الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار، وأن الله لا يأخذ الناس بعقاب إلا بعد أن يبين لهم وينذرهم على لسان رسله، وأنه ما كان ليكلف نفساً إلا بما تطيقه.
89 -
متى وجدت قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة بلا نص"؟: وجدت هذه القاعدة في الشريعة الإسلامية من مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن كما بينا، وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أعقاب القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في التشريع الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقررت لأول مرة في إعلان حقوق الإنسان الصادر في سنة 1789، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى غيره من التشريعات الوضعية.
90 -
كيف طبقت الشريعة القاعدة؟: بينا فيما سبق أن القاعدة العامة في الشريعة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص. ودللنا على ذلك بإيراد النصوص الشرعية التي تقرر القاعدة، وبإيراد القواعد الأصولية التي وضعت تطبيقاً لهذه القاعدة العامة.
وإذا كانت الشريعة تقضي بتطبيق القاعدة على كل الجرائم فإن الشريعة لا تطبق القاعدة على غرار واحد في كل الجرائم، بل إن كيفية التطبيق تختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، أو جرائم التعازير. وسنرى فيما يلي كيف طبقت الشريعة القاعدة على مختلف أنواع الجرائم.
* * *
الفرع الأول
لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود
91 -
أثر القاعدة في جرائم الحدود: طبقت الشريعة قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص تطبيقاً دقيقاً في جرائم الحدود، وهذا ظاهر بجلاء من
تتبع النصوص التي وردت في هذه الجرائم.
وجرائم الحدود سبع:
(1)
الزنا (2) القذف (3) الشرب (4) السرقة (5) الحرابة (6) الردة (7) البغي.
ففي جريمة الزنا يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32]، ويقول:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني فقد جل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". فهذه النصوص تحرم الزنا وتعاقب عليه بالتغريب والجلد والرجم، وهي كل العقوبات المقررة للزنا في الشريعة.
وفي جريمة القذف يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، فهذا النص يحرم القذف ويعاقب عليه بعقوبة أصلية هي الجلد، وبعقوبة تبعية هي الحرمان من حق أداء الشهادة، وليس للقذف في الشريعة عقوبة غير هاتين العقوبتين.
وفي جريمة الشرب يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام"، ويقول:"ما أسكر كثيره قليله حرام". وهذه النصوص قاطعة في تحريم تناول الخمر والمسكرات.
أما العقوبة فقد عين النبى صلى الله عليه وسلم نوعها بقوله: "اضربوه"، ولكن لم يؤثر عنه أنه حدد مقدار العقوبة تحديداً قاطعاً. وقد روى عنه أنه
ضرب أربعين في الخمر، وروي عنه أن الضرب لم يكن محدد العدد، وفي عهد عمر رضي الله عنه أجمع الصحابة على أن يضرب شارب الخمر ثمانين جلدة قاسياً على القاذف؛ لأن الشارب إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فالعقوبة إذن تحددت بقول الرسول وعمله وإجماع الصحابة. وسنة الرسول مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وإجماع الصحابة مصدر آخر من مصادر التشريع، أي أن السنة والإجماع يقوم كلاهما مقام النص على العقوبة.
وفي جريمة السرقة يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] ، فهذا النص يحرم السرقة ويحدد عقوبتها.
وفي جريمة الحرابة يقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ، فهذا النص يحرم الحرابة والسعي بالفساد في الأرض، ويعاقب على ذلك بالنفي والقطع والقتل والصلب.
وفي جريمة الرِدة يقول الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ويقول:{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"، ويوقل أيضاً:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فهذه النصوص تحرم الردة ويعاقب عليها بالقتل.
وفي جريمة البغي يقول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم