الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحتويات
الافتتاحية
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كاملة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
بحث الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات - القسم الثاني اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 11
الفتاوى
فتاوى عامة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 85
فتوى عن المسيح عليه السلام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 105
أسئلة الشباب القطري مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز التحرير 119
بحوث في العقيدة
بيان الأدلة الشرعية والعقلية على إثبات علو الله سبحانه فوق عرشه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري 129
قواعد في أسماء الله وصفاته الشيخ محمد العثيمين 209
آيات الصفات الدكتور أحمد سعد الحمدان 247
التصوف من صور الجاهلية الشيخ محمد أمان الجامي 267
بحوث عامة
من أهداف الإسلام الدكتور عبد الله العجلان 293
ترجمة معاني القرآن الكريم الدكتور أحمد عوض الله 305
الإمام وكيع حياته وآثاره الشيخ عبد الرحمن الفيرواني 315
الإسلام ومواجهة حركات التبشير الدكتور سعيد الناصري 353
نداء للتبرع للمسلمين وغيرهم في أفريقيا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 365
ما هكذا الدعوة إلى الله .. يا صالح سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 369
مؤتمرات إسلامية 375
صفحة فارغة
الافتتاحية
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، أما بعد:
فقد أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بالهدى والرحمة ودين الحق، وسعادة الدنيا والآخرة لمن آمن به وأحبه واتبع سبيله صلى الله عليه وسلم، ولقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء وأحسنه وأكمله.
وطاعته صلى الله عليه وسلم، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، من أهم فرائض الإسلام، وهي المقصود من رسالته. والشهادة له بالرسالة تقتضي محبته واتباعه والصلاة عليه في كل مناسبة وعند ذكره؛ لأن في ذلك أداء لبعض حقه صلى الله عليه وسلم، وشكرا لله على نعمته علينا بإرساله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فوائد كثيرة منها: امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، والموافقة له في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والموافقة لملائكته أيضا في ذلك- قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1).
(1) سورة الأحزاب الآية 56
ومنها أيضا مضاعفة أجر المصلي عليه، ورجاء إجابة دعائه، وسبب لحصول البركة، ودوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وسبب هداية العبد وحياة قلبه، فكلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه؛ حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه رغب في الصلاة عليه بأحاديث كثيرة ثبتت عنه منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (1)» وعنه رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم (2)» . وقال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي (3)» .
وبما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى، فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك؛ لما تقدم من الأدلة. والمشروع أن تكتب كاملة؛ تحقيقا لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4). مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة صلى الله عليه وسلم كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علما بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
فقد قال ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، قال ما نصه:
التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا
(1) صحيح مسلم الصلاة (384)، سنن الترمذي المناقب (3614)، سنن النسائي الأذان (678)، سنن أبو داود الصلاة (523)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 168).
(2)
أخرجه أبو داود وأحمد في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وأحمد في 2/ 316.
(3)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، وقال: حديث حسن غريب.
(4)
سورة الأحزاب الآية 56
يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظا عظيما. وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية. ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك إلى أن قال:(ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب (وسلم)، وروي عن حمزة الكناني - رحمه الله تعالى - أنه كان يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أكتب (وسلم)، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت (وسلم) إلى أن قال ابن الصلاح: قلت ويكره أيضا الاقتصار على قوله عليه السلام والله أعلم. انتهى المقصود من كلامه - رحمه الله تعالى- ملخصا.
وقال العلامة السخاوي - رحمه الله تعالى - في كتابه "فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي " ما نصه: واجتنب أيها الكاتب (الرمز لها) أي: الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطك، بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك فتكون منقوصة - صورة - كما يفعله (الكتاني) والجهلة من أبناء العجم غالبا وعوام الطلبة فيكتبون بدلا من صلى الله عليه وسلم (ص) أو (صم) أو (صلم) أو (صلعم) فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى.
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى - في كتابه "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ": ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). إلى أن قال: ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب (صلعم) بل يكتبهما بكمالهما. انتهى المقصود من كلامه - رحمه الله تعالى- ملخصا.
هذا ووصيتي لكل مسلم وقارئ وكاتب أن يلتمس الأفضل، ويبحث عما فيه زيادة أجره وثوابه، ويبتعد عما يبطله أو ينقصه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(1) سورة الأحزاب الآية 56
صفحة فارغة
الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات
" القسم الثاني "
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر والعلاقة بينهما:
لا يليق بمن يريد أن يبين الحكم الشرعي في تعاطي شيء من هذه الأنواع الثلاثة أن يتكلم في ذلك إلا بعد أن يعرف من خواصها وآثارها في متعاطيها، وفي المجتمع ما يسهل له الرجوع بها إلى نصوص الشريعة عامها وخاصها، وينير له الطريق في الحكم عليها وإلا كان كمن يقتحم لجة البحر؛ ليسبح فيها وهو لا يحسن السباحة. وكان جريئا على القول على الله بغير علم. وقد نهى سبحانه عن ذلك في عموم قوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1).
وفيما يلي بيان معانيها وخواصها:
أما الخمر فقد تقدم الكلام على معناها لغة وشرعا بما فيه الكفاية إن شاء الله.
وأما المخدر: فهو مأخوذ من الخدر وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء، يقال: خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة، وخدر الشارب كفرح خدرا إذا فتر وضعف، ويطلق الخدر أيضا على ظلمة المكان وغموضه، يقال: مكان أخدر إذا كان مظلما ومنه قيل للظلمة الشديدة: خدرة وكل ما منعك بصرك عن شيء، وحجبه عنه فقد أخدره.
والخدر كل ما واراك، ومنه خدر الجارية وهو ما استترت فيه من البيت، وخدر الأسد يخدر وأخدر لزم خدره وأقام به، وخدره أكمته وأخدره عرينه واراه، ويطلق الخدر أيضا على البرودة- يقال: ليلة خدرة- إذا كانت باردة، ويوم خدر إذا كان باردا. ويطلق الخدور على التحير يقال: رجل خادر- إذا كان متحيرا. . .
(1) سورة الإسراء الآية 36
من هذا يتبين أن المادة تدور على معنى الضعف والكسل والفتور. ومعنى الظلمة والسير والغموض، وعلى معنى البرودة ومعنى لزوم الشيء والإقامة به، ويتبع ذلك الجبن والشاخر والخيرة والتردد والتبلد وعدم الغيرة. وكل هذه المعاني متحققة فيمن يتعاطى المخدرات مائعها وجامدها.
وأما المفتر: فهو مأخوذ من التفتير والإفتار وهو ما يورث ضعفا بعد قوة، وسكونا بعد حدة وحركة، واسترخاء بعد صلابة، وقصورا بعد نشاط، يقال: فتره الأفيون مثلا يفتره تفتيرا وأفتره يفتره إفتارا إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء، ففتر يفتر، ويفتر لان بعد شدة واسترخى بعد صلابة، وضعف بعد قوة، وكسل بعد نشاط، وكل هذه الآفات متحققة فيمن يتعاطى المخدرات على اختلاف أنواعها مائعها وجامدها.
مما تقدم يتبين أن بين الثلاثة صلة وثيقة، ونسبا قويا، وإن اختلفت مفاهيمها، فإن كلا منها يجني على العقل، يعبث به، ويذهب برشده، ويقضي على صوابه، فلا يكاد يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ويجني على الأعصاب وسائر قوى البدن والأخلاق حيرة واضطرابا وذبولا وضعفا ومرضا، ورخاوة وفتورا وجبنا وخورا. ومن هنا أيضا كان شربها أو تناولها جناية على الدين ومدرجة لانتهاك الحرمات، والاعتداء على النفوس والأعراض ومضيعة للأموال، وفي ذلك إخلال بكليات الشريعة العليا. ومقاصدها الضرورية التي علم من الإسلام وجوب المحافظة عليها، والتي فرض الله الحدود والتعزيرات من أجل صيانتها من قريب ومن بعيد؛ تحقيقا لأمن الأمة وتطهيرا للمجتمع مما يدنسه، ويقضي على راحته وطمأنينته وسيأتي بيان مضار استعمالها بعنوان:
"دراسات حديثة تؤيد وجهة نظر فقهاء الإسلام " إن شاء الله تعالى.
ما يثبت أنه شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك:
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة والسكر والقيء، ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند جماعة من العلماء فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل بها من الكتاب والسنة وطائفة من أمثلة العمل بها، وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:
أ- أما كلام العلماء فمن ذلك ما جاء في معين الحكام، قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع. انتهى (1).
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (2).
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم في كتابه وعلى لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفته الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال: ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله. انتهى (3).
ب- وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (4){وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (5){فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (6).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية: (يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوئه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها فإن عارضها قرينة أقوى منها أبطلت وذلك في
(1) معين الحكام / 161.
(2)
تبصرة الحكام 2/ 201 على هامش فتاوى عليش.
(3)
أعلام الموقعين 1/ 94 - 95.
(4)
سورة يوسف الآية 26
(5)
سورة يوسف الآية 27
(6)
سورة يوسف الآية 28
قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (1) لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله! متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يشق قميصه! ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2). وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (3) انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق؛ لأن هذين الأمرين منقولان عن بني إسرائيل ونحوهم، وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر إما لكون الرؤيا التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منه ما يدل على كذبهم في دعواهم.
جـ - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 -
أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر باللوث في القسامة وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 -
أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك.
3 -
أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 -
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفائه من بعده بالقافة وجعلها دليلا على ثبوت
(1) سورة يوسف الآية 18
(2)
سورة يوسف الآية 18
(3)
أضواء البيان / 2/ 69 - 70، ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 101.
النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 -
ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما هذا قتله وحكم له بسلبه (1)» .
هـ- وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة نذكر منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف، وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقدت عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته؛ اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا، وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلوا الطعام المرسل به، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت، ويتكئ على وسادته، ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان، ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه الإنسان نفسه كالفلس والتمرة والعصا ونحو ذلك.
ووأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها الشهادة والإقرار والرائحة والقيء والسكر. فأما الشهادة فيشترط أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين، تتوفر فيهما شروط الشهادة، ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
(1) تبصرة الحكام 2/ 103.
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود، فلا بد من الإقرار مرتين عنده، وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي - رحمهما الله تعالى -، ويخالفهم مالك رحمه الله فيرى وجوب الحد بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد رحمه الله.
وكذلك القيء، لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، ورواية عن أحمد رحمه الله، ويخالفهم مالك رحمه الله وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد رحمه الله وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 -
جاء في "البداية وشرحها الهداية" ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة، وجاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك؛ فعليه الحد، وكذلك إذا أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:«من شرب الخمر فاجلدوه؛ فإن عاد فاجلدوه (1)» .
وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وقال محمد رحمه الله: يحد وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر، لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد رحمه الله: يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بعض الزمان والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي أني شربت مدامة
…
فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال. وأما الإقرار فالتقادم
(1) سنن أبو داود الحدود (4485).
لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
قال: فإن أخذه الشهود، وريحها توجد منه وهو سكران، فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به صرف قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم في مثله.
". . . ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها " لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب، قد يقع عن إكراه أو اضطرار، ويثبت الشرب بشهادة شاهدين ويثبت بالإقرار مرة واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان. انتهى (1).
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: والرائحة قد تكون من غيره إلخ. قال: يظهر أن رائحة الخمر مما يلتبس بغيرها، فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها؛ لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة، والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة، بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا، وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه، وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا فرفعه إلى السجن ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به، فدقت تمرته بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وارجع يدك وأعط كل عضو حقه.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني، ورواه إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن
(1) البداية ومعها الهداية / 2/ 111 / 112.
عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها؛ لعدم الرائحة وقت أدائها، بل ولا إقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة: التحريك بعنف والترترة والتلتلة التحريك، وهما بتاءين متتاليتين من فوق، قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل
…
تقطع أنفاس المهارى ثلاثا
أي حركاته، والمساف جمع مسافة، والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر، ومعنى تقطع ثلاثا أنفاس المهارى أنه إذا بارها في السير أظهر في أنفاسها الضيق لما يجهدها، وإنما فعله؛ لأن بالتحريك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفت، وكان ذلك مذهبه، ويدل عليه ما في الصحيحين عن ابن مسعود «أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أحسنت (1)»، فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد.
وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر، وفي لفظ ريح شراب. والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما، ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك، وقول للشافعي برواية عن أحمد والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه، وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ويترجح؛ لأنه أصح وإن قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه رائحة الخمر حدا تاما، وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد ويدرأ ما يستطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة؛ ليظهر الريح فيحده، فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه (2). انتهى.
ويمكن أن يقال: إنه إنما أمر بترترته ومزمزته؛ لكونه لم يأت تائبا وإنما جاء به عمه؛ ليقام
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5001)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (801)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 425).
(2)
فتح القدير / 4/ 180.
عليه الحد؛ فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور؛ لتظهر الرائحة.
قال ابن فرحون:
ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها، وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه، وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر (1)» - قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضي بها دليل آخر أن إقرار السكران غير لازم.
(مسألة) قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه إلى أن الحد يجب على من وجد منه ريح السكر، والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاما، والدليل من جهة المعنى أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه، فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد وأصل ذلك الرؤية لما شربه، بل الرائحة أقوى من معرفة حال المشروب من الرؤية؛ لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أسكر هو أم لا، وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور الأول: فيمن يجب استنكاهه، الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته، الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة السكر أو أشكلت.
(الأول): فيمن يجب استنكاهه وذلك فيما يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه.
(مسألة): وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها أو أنكرها بحضرته من ينكرها، قال الباجي: فعندي أنه قد تعين عليه استنكاهه وتحقق حاله؛ لأن هذه صفة ينكرها حاله ويستراب بها ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه، فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله كالتخليط في الكلام والمشي.
(مسألة): فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال يريد التخليط في القول والمشي لم يستنكه، رواه أصبغ عن ابن القاسم بالعتبية والموازية قال: ولا يتجسس عليه، ووجه ذلك إن لم ير منه ريبة ولا خروجا عن أحوال الناس المعتادة، فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبة.
(الثاني) فيمن يثبت ذلك بشهادته قال القاضي أبو
(1) صحيح مسلم الحدود (1695).
الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم، فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة، أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا؛ حتى يكونا ممن يعرف الخمر بريحها- قال القاضي أبو الوليد: هذا عندي فيه نظر؛ لأن من هذه صفته معدوم قليل ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة؛ بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة): وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين، فإن لم يكن إلا واحدا وجب به الحد، وأما إن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين كالشهادة على الشرب، وقد روى ابن وهيب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحدا فليرفعه إلى من هو فوقه، قال القاضي أبو الوليد - رحمه الله تعالى -: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه فلذلك جاز عنده علم من استنابه وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
(الثالث): فيما يجب بشهادة الاستنكاه ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها، فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر، أو يختلفوا في ذلك؛ فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: رائحة مسكر، وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر، فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد؛ ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت، ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها، كما لو شهد شاهدان أنهما رأياه شرب خمرا، وقال آخران: لم يشرب خمرا.
(مسألة): فإن شك الشهود في الرائحة هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله؛ فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله، حكاه ابن القاسم في العتبية والموازية، ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه، ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك؛ لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية، وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(مسألة) قال
القاضي أبو الوليد - رحمه الله تعالى-: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به النظر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
(مسألة): ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد؛ لأنه لا يقئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب، وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.
3 -
جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج " ويحد بإقراره وشهادة رجلين " أو علم السيد دون غيره كما مر نظيره في السرقة لا بريح خمر و "هيئة" سكر وقيء؛ لاحتمال أنه احتقن أو أسعط بها، أو أنه شربها؛ لعذر من غلط أو إكراه. أما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له، ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو محتار عالم أم لا كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه، والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه.
وقيل: يشترط في كل من المقر والشاهد أن يقول شربها وهو عالم به مختار لاحتمال ما مر كالشهادة بالزنا؛ إذ العقوبة لا تثبت إلا بيقين، وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر؛ لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها؛ لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها، فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة؛ احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو. انتهى (1).
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج / 8/ 16.
4 -
وقال ابن قدامة:
ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار والبينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه؛ لأنه حد لله - سبحانه - فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود، ولا يعتبر مع الإقرار وجود الرائحة.
وحكي عن أبي حنيفة لا حد عليه إلا أن توجد رائحة، ولا يصح؛ لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود.
(فصل) ولا يجب الحد بوجود الرائحة للخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر.
وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته.
ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها وحسبها ماء فلما صارت إلى فيه مجها وظنها لا تسكر أو كان مكرها، أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات، وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل): وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه؛ لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد هاهنا بطريق الأولى؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال: أشهد أني رأيته يتقيؤها، فقال عمر: من قاءها فقد شربها، فضربه الحد.
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال: "شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر؛ فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه " رواه مسلم.
وفي رواية له فقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم، ولم ينكر فكان إجماعا؛ ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها، أو لا يسكر منها حتى يشربها.
(فصل): وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا
يحتاجان إلى بيان نوعه؛ لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه، بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1)» فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره، وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر؛ لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد، فلم يحتج إلى بيانه؛ ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات، ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة، ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا هاهنا (2) انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: (وهل يجب الحد بوجود الرائحة على روايتين إحداهما: لا يحد وهو قول عامة أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وعنه يحد وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر، وعنه يحد إذا لم يدع شبهة، قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد واختارها ابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها (3) انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة وهل يحد بوجود الرائحة؟ على روايتين وأطلقهما في مسبوك الذهب وتجريد العناية ونهاية ابن رزين، إحداهما لا يحد وهو المذهب صححه المصنف والشارح وابن منجا في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيره، وجزم به في الوجيز والمنور. والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة قال ابن أبي موسى في الإرشاد هذه أظهر عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين رحمه الله وقدمها في المستوعب، وعنه يحد وإن ادعى شبهة. ذكرها في الفروع. وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا، وأطلقهن في تجريد العناية ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله يؤدب برائحته. واختاره الخلال كالحاضر مع من يشربه، فائدتان:
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243)، صحيح مسلم القدر (2657)، سنن أبو داود النكاح (2152)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 344).
(2)
المغني / 9/ 143 وما بعدها. الناشر مكتبة القاهرة، مطابع سجل العرب.
(3)
المقنع ومعه الحاشية / 3/ 479.
إحداهما: لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر فقيل: حكمه حكم الرائحة، وقدمه في الفصول وجزم به في الرعاية الكبرى.
وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة، واختاره المصنف والشارح، وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في المقدمة وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره مرة على الصحيح من المذهب كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح وقدمه في الفروع.
وعنه مرتين واختاره القاضي وأصحابه وصححه الناظم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين وإن سلمناه؛ فلأنه لا يتضمن إتلافا بخلاف حد السرقة، قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره؛ لأنه حق آدمي كالقود، فدل على رواية فيه، قال: وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها بشهادة عدلين مطلقا على الصحيح من المذهب، وقيل: ويعتبر قولهما، عالما بتحريمه واختياره وأطلقهما في الرعاية الكبرى (1) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب، فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رؤي وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل: لا يقام عليه الحد؛ لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر أو شربها جاهلا بها أو مكرها ونحو ذلك.
وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود، وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اصطلح عليه الناس، وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه. انتهى (2).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من قيء الرجل أو قيئه خمرا اعتمادا على القرينة الظاهرة. انتهى (3).
(1) الإنصاف / 10/ 233.
(2)
السياسة الشرعية / 51.
(3)
الطرق الحكيمة / 6.
عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين:
روى البخاري في الصحيح بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين (1)» .
وذكر ابن حجر أن هذا الحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين ثم صنع أبو بكر مثل ذلك، فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ففعله عمر (2)» . . . ولفظ رواية خالد التي ذكرتها (3) إلى قوله: "نحوا من أربعين " وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم إلا أنه قال: "وفعله أبو بكر فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس فقال عبد الرحمن- يعني ابن عوف -: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر "، وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة:«فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتي به وأبو بكر فصنع به مثل ذلك (4)» . ورواه همام عن قتادة بلفظ «فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال (5)» أخرجه أحمد والبيهقي - وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة، وإن جملة الضربات كانت نحو أربعين لا أنه جلده بجريدتين أربعين، فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض الناس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ:«جلد بالجريد والنعال أربعين (6)» علقه أبو داود بسند صحيح ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ:"كان يضرب في الخمر" مثله (7) انتهى المقصود.
2 -
أخرج البخاري بسنده عن عقبة بن الحارث «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران، فشق عليه وأمر من في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه (8)» .
3 -
أخرج البخاري بسنده عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه (9)» .
(1) صحيح البخاري الحدود (6773)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(2)
صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 176)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(3)
ما روى خالد بن الحارث عن شعبة هي المذكورة أولا.
(4)
صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(5)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 247).
(6)
صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(7)
الفتح / 12/ 63 - 64.
(8)
صحيح البخاري الحدود (6775)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 8).
(9)
صحيح البخاري الحدود (6778)، صحيح مسلم الحدود (1707)، سنن أبو داود الحدود (4486)، سنن ابن ماجه الحدود (2569)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 130).
4 -
أخرج البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين (1)» . وقد علق ابن حجر على قوله: (حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين) ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك لما في قصة خالد بن الوليد وكتابته إلى عمر رضي الله عنه، فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته؛ لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر (2). انتهى المقصود.
5 -
قال ابن حجر: أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال (3)» الحديث.
ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين - «كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه (4)» .
6 -
قال ابن حجر: وقع في مرسل عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين - فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب وفيه: "أن عمر جعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال هذا أدنى الحدود (5).
7 -
أخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين؛ فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر في الخمر ثمانين.
قال ابن حجر (6): وهذا معضل وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا ولفظه: «أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي. فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا عليهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك» حتى أتي برجل فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى:
(1) صحيح البخاري الحدود (6779)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 449).
(2)
الفتح 12/ 96.
(3)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 34).
(4)
الفتح / 12/ 67.
(5)
الفتح / 12/ 69.
(6)
فتح الباري مجلد 12 صفحة 69 وما بعدها.
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1)، وأن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى:{إِذَا مَا اتَّقَوْا} (2) والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر ما ترون؟ فقال علي فذكره وزاد بعد قوله: وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلده ثمانين، ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى منها ما أخرجها الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن (أن رجلا من بني كلب يقال له: ابن دبرة أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد، فقال علي فذكر مثل رواية ثور الموصولة. ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى" الحديث.
ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية المذكورة فاستشار عمر فيهم، فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين وإلا ضربت أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرم الله فاستتابهم فتابوا. فضربهم ثمانين ثمانين. وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين، وفيه فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة قال: وعنده المهاجرون والأنصار فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين وقال علي فذكر مثله. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن ابن شهاب قال: "فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا، وفرض فيها عمر ثمانين، قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا (3)» ، ويؤيده فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين، وحديث عبد الرحمن بن أزهر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه (4)» وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث، ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتي عمر بسكران فضربه أربعين؛ فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير بمهملة وضاد معجمة مصغرا ابن المنذر «أن عثمان أمر عليا بجلد
(1) سورة المائدة الآية 93
(2)
سورة المائدة الآية 93
(3)
صحيح البخاري الحدود (6778)، سنن أبو داود الحدود (4486)، سنن ابن ماجه الحدود (2569)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 130).
(4)
سنن أبو داود كتاب الحدود (4487).
الوليد بن عقبة في الخمر فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين قال أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة. وهذا أحب إلي (1)»؛ فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها نحو الأربعين، والجمع بينهما أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب. وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة؛ لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن. وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب قال البيهقي: وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم وتضعيفه الداناج لا يقبل؛ لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت: وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه: إنه جلد ثمانين وذكرت ما قيل في ذلك هناك وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال: وهذا أحب إلي، أي: جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون، والجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي.
والثاني: على تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين، ولا يزيد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرج الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله، لكن قال:"له ذنبان أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان " قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلد ثمانين؛ لأن كل سوط سوطان، وتعقب بأن السند الأول منقطع فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميزا، وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين، فأراد بالأربعين مما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر:"وكل سنة وهذا أحب إلي " لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه.
وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين، فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي
(1) صحيح مسلم الحدود (1707)، سنن أبو داود الحدود (4480)، سنن ابن ماجه الحدود (2571)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 145)، سنن الدارمي الحدود (2312).
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهذا لا يظن به قاله البيهقي، واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي: أنه إذا سكر هذى إلخ.
قال: فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل، واستخرج الحد بطريق الاستنباط، دل على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي؛ إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه، وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا، فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع، يزيد على ما كان مقررا.
ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا، فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره، إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود، فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا؛ لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك.
ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص، وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه آمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدارقطني وغيره، فكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين. قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين.
وقال المازري: لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا؛ لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه. انتهى.
وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه، ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين؛ لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها، كما سبق تقريره.
وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنبأنا عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا، فرآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا، وقال: هذا أخف الحدود.
والجمع بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وأنه سنة، وبين حديثه المذكور في هذا الباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين، أي: لم يسن شيئا زائدا على الأربعين، ويؤيده قوله:" وإنما هو شيء صنعناه نحن ". يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: لو مات لوديته "أي في الأربعين الزائدة" وبذلك جزم البيهقي وابن حزم، ويحتمل أن يكون قوله:"لم يسنه" أي: الثمانين لقوله في الرواية الأخرى: "وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن