وتعاقب الشريعة الزاني غير المحصن بالتغريب عاماً بعد جلده، والمصدر التشريعي لهذه العقوبة حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".
وهذا الحديث غير متفق عليه بين الفقهاء، ولذلك اختلفوا حيال هذه العقوبة، فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الحديث منسوخ أو غير مشهور، وإذا اعترفوا بالتغريب فإنما يعترفون به على أنه تعزير لا حد يجوز الحكم به إذا رآه الإمام (1) ، ومالك يرى التغريب حداً واجباً على الرجل دون المرأة (2) ، والشافعي وأحمد (3) يريان في التغريب حداً يجب على كل زان غير محصن (4) .
ويرى القائلون بالغريب أن يغرب الزاني من بلده الذي زنى فيه إلى بلد
(1) شرح فتح القدير ج4 ص134 وما بعدها.
(2)
شرح الزرقاني ج8 ص83.
(3)
أسنى المطالب ج4 ص129، المغني ج10 ص135، 144.
(4)
يرى مالك أن التغريب على الرجل دون المرأة وعلى الحر دون العبد، ويجعل أحمد التغريب عقوبة على الأحرار فقط رجالاً ونساء. أما الشافعي فيجعله على الرجال والنساء والأحرار والعبيد.
آخر داخل حدود دار الإسلام على أن لا تقل المسافة بين البلدين عن مسافة القصر.
ويرى مالك أن يسجن الزاني في البلدة التي يغرب إليها (1) ، ويرى الشافعي أن يراقب في البلدة التي يغرب إليها ولا يحبس إلا إذا خيف هربه ورجوعه إلى بلدته فيحبس (2) ، ويرى أحمد أن لا يحبس المغرب (3) .
والتغريب يعتبر عقوبة تكميلية بالنسبة لعقوبة الجلد، وله في نظرنا علتان:
الأولى: التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن، وهذا يقتضي إبعاد المجرم عم مسرح الجريمة، أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة.
الثانية: أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لابد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقان إلى حد قطع الرزق وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير، فالإبعاد يهيئ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة.
وظاهر مما سبق أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولاً ولصالح الجماعة ثانياً، والمشاهد حتى في عصرنا الحالي الذي انعدم فيه الحياء أن كثيرين ممن تصيبهم معرة الزنا يهجرون موطن الجريمة مختارين لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان.
453 -
عقوبة الرجم: الرجم عقوبة الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، ومعنى الرجم القتل رمياً بالحجارة. ولم يرد في القرآن شئ عن الرجم، ولذلك أنكر الخوارج عقوية الرجم، ومذهبهم يقوم على جلد المحصن وغير المحصن والتسوية بينهما في العقوبة، وفيما عدا الخوارج فالإجماع منعقد على إقرار عقوبة
(1) شرح الزرقاني ج8 ص83.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص130.
(3)
المغني ج10 ص136.
الرجم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها وأجمع أصحابه من بعده عليها. ومن الأحاديث المشهورة في هذا الباب: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، وقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر برجم ماعز والغامدية وصاحبة العسيف، فالرجم سنة فعلية وسنة قولية في وقت واحد.
وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن، ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل تفكيره فيه على قوة اشتهائه للذة المحرمة وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة، فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة وذكر معها العقوبة المقررة تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
ويستكبر البعض منا اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم ولا يؤمن به قلوبهم، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك. والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها، فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين وليس للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء، والشريعة بعد ذلك تقوم على الفضيلة المطلقة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وهي توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلال وهو الزواج، وأوجبت عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوات فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخيره في الزواج
الذي أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة أن لا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة. فلم تجعل الزواج أبدياً حتى لا يقع في الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة في يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كل وقت وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من قتل الزاني رجعوا إلى الواقع لاستقام لهم الأمر ولعملوا أن الشريعة الإسلامية حين أوجبت قتل الزاني المحصن لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس، فنحن الآن تحت حكم القانون وهو يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصناً، فإذا لم يكن أحدهما محصناً فلا عقاب ما لم يكن إكراه، هذا هو حكم القانون، فهل رضي الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه بل إنهم حين رفضوا حكم القانون القائم مرغمين أقبلوا على عقوبة الشريعة المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصناً وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصاحبها من العذاب، فهم يغرقون الزاني ويحرقونه ويقطعون أوصاله ويهشمون عظامه ويمثلون به أبشع تمثيل، وأقلهم جرأة على القتل يكتفي بالسم يدسه لمن أوجب عليه زناه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسبب الزنا لبلغت نصف جرائم القتل جميعاً، فإذا كان هذا هو الواقع فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم؟
إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافاً بالواقع، والاعتراف بالواقع شجاعة وفضيلة، ولا أظننا بالرغم مما وصلنا إليه من تدهور نكره الإقرار بالحق
أو نخشى الاعتراف بالواقع المحسوس.
ويخشى البعض أن يكون في عقوبة الرجم شئ من القسوة، ولمثل هؤلاء نقول: إن الرجم هو القتل لا غير، وإن قوانين العالم كل تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقاً أو ضرباً بالفأس أو صعقاً بالكهرباء أو رجماً بالحجارة أو رمياً بالرصاص، فكل هؤلاء يقتل ولكن وسائل القتل هي التي فيها الاختلاف، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة والرمي بالرصاص، ومن كان يظن أن الموت في كل الأحوال فهو في ظنه على خطأ مبين؛ لأن الرصاص قد لا يصيب مقتلاً من القتيل فيتأخر موته؛ ولأن الحجارة قد تصيب المقتل وتسرع بالموت أكثر مما يسرع به الرصاص، فرماة الرصاص عددهم محدود وطلقاتهم معدودة، أما رماة الحجارة فعددهم غير محدود وعليهم أن يرموا الزاني حتى يموت، ومن استطاع أن يتصور مائة أو مئات يقذفون شخصاً في مقاتله بالأحجار استطاع أن يتصور أنه يموت بأسهل وأسرع مما يموت قتيل الرصاص.
ولقد دلت التجارب على أن حبل المشنقة لا يزهق الروح في بعض الأحوال، وأنه لا يزهقها بالسرعة اللازمة في كثير من الأحوال، كما دلت التجارب على أن ضرب الفأس الواحدة قد لا يكفي لقطع الرقبة ليس هو أسهل الطرق للموت، كذلك فإن التسميم بالغاز أو الصعق بالكهرباء يبطئ بالموت أحياناً أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص.
وأخيراً فإن التفكير في هذه المسألة بالذات تفكير لا يتفق مع طبيعة العقاب، فالموت إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وأكثر الناس اليوم إذا اتجه تفكيرهم للموت فكروا فيما يصحبه من ألم وعذاب، فهم لا يخافون الموت في ذاته وإنما يخافون العذاب الذي يصحب الموت، وإذا كان العذاب لا قيمة له مع المحكوم عليه بالموت فإن قيمته يجب أن تظل محفوظة
للزجر والتخويف، وليس من مصلحة المجتمع في شئ أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لينة لا يؤلم ولا تدعو للخوف، وقد بلغت آية الزنا الغاية في إبراز هذا المعنى حيث جاء بها:{وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه} ، وحيث جاء بها:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، ذلك أن الرأفة بالمجرمين تشجيع على الإجرام، والعذاب الذي يصحب العقوبة هو الذي يؤدب من أجرم ويزجر من لم يجرم.
454 -
تعليق على عقوبات الزنا: هذه هي عقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية، لم تجئ إرتجالاً ولم توضع اعتباطاً وإنما جاءت بعد فهم صحيح لتكوين الإنسان وعقليته، وتقدير دقيق لغرائزه وميوله وعواطفه، ووضعت لتحفظ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهي عقوبات علمية تشريعية؛ لأنها شرعت لمحاربة الجريمة، وهذه ميزة تمتاز بها العقوبات التي وضعتها الشريعة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، ولا تكاد هذه الميزة توجد في عقوبة من العقوبات التي تطبقها القوانين الوضعية.
ولا ريب في أن العقوبة التي تقوم على فهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح؛ لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وتحفظ مصلحة الجماعة، ثم هي بعد ذلك أعدل العقوبات؛ لأنها لا تظلم المجرم ولا تهضمه ولا تحمله ما لا يطيق في سبيل الجماعة، وكيف تظلمه وقد بنيت على أساس قدرته واشتقت من طبيعته ونفسيته؟ وهي عادلة أيضاً بالنسبة للجماعة؛ لأن عدالتها بالنسبة للأفراد هي العدالة لمجموعهم، ولأنها تحفظ للمجتمع حقه ولا تضحي به في سبيل الأفراد، والعقوبة التي تحابي الأفراد على حساب الجماعة إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معاً؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن ثم توهين النظام وانحلال المجتمع، وإذا دب الانحلال في مجتمع فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء.