الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسئولية. أما إذا تعدى المدافع حدود الدفاع المشروع فعمله جريمة يسأل عنها من الناحيتين المدنية والجنائية.
وقد بينا من قبل أن أبا حنيفة يرى مسئولية المدافع مدنياً عن قتل الصبي والمجنون أو جرحهما أو قتل الحيوان أو جرحه، كما بينا أن أبا يوسف يخالفه ويرى المسئولية المدنية فقط في حالة قتل الحيوان، وقلنا إن هذين الرأيين مخالفان لما يراه جمهور الفقهاء.
339 -
بين الشريعة والقانون: هذا هو دفع الصائل في الشريعة الإسلامية، وأحكام القوانين الوضعية وأراء شراحها لا تكاد تختلف اليوم شيئاً عن أحكام الشريعة، وقد بينا الأساس الذي يقوم عليه الدفاع في الشريعة وقارناه بالأسس التي قام عليها الدفاع في القوانين الوضعية ويقوم عليها اليوم. أما شروط الدفاع في الشريعة فهي نفس الشروط في القوانين الوضعية الحديثة وعلى الأخص في القانون المصري والفرنسي، وآراء الشراح في هرب المدافع لا تختلف عن آراء الفقهاء، فبعضهم يرى هرب المدافع وبعضهم لا يراه، وبعضهم يفرق بين الهرب المشين والهرب غير مشين ويوجب الهرب إا لم يكن شائناً، وحكم الدفاع في الشريعة هو نفس حكمه في القوانين الوضعية التي تجعل الفعل مباحاً ولا ترتب عليه مسئولية جنائية أو مدنية على المدافع إلا في حالة تجاوز الدفاع.
* * *
المطلب الثاني
الدفاع الشرعي العام
أو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
"
340 -
مصدر إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقوله:{لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114]، وقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [التوبة: 71]، وقوله:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78، 79]، وقوله:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وقوله:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41]، وقوله:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا} [النساء: 114]، وقوله:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] .
وقد تأكدت هذه المعاني جميعاً بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه روي أن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده".
وروي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن تفسير قوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال:"يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متعباً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بنفسك ودع عنك العوام".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم".
وقال: "ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي".
وقال: "إياكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال:"فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها" قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وقال أبو عبيد بن الجراح: قلت: يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل؟ قال: "رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله، فإن لم يقتله فإن القلم لا يجري عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش".
وقال الحسن البصري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط، وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر".
وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
341 -
ماهية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المعروف هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أو فعله طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة وروحها، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والعفو عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات، ونصرة المظلوم، والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ مشئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك.
والمنكر هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء وقعت من مكلف أو غير مكلف، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة فعليه أن يمنع ذلك، والمنع واجب سواء ارتكب المعصية في سر أو في علانية.
ويعرف المنكر عند بعض الفقهاء بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (1) ، ويفضل هؤلاء الفقهاء التعبير بمحذور الوقوع على التعبير بمعصية؛ لأن المنكر عندهم أعم من المعصية، ولأنهم لا يعتبرون فعل الصبي والمجنون معصية؛ لأن الفعل في رأيهم لا يكون معصية إلا إذا كان فاعله عاصياً، ولأن المعصية بلا عاص محال.
والأمر بالمعروف قد يكون قولاً محضاً كالدعوة إلى التبرع للمنكوبين أو الانخراط في سلك المجاهدين، وقد يكون الأمر بالمعروف عملاً محضاً كالتبرع بمبلغ من المال أو الانضمام إلى المجاهدين، وقد يجتمع القول والعمل كالدعوة إلى الجهاد والانخراط في سلك المجاهدين، أو كالدعوة إلى إخراج الزكاة وإخراج الداعي لها فعلاً.
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص35.
والنهي عن المنكر قد يكون قولاً محضاً كالنهي عن شرب الخمر، وقد يكون عملاً محضاً كإراقة الخمر أو منع شاربها بالقوة من شربها. وإذا كان النهي عن المنكر قولاً فهو النهي عن المنكر، وإذا كان عملاً فهو تغيير المنكر.
فالأمر بالمعروف إذن هو الترغيب فيما ينبغي عمله أو قوله طبقاً للشريعة، والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه طبقاً للشريعة (1) .
342 -
التكييف الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقاً للأفراد يأتونه إن شاءوا ويتركونه إذا شاءوا، وليس مندوباً إليه يحسن بالأفراد إتيانه وعدم تركه، وإنما هو واجب على الأفراد ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه، وفرض لا محيض لهم من القيام بأعبائه، وقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقوم الجماعة على الخير، وينشأ الأفراد على الفضائل، وتقل المعاصي والجرائم، فالحكومة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والجماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والأفراد يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبذلك يستقر أمر الخير والمعروف بين الجماعة، ويقضي على المنكر والفساد بتعاون الصغير والكبير والحاكم والمحكوم.
والفقهاء، وإن كانوا قد اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنهم اختلفوا في تحديد هذا الواجب من وجهين: الوجه الأول: في صفة الواجب، والوجه الثاني: فيمن يلزمهم هذا الواجب.
الاختلاف في صفة الواجب: انقسم الفقهاء فريقين في تحديد صفة الوجوب، فقال البعض: إن الواجب فرض عين؛ أي واجب محتم، وعلى كل مسلم
(1) الفخر الرازي ج3 ص20.
أن يؤديه بنفسه على قدر استطاعته، ولو كان هناك من هو أقدر منه على تأديته، أو من هو على استعداد لتأديته، أو من هو متفرغ لتأديته، وهم يشبهونه بفريضة الحج فهي فرض عين لكن على المستطيع، وعندهم أفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد من فريضة الحج، ولم تشترط فيها الاستطاعة؛ لأنها مستطاعة دائماً، فالاستطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممكنة لجميع الأفراد، فالجاهل يستطيع أن يأمر بالمعروف فيما هو ظاهر كأداء الصلاة والصوم، وأن ينهى عن المنكر فيما لا يخفى كالسرقة والزنا، والعالم يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما هو ظاهر وفيما هو خفي. ويرى أصحاب هذا الرأي أن يف جعل الواجب فرض عين حفاظاً للأمة وحرزاً لها من الفساد والتحلل (1) .
ورأى الفريق الآخر - وهم جمهرة الفقهاء - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات كالجهاد، فهو واجب حتم على كل مسلم، ولكن هذا الواجب يسقط على الفرد إذا أداه عنه غيره (2)، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وعندهم أن من (3) للتبعيض، وأن الله قال:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} ، ولم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، فإذا قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، فهو فرض؛ لأن الله أوجبه بقوله:{وَلْتَكُن} وهو فرض كفاية؛ لأنه واجب على البعض لا على الكل (4) .
الاختلاف فيمن يلزمهم الواجب: يرى جمهرة الفقهاء أن الأمر بالمعروف
(1) تفسير المنار ج4 ص34، 35، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29.
(2)
الفخر الرازي ج3 ص19، الكشاف للزمخشري ج1 ص319، أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص128، أحكام القرآن للقرطبي ج4 ص165، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29، أسنى المطالب ج4 ص179، مواهب الجليل ج3 ص348.
(3)
يرى الفريق الأول أن "من" للبيان وليس للتبعيض.
(4)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص5.
والنهي عن المنكر واجب على كل أفراد الأمة لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] ، ويرى بعض الفقهاء أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقع إلا على عاتق القادرين على أدائه وهم علماء الأمة دون غيرهم، وحجتهم أن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وقد يغلظ في موضع يستوجب اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من يزيده الإنكار إلا تمادياً وإصراراً، وأنه ربما عرف الحكم في مذهب وجهله في مذهب آخر، وأصحاب هذا الرأي م القائلين بأنه فرض كفاية، وعندهم أنه ما دام الواجب على الكفاية فإنه يسقط عن البعض إذا قام به البعض الآخر، وهذا يتفق تماماً مع تخصيص العلماء بهذا الواجب (1) .
ويرد على هؤلاء بأن الواجب لا يسقط بتحميله للبعض دون البعض، وإنما يسقط بالأداء، فإذا لم يقمبه العلماء فهو فرض على غيرهم، وفضلاً عن ذلك فإن طبيعة الواجب على الكفاية تقتضي أن يلتزم به الكل، ويظلوا مسئولين عنه حتى يؤديه بعضهم فيسقط عن الباقين بالأداء، ثم إن وضع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عاتق الجاهل لن يؤدي إلى الأضرار التي يتوقعونها؛ لأن الجاهل بطبيعة الحال لا يأمر ولا ينهى إلا فيما هو ظاهر لا خلاف عليه كأداء الصلاة والنهي عن السرقة والزنا.
343 -
الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: رأينا فيما سبق أن جمهرة الفقهاء توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كافة أفراد الأمة لا على فئة معينة منها، ولكنهم مع ذلك يشترطون شروطاً خاصة فيمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وبعض هذه الشروط يرجع إلى طبيعة الواجب، وإلى مبادئ الشريعة العامة، وبعضها متفق عليه، وبعضها
(1) الفخر الرازي ج3 ص20، الكشاف للزمخشري ج1 ص318، مجموعة الرسائل لابن تيمية، الحسبة ص37، 66.
مختلف فيه، وهي جميعاً لا تخرج عن خمسة شروط:
الشرط الأول: التكليف: يشترط فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مكلفاً؛ أي مدركاً مختاراً، وهذا الشرط لازم إذا نظر إلى وجوب الأمر والنهي؛ لأن ترك القيام بالواجب يؤدي إلى مسئولية التارك، ولا مسئولية على غير مكلف طبقاً لقواعد الشريعة العامة، وعلى هذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره واجباً لا يجب إلا على المكلف.
واعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً لا يمنع غير المكلف من الأمر والنهي باعتبارهما قربة من القربات (1) ؛ لأن غير المكلف أهل للقربات، وله أن يأتي القربات ولو أنها لا تجب عليه، ولا يجوز منعه من إتيانها، ولكن له هو إن شاء أن يمتنع من نفسه عن إتيانها، كصلاة الصغير وصومه، فإن الصلاة لا تجب عليه، وكذلك الصوم فإذا أتي أحدهما كان عمله قربة، ولم يجز لأحد أن يمنعه من الصلاة أو الصوم، لكن إذا شاء الصغير أن يمتنع فلا إثم عليه في الامتناع، وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن واجباً على غير المكلف فهو حق له يأتيه إن شاء ويتركه إن شاء، فالصبي المراهق للبلوغ له - وإن لم يكن مكلفاً - إنكار المنكر، وله أن يريق الخمر ويكسر أدوات الملاهي، وإذا فعل ذلك نال به ثواباً، ولم يكن لأحد منعه على اعتبار أنه غير مكلف به.
الشرط الثاني: الإيمان: يشترط فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مؤمناً بالدين الإسلامي، فالمسلم وحده هي الذي يقع على عاتقه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما غير المسلم فلا يلتزم بهذا الواجب (2) .
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص14.
(2)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص15.
وقد روعي في اشتراط هذا الشرط ترك الحرية التامة لغير المسلم في أن يعتقد ما يشاء، وحمايته من الإكراه على اعتناق ما يخالف عقيدته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه كل ما أوجبته الشريعة عمله أو حببت للناس فعله من صلاة وصيام وحج وتوحيد وغير ذلك، والنهي عن المنكر يدخل فيه النهي عن كل ما خالف الشريعة من أفعال وعقائد فيدخل عن التثليث وعن القول بصلب المسيح وقتله، ويدخل فيه النهي عن الترهب وعن شرب الخمر وعن أكل لحم الخنزير وغير ذلك مما تخالف فيه الشريعة الإسلامية الأديان الأخرى، فلو ألزم غير المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لألزم بأن يقول بما يقول به المسلم وبأن يعتقد بما يعتقد به المسلم، ولألزم بأن يبطل عقيدته الدينية ويظهر عقيدة الإسلام، وهذا هو الإكراه في الدين الذي تحرمه الشريعة الإسلامية في قوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فمن أجل حماية حرية العقيدة جعل هذا الواجب على المسلم دون غيره.
الشرط الثالث: القدرة: ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون قادراً على الأمر والنهي وتغيير المنكر، فإن كان عاجزاً فلا وجوب عليه إلا بقلبه؛ أي عليه أن يكره المعاصي وينكرها ويقاطع فاعليها.
وسقوط الواجب لا يترتب على العجز الحسي وحده، بل يلحق بالعجز الحسي خوف الآمر والناهي من أن يصيبه مكروه، أو أن يؤدي نهي الناهي إلى منكر شر من المنكر الذي نهى عنه، ففي هذين الحالين يسقط الواجب أيضاً، فمن علم أن أمره أو نهيه لن ينفع وأنه سيضرب إذا تكلم لم يجب عليه أمر أو نهي، وعليه فقط أن يكره المعصية وينكرها بقلبه ويقاطع فاعليها وأن لا يحضر مواضع المعاصي والمناكر، ومن علم أن نهيه إذا نهى منكر سيؤدي إلى إزالته أو إلى أن يزول ويخلفه ما هو أقل منه رتبة فقد وجب عليه النهي عن لمنكر، وإذا علم أن النهي عن المنكر سيؤدي إلى منكر آخر في
درجته فهو بالخيار إن شاء منع المنكر ونهى عنه، وإن شاء تركه بحسب ما يؤديه إليه اجتهاده.
أما إذا علم أن إزالة المنكر ستؤدي إلى ما هو شر منه فقد سقط عنه الواجب، بل حرم عليه النهي، ومن الأمثلة على ذلك أن يجد مع شخص شراباً حلالاً نجس بسبب وقوع نجاسة فيه ويعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر فلا معنى لإراقته، ومثل ذلك ما حدث من ابن تيمية، فقد مر وبعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم أصحاب ابن تيمية شرب الخمر ولكن ابن تيمية أنكر على أصحابه قولهم، وقال لهم: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعوهم وخمرهم (1) .
ومن علم أن أمره أو نهيه لا يفيد ولكنه لم يخف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر والنهي (2) لعدم فائدتهما، ولكن يستحب له أن يأمر وينهى لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين (3) .
ومن استطاع أن يبطل المنكر بفعله ولكنه يعلم أنه يصاب بمكروه بسبب تعرضه لإبطال المنكر، فلا يجب عليه إبطال المنكر، ولكن ستحب له أن يبطله (4) ، كمن يقدر على إراقة الخمر أو تكسير أدوات اللهو، ولكنه يعلم أنه سيضرب إن فعل هذا، فلا يجب عليه إبطال المنكر، وإنما يستحب له أن يبطله لا باعتباره واجباً، بل باعتباره قربة من القربات.
ويلحق بالعجز الحسي العجز العلمي، فالعامي لا يجب عليه الأمر والنهي إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا والسرقة وترك الصلاة، وفيما عدا الجليات
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26 وما بعدها، أعلام الموقعين ج3 ص28 مجموعة الرسائل، الحسبة ص67، 68.
(2)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26.
(3)
يرى البعض أن الواجب لا يسقط في هذه الحالة. راجع: أسنى المطالب ج4 ص180.
(4)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26.
المعلومة لا يجب عليه أمر ولا نهي؛ لأنه يعجز عن فهم حقائقها ومعرفة فقهها ولو سمح به بالخوض فيها لكان ما يفسده أكثر مما يصلحه (1) .
ولا يشترط في إسقاط الواجب بالعجز وما يلحق به أن يكون العجز وما في حكمه معلوماً علماً محققاً، بل يكفي فيه الظن الغالب؛ لأن للظن الغالب في هذه الحالات معنى العلم والحكمة، فمن غلب على ظنه أن إنكاره لا يفيد لم يجب عليه إنكار، ومن غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه لم يجب عليه، وإن غلب على ظنه إنه لا يصاب وجب عليه، أما إذا شك فيه من غير رجحان، فإن الشك لا يسقط الوجوب (2) .
الشرط الرابع: العدالة: يشترط بعض الفقهاء هذا الشرط، فيرون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يصح أن يكون فاسقاً، ويحتجون بقوله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وبقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] ، وعندهم أن هداية الغير فرع للاهتداء، وتقويم الغير فرع للاستقامة، وأن العاجز عن إصلاح نفسه أشد عجزاً عن إصلاح غيره.
ولكن الرأي الراجح لى الفقهاء: أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه لا يشترط في الآمر أو الناهي أن يكون معصوماً عن المعاصي كلها؛ لأن في اشتراط هذا الشرط سداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال سعيد بن جبير:"إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء".
والأصل أن الفاسق يفسق بإتيانه المعاصي؛ أي بإتيانه المحرمات وترك الواجبات، فإذا حرم على الفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كان معنى
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص28، تفسير المنار ج4 ص34.
(2)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص28، 29.
ذلك أن ترك الواجب يسقط غيره من الواجبات، وأن الواجب يصير حراماً بارتكاب حرام آخر.
وليس في الآيتين اللتين استدل بهما الفريق الأول ما يمنع الفاسق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما جاءا بالنعي على من يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه، والمقصود منهما أن يجعل الإنسان فعله مصدقاً لقوله؛ ليكون لقوله أثره ونتيجته المرجوة (1) .
الشرط الخامس: الإذن: ويشترط بعض الفقهاء فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يأذن له الإمام أو الحاكم بذلك، وحجتهم أن الإمام أو الحاكم يستطيع اختيار من يحسن القيام بهذه الوظيفة، وأن تركها إلى الأفراد دون قيد ولا شرط يؤدي إلى الفساد والفتن، ولكن جمهرة الفقهاء على خلاف هذا الرأي، ولا يشترطون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن شخص أو هيئة ما، ويرون أن تخصيص أناس من قبل الإمام لأداء هذه الوظيفة لا يمنع غيرهم من القيام بها، وحجتهم أن النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة توجب على كل فرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجعل كل من رأى منكراً فسكت عليه عاصياً، وتضع على عاتقه أن ينهى عنه أينما رآه وكيفما رآه، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. وفضلاً عن ذلك فإن الإمام والحاكم ممن يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان من الواجب أمر الإمام بالمعروف ونهيه عن المنكر فكيف يحتاج في إذنه لتأدية الواجب.
والرأي الأخير هو الرأي الذي جرى عليه العمل في كل العهود حتى في الأوقات التي خصص فيها الخلفاء والولاة رجالاً معينين للأمر بالمعروف والنهي
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص15- 17، الكشاف ج1 ص319، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص33.
عن المنكر، فإن هذا الخصيص لم يمنع أي فرد من أفراد الأمة عن القيام بهذا الواجب، بل لقد كان بعض الأفراد يتصدون إلى الولاة والخلفاء يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويتصدون لتغيير المنكر بأيديهم فلا يستطيع الخلفاء والولاة أن يقولوا لمن فعل شيئاً من ذلك إنك مخطئ (1) .
والذين يشترطون إذن الإمام يقصدون من هذا الشرط تنظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقصدون تحريمها على من لم يؤذن له، فمن لم يؤذن له إذا وجد جماعة يشربون الخمر فكسر دنانهم وأراق خمرهم، أو وجد رجلاً يزني ولم يستطع منعه إلا بقتله فقتله، لا يعتبر أنه ارتكب جريمة الإتلاف أو جريمة القتل؛ لأن الفعلين مباحان له بنصوص الشريعة الصحيحة، وإنما يعاقب على مخالفته أمر الإمام أو استخفافه بأوامر السلطة التنفيذية.
344 -
شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ليس للأمر بالمعروف شروط خاصة ولا أوقات خاصة؛ لأن الأمر بالمعروف نصيحة وهداية وتعليم، وكل ذلك جائز في كل وقت وفي كل مناسبة. أما النهي عن المنكر وتغييره فله شروط خاصة يجب توفرها لجواز النهي أو التغيير. وهذه الشروط هي:
(1)
وجود منكر.
(2)
وأن يكون موجوداً في الحال.
(3)
وأن يكون ظاهراً دون تجسس.
(4)
وأن يدفع المنكر بايسر ما يندفع به.
الشرط الأول: وجود منكر: يشترط لجواز النهي عن المنكر أو تغيير المنكر أن يكون هناك منكر. والمنكر هو كل معصية حرمتها الشريعة، أو هو كل ما كان محذور الوقوع في الشرع. ويستوي أن يكون فاعل المنكر مكلفاً أو غير مكلف، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه،
(1) تفسير المنار ج4 ص33 وما بعدها، إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص19 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص33، البحر الرائق ج5 ص45، أسنى المطالب ج4 ص179 وما بعدها، مواهب الجليل ج3 ص348، الكشاف ج1 ص319.
وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة فعليه أن يمنعه. ولا فرق بين الصغير ولا الكبير في النهي عن المنكر أو تغيير المنكر، فكشف العورة في الحمام، والخلوة بالأجنبية، وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات، كل ذلك منكر وإن كان من الصغائر ويجب النهي عنه ومنعه (1) .
ولكن يشترط في المنكر أن يكون منكراً معلوماً دون حاجة لاجتهاد، فكل ما هو محل للاجتهاد لا محل للنهي عنه أو تغييره، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع، وليس للشافعي أن ينكر على حنفي نكاحاً لا ولي فيه (2) .
الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال: ويشترط في المنكر أن يكون حالاً، بمعنى أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها وقت النهي أو التغيير كشربه الخمر أو خلوته بأجنبية، فإذا فرغ من المعصية فليس ثمة مكان للنهي عن المنكر أو تغييره، وإنما هناك محل للعقاب على المعصية والعقاب من حق السلطات العامة وليس للأفراد، فإذا اعترض شخص الجاني فجرحه أو آذاه أو شتمه فهو مرتكب لجريمة، أما إن فعل ذلك أثناء مباشرة المعصية وكان المنع عنها يقتضي هذا الفعل فهو ناه عن منكر أو مغير لمنكر ولا يعتبر فعله جريمة؛ لأن فعله أداء واجب.
وإذا كانت المعصية متوقعة الحصول كمن يعد الموائد ويزين المجلس استعداداً لشرب الخمر فليس على مثل هذا من سبيل إلا بالوعظ والنصح وما زاد على ذلك كالتعنيف والشتم والضرب فهو جريمة، بل إن الوعظ أو النصح لا يجوز إذا أنكر عزمه على الشرب؛ لأن في الوعظ والنصح بعد إناره إساءة ظن بالمسلم.
الشرط الثالث: أن يكون ظاهراً دون تجسس أو تفتيش: يشترط النهي عن المنكر أو تغييره أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس أو تفتيش، فإذا توقف
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص35، 36.
(2)
المرجع السابق ص37، 38، أسنى المطالب ج4 ص180.
إظهار المنكر على التجسس والتفتيش لم يجز إظهار المنكر؛ لأن الله حرم التجسس في قوله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] ، ولأن للبيوت حرمة وللأشخاص حرمة لا يجوز انتهاكها قبل أن تظهر المعصية، الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تتبع عورات الناس فقال لمعاوية:"إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم"، وقال عليه السلام:"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته"، وقد استقر الأمر في الشريعة على هذا من أول يوم، ومما يذكر في هذا الباب ما حدث من عمر رضي الله عنه، فقد تسلق دار رجل فوجده على معصية فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوحه: فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وقد تجسست، وقال تعالى:{وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وقد تسورت من السطح، وقال:{لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وما سلمت، فتركه عمر وشرط عليه التوبة. وإذا كان عمر قد تركه فلم يعاقبه ولم يغير المنكر فذلك لأن دخول المسكن وهو الذي أظهر المنكر وهو دخول من غير حق ومن غير وجهه.
ومثل هذا ما رواه عبد الرحمن بن عوف قال: "خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة بينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمة فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط، فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت لا، فقال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عن، قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} ، فرجع عمر وتركهم".
وتحريم التجسس والتفتيش يترتب عليه أن لا ينبغي لإنسان مثلاً أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الغناء والأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة
الخمر والحشيش، وليس لإنسان أن يتحسس ملابس شخص ليعرف ما يخفيه تحتها، ولا ليدخل بيته ليعرف أي شيء يخفيه فيه، بل ليس له أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره (1) .
لكن إذا غلب على الظن استسرار شخص بالمعاصي لأمارات دلت على ذلك أو لخبر يغلب على الظن صدقه كشم رائحة الحشيش خارجة من مسكن شخص، أو سماع صوت عيار أو استغاثة، أو أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله، فيجوز في مثل هذه الحالات التجسس والبحث والتفتيش، حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات (2) .
والأصل أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية والبحث عنها، لكن إذا اخبر ابتداء - من غير استخبار - شخصان أو شخص واحد على رأى (3) بأن فلاناً يرتكب المعاصي في بيته جاز دخول البيت دون إذن، كذلك يجوز الدخول دون إذن إذا ظهرت المعصية في الدار ظهوراً يعرفه من الخارج كظهور رائحة الخمر وأصوات السكارى (4) .
ودلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف، وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من أتي شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه"، والإبداء - أي إبداء الصفحة - له درجات؛ فتارة يبدو لنا بحاسة السمع، وتارة بحاسة الشم، وتارة بحاسة
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص34.
(2)
الأحكام السلطانيةص218.
(3)
أسنى المطالب ج4 ص180، الأحكام السلطانية ص218.
(4)
إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص36، 37، 44.
البصر، وتارة بحاسة اللمس، ولا يمكن أن نخصص ذلك بحاسة البصر وحدها إذ المرا العلم وغلبة الظن، وهذه الحواس تفيد العلم وعلية الظن كما يفيدها البصر.
الشرط الرابع: دفع المنكر بأيسر ما يندفع به: يشترط في دفع المنكر أن يدفع بما يدفعه وبايسر ما يدفعه، فلا يجوز أن يدفع بأقل مما يدفعه ما دام الدافع قادراً على دفعه بالأكثر، ولا يجوز أن يدفع بأكثر مما يدفعه؛ لأن ما زاد عن الحاجة يعتبر جريمة، ولكن يجوز دفع المنكر بأقل مما يدفعه في حالة عدم القدرة، فإذا كان المنكر يدفع باليد ولم يكن الدافع قادراً على هذه الوسيلة دفعه بلسانه، فإن لم يستطع دفعه بقلبه.
ودفع المنكر بما يندفع به يقتضي أن تختلف وسائل دفع المنكر باختلاف نوع المنكر واختلاف حال فاعله؛ لأن ما يندفع به شخص قد لا يندفع به آخر، وما يصلح لدفع منكر لا يصلح لدفع منكر آخر.
345 -
وسائل دفع المنكر: وقد حصر بعض الفقهاء (1) الوسائل الصالحة لدفع المنكر في سبع وسائل وهي: التعريف، والنهي بالنصح والوعظ، والتعفيف، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، وإيقاع الضرب والقتل، والاستعانة بالغير.
التعريف: ويكون كلما أقدم الشخص على المنكر وهو يجهل أنه منكر، فالوسيلة الصالحة لدفع المنكر في هذه الحالة هي تعريف فاعل المنكر أن فعله منكر. ويجب أن يكون تعريفه باللطف من غير عنف؛ لأن في التعريف نسبته إلى الجهل وهذا في ذاته إيذاء له، ولكن لابد منه لدفع المنكر، فوجب أن يكون التعريف في غاية اللطف حتى لا يكون إيذاء دون مبرر؛ لأن إيذاء المسلم محرم.
النهي بالوعظ والنصح: ويوجه إلى من يقدم على الأمر وهو عالم بكونه
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص45 وما بعدها.
منكرا إذا غلب علي الظن أنه يؤدي إلى ترك المنكر، كصاحب الغيبة الذي يعلم أنها محرمة ولكن يرجى أن يتركها لو وعظ ونصح، وينبغي أن يكون الناهي شفيقاً لطيفاً بعيداً عن العنف والغضب.
التعنيف: ويكون عند العجز عن المنع باللطف، ويوجه إلى المصر المستهزئ بالوعظ والنصح ويشترط في العنف شرطان:
أحدهما: أن لا يقدم عليه إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف.
والثاني: أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل في التعنيف فيطلق لسانه بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على قدر الحاجة، وليس للمعنف أن يسب فاعل المنكر بما فيه كذب ولا أن يقذفه، وإنما يصح أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد فحشاً، كقوله: يا فاسق، يا جاهل، يا أحمق، يا غبي، وما يجري هذا المجرى؛ لأن كل عاص فاسق والفاسق أحمق جاهل ولولا حمقه وجهله ما عصى الله، وكل من ليس بكيس فهو أحمق؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".
التغيير باليد: والمقصود بالتغيير هو ذات المنكر؛ ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير من رأس العاصي وعن بدنه، وإخراجه من الدار المغصوبة، وإزالة مايضعه من المواد في الطريق العام فيسده أو يضيقه، إلى غير ذلك.
والتغيير لا يكون إلا في المعاصي التي تقبل بطبيعتها التغيير المادي، أما معاصي اللسان والقلب فليس في الاستطاعة تغييرها مادياً، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة.
ويشترط في التغيير باليد أن لا يباشر دافع المنكر التغيير بيده طالما استطاع أن يحمل فاعل المنكر على التغيير، فليس له أن يجر الغاصب من الدار المغصوبة إذا كان يستطيع تكليفه الخروج منها ماشياً، وليس له أن يريق الخمر بنفسه إذا استطاع أن يكلف شاربها أو محرزها بإراقتها.
ويشترط في التغيير أيضاً أن يقتصر فيه على القدر المحتاج إليه، فليس لدافع المنكر أن يأخذ بلحية الغاصب أو رجله ليخرجه من الدار المغصوبة ما دام يستطيع أن يجذبه أو يجره إلى خارجها من يده، وليس له أن يحرق أدوات الملاهي ما دام يستطيع أن يكسرها ويعطلها عن العمل، وحد الكسر أن تتكلف من النفقات في إصلاحها ما يساوي ثمن مثلها. وليس له أن يكسر أواني الخمر إذا استطاع أن يريق الخمر دون كسر الأواني.
والأصل فيما سبق أن تغيير المنكر لا يقصد به إلا دفع المنكر ولا يقصد منه عقوبة فاعل المنكر ولا زجر غيره، والزجر إنما يكون عن المستقبل والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن، وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر وإزالته، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق، وذلك إلى السلطات العامة وليس للأفراد.
التهديد بالضرب والقتل: وينبغي أن يسبق الضرب كلما أمكن تقديمه عليه، ويشترط في التهديد أن لا يهدد الدافع بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله: لأنهبن دارك، أو لأضربن ولدك، أو لأسبين زوجتك، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله عن غير عزم فهو كذب، وإنما يجوز له أن يهدد بما يجوز له تحقيقه في سبيل دفع المنكر كقوله: لأجلدنك، لأكسرن رأسك، لأضربن رقبتك، وما أشبه، وله أن يتوعده بأكثر مما في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يردعه عن المنكر.
الضرب والقتل: ويجوز عند الضرورة أن يباشر دافع المنكر ضرب فاعل المنكر لكفه عنه، ويشترط أن لا يندفع المنكر بغير الضرب، وأن لا يزيد الضرب عن الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر بصفعة أو ضربة فليس للدافع أن يصفع أو يضرب مرة أخرى.
وإذا لم يندفع المنكر إلا بالجرح وإشهار السلاح فللدافع أن يشهر السلاح
وأن يجرح، كما لو قبض فاسق على امرأة وبينه وبين الدافع نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ بندقيته ويقول له: خل عنها أو لأرمينك، فإن لم يخل عنها فله أن يرميه، وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبه، وله أن يسل سيفه ويقول له: اترك هذا المنكر أو لأضربنك، فكل ذلك دفع للمنكر ودفعه واجب بكل ممكن، ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بحدود الله كالزنا وقطع الطريق وبين ما يتعلق بحقوق الأفراد كالضرب والجرح والغضب.
وإذا كان فاعل المنكر لا يمتنع عن المنكر إلا بقتال قد يؤدي إلى قتله كان على دافع المنكر أن يقاتله ولو كان المنكر الذي يراد منعه أقل درجة من القتل، فلو قصد إنسان أن يقطع طرف نفسه وكان لا يمتنع عن ذلك إلا بقتال ربما أدى لقتله وجب منعه عن القطع وقتاله عليه؛ لأن الغرض ليس حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسم سبيل المنكر والمعصية، وقتله في دفع المنكر ليس معصية وقطع طرف نفسه معصية، وذلك مثل دفع الصائل على المال بما يقتله فإنه جائز لا على معنى افتداء درهم من المال بروح شخص وإنما هو جائز بقصد دفع المعاصي، وقصد الصائل لأخذ المال معصية وقتله دفعاً للمعصية ليس في ذاته معصية (1) .
الاستعانة بالغير: وإذا عجز الدافع عن دفع المنكر بنفسه واحتاج إلى أعوان يعينونه على دفعه بقوتهم وأسلحتهم، فقد رأى بعض الفقهاء أن الأفراد ليس لهم أن يدفعوا المنكر بهذه الوسيلة وليس لهم مباشرتها؛ لأنها تؤدي إلى تحريك الفتن وإختلال الأمن والنظام؛ لأن الفاسق قد يستعد أيضاً بأعوانه فيؤدي ذلك إلى القتال؛ وإنما للأفراد أن يباشروا هذه الوسيلة إذا أذن لهم الإمام بمباشرتها، وهو لا يأذن إلا لمن أقامه من قبله للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورأى البعض الآخر أن للأفراد مباشرة هذه الوسيلة دون حاجة لإذن
(1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص34.
الإمام؛ لأنه إذا جاز للأفراد استعمال الوسائل الأخرى فقد جاز لهم أن يستعملوا الوسيلة الأخيرة؛ لأنه ما من وسيلة غيرها إلا وقد يؤدي استعمالها إلى التضارب، والتضارب يدعو بالطبيعة إلى التعاون، فلا ينبغي إذن أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان انتهاء الأمر إلى الفتنة من النوادر والنادر لا حكم له فإنه يضاف إلى ذلك أنه ليس في الشريعة ما يمنع من القول بأن كل من قدر على دفع منكر فعليه أن يدفعه بيده وسلاحه وبنفسه وأعوانه.
346 -
هل يجوز استعمال الوسائل السابقة في حق الكافة؟: يجوز استعمال الوسائل التي سلف ذكرها في حق الكافة عدا الوالدين والزوج والحاكم.
فأما الوالدين فليس للولد عليهما إلا التعريف ثم النهي بالوعظ والنصح، وليس له أن يعنفهما أو يهددهما أو يضربهما، ولكن له على رأي أن يغير ما يأتيان من المنكر بحيث لا يمس شخصيهما، كأن يريق خمرهما أو يرد ما يجد في بيتهما من مال مغصوب أو مسروق لأصحابه. وعلة استثناء الأبوين من الحكم العام أن الله تعالى نهى عن التأفف منهما وإيذائهما فقال:{فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، وقد ورد في حق الأبوين ما يوجب الاستثناء من العموم إذ لا خلاف في أن الأب لا يقاد بولده، وأن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً وليس له أن يباشر إقامة الحد عليه، فإذا لم يجز للابن إيذاء الأب بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز إيذاءه بما هو منع عن جناية مستقبلة متوقعة.
وأما الزوجة فحكمها مع الزوج حكم الولد مع أبويه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وهذا يقتضي منع المرأة من إيذاء الزوج.
وأما الرعية مع الحاكم أو السلطان أو الإمام فليس للرعية عليه إلا التعريف
والنهي بالموعظة والنصح، أما التغيير باليد فالرأي الراجح أنه غير جائز؛ لأنه يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حرمته وذلك محظور؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فليخل به، فإن قبلها قبلها، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له"، ولقوله أيضاً:"من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله في الأرض".
347 -
حكم التجاوز في دفع المنكر: إذا استعمل المدافع في النهي عن المنكر أو تغييره وسيلة تزيد عما يقتضيه الحال فهو مسئول عن هذه الزيادة، وكذلك إذا تعدى الحدود المقررة لوسيلة من الوسائل، فإذا عنف فاعل منكر فقذفه فهو مسئول عن القذف؛ لأن القذف لا يدخل في التعنيف، وإذا كان المنكر يندفع بالتعنيف أو التهديد فضرب فاعل المنكر أو جرحه فهو مسئول عن الضرب والجرح، وإذا اندفع المنكر بضربة واحدة أو جرح واحد فضربة ضربة ثانية أو جرحه جرحاً ثانياً فهو مسئول عما فعل بعد اندفاع المنكر.
وإذا كان المنكر يندفع بتغييره باليد فليس له أن يتعدى الحدود المقررة للتغيير، فإذا كان المنكر شرب الخمر أو إحرازها فإن تغيير المنكر يكفي فيه إراقة الخمر، فإذا أتلف الموائد المنصوبة في محل الخمار أو الأبواب أو الأمتعة أو أحرقها فهو مسئول عن ذلك.
ولا محل للنهي عن المنكر أو تغييره قبل مباشرة المنكر أو بعد مباشرته؛ لأن مباشرة المنكر هي التي تحل النهي عنه أو تغييره دفعاً للمنكر، فإذا لم يقع المنكر فلا يمكن اعتبار ما يقع على قاصد فعل المنكر دفعاً وإنما هو اعتداء، وإذا انتهى فاعل المنكر من فعله فما يقع عليه من أفعال أو ما يوجه إليه من أقوال بسبب فعل المنكر لا يعتبر دفعاً للمنكر وإنما اعتداء على فاعله.
والأصل أن ما يدفع به المنكر مباح ولا يعتبر جريمة ما دام لم يتعد الحدود المقررة لدفع المنكر، لكن إذا تعدت أفعال دفع المنكر إلى الغير وأصابته خطأ اعتبر الفعل بالنسبة للغير خطأ ولو أنه صدر من فاعله متعمداً إياه؛ لأن الفعل المباح ضد فاعل المنكر محرم ضد غيره، فالتعمد لا عبرة به؛ لأنه تعمد فعل
مباح والقاعدة أن من تعمد فعلاً مباحاً فأخطأ في فعله يسأل عن نتيجة الخطأ باعتباره مخطئاً لا عامداً.
348 -
هل لفاعل المنكر حق الدفاع؟: ليس لفاعل المنكر أن يتعدى على من يدفع المنكر بحجة أنه يدفع عن نفسه أو ماله طالما أن دافع المنكر لم يتجاوز حدود دفع المنكر، فإذا تعدى هذه الحدود كان عمله اعتداء وكان لفاعل المنكر أن يدفع هذا الاعتداء.
349 -
الفرق بين الدفاع الشرعي العام والدفاع الشرعي الخاص: إذا قارنا الدفاع الشرعي العام بالدفاع الشرعي الخاص تبين لنا أن الأسس التي يقوم عليها كل منهما واحدة، وأن أحكامهما واحدة وأنهما لا يكادان يختلفان إلا في بعض التفاصيل.
والواقع أن الدفاع الشرعي الخاص لا يختلف عن الدفاع الشرعي العام من هذه الناحية، ولكنهم يفرقون بينهما من ناحية الموضوع، فموضوع الدفاع الشرعي الخاص هو كل صيال - أي هجوم أو اعتداء - يمس سلامة الإنسان أو يمس ماله أو عرضه، ويسمى هذا النوع من الدفاع بدفع الصائل، وموضوع الدفاع الشرعي العام هو ما عدا ذلك مما يمس حقوق الجماعة وأمنها ونظامها، ويسمى هذا النوع من الدفاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد يقال أن هذه التفرقة الموضوعية تفرقة اسمية، لأن أكثر ما يدفع فيه الفاعل باعتباره صائلاً يمكن دفع الفعل فيه باعتباره منكراً، ولكن هذا القول غير صحيح، لأن ما يدفع فيه الفعل باعتباره منكراً لا يدفع فيه الفاعل باعتباره صائلاً، فدفع الصائل لا يكون إلا إذا وجد صيال - أي هجوم أو اعتداء - على الإنسان أو ماله أو عرضه، أما دفع المنكر فيكون كلما انعدم الصيال أو الهجوم أو الاعتداء، فمثلاً إذا هجم رجلاً على امرأة يريد اغتصابها فإنه يدفع عنها باعتباره صائلاً، فهنا دفاع شرعي خاص، أما إذا أتاها برضاها ففعلهما يدفع باعتباره منكراً،
فهنا دفاع شرعي عام. ومن يحاول قتل غيره يدفع عنه باعتباره صائلاً، ويكون الدافع في حالة دفاع شرعي خاص، أما من يحاول الانتحار فيدفع فعله باعتباره منكراً ويكون الدافع في حالة نهي عن المنكر أو تغييره، ومن يحرق مال غيره أو يتلفه يدفع باعتباره صائلاً، ولكن من يحرق ماله أو يتلف مال الغير برضاه يدفع باعتباره فاعلاً لمنكر، فالصيال - أي الهجوم أو الاعتداء - هو ما يميز الدفاع الشرعي الخاص عن الدفاع الشرعي العام.
350 -
بين الشريعة والقانون: تمتاز الشريعة الإسلامية من يوم وجودها بما جاءت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ميزة لم تعرفها القوانين الوضعية قديماً، ولكنها بدأت تعرفها وتأخذ بها في نطاق ضيق ابتداء من القرن الماضي، ولقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجعل من كل إنسان رقيباً على غيره من الأفراد والحكام، ولتحمل الناس على التناصح والتعاون وعلى الابتعاد عن المعاصي والتناهي عن المنكرات، ولقد ترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أصبح الأفراد ملزمين بأن يوجه بعضهم بعضاً، وأن يوجهوا الحكام ويقوموا عوجهم وينتقدوا تصرفاتهم، والتوجيه أساسه الأمر بالمعروف والتقويم والنقد أساسه النهي عن المنكر. ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا حق الفهم وسلموا به تسليماً، فهذا أبو بكر يصعد المنبر بعد مبايعته فيقول:"أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم"، وهذا عمر يقول بعد توليته الخلافة:"من رأى في اعوجاجاً فليقومه"، وترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أصبح الأفراد ملزمين بالتعاون على إقرار النظام وحفظ الأمن ومحاربة الإجرام، وأن يقيموا من أنفسهم حماة لمنع الجرائم والمعاصي وحماية الأخلاق، وكان في هذا كله الضمان الكافي لحماية الجماعة من الإجرام، وحماية أخلاقها من الانحلال، وحماية وحدتها من التفكك، وحماية نظامها من الآراء الطائشة والمذاهب الهدامة، بل كان فيه الضمان الكافي للقضاء