الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم: لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد: فقد قرأت البحث الذي أعده أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى، ومباينته لخلقه، والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية، فوجدته كتابا قيما، قرر فيه مؤلفه الحقائق التالية:
الأولى: إثبات علو الله تعالى بذاته وصفاته؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك.
الثانية: إثبات استوائه تعالى بذاته على عرشه استواء حقيقيا يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
الثالثة: إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته إن كانت عامة، وبنصره وتأييده مع العلم والإحاطة إن كانت خاصة، وتأييد ذلك بما نقله عن السلف والأئمة.
الرابعة: إبطال قول الحلولية القائلين بأن الله تعالى بذاته في الأرض أو في الأرض وعلى العرش؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على إبطاله.
الخامسة: إنكاره القول بالمعية الذاتية.
وكل ما قرره فهو حق، فعلو الله تعالى على خلقه بذاته وصفاته دل عليه القرآن في آيات متعددة، وعلى وجوه متنوعة معلومة لكل من قرأ كتاب الله تعالى، موجبة للعلم القطعي، ودلت عليه السنة بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة.
ودل عليه العقل من وجهين:
أحدهما: أن العلو صفة كمال، والله تعالى له صفات الكمال من كل وجه، كما قال تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) فوجب ثبوت العلو له.
الثاني: أنه إذا انتفت صفة العلو ثبتت صفة السفل لتقابلهما، وصفة السفل صفة نقص، والله تعالى منزه عن كل نقص.
ودلت الفطرة أيضا على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية، فما من داع أو خائف إلا فزع إلى ربه تعالى، نحو السماء لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة، والمسلمون في سجودهم يقول القائل منهم: سبحان ربي الأعلى، فلا يجد من قلبه إلا الاتجاه نحو السماء.
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على ما اقتضته هذه الأدلة من علو الله تعالى بذاته وصفاته.
ولم يخالف في ذلك إلا من اجتالته الشياطين من الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، أو من سلكوا سبيل التعطيل المحض في هذا الباب فقالوا: إنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، وقد قال بعض العلماء: لو قيل صفوا الله بالعدم ما كان أبلغ لوصفه بذلك من هذا القول، تعالى الله عنه علوا كبيرا.
واستواء الله تعالى على عرشه بذاته حقيقة هو علو الله علوا خاصا يليق بجلاله وعظمته، وفيه عن السلف أربعة معان هذا أحدها، والثاني الصعود، والثالث الارتفاع، والرابع الاستقرار، وكلها حق لا تناقض بينها، ولا تنافي ما يجب لله تعالى من الكمال.
ولم يخالف السلف في ذلك إلا أهل التحريف والتعطيل الذين قالوا: إنه بمعنى الاستيلاء عليه، وهو قول باطل مخالف لصريح القرآن والسنة، فقد ذكر الله تعالى الاستواء على العرش في سبعة مواضع من القرآن، لم يأت في واحد منها بلفظ الاستيلاء حتى يفسر به الباقي، ثم إنه ذكر بلفظ الفعل مقرونا بثم في ستة مواضع، ومذكورا بعده عموم الملك في الموضع السابع، مما يمنع منعا ظاهرا أن يكون بمعنى الاستيلاء. وجاءت السنة بالتصريح بأن الله فوق العرش، ولا يخفى أيضا ما يلزم على تفسيره بالاستيلاء من اللوازم الباطلة.
وتفسير معية الله تعالى لخلقه بعلمه بهم وإحاطته في المعية العامة، وبنصره وحفظه مع
(1) سورة الروم الآية 27
العلم والإحاطة في المعية الخاصة أمر مشهور بين السلف، حكى الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم. واقتضاء المعية ذلك ظاهر من سياق الآيات الواردة فيها.
ففي المعية العامة ذكرها الله تعالى في سورة المجادلة بين علمين، وفي آية الحديد ذكرها بعد العلم وقبل قوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) وفي المعية الخاصة ذكرها الله تعالى في سورة محمد حين نهى المؤمنين عن الوهن في قتال الأعداء، وفي سورة التوبة حين «قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا (2)».
وهكذا بقية الآيات التي فيها ذكر المعية بنوعيها.
وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع؛ وذلك لأن القوت به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته، فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتا بهذه الأدلة؛ كان نقيضه باطلا بها.
وإنكار القول بالمعية الذاتية واجب؛ حيث تستلزم القول بالحلول؛ لأن القول بالحلول باطل، فكل ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره ورده على قائله كائنا من كان.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن ينصرنا بالحق ويجعلنا من أنصاره؛ إنه ولي ذلك القادر عليه، وهو القريب المجيب.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
صحيح البخاري كتاب المناقب (3615)، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2009).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فقد رأيت مقالا سيئا لبعض المعاصرين زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته، وأنها لا تقتضي اختلاطا بالخلق ولا حلولا في أماكنهم. وقال في آخر مقاله: وهكذا نقول في المعية نثبت لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق، ونثبت مع ذلك علوه على خلقه واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها، فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته. ثم صرح أنه قال ذلك مقررا له ومعتقدا له منشرحا له صدره.
وأقول: لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين، وموافقة من يقول من الحلولية أن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وما فيه من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
فأما التناقض ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن هذه المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاط بالخلق ولا الحلول في أماكنهم، ولا يخفى على عاقل أن المعية الذاتية للخلق تستلزم مخالطتهم والحلول في أماكنهم، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق، ونفى مخالطتهم والحلول في أماكنهم فقد تناقض شاء أم أبى.
وأما الجمع بين النقيضين ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن الله مستو على عرشه، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها. فقد جمع في هذا التقرير بين إثبات صفة العلو لله تعالى وإثبات ضدها، وهي صفة السفل الذي تستلزمه المعية الذاتية للخلق، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق، وأثبت مع ذلك أن علو الرب من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع بين النقيضين شاء أم أبى.
وأما الموافقة لبعض القائلين بالحلول فإنه لازم لمن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية؛ لأنه يلزم على هذا القول الباطل أن يكون الله مع الخلق في الأرض، وأن يكون مخالطا لهم، وحالا معهم في أماكنهم. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في
صفحة 297 من المجلد الثاني من مجموع الفتاوى، وصفحتين بعدها ما ملخصه:
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه؛ افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته مستو على عرشه، بائن عن خلقه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم.
والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان. كما يقول ذلك أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية.
والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله. وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف.
ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه كأبي الحكم ابن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا، وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخري الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه. انتهى المقصود من كلامه.
وما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - عن الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، هو بعينه قول المردود عليه حيث زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية وهو مع ذلك مستو على عرشه.
فصل
وأما مخالفة صاحب المقال لكتاب الله تعالى، فإن الله تبارك وتعالى ذكر استواءه على العرش في سبعة مواضع من القرآن. الموضع الأول: قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1).
الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة يونس:135 {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2).
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2)
سورة يونس الآية 3
الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1). الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2).
الموضع الخامس: قوله تعالى في سورة الفرقان: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3). الموضع السادس قوله تعالى في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4).
الموضع السابع: قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5).
والنص على استواء الرب تبارك وتعالى على العرش - الذي هو فوق جميع المخلوقات - ينافي كونه مع سكان الأرض بذاته. وفي كل من هذه الآيات السبع أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومما يرد به أيضا على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية قول الله تعالى مخبرا عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (6). وإذا كان الرب تبارك وتعالى فوق الملائكة - الذين هم سكان السماوات - ولم يكن معهم بذاته فكيف يقال: إن معيته - لخلقه- أي الذين في الأرض- معية ذاتية؟ هذا قول ظاهر البطلان.
ومما يرد به عليه أيضا قول الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (7)، وقوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} (8)، وقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (9)، وقوله تعالى:136 {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (10){إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (11)،
(1) سورة الرعد الآية 2
(2)
سورة طه الآية 5
(3)
سورة الفرقان الآية 59
(4)
سورة السجدة الآية 4
(5)
سورة الحديد الآية 4
(6)
سورة النحل الآية 50
(7)
سورة الأنعام الآية 18
(8)
سورة الأنعام الآية 61
(9)
سورة الأعلى الآية 1
(10)
سورة الليل الآية 19
(11)
سورة الليل الآية 20
وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1)، وقوله تعالى:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (2)، وقوله تعالى:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3)، وقوله تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (4)، وقوله تعالى:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (5)، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (6)، وقوله تعالى:{قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (7)، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (8)، ومثلها الآية في سورة لقمان، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (9)، فقد وصف الرب تبارك وتعالى نفسه في هذه الآيات بصفة العلو المطلق، وهو يشمل علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، ولا يخفى على من له عقل وعلم أن صفة علو الذات تنافي المعية الذاتية للخلق أعظم المنافاة.
ومما يرد به عليه أيضا قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (10){أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (11) الآية. قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " في الكلام على قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (12) أراد من فوق السماء كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (13)، بمعنى على جذوع النخل.
وقال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (14)، أي على الأرض. وكل ما علا فهو سماء. والعرش
(1) سورة الرعد الآية 9
(2)
سورة غافر الآية 15
(3)
سورة البقرة الآية 255
(4)
سورة الشورى الآية 4
(5)
سورة الشورى الآية 51
(6)
سورة النساء الآية 34
(7)
سورة سبأ الآية 23
(8)
سورة الحج الآية 62
(9)
سورة غافر الآية 12
(10)
سورة الملك الآية 16
(11)
سورة الملك الآية 17
(12)
سورة الملك الآية 16
(13)
سورة طه الآية 71
(14)
سورة التوبة الآية 2
أعلى السماوات فمعنى الآية أأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات. قال: وفيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان. وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) إنما أراد بعلمه، لا بذاته، انتهى. وقد نقله عنه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في القاعدة المراكشية، وأقره وهو في صفحة 192 - 193 من المجلد الخامس من مجمع الفتاوى.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (2) قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (3) أي فوقها، انتهى.
ومن الآيات التي يرد بها على من زعم أن معية ذاتية قول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4)، وقوله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (5)، وقوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (6)، وقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (7)، وقوله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (8)، وقوله تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (9)، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (10)، وقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (11)، وقوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (12){مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (13).
والآيات في إنزال القرآن من الله
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة الملك الآية 16
(3)
سورة التوبة الآية 2
(4)
سورة فاطر الآية 10
(5)
سورة السجدة الآية 5
(6)
سورة المعارج الآية 4
(7)
سورة آل عمران الآية 55
(8)
سورة النساء الآية 158
(9)
سورة النحل الآية 102
(10)
سورة المائدة الآية 44
(11)
سورة الأنعام الآية 91
(12)
سورة آل عمران الآية 3
(13)
سورة آل عمران الآية 4
تعالى كثيرة جدا. وفيها مع ما ذكرته هاهنا من الآيات دليل على علو الرب تبارك وتعالى فوق خلقه. وفيها أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
فصل
وأما مخالفة صاحب المقال لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أسري به إلى بيت المقدس، عرج به جبريل حتى علا به فوق السماوات السبع، وظهر به لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ودنا من الرب جل جلاله فكلمه الله وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فلم يزل يتردد بين ربه وبين موسى في طلب التخفيف عنه وعن أمته؛ حتى جعلها الله خمس صلوات.
وقد جاء في هذا أحاديث صحيحة، الأول منها: رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث شريك بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والثاني: رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه. والثالث: رواه النسائي من حديث يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله عنه. والرابع: رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه. والخامس: رواه البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب عن أنس بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنه.
وقال الزهري في هذا الحديث: أخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري رضي الله عنهما كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام (1)» ، قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق. فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعت، فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي (2)» الحديث.
وفي عروج النبي صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى ما فوق السماوات السبع، وما أكرمه الله به من الدنو منه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية. وكذلك في تردده صلى الله عليه وسلم بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات، حين كان موسى يقول له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فيعرج به جبريل إلى الله فيسأله التخفيف لأمته؛ حتى
(1) صحيح البخاري الصلاة (349)، صحيح مسلم الإيمان (163)، سنن الترمذي الصلاة (213)، سنن النسائي الصلاة (450)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 144).
(2)
صحيح البخاري الصلاة (349)، صحيح مسلم الإيمان (163)، سنن الترمذي الصلاة (213)، سنن النسائي الصلاة (449)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 144).
صارت إلى خمس صلوات، وكل ذلك يدل على إثبات العلو لله تعالى، وأنه بائن من خلقه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقة معية ذاتية.
ومما يرد به على صاحب المقال أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ فقالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة» رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. قال أبو عثمان الصابوني: حكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وما يرد به عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء (1)» ، رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ومما يرد به عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2)» . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الكنى، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اشتكى شيئا فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك (3)» الحديث رواه أبو داود.
وقال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات ": معنى قوله في هذه الأخبار: من في السماء، أي فوق السماء على العرش كما نطق به الكتاب والسنة. انتهى.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك! (4)» رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وفي كون الداعي يمد يديه إلى السماء خاصة دون سائر الجهات أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية. ولو كان الأمر على ما زعمه القائل على الله بغير علم
(1) صحيح البخاري المغازي (4351)، صحيح مسلم الزكاة (1064)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 5).
(2)
سنن الترمذي البر والصلة (1924)، سنن أبو داود الأدب (4941).
(3)
سنن أبو داود الطب (3892).
(4)
صحيح مسلم الزكاة (1015)، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 328)، سنن الدارمي الرقاق (2717).
لكان الداعي يمد يديه إلى سائر الجهات، من فوقه ومن أمامه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يخص جهة السماء التي فوقها الله تعالى.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في الحديث الطويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في ذكر حجة الوداع، ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بطن الوادي وقال آخر خطبته:«وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد (1)» رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
وفي رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء دون سائر الجهات أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث الأوعال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد أن ذكر سبع سماوات، بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة عام، قال:«وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء الأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء (2)» رواه الإمام أحمد والحاكم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وصححه الحاكم والذهبي، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " بلفظ آخر، وقال الترمذي: حسن غريب.
ومما يرد به عليه أيضا ما رواه النسائي والحاكم في المستدرك والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" من طريق الحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى، وأن تقسم أموالهم وذراريهم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لقد حكم اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات (3)» ، لم يتكلم عليه الحاكم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح، وذكره الذهبي أيضا في كتاب " العلو " وقال: هذا حديث صحيح. وقد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال فيه:«لقد حكمت فيهم بحكم الله (4)» وربما قال: «بحكم الملك (5)» . ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل (6)» زاد أحمد:
(1) صحيح البخاري الحج (1785)، صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 321)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
(2)
سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3320)، سنن أبو داود السنة (4723)، سنن ابن ماجه المقدمة (193)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 207).
(3)
صحيح البخاري الجهاد والسير (3043)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768)، سنن أبو داود الأدب (5215)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 22).
(4)
صحيح البخاري الجهاد والسير (3043)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768)، سنن أبو داود الأدب (5215)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 22).
(5)
صحيح البخاري الجهاد والسير (3043)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768)، سنن أبو داود الأدب (5215)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 22).
(6)
صحيح البخاري الصلاة (463)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1769)، سنن النسائي المساجد (710)، سنن أبو داود الجنائز (3101)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 142).
«وحكم رسوله (1)» . ورواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه: «أصبت حكم الله فيهم (2)» .
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمي غلبت غضي (3)» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم فذكر الحديث وفيه: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (4)» الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون (5)» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي.
ومما يرد به عليه أيضا حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل (6)» الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه.
وكما أن هذه الأحاديث دالة على علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات، وأنه بائن من خلقه، ففيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
والأحاديث في الرد على من قال بهذا القول الباطل كثيرة جدا، وفيما ذكرته كفاية إن شاء الله.
(1) سنن النسائي قطع السارق (4874)، سنن أبو داود الحدود (4382).
(2)
صحيح مسلم السلام (2208)، سنن الترمذي السير (1582)، سنن أبو داود الطب (3866)، سنن ابن ماجه الطب (3494)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 350)، سنن الدارمي السير (2509).
(3)
صحيح البخاري التوحيد (7404)، صحيح مسلم التوبة (2751)، سنن الترمذي الدعوات (3543)، سنن ابن ماجه الزهد (4295)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 433).
(4)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، سنن الترمذي الدعوات (3481)، سنن أبو داود الأدب (5051)، سنن ابن ماجه الدعاء (3831)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 404).
(5)
صحيح البخاري مواقيت الصلاة (555)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (632)، سنن النسائي الصلاة (485)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 486)، موطأ مالك النداء للصلاة (413).
(6)
صحيح مسلم الإيمان (179)، سنن ابن ماجه المقدمة (195)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 405).
فصل
ومن المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات العلو لله تعالى، ما رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " عن جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لقيت امرأة عمر رضي الله عنه يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال:"ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها؛ حتى تقضي حاجتها إلا أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" وقد ذكر هذا الأثر أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: رويناه من وجوه.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "كنت أحب نساء رسول صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين " ورواه ابن سعد في الطبقات، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ومن ذلك ما رواه سنيد بن داود، حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) إسناده صحيح، وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) إسناده صحيح، ورواه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة فذكره بنحوه، ورواه
ابن عبد البر في التمهيد من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة، والعرش على الماء، والله تبارك وتعالى على العرش يعلم أعمالكم) ورواه البيهقي أيضا عن طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة - وهو المسعودي - عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل - واسمه شقيق بن سلمة - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكره بنحوه.
ومن ذلك ما رواه إسحاق بن راهويه عن عكرمة في قوله تعالى مخبرا عن إبليس أنه قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (1)، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"لم يستطع أن يقول: من فوقهم، علم أن الله من فوقهم ".
ومن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ومن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تلقاهن ملك فعرج بهن إلى الله، فلا يمر بملأ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن). قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": أخرجه العسال في كتاب "المعرفة" بإسناد كلهم ثقات.
ومن ذلك قصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مع امرأته، حين وقع على أمته، وهي مشهورة، وقد ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: رويناها من وجوه صحاح، وذلك أنه مشى ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته فلامته فجحدها، وكانت قد رأت جماعة لها، فقالت له: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن؛ فإن الجنب لا يقرأ القرآن فقال:
شهدت بأن وعد الله حق
…
وإن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء حق
…
وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة غلاظ
…
ملائكة الإله مسومينا
فقالت امرأته: صدق الله وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه.
وقد رواها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" بإسناده إلى عبد العزيز بن أخي الماجشون، وفيه أن «امرأة
(1) سورة الأعراف الآية 17
عبد الله بن رواحة قالت له لما جحد خلوته بجاريته: إن كنت صادقا فاقرأ آية من القرآن. فقال:
شهدت بأن وعد الله حق
…
وأن النار مثوى الكافرينا
قالت: فزدني آية. فقال:
وأن العرش فوق الماء طاف
…
وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام
…
ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه فضحك ولم يغير عليه».
ومن ذلك ما رواه ابن سعد أنبأنا مالك بن إسماعيل النهدي أنبأنا عمر بن زياد عن عبد الملك بن عمير قال: «جاء حسان بن ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أسمعك يا رسول الله. قال: "قل حقا" فقال:
شهدت بإذن الله أن محمدا
…
رسول الذي فوق السماوات من عل
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال:
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم
…
له عمل من ربه متقبل
فقال: "وأنا أشهد»
وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقال في البيت الأخير:
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم
…
نبي أتى من عند ذي العرش مرسل
وهكذا هو في ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه.
ومن ذلك ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب "النقض" على المريسي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك".
وكما أن هذه الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على إثبات العلو لله تعالى، ففيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
فصل
وأما الإجماع من أهل السنة والجماعة على خلاف ما زعمه القائل، بأن معية الله لخلقه معية ذاتية، فقد حكاه غير واحد من أكابر العلماء. ومن أجلهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - فقد روى القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" بإسناده إلى أبي العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي الإصطخري، قال: قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها. فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
ثم ساق الإمام أحمد أقوالهم في هذه العقيدة إلى أن قال: وخلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء العليا السابعة، وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء، والله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السماوات والأرضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في قعر البحار، ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال وأعمال العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كل شيء، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نور ونار وظلمة، وما هو أعلم به.
فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1)، وبقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2)، وبقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3)، وإلى قوله:{هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4)، ونحو هذا من متشابه القرآن. فقل: إنما يعني بذلك العلم؛ لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا، ويعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان انتهى.
فليتأمله المبتلى بمخالفة أهل السنة والجماعة حق
(1) سورة ق الآية 16
(2)
سورة الحديد الآية 4
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة المجادلة الآية 7
التأمل. وليتق الله ولا يكن من دعاة البدع والضلالة، فقد قال الله تعالى فيهم:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (1)، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2)» . رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "القاعدة المراكشية" وأقره وهو مذكور في صفحة 193 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى. ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، انتهى. وقد نقل الذهبي كلام ابن عبد البر في كتاب "العلو"، ونقله ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقراه.
وذكر شيخ الإسلام أيضا في "شرح حديث النزول " قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (4) وقوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (5) الآية. ثم قال: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتمد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. ثم ذكر الشيخ ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) قال: هو على العرش، وعلمه معهم. وروي أيضا عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم. وروي أيضا عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (7) إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} (8) قال هو على العرش وعلمه معهم.
(1) سورة النحل الآية 25
(2)
صحيح البخاري التوحيد (7543)، صحيح مسلم الحدود (1699)، سنن أبو داود الحدود (4446)، سنن ابن ماجه الحدود (2556)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 5)، موطأ مالك الحدود (1551)، سنن الدارمي الحدود (2321).
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة الحديد الآية 4
(5)
سورة المجادلة الآية 7
(6)
سورة الحديد الآية 4
(7)
سورة المجادلة الآية 7
(8)
سورة المجادلة الآية 7
وقال أبو عمرو الطلمنكي: وأجمعوا - يعني أهل السنة والجماعة - على أن لله عرشا، وعلى أنه مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه. قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1)، ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء.
قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2)، الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز، انتهى، وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في شرح حديث النزول، وهو في صفحة 519 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى، ونقل بعضه الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
ونقل شيخ الإسلام أيضا عن أبي عمرو الطلمنكي أنه قال: وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من جميع خلقه. وتعالى الله عن قول أهل الزيغ وعما يقول الظالمون علوا كبيرا، انتهى، وهو مذكور في صفحة 501 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى.
وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - قول الأوزاعي في (الفتوى الحموية الكبرى)، ثم قال: وقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين، الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق - حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان، بأن الله فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك، انتهى.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام الأوزاعي في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ثم قال: هذا الأثر يدخل في حكاية مذهبه ومذهب التابعين، انتهى.
وقال الذهبي في كتاب "العلو" قال أبو أحمد الحاكم وأبو بكر النقاش المفسر واللفظ
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة طه الآية 5
له: حدثنا أبو العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة. نعرف ربنا أنه في السماء السابعة على عرشه كما قال جل جلاله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وكذا نقل موسى بن هارون عن قتيبة أنه قال: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، قال الذهبي: فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة، انتهى. وقد نقل ابن القيم كلام قتيبة في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" بمثل ما ذكره الذهبي.
وروى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي بإسناده إلى الحسن بن محمد بن الحارث قال: سئل علي بن المديني - وأنا أسمع- ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية وبالكلام، وأن الله عز وجل فوق السماوات على عرشه استوى. فسئل عن قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2)، فقال: اقرأ ما قبله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (3)، انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أخبرنا أبو بكر المروذي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري، حدثنا أبو داود الخفاف سليمان بن داود قال: قال إسحاق بن راهويه: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي بعد إيراده: اسمع ويحك إلى هذا الإمام كيف نقل الإجماع على هذه المسألة كما نقله في زمانه قتيبة المذكور. انتهى.
وروى الذهبى في كتاب "العلو" بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة - رحمهما الله تعالى - عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان عن ذلك. فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة طه الآية 5
{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1){لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2). انتهى. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ثم قال: وهذان الإمامان إماما أهل الدين، وهما من نظراء أحمد والبخاري - رحمهم الله تعالى -.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب " النقض " على بشر المريسي: قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقال أيضا: إن الله تعالى فوق عرشه، يعلم ويسمع من فوق العرش، لا تخفى عليه خافية من خلقه، ولا يحجبهم عنه شيء. انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب " العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية " عن حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق أنه قال: والماء فوق السماء السابعة، والعرش على الماء، والله على العرش. قال ابن القيم: هذا لفظه في مسائله، وحكاه إجماعا لأهل السنة من سائر أهل الأمصار. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الأجري في كتاب "الشريعة" باب التحذير من مذاهب الحلولية، ثم ذكر عنهم أنهم يحتجون لمذهبهم بقول الله تعالى في سورة المجادلة:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) وبقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (4) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (5) قال: فلبسوا على السامع بما تأولوا، وفسروا القرآن على ما تهوى أنفسهم، فضلوا وأضلوا. قال: والذي يذهب إليه أهل العلم أن الله عز وجل على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلى، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى. يسمع ويرى. لا يعزب عن الله مثقال ذرة في السماوات والأرضين وما بينهن إلا وقد أحاط علمه به. فهو على عرشه - سبحانه - العلي الأعلى، يرفع إليه أعمال العباد، وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار.
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2)
سورة الشورى الآية 11
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة الحديد الآية 3
(5)
سورة الحديد الآية 4
فإن قال قائل: فأي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) الآية التي يحتجون بها.
(1) سورة المجادلة الآية 7
قيل: علمه عز وجل. والله على عرشه، وعلمه محيط بهم وبكل شيء من خلقه. كذا فسره أهل العلم. والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، قال الله عز وجل:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) إلى قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)، فابتدأ عز وجل الآية بالعلم وختمها بالعلم، فعلمه محيط بجميع خلقه، وهو على عرشه، وهذا قول المسلمين.
قال: وفي كتاب الله عز وجل آيات تدل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه محيط بجميع خلقه - وذكر آيات في ذلك وقد ذكرتها فيما تقدم - ثم قال: "باب ذكر السنن التي دلت العقلاء على أن الله عز وجل على عرشه فوق سبع سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وذكر أحاديث كثيرة في ذلك، وقد ذكرتها فيما تقدم، ثم قال: فهذه السنن قد اتفقت معانيها، ويصدق بعضها بعضا، وكلها تدل على ما قلنا أن الله عز وجل على عرشه فوق سماواته، وقد أحاط علمه بكل شيء، وأنه سميع بصير خبير. انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" بعض كلام الآخر مختصرا إلى قوله: وهذا قول المسلمين.
وقال الإمام الزاهد أبو عبد الله بن بطة العابري - شيخ الحنابلة - في كتابه "الإبانة" باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه وعلمه، محيط بجميع خلقه، أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه. فأما قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) فهو كما قالت العلماء. علمه. وأما قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (4) معناه أنه هو الله في السماوات، وهو الله في الأرض إله، وتصديقه في كتاب الله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (5)، واحتج الجهمي بقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (6) فقال: إن الله معنا وفينا، وقد فسر العلماء أن ذلك علمه. غ قال تعالى في آخرها:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7) انتهى.
وقد نقله عنه الذهبي في كتاب "العلو" وقال: ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال: إنه علمه، وهم
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة الحديد الآية 4
(4)
سورة الأنعام الآية 3
(5)
سورة الزخرف الآية 84
(6)
سورة المجادلة الآية 7
(7)
سورة العنكبوت الآية 62
الضحاك والثوري ونعيم بن حماد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وذكر ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني أنه ذكر في كتابه المفرد في السنة تقرير العلو، واستواء الرب - تعالى - على عرشه بذاته أتم تقرير فقال:" فصل " فما عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة، أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته، ثم ذكر جملة من الصفات، ومنها: أنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، ثم ذكر سائر العقيدة وقال في آخرها: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث، وكله قول مالك. انتهى المقصود من كلامه.
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي عبد الله محمد بن أبي زمنين أنه قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه. قال: ومن قول أهل السنة أن الله بائن من خلقه، محتجب عنهم بالحجب. انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى".
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني أنه قال: أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. انتهى.
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي أنه قال في كتاب "الحجة": قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه، وقال أيضا: أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى. قال: فنثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب "الإبانة" ما ملخصه: فإن قيل: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله. بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه
فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (3)، قال: ولو كان في كل مكان، لكان يصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، ونقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقروه.
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة فاطر الآية 10
(3)
سورة الملك الآية 16
وقال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني مصنف "حلية الأولياء في كتاب الاعتقاد" له: طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة، وإجماع الأمة. ومما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت في العرش، واستواء الله عليه، يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، والذهبي في كتاب "العلو" ثم قال: فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد.
ونقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" قوله: طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال: وساق ذكر اعتقادهم، ثم قال: ومما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه. انتهى.
وقال أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني في رسالته في السنة: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته على عرشه كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته. انتهى، وقد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، والذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية " وأقروه.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد" لما تكلم على حديث النزول في صفحة 128 وما بعدها من الجزء السابع، قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش، إلى أن قال: ومن الحجة في أنه
عز وجل على العرش فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
قال: وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) الآية. قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أين ما كانوا، قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. انتهى.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جملة من كلامه، وتقدم ذكرها، وكذلك الذهبي فإنه نقل بعض كلام ابن عبد البر في كتاب " العلو"، ونقله أيضا ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأقره كل منهم.
وفيما ذكره ابن عبد البر من الموحدين أنهم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم، أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، ولو كان الأمر على ما زعمه القائل على الله بغير علم، لكان الرب مع أهل الأرض بذاته، فلا يضطرون إلى رفع رءوسهم إلى السماء عند الكرب ونزول الشدائد، بل يوجهون وجوههم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
وهذا معلوم البطلان بالضرورة عند كل مؤمن يعلم أن الله تعالى فوق جميع المخلوقات، وأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه.
ومن أبلغ الرد أيضا على من زعم أن معية لله لخلقه معية ذاتية، ما ذكر ابن عبد البر عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في تأويل قول الله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) قالوا: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. قال: وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال الشيخ الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد" بعد أن ذكر قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) وقوله:
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة طه الآية 5
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (2)» ، وقوله:«ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك،» وقوله لحصين بن عبيد والد عمران بن حصين: «كم إلها تعبد؟ قال: سبعة. ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين» الحديث، وذكر أيضا حديث الأوعال، وفي آخره: وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك، ثم قال: فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله. انتهى.
وقال الموفق أيضا في كتاب "إثبات صفة العلو": أما بعد، فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عز وجل عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طبائع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون عندها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم سبحانه، وينطقون بذلك بألسنتهم.
لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته. انتهى، وقد نقله ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
(1) سورة الملك الآية 16
(2)
صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537)، سنن النسائي السهو (1218)، سنن أبو داود الصلاة (930)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 447)، سنن الدارمي الصلاة (1502).
فصل
في ذكر الأقوال المأثورة عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أكابر العلماء في إثبات العلو لله تعالى، وفى ضمنها الرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي- واسمه هبة الله بن الحسن الطبري الشافعي، مصنف كتاب "شرح اعتقاد أهل السنة " وهو مجلد ضخم-: سياق ما روي في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وأن الله على عرشه قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (3) وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) فدلت هذه الآيات أنه في السماء، وعلمه بكل مكان.
روي ذلك عن عمرو بن مسعود وابن عباس
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة فاطر الآية 10
(3)
سورة الملك الآية 16
(4)
سورة الأنعام الآية 18
وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان، وبه قال مالك والثوري وأحمد. انتهى، وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، ونقل ابن القيم بعضه في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
وقال الحافظ الحجة أبو نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي السجزي في كتاب "الإنابة" الذي ألفه في السنة: أئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله سبحانه فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" ثم قال: وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري، وأبو العباس الطرقي (1) والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. انتهى.
وقال الذهبي في كتاب "العلو" بعد ما نقل كلام السجزي: هذا الذي نقله عنهم مشهور محفوظ سوى كلمة "بذاته" فإنها من كيسه، نسبها إليهم بالمعنى؛ ليفرق بين العرش وبين ماعداه من الأمكنة. انتهى.
قلت: قد تقدم ما حكاه أبو عمرو الطلمنكي من الإجماع على أن الله تبارك وتعالى فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في "شرح حديث النزول "، وأقره على ذكر الذات. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" قبل كلام السجزي بصحفتين، وأقره على ذكر الذات، فلا وجه إذا لاعتراضه على السجزي.
وقد ذكر هذه الكلمة عدد كثير من كبار العلماء، كما ذكر ذلك الذهبي في كتاب "العلو" بعد ذكره لكلام ابن أبي زيد المالكي، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية عن علماء المالكية أنهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه، وفي هذا مع ما تقدم رد على اعتراض الذهبي على السجزي، وقد بين الذهبي مراد العلماء من ذكر هذه الكلمة، وهو التفريق بين كونه تعالى على العرش، وكونه معنا بالعلم، وعلى هذا فليس ذكر الذات من فضول الكلام، كما سيأتي في كلام الذهبي، الذي تعقب به كلام ابن أبي زيد القيرواني، وإنما هو من الإيضاح والتفريق بين علو الله فوق العرش بذاته، وبين معيته بالعلم مع الخلق.
(1) الطرقي: بفتح الطاء، وسكون الراء المهملة، وبعدها قاف.
قول كعب الأحبار
روى أبو صفوان الأموي بإسناده إلى كعب الأحبار قال: قال الله عز وجل في التوراة: «أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، ولا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض» . وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: رواته ثقات. وقال: ابن القيم رواه أبو الشيخ وابن بطة وغيرهما بإسناد صحيح عن كعب.
وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" بإسناده إلى كعب الأحبار قال: إن الله عز وجل خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل بين كل سماءين كما بين السماء الدنيا والأرض، وجعل كثفها مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه. وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: الإسناد نظيف.
قول مسروق بن الأجدع
روى علي بن الأقمر عن مسروق قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات. ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: إسناده صحيح. وصححه أيضا ابن القيم.
قول قتادة بن دعامة
روى عثمان بن سعيد الدارمي عنه أنه قال: قالت بنو إسرائيل: يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك وغضبك؟ قال: إذا رضيت عنكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت عليكم استعملت عليكم شراركم.
وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: هذا ثابت عن قتادة أحد الحفاظ، وروى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (1) قال: يعبد في السماء، ويعبد في الأرض. وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد بدون إسناد"، ورواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات "، ثم قال: وفي معنى هذه الآية قول الله عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2).
(1) سورة الزخرف الآية 84
(2)
سورة الأنعام الآية 3
قول الضحاك بن مزاحم
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وأبو داود في كتاب " المسائل " بإسناد حسن عن الضحاك في قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) قال: هو على العرش وعلمه معهم. وقد رواه ابن جرير في تفسيره، ولفظه قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا. ورواه الآجري في كتاب "الشريعة"، والبيهيقي في كتاب "الأسماء والصفات"، والقاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة "، وقال بعد إيراده: قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - هذه السنة.
وذكره ابن عبد البر في التمهيد فقال: ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) الآية. قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أين ما كانوا، قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، قال: وفي لفظ "هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا "، أخرجه أبو أحمد العسال، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عمر بن عبد البر بإسناد جيد.
قول مقاتل بن حيان
ذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن مقاتل أنه قال في قوله الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) قال: هو على العرش، وهو معهم بعلمه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن ابن أبي حاتم.
وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بإسناده إلى مقاتل بن حيان قال: بلغنا - والله أعلم - في قول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ} (4) قبل كل شيء، {وَالْآخِرُ} (5) بعد كل شيء، {وَالظَّاهِرُ} (6) فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} (7) أقرب من كل شيء. وإنما يعني بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (8)، ثم ذكر كلامه على الآية التي بعدها إلى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (9) يعني قدرته وسلطانه وعلمه معكم أين ما كنتم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (10) وبالإسناد عن مقاتل بن
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة الحديد الآية 4
(4)
سورة الحديد الآية 3
(5)
سورة الحديد الآية 3
(6)
سورة الحديد الآية 3
(7)
سورة الحديد الآية 3
(8)
سورة الحديد الآية 3
(9)
سورة الحديد الآية 4
(10)
سورة الحديد الآية 4
حيان قال: قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ} (1) يقول: علمه وذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) فيعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، هو فوق عرشه، وعلمه معهم. وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" بعض ما رواه البيهقي عن مقاتل بن حيان، ثم قال مقاتل: هذا ثقة إمام معاصر للأوزاعي ما هو بابن سليمان، ذاك مبتدع ليس بثقة.
قول مالك بن دينار
روى أبو نعيم في "الحلية" عنه أنه كان يقول: خذوا، فيقرأ ثم يقول: اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه. قال الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": إسناده صحيح.
قول الإمام أبي عمرو الأوزاعي
قد تقدم ما رواه البيهقي عنه أنه قال: كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا. وقال الذهبي في كتاب "العلو": روى أبو إسحاق الثعلبي قال: سئل الأوزاعي عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) قال: هو على عرشه كما وصف نفسه.
قول الإمام أبي حنيفة
روى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" بإسناده إلى نعيم بن حماد، قال: سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر؛ إذ جاءته امرأة من ترمقا، كانت تجالس جهما، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيته عليها عشرة آلاف من الناس، تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن هاهنا رجلا قد نظر في المعقول، يقال له: أبو حنيفة، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إليها وقد وضع كتابا: الله تبارك وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (4)؟ قال: هو كما تكتب إلى الرجل إني معك وأنت غائب عنه.
قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عز وجل، ومن الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة الأعراف الآية 54
(4)
سورة الحديد الآية 4
الآية، وتبع مطلق السمع في قوله: إن الله عز وجل في السماء. وقد رواه الذهبي في كتاب "العلو" عن طريق البيهقي.
وقال أبو مطيع البلخي في كتاب "الفقه الأكبر" المشهور: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن الله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وعرشه فوق سبع سماواته. فقلت: إنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء كفر؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية"، والحافظ الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
(1) سورة طه الآية 5
قول سفيان الثوري
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن معدان الذي قال فيه ابن المبارك: إن كان بخراسان أحد من الأبدال فمعدان. قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) قال: علمه.
وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" إلا أنه قال في الإسناد عن خالد بن معدان: وهذا وهم؛ لأن خالد بن معدان من الطبقة الثالثة، وسفيان الثوري من الطبقة السابعة، فلا يصح أن يقال: إن خالد بن معدان روى عن سفيان الثوري الذي هو أنزل منه بأربع طبقات، ولعل هذا الوهم وقع من بعض النساخ، والله أعلم. ورواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بمثله.
قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة
روى أبو داود في كتاب "المسائل " وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من طريق أبي داود، ومن طريق الفضل بن زياد، كلاهما عن الإمام أحمد بن حنبل قال: حدثني سريج بن النعمان قال: حدثنا عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، علمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان.
وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أبيه، وزاد بعد قوله وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء، وتلا هذه الآية:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (2) وذكر
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة المجادلة الآية 7
شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: في السماء، وعلمه في كل مكان، حتى ذكر ذلك مكي خطيب قرطبة في كتاب "التفسير" الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عمرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد. ونقله أيضا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم، مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والأثرم، والخلال، والآجري، وابن بطة، وطوائف غير هؤلاء من المصنفين في السنة- إلى أن قال- وكلام أئمة المالكية، وقد مائهم في الإثبات كثير مشهور، حتى علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه. انتهى.
قول أصبغ صاحب مالك
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: إن الله مستو على عرشه، وبكل مكان علمه وإحاطته. قال ابن القيم: وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم.
قول عبد الله بن المبارك
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " عن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا- وأشار إلى الأرض-، وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" فقال: روى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك فذكره بنحوه، ثم قال: وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
وذكره شيخ الإسلام أيضا في موضع آخر من الفتاوى، ثم قال: هذا مشهور عن ابن المبارك، ثابت عنه من غير وجه، وهو أيضا صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة. انتهى. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" وقال بعده: فقيل: هذا لأحمد بن حنبل. فقال: هكذا هو عندنا.
ورواه الذهبي بإسناده إلى علي بن الحسن قال: سألت ابن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟ قال: على السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض.
وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " ما رواه
الأثرم عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه. فقال أحمد: هكذا هو عندنا. وقال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد": وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سماواته على عرشه.
قول أبي عصمة نوح بن أبي مريم
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" حدثني أحمد بن سعيد الدارمي، «سمعت أبا عصمة وسأله رجل عن الله في السماء هو؟ فحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الأمة أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (1)»، قال: سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنة؛ أن عرفت أن الله في السماء.
قول علي بن عاصم محدث واسط، وشيخ الإمام أحمد
ذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية " عن يحيى بن علي بن عاصم قال:
كنت عند أبي فاستأذن عليه المريسي، فقلت له: يا أبت مثل هذا يدخل عليك؟ فقال: وما له؟ قلت: إنه يقول: إن القرآن مخلوق. ويزعم أن الله معه في الأرض- وكلاما ذكرته-، فما رأيته اشتد عليه مثل ما اشتد عليه قوله: إن القرآن مخلوق. وقوله: إن الله معه في الأرض. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية ".
قول سعيد بن عامر الضبعي عالم البصرة
قال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد": وقال سعيد بن عامر: الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، فقد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء.
وقال الذهبي في كتاب "العلو": قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذكر الجهمية فقال: هم شر قولا من اليهود والنصارى. قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله عز وجل على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537)، سنن النسائي السهو (1218)، سنن أبو داود الصلاة (930)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 447)، سنن الدارمي الصلاة (1502).
شيء. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن كتاب "السنة" لابن أبي حاتم.
قول يزيد بن هارون
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني عباس العنبري، حدثنا شاذ بن يحيى، سمعت يزيد بن هارون، وقيل له: من الجهمية؟ قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما في قلوب العامة فهو جهمي.
وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: والذي يقر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجهها إلى ربها تعالى عند النوازل والشدائد، والدعاء والرغبات إليه تعالى، نحو العلو لا تلتفت يمنة ولا يسرة من غير موقف وقفهم عليه، ولكن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، حتى يجهمه وينقله إلى التعطيل من يقيض له. انتهى. وقد نقله عنه ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي، وقد تقدم عن يزيد بن هارون مثله.
قول عبد الله بن أبي جعفر الرازي
قال الذهبي في كتاب "العلو": قال محمد بن يحيى الذهلي: أخبرني صالح بن الضريس قال: جعل عبد الله يضرب رأس قرابة له يرى رأي جهم، فرأيته يضرب بالنعل على رأسه ويقول: لا حتى تقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) بائن من خلقه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن كتاب "الرد على الجهمية " لابن أبي حاتم.
(1) سورة طه الآية 5
قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي
قال الذهبي في كتاب "العلو": روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.
وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" من رواية عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي شعيب وأبي ثور عن الشافعي - رحمه الله تعالى -. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء، وجمع عليه قلوب عباده. انتهى.
قول عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى: ومن أصحاب الشافعي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي له كتاب "الرد على الجهمية "، وقرر فيه مسألة العلو، وأن الله تعالى فوق عرشه، والأئمة في الحديث والفقه والسنة والتصوف المائلون إلى الشافعي ما من أحد منهم إلا له كلام فيما يتعلق بهذا الباب، ما هو معروف يطول ذكره. انتهى.
قول هشام بن عبيد الله الرازي عالم الري
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى": روى ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري - حبس رجلا في التهجم، فتاب فجيء به إلى هشام؛ ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وقد ذكره الذهبي في كتاب "لعلو" بنحوه.
قول محمد بن مصعب العابد
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عنه أنه قال: من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة، فهو كافر بوجهك، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سماوات، ليس كما يقول أعداء الله الزنادقة.
قول سنيد بن داود المصيصي الحافظ
قال الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": قال أبو حاتم الرازي: حدثنا أبو عمران الطرسوسي قال: قلت لسنيد بن داود: هو عز وجل على عرشه، بائن من خلقه؟ قال: نعم.
قول عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.
قول نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (2) قال: معناه إنه لا يخفى عليه خافية، بعلمه. ألا ترى إلى قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) الآية. أراد أنه لا تخفى عليه خافية.
قول بشر بن الوليد وأبي يوسف
قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": روى ابن أبي حاتم قال: جاء بشر بن الوليد إلى أبي يوسف فقال له: تنهاني عن كلام بشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون. فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان. فبعث أبو يوسف وقال: علي بهم. فانتهوا إليهم وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول، والشيخ الآخر، فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك، وأمر به إلى الحبس، فضرب علي الأحول وطيف به.
وقد استتاب أبو يوسف بشر المريسي لما أنكر أن الله فوق عرشه، وهي
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة الحديد الآية 4
(3)
سورة المجادلة الآية 7
قصة مشهورة ذكرها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا. وقد ذكر الطحاوي في اعتقاد أبي حنيفة وصاحبيه ما يوافق هذا، وأنهم من أبر الناس من التعطيل والتجهم. انتهى باختصار.
قول بشر الحافي الزاهد
قال الذهبي في كتاب "العلو": له عقيدة رواها ابن بطة في كتاب "الإبانة" وغيره، فمما فيها: والإيمان بأن الله على عرشه استوى كما شاء، وأنه عالم بكل مكان.
قول أحمد بن نصر الخزاعي
قال الذهبي في كتاب "العلو": قال إبراهيم الحربي فيما صح عنه: قال أحمد بن نصر، وسئل عن علم الله فقال: علم الله معنا، وهو على عرشه.
قول قتيبة بن سعيد
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه قال: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه. وقد نقل إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، فليراجع.
قول علي ابن المديني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله عز وجل فوق السماوات على عرشه استوى، فسئل عن قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) فقال: اقرأ ما قبله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (2)
قول خالد بن سليمان أبي معاذ البلخي
قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": روى ابن أبي حاتم عنه بإسناده أنه قال: إن الله في السماء على العرش كما وصف نفسه.
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
قول الإمام أحمد بن محمد بن حنبل
قد تقدم في أول حكاية الإجماع على خلاف ما زعمه المردود عليه ما جاء في العقيدة
التي رواها أبو العباس الإصطخري عن الإمام أحمد في إثبات علو الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة، وأنه بائن من خلقه، وأنه مع الخلق بعلمه، لا يخلو من علمه مكان. فليراجع كلامه فإنه مهم جدا.
وتقدم أيضا عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وقال الذهبي: قيل: هذا لأحمد بن حنبل. فقال: هكذا هو عندنا.
وروى القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " عن يوسف بن موسى القطان قال: قيل لأبي عبد الله: والله تعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم على عرشه، ولا يخلو شيء من علمه. وذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن أبي طالب أحمد بن حميد قال: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله معنا، وتلا:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) فقال: قد تجهم هذا؛ يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها. هلا قرأت عليه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (2) فعلمه معهم، وقال في سورة (ق):{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (3)، فعلمه معهم. قلت: ما زعمه القائل بأن معية الله لخلقه معية ذاتية مطابق لقول الرجل الذي قال فيه الإمام أحمد: أنه قد تجهم.
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا قال: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية. بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه علمه. رواه ابن بطة في كتاب (الإبانة) عن عمر بن محمد بن رجاء عن محمد بن رجاء عن محمد بن داود عن المروذي.
قلت: ليتأمل المبتلى بمخالفة أهل السنة والجماعة كلام الإمام أحمد حق التأمل؛ حتى يعرف من كان يقول بالمعية الذاتية من أهل البدع والضلال، وأنهم شر أهل البدع.
وقال حنبل بن إسحاق في كتاب (السنة): قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (5) و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (6) إلى قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (7)؟ قال: علمه. عالم الغيب والشهادة، محيط بكل
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة ق الآية 16
(4)
سورة المجادلة الآية 7
(5)
سورة الحديد الآية 4
(6)
سورة المجادلة الآية 7
(7)
سورة المجادلة الآية 7
شيء، شاهد علام الغيوب، يعلم ربنا على العرش بلا حد ولا صفة وسع كرسيه السماوات والأرض. انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في (شرح حديث النزول).
وقال الشريك أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى في عقيدة له ذكرها القاضي أبو الحسين "في طبقات الحنابلة ": سئل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل عن قوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) فقال: علمه.
وذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية " أنهم قالوا: إن الله تحت الأرض السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلوا آية من القرآن:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (2) فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء، أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير والوحوش، والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء. وقد أخبرنا أنه في السماء، ثم ذكر أحمد الأدلة من القرآن على أن الله تعالى في السماء، وقال بعد ذلك: وإنما معنى قول الله - جل ثناؤه -: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (3) يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4).
وقال الإمام أحمد أيضا: "بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (5) قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: الله - جل ثناؤه - يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (6)، ثم قال:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (7) يعني الله بعلمه، {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (8) يعني الله بعلمه، {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ} (9) يعني بعلمه فيهم، {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (10)
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة الأنعام الآية 3
(3)
سورة الأنعام الآية 3
(4)
سورة الطلاق الآية 12
(5)
سورة المجادلة الآية 7
(6)
سورة المجادلة الآية 7
(7)
سورة المجادلة الآية 7
(8)
سورة المجادلة الآية 7
(9)
سورة المجادلة الآية 7
(10)
سورة المجادلة الآية 7
يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه.
وقال الإمام أحمد أيضا: بيان ما ذكر الله في القرآن {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) وهذا على وجوه، قال الله - جل ثناؤه - لموسى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا} (2)، يقول: في الدفع عنكما. وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (3) يقول: في الدفع عنا. وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4)، يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (5)، في النصر لكم على عدوكم. وقال:{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (6)، يقول: بعلمه فيهم. وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (7){قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (8)، يقول: في العون على فرعون. ثم ذكر الإمام أحمد بعد هذا التفصيل أن الحجة ظهرت على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه. انتهى.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة طه الآية 46
(3)
سورة التوبة الآية 40
(4)
سورة البقرة الآية 249
(5)
سورة محمد الآية 35
(6)
سورة النساء الآية 108
(7)
سورة الشعراء الآية 61
(8)
سورة الشعراء الآية 62
قول إسحاق بن راهوية
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة.
قول المزني صاحب الشافعي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: الحمد لله الواحد الصمد، ليس له صاحبة ولا ولد، عال على عرشه، دان بعلمه
من خلقه، وقال أيضا: عال على عرشه، بائن عن خلقه.
وروى الذهبي بإسناده إلى محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت المزني يقول: لا يصح لأحد توحيد حتى يعلم أن الله على العرش بصفاته. قلت: مثل أي شيء؟ قال: سميع بصير عليم قدير.
قول محمد بن يحيى الذهلي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحاكم أنه قال: قرأت بخطابي عمرو المستملي، سئل محمد بن يحيي عن حديث عبد الله بن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ليعلم العبد أن الله معه حيث كان» . فقال. يريد إن الله علمه محيط بكل مكان، والله على العرش.
قول الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
قال: في كتاب التوحيد من صحيحه باب قول الله عز وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (1)، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، فسواهن: خلقهن. وقال مجاهد: استوى: علا على العرش، ثم ساق حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. وقال أيضا: باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) وقوله - جل ذكره -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (4) وقد ذكر في هذا الباب عدة أحاديث في إثبات صفة الفوقية لله تعالى، وعلوه على خلقه.
قول أبي زرعة الرازي
قد ذكرت فيما تقدم ما رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علما، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وذكر الذهبي في كتاب (العلو) ما رواه أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده إلى محمد بن
(1) سورة هود الآية 7
(2)
سورة التوبة الآية 129
(3)
سورة المعارج الآية 4
(4)
سورة فاطر الآية 10
إبراهيم الأصفهاني، سمعت أبا زرعة الرازي، وسئل عن تفسير:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ. هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله. وقد ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتاوى الحموية الكبرى"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية).
قول أبي حاتم الرازي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحافظ أبي القاسم الطبري قال: وجدت في كتاب أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي مما سمع منه يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر، مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد - رحمهم الله تعالى -، ولزوم الكتاب والسنة، ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقد ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" قوله: ونعتقد إلى آخره.
قول يحيى بن معاذ الرازي الواعظ
روى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده إلى يحيى بن معاذ أنه قال: إن الله على العرش، بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، والذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية).
قول الإمام محمد بن أسلم الطوسي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحاكم أنه قال في ترجمته: حدثنا يحيى العنبري، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا محمد بن أسلم قال: قال لي عبد الله بن طاهر: بلغني أنك لا ترفع رأسك إلى السماء. فقلت: ولم؟ وهل أرجو الخير إلا ممن هو في السماء.
قول عبد الوهاب الوراق
قال الذهبي في كتاب "العلو" حدث عبد الوهاب بن عبد الحكيم الوراق بقول ابن
(1) سورة طه الآية 5
عباس رضي الله عنهما: ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك، ثم قال عبد الوهاب: من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله عز وجل فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، وقد نقل ابن القيم كلام عبد الوهاب في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية) وقال: صح ذلك عنه، حكاه عنه محمد بن عثمان في رسالته في الفوقية، وقال: ثقة حافظ روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي. انتهى. ومحمد بن عثمان الذي ذكره ابن القيم هو الحافظ الذهبي.
قول حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق
قد ذكرت فيما تقدم أنه حكى إجماع أهل السنة من سائر أهل الأمصار، أن الماء فوق السماء السابعة، والعرش على الماء، والله على العرش.
قول عثمان بن سعيد الدارمي حافظ أهل المشرق
قال في كتابه "النقض على بشر المريسي ": قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه، فوق سماواته، لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة؛ ليفصل بين عباده، ويحاسبهم ويثيبهم، وتشقق السماوات يومئذ لنزوله، وتنزل الملائكة تنزيلا، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات؛ إنما هو أمره وعذابه. فقوله:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (1)، إنما هو أمره وعذابه.
وقال أيضا في كتاب "النقض ": علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض.
قال أيضا في كتاب (النقض): وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله سبحانه في السماء، وعرفوه بذلك إلا المريسي وأصحابه. وقال في «قول النبي صلى الله عليه وسلم للأمة: أين الله؟ (2)» تكذيب لمن يقول: هو في كل مكان إلى أن قال: والله فوق سماواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبده. انتهى المقصود من كلامه.
وقد نقله ابن القيم في
(1) سورة النحل الآية 26
(2)
صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537)، سنن النسائي السهو (1218)، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3282)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 447)، سنن الدارمي الصلاة (1502).
كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأثنى على كتاب الدارمي في الرد على الجهمية، وعلى كتابه في "النقض " على " بشر المريسي " وقال: إنهما من أجل الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، قال: وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، قال: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جدا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
قول عبد الله بن مسلم بن قتيبة
قال في كتابه "تأويل مختلف الحديث": نحن نقول في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) إنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول للرجل: وجهته إلى بلد شاسع، ووكلته بأمر من أمورك، احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك. تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك، أو جدك للإشراف عليك والبحث عن أمورك.
وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3)؟ وكيف يصعد إليه شيء هو معه، أو يرفع إليه عمل وهو عنده؟ قال: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه؛ لعلموا أن الله تعالى هو العلي، وهو الأعلى، وهو بالمكان الرفيع، وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترفع بالدعاء إليه. قال: والأمم كلها عربيها وعجميها تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم.
قال: وأما قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (4) فليس في ذلك ما يدل على الحلول بهما، وإنما أراد أنه إله السماء وإله من فيها، وإله الأرض وإله من فيها. وكذلك قوله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5)، لا يريد أنه معهما بالحلول، ولكن بالنصرة والتوفيق والحياطة. انتهى المقصود من كلامه ملخصا.
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة طه الآية 5
(3)
سورة فاطر الآية 10
(4)
سورة الزخرف الآية 84
(5)
سورة النحل الآية 128
قول أبي عيسى الترمذي
ذكر في تفسير سورة الحديد من جامعه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا في بعد ما بين السماء والأرض، وما بين كل سمائين، وأن العرش فوق السماوات وبينه، وبين السماء بعد ما بين كل سمائين، ثم ذكر بعد ما بين الأرضين السبع، ثم قال:«والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثم قرأ: (2)» . قال الترمذي: حديث غريب. وقال الذهبي: هو خبر منكر. انتهى.
قلت: وهو من رواية الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال الترمذي بعد إيراده: يروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف في كتابه. انتهى.
قول محمد بن عثمان بن أبي شيبة
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" أنه ألف كتابا في "العرش" فقال: ذكروا أن الجهمية يقولون: ليس بين الله وبين خلقه حجاب، وأنكروا العرش، وأن يكون الله فوقه، وقالوا: إنه في كل مكان. ففسرت العلماء: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) يعني علمه. ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه، فهو فوق العرش، بائن من خلقه.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في القاعدة المراكشية: "ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه "الوصول إلى معرفة الأصول" أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه. قال: وكذلك ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة - حافظ الكوفة - في طبقة البخاري ونحوه. ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة.
قول زكريا الساجي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي عبد الله بن بطة العكبري قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال: قال أبى: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذي لقيناهم: إن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء.
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3298)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 370).
(2)
سورة الحديد الآية 3 (1){هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(3)
سورة الحديد الآية 4
قول محمد بن جرير الطبري
قال في تفسير قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) يقول: وهو مشاهد لكم أيها الناس أين ما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع. وقال في تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) يسمع سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) يقول: في أي موضع ومكان كانوا. وعنى بقوله: {هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه.
ثم روى بإسناده إلى الضحاك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (5) إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ} (6) قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا. وقال في تفسير قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (7) يقول تعالى ذكره: والله الذي له الألوهية في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم روى بإسناده عن قتادة في قوله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (8) قال: يعبد في السماء ويعبد في الأرض.
قول حماد البوشنجي الحافظ
روى شيخ الإسلام الهروي بإسناده إلى حماد بن هناد البوشنجي قال: هذا ما رأينا عليه أهل الأمصار، وما دلت عليه مذاهبهم فيه، وإيضاح منهاج العلماء وصفة السنة وأهلها: إن الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وسلطانه وقدرته بكل مكان. انتهى. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه "معرفة علوم الحديث ": سمعت محمد بن صالح بن هانيء يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر بربه، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة المجادلة الآية 7
(5)
سورة المجادلة الآية 7
(6)
سورة المجادلة الآية 7
(7)
سورة الزخرف الآية 84
(8)
سورة الزخرف الآية 84
جيفته، وكان ماله فيئا، لا يرثه أحد من المسلمين؛ إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" ما رواه الشيخ الأنصاري بإسناده إلى ابن خزيمة أنه قال: نحن نؤمن بخبر الله سبحانه، أن خالقنا مستو على عرشه. وقال في كتاب "التوحيد" باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه وكان فوقه فوق كل شيء عاليا، ثم ساق الأدلة على ذلك من القرآن والسنة، ثم قال:"باب الدليل على أن الإقرار بأن الله فوق السماء من الإيمان " وذكر فيه حديث الجارية.
قول الإمام الطحاوي
قال في عقيدته المشهورة "ذكر بيان السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن " نقول في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه. انتهى المقصود من كلامه.
قول الحسن بن علي بن خلف البربهاري
ذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " أن البربهاري قال في "شرح كتاب السنة": ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بين رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه، وهو جل ثناؤه واحد، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان. انتهى المقصود من كلامه.
قول أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في "كتاب السنة": له باب ما جاء في استواء الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك.
(1) سورة الشورى الآية 11
قول أبي الحسن الأشعري
قال في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ": جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، إلى أن قال: وإن الله سبحانه على عرشه كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ثم قال بعد إيراد أقوال أصحاب الحديث والسنة: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب.
وقال في كتاب "الإبانة عن أصول الديانة": إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) واستدل بآيات من القرآن على علو الرب فوق السماوات، ومنها قول الله عز وجل:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (3) ثم قال: فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (4)؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5) يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، إلى أن قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم - إذا دعوا - نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. انتهى.
قول أبي بكر محمد بن الحسين الآجري
قد ذكرت كلامه في ذلك مع أقوال الذين نقلوا الإجماع على أن الله تعالى فوق العرش، وعلمه محيط بكل شيء من خلقه. وقد ذكر أن هذا قول المسلمين.
وقال في كتاب "الشريعة": قال جل ذكره: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (6) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح دعاءه يقول: «سبحان ربي الأعلى الوهاب (7)» . وكان جماعة من الصحابة إذا قرءوا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (8) قالوا: سبحان ربنا الأعلى، منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا في السجود: (سبحان ربي الأعلى ثلاثا)، وهذا كله يقوي ما قلنا: إن الله عز وجل العلي الأعلى، عرشه فوق السماوات العلا، وعلمه محيط بكل شيء خلاف ما قالته
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة طه الآية 5
(3)
سورة الملك الآية 16
(4)
سورة الملك الآية 16
(5)
سورة الملك الآية 16
(6)
سورة الأعلى الآية 1
(7)
مسند أحمد بن حنبل (4/ 54).
(8)
سورة الأعلى الآية 1
الحلولية. نعوذ بالله من سوء مذهبهم.
وقال أيضا: وما يحتج به الحلولية مما يلبسون به على من لا علم معه قول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (1) وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول قبل كل شيء من حياة وموت، والآخر بعد كل شيء بعد الخلق، وهو الظاهر فوق كل شيء، يعني ما في السماوات، وهو الباطن دون كل شيء، يعلم ما تحت الأرضين، دل على هذا آخر الآية:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) كذا فسره مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، وبينت ذلك السنة، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (3)» . قال: ومما يلبسون به على من لا علم معه قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (4) وبقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (5) وهذا كله إنما يطلبون به الفتنة، كما قال الله عز وجل:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (6)، وعند أهل العلم من أهل الحق:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (7) هو كما قال أهل الحق: يعلم سركم.
مما جاءت به السنن أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون. وقوله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (8) فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السماوات، وإله من في الأرض، هو الإله يعبد في السماوات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء. ثم روى بإسناده عن قتادة في قول الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (9) قال: هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض، انتهى.
قول الحافظ أبي الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "العظمة": ذكر عرش الرب تبارك وتعالى وكرسيه، وعظمة خلقهما، وعلو الرب جل جلاله فوق عرشه. ثم ساق جملة من الأحاديث في ذلك.
(1) سورة الحديد الآية 3
(2)
سورة الحديد الآية 3
(3)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، سنن الترمذي الدعوات (3481)، سنن أبو داود الأدب (5051)، سنن ابن ماجه الدعاء (3831)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 404).
(4)
سورة الأنعام الآية 3
(5)
سورة الزخرف الآية 84
(6)
سورة آل عمران الآية 7
(7)
سورة الأنعام الآية 3
(8)
سورة الزخرف الآية 84
(9)
سورة الزخرف الآية 84
قول أبي الحسن ابن مهدي تلميذ الأشعري
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" أنه قال في كتاب "مشكل الآيات" له: اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته. يدل على أنه في السماء عال على عرشه قوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (1) وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (2) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (3) وقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (4) قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5)؟ قيل: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (6) بمعنى على الأرض. وقيل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (7) فكذلك {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (8). انتهى المقصود من كلامه ملخصا.
قول ابن بطة العكبري
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الصحابة والتابعين: أن الله على عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه، وذكرت أيضا كلامه على معنى قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ} (9) وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (10) وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (11)، وفيه الرد على من قال: إن الله معنا وفينا. فليراجع كلامه.
قول أبي محمد بن أبي زيد القيرواني شيخ المالكية
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الأمة على أن الله تعالى فوق سماواته، على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، ثم ذكر أن هذا قول السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث.
وقال في مقدمة رسالته المشهورة "باب ما تنطق به الألسنة، وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات" من ذلك الإيمان بالقلب، والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو بكل مكان بعلمه. انتهى المقصود من كلامه.
وقد نقله ابن
(1) سورة الملك الآية 16
(2)
سورة آل عمران الآية 55
(3)
سورة فاطر الآية 10
(4)
سورة السجدة الآية 5
(5)
سورة الملك الآية 16
(6)
سورة التوبة الآية 2
(7)
سورة طه الآية 71
(8)
سورة الملك الآية 16
(9)
سورة الحديد الآية 4
(10)
سورة الأنعام الآية 3
(11)
سورة المجادلة الآية 7
القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأقره قال: وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه. ونقل عنه أيضا أنه قال في "مختصر المدونة": وأنه تعالى: فوق عرشه بذاته، فوق سبع سماواته دون أرضه. انتهى.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" قول ابن أبي زيد: إن الله تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه. وقال أيضا: صرح ابن أبي زيد في "المختصر" بأن الله في سمائه دون أرضه. قال شيخ الإسلام أبو العباس: هذا لفظه. قال: والذي قاله ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة من جميع الطوائف. انتهى.
ونقل الذهبي في كتاب "العلو" قول ابن أبي زيد: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، ثم قال: وقد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وكذلك أطلقها يحيى بن عمار - واعظ سجستان - في رسالته، والحافظ أبو نصر الوائلي السجزي في كتاب "الإبانة" له فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك والحمادين، وابن عيينة وابن المبارك، والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان، وكذا أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري فإنه قال: وفي أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش بنفسه. وكذا قال أبو الحسن الكرجي الشافعي في تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته
…
على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث. وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، والشيخ عبد القادر الجيلي، والمفتي عبد العزيز القحيطي وطائفة.
والله تعالى خالق كل شيء بذاته، ومدبر الخلائق بذاته، بلا معين ولا مؤازر، وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا، وبين كونه تعالى فوق العرش، فهو كما قال: ومعنا بالعلم، وأنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء، كما قدمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام. انتهى كلام
(1) سورة طه الآية 5
الذهبي.
وقد ذكرت بعد تعقيبه على ذكر الذات في كلام أبي نصر السجزي أن ذكر الذات ليس من فضول الكلام، وإنما هو من الإيضاح والتفريق بين علو الله تعالى فوق عرشه بذاته، وبين معيته بالعلم مع الخلق.
قول أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على خلاف من قال: إن الله في كل مكان، وعلى تخطئة قائل ذلك، وذكرت أيضا قوله في إثبات استواء الله على عرشه، وما استدل به من الآيات. فليراجع كلامه.
قول الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله مستو على عرشه في سمائه دون أرضه، وأنه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم.
قول معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" عنه أنه قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة. وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين. قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وإنه عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق. انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب (العلو)، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي
نقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه ذكا حديث النزول ثم قال: في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش، فوق سبع سماوات، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن، وذكر قول مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان، إلى أن قال: ومن الحجة أيضا في أن الله
- سبحانه وتعالى على العرش فوق السماوات السبع أن الموجودين أجمعين إذا كربهم أمر؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم، «وقوله صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها أن يعتقها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (1)». فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء. ودل على ما قدمناه أنه على العرش، والعرش فوق السماوات السبع. انتهى.
قول أبي عبد الله محمد بن أبي نعيس المالكي المشهور بابن أبي زمنين
نقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة "باب الإيمان بالعرش": ومن قول أهل السنة: إن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) إلى أن قال: ومن قول أهل السنة: إن الله بائن من خلقه متحجب عنهم بالحجب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وذكر حديث النزول ثم قال: وهذا الحديث يبين أن الله تعالى على عرشه في السماء دون الأرض. انتهى، وقد ذكرت بعض كلامه مع أقوال الذين نقلوا إجماع أهل السنة على أن الله تعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى جملة من أول كلامه، وذكر عنه أنه قال: فسبحان من بعد فلا يرى، وقرب بعلمه وقدرته.
قول القاضي عبد الوهاب المالكي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه صرح بأن الله سبحانه استوى على عرشه بذاته. نقله شيخ الإسلام عنه في غير موضع من كتبه، ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى.
قول الإمام أبي أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في عقيدته: وإنه سبحانه مستو على عرشه، وفوق جميع خلقه، كما أخبر في كتابه وعلى ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم من غير تشبيه ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل.
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537)، سنن النسائي السهو (1218)، سنن أبو داود الصلاة (930)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 447)، سنن الدارمي الصلاة (1502).
(2)
سورة طه الآية 5
قول الحافظ أبي القاسم اللالكائي
قد ذكر كلامه في أول الفصل، وإنما قدمته من أجل ما ذكر فيه عن عمر وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان، ومن الأئمة: مالك والثوري وأحمد. فكل هؤلاء يقولون: إن الله على عرشه، وعلمه بكل مكان. وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قول يحيى بن عمار السجستاني الواعظ
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية"، والذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في رسالته: لا نقول كما قالت الجهمية: أنه تعالى مداخل للأمكنة، وممازج بكل شيء، ولا نعلم أين هو. بل نقول: هو بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل شيء، وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وذلك معنى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقد ذكر ابن القيم بعض هذا الكلام في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول القادر بالله أمير المؤمنين
قال الذهبي في كتاب "العلو": له معتقد مشهور قرئ ببغداد بمشهد من علمائها وأئمتها، وأنه قول أهل السنة والجماعة، وفيه أشياء حسنة، من ذلك: وأنه خلق العرش لا لحاجة، واستوى عليه كيف شاء.
قول أبي عمرو الطلمنكي
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه. وأن معنى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وأن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" عن أبي عمرو الطلمنكي أنه ذكر في كتابه الذي سماه "الوصول إلى معرفة الأصول" عن أهل السنة والجماعة، أنهم متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه.
قال شيخ الإسلام: وكذلك ذكر محمد بن عثمان بن أبي شيبة - حافظ الكوفة - في طبقة البخاري ونحوه. ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة الحديد الآية 4
السجستاني الإمام في رسالته المشهورة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب (الإبانة) له، وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري وأبو العباس الطرقي، والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. انتهى. وقد تقدم ذكر آخره بعد كلام السجزي في أول الفصل.
قول أبي عثمان الصابوني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل عن أصحاب الحديث أنهم يعتقدون ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته، على عرشه كما نطق به كتابه. وأن علماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته.
قول أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي الفقيه المحدث، من أئمة
أصحاب الشافعي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: في كتابه في أصول الدين: ومن صفاته تبارك وتعالى: فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن إلى أن قال: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا في أن الله سبحانه مستو على عرشه، وعرشه فوق سبع سماواته، ثم ذكر كلام عبد الله بن المبارك: ونعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وساق قول ابن خزيمة من لم يقر بأن الله تعالى فوق عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر، ثم ذكر حديث الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء - تعني إنك رسول الله الذي في السماء- فقال: أعتقها فإنها مؤمنة (1)» فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها، لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. انتهى.
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537)، سنن النسائي السهو (1218)، سنن أبو داود الصلاة (930)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 447)، سنن الدارمي الصلاة (1502).
قول الإمام أبي بكر محمد بن محمود ابن سورة التميمي فقيه نيسابور
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" ما رواه الحافظ عبد القاهر الرهاوي عنه أنه قال: لا أصلي خلف من لا يقر بأن الله تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه.
قول أبي نصر السجزي
قد ذكرت كلامه في أول الفصل، وما نقله عن الثوري ومالك والحمادين، وسفيان بن عيينة والفضيل، وابن المبارك وأحمد وإسحاق أنهم متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وإنما قدمت كلامه في أول الفصل؛ من أجل ما نقله عن هؤلاء الأئمة من الاتفاق على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان. وفي هذا الاتفاق رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قول إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "الحجة""باب في بيان استواء الله على عرشه": قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وذكر آيات، ثم قال: قال أهل السنة: الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه، ومن الدليل على ذلك أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم، ويدعونه ويرفعون إليه رءوسهم وأبصارهم - ثم قال:"فصل في بيان أن العرش فوق السماوات، وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش" - إلى أن قال: قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه.
وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان، إلى أن قال: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، إلى أن قال: وزعم هؤلاء- يعني المعتزلة - أنه لا تجوز الإشارة إلى الله سبحانه بالرءوس والأصابع إلى فوق، فإن ذلك يوجب التحديد. وقد أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة لا علو الذات، وعند المسلمين أن لله عز وجل علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح، فنثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.
وفي منعهم الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى من جهة الفوق خلاف منهم لسائر الملل؛ لأن جماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله - سبحانه
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة المجادلة الآية 7
وتعالى - من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة. ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق. انتهى المقصود من كلامه.
قول أبي عمر ابن عبد البر
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الصحابة والتابعين على القول بأن الله تعالى على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكرت له أيضا كلاما حسنا على حديث النزول، فليراجع كل ما تقدم عنه.
قول أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي
قال في كتابه المسمى "بالاعتقاد" باب القول في الاستواء: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ثم ذكر آيات في ذكر استواء الرب على العرش، وآيات في ذكر علو الله على خلقه، وقد ذكرت الآيات أيضا والكلام عليها في كتابه المسمى "بالأسماء والصفات "، ونقلت من كلامه ما يتعلق بالرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، فليراجع ذلك مع الكلام على قول الله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (2) الآية.
قول أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في كتاب "الحجة" له: وإن الله تعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما قال في كتابه.
قول أبي جعفر الهمداني
قال شارح العقيدة الطحاوية: ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفس صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان.
فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة، يطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن
(1) سورة طه الآية 5
(2)
سورة الملك الآية 16
أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمداني.
وقد ذكر هذه القصة ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" بنحو ما ذكرها شارح العقيدة الطحاوية. وذكرها الذهبي في كتاب "العلو" فقال: قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بحراد، أنبأنا الحافظ أبو العلا، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت.
وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل ولم يجبني إلا يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة، فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمداني. قال شارح العقيدة الطحاوية في الكلام على هذه القصة أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من أن يتلقوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو. انتهى.
(1) سورة طه الآية 5
قول شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي
ذكر الذهبي في كتاب العلو عنه أنه قال في كتاب "الصفات " له "باب استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة، بائنا من خلقه من الكتاب والسنة" "ثم ساق آيات وأحاديث - إلى أن قال - وفي أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش بنفسه، وهو ينظر كيف تعملون، وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان.
قول الحسين بن مسعود البغوي
قال في الكلام على قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) بالعلم. وقال في الكلام على قول الله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (2) أي: من سرار ثلاثة {إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) بالعلم يعلم نجواهم.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
قول أبي الحسن الكرجي وهو من كبار الفقهاء الشافعية
ذكر الذهبي كتاب "العلو" عنه أنه قال في عقيدته الشهيرة:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت
…
بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم أن الإله بذاته
…
على عرشه مع علمه بالغوائب
وقد ذكرت فيما تقدم قول الذهبي: إنه مكتوب على هذه القصيدة بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.
قول العلامة أبي بكر محمد بن وهب المالكي في شرحه لرسالة الإمام أبي محمد بن أبي زيد.
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال: أما قوله: (إنه فوق عرشه المجيد بذاته) فمعنى فوق وعلى عند العرب واحد. وفي الكتاب والسنة تصديق ذلك، وهو قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (3) وساق حديث الجارية والمعراج إلى سدرة المنتهى- إلى أن قال- وقد تأتي لفظة "في" في لغة العرب بمعنى فوق، كقوله:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (4)، و {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (5)، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (6) قال أهل التأويل: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين، كما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله في السماء، يعني فوقها وعليها، فلذلك قال الشيخ أبو محمد: إنه فوق عرشه، ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته؛ لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف، وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته. انتهى المقصود من كلامه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية ".
قول الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" والذهبي في
(1) سورة يونس الآية 3
(2)
سورة طه الآية 5
(3)
سورة النحل الآية 50
(4)
سورة الملك الآية 15
(5)
سورة طه الآية 71
(6)
سورة الملك الآية 16
كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "الغنية": أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد - إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1){يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (2)، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)
وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف. قال ابن القيم: هذا نص كلامه في "الغنية"، وذكر ابن القيم أيضا عنه أنه قال في كتابه "تحفة المتقين وسبيل العارفين": والله تعالى بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل مكان.
قول إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه صرح بالفوقية بالذات فقال: وهو فوق عرشه بوجود ذاته. قال ابن القيم: هذا لفظه وهو إمام في السنة، ثم ذكر ابن القيم عنه أنه قال: إنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه.
قال: وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (4) وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.
وجماهير المسلمين وسائر الملل، قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله - جل ثناؤه - من جهة الفوق في الدعاء والسؤال. فاتفاقهم بأجمعهم على الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق حجة، ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق. انتهى.
وقد تقدم في كلام إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي مثل ما ذكره الزنجاني من الإجماع على الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق، وأنه لم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن
(1) سورة فاطر الآية 10
(2)
سورة السجدة الآية 5
(3)
سورة طه الآية 5
(4)
سورة الأعلى الآية 1
معية الله لخلقه معية ذاتية، ولو كان الأمر على ما زعمه من قال على الله بغير علم، لكان يجوز أن يشار إلى الله تعالى من سائر الجهات، وهذا خلاف إجماع المسلمين.
قول الشيخ الموفق أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي
قد ذكرت فيما تقدم أنه نقل إجماع السلف على أن الله تعالى فوق العرش، وذكرت أيضا كلامه في كتابه "إثبات صفة العلو"، وما ذكر فيه من إجماع جميع العلماء من الصحابة، والأئمة من الفقهاء على إثبات صفة العلو لله تعالى، وأن الأخبار قد تواترت في ذلك على وجه حصل به اليقين، فليراجع كلامه في ذلك، وليراجع أيضا كما ذكره مما جعله مغروزا في طبائع الخلق عند نزول الكرب، من لحظ السماء بالأعين، ورفع الأيدي للدعاء نحوها، وانتظار مجيء الفرج من الله تعالى، وأنه لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده على ضلالته.
قول أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي مؤلف التفسير الكبير
المسمى "بالجامع لأحكام القرآن "
قال في كتابه المسمى "بالأسنى في شرح أسماء الله الحسنى": وقد كان الصدر الأول لا ينفون الجهة، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة. ثم ذكر كلام أبي بكر الحضرمي في رسالته التي سماها "بالإيماء إلى مسألة الاستواء"، وحكايته عن القاضي عبد الوهاب أنه استواء الذات على العرش، وذكر أن ذلك قول القاضي أبي بكر بن الطيب الأشعري، كبير الطائفة، وأن القاضي عبد الوهاب نقله عنه نصا، وأنه قول الأشعري وابن فورك في بعض كتبه، وقول الخطابي وغيره من الفقهاء والمحدثين.
قال القرطبى وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين، ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا: وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقال: جميع الفضلاء بالإخبار أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه، بلا كيف بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات. انتهى، وقد نقله ابن القيم في كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقره.
قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية
قال في بعض فتاويه: والرب سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. انتهى. وهو في صفحة 406 من الجزء الأول من مجموع الفتاوى المطبوع في القاهرة في سنة 1326 هـ.
وقال في أول "الفتوى الحموية الكبرى": فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن، ثم قال: وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة - وذكر عدة أحاديث في ذلك.
وقال بعد ذكرها: إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة - لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف - حرف واحد يخالف ذلك، لا نصا ولا ظاهرا. انتهى.
وفي كتب شيخ الإسلام وفتاويه من كلامه، وما نقله عن أكابر العلماء في إثبات علو الرب على خلقه، وأنه سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، وتقرير ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع شيء كثير جدا، وقد ذكرت جملة منه فيما تقدم.
وأما كلامه في المعية وقوله: إنها معية العلم، فهو كثير أيضا، وقد نقل أقوال بعض الذين حكوا الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من كتبه وفتاويه، وقد ذكرت بعض نقوله عنهم فيما تقدم، فلتراجع؛ ففيها أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقد ذكر في" الفتوى الحموية الكبرى" عن سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة أنهم أثبتوا أن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه. وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية. وهو أيضا قريب مجيب.
ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم، انتهى. وذكر في "شرح حديث النزول " قول الله تعالى في سورة الحديد:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) ثم قال: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، ثم ذكر ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) قال: هو على العرش، وعلمه معهم. قال: وروي عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم، وروي أيضا عن الضحاك بن مزاحم في قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} (5) قال: هو على العرش وعلمه معهم. ورواه بإسناد آخر عن مقاتل بن حيان، وهو ثقة في التفسير ليس بمجروح كما جرح مقاتل بن سليمان.
وذكر أيضا ما رواه عبد الله بن أحمد عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (6) قال: هو على العرش، وعلمه معهم، وروي أيضا عن سفيان الثوري في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (7) قال: علمه. وذكر أيضا ما رواه حنبل بن إسحاق في كتاب "السنة" قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (8) و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (9) إلى قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (10) قال: علمه، عالم الغيب والشهادة، محيط بكل شيء، شاهد علام الغيوب، يعلم الغيب. ربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسع كرسيه السماوات والأرض.
قلت: قوله: بلا حد ولا صفة معناه: أنه لا يحد استواء الرب على العرش، ولا توصف كيفيته، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس: الاستواء معلوم والكيف غير معقول، قال شيخ الإسلام: وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، ثم ذكر أن لفظ المعية في اللغة - وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة - فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة الحديد الآية 4
(4)
سورة المجادلة الآية 7
(5)
سورة المجادلة الآية 7
(6)
سورة المجادلة الآية 7
(7)
سورة الحديد الآية 4
(8)
سورة الحديد الآية 4
(9)
سورة المجادلة الآية 7
(10)
سورة المجادلة الآية 7
قول الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
قد صنف الذهبي - رحمه الله تعالى - في إثبات علو الله على عرشه كتابه المسمى "بالعلو للعلي الغفار"، وساق فيه أدلة العلو من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء إلى قريب من زمانه، ومنهم من حكى الإجماع على أن الله تعالى فوق عرشه، ومع الخلق بعلمه، وقال في أثناء الكتاب: ويدل على أن البارئ تبارك وتعالى عال على الأشياء فوق عرشه المجيد، وغير حال في الأمكنة، قول الله تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1)، ثم ساق آيات وأحاديث كثيرة في إثبات العلو، فلتراجع، وليراجع الكتاب كله، فإنه كثير الفوائد عظيم المنفعة.
قول العلامة شمس الدين بن القيم
قد صنف ابن القيم - رحمه الله تعالى - في إثبات علو الله على خلقه كتابه المسمى "باجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية "، وساق فيه أدلة العلو من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أكابر العلماء إلى قريب من زمانه، ومنهم من حكى الإجماع على أن الله تعالى فوق عرشه، وهو مع الخلق بعلمه، فليراجع الكتاب كله؛ فإنه كثير الفوائد، عظيم المنفعة.
ولابن القيم أيضا فصول في كتابه المسمى "بالكافية الشافية"، وفي كتابه المسمى "بالصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" قرر فيها علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات، ورد فيها على أهل التشبيه والتعطيل، فلراجع أيضا.
قول الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير
قال في تفسير سورة الحديد: وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) أي: رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، وقال في تفسير سورة المجادلة: ثم قال تعالى مخبرا عن إحاطة علمه بخلقه، واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا
(1) سورة البقرة الآية 255
(2)
سورة الحديد الآية 4
وأين كانوا فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (1) أي: من سر ثلاثة، {إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) أي: مطلع عليهم، يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله - أيضا مع ذلك - تكتب ما يتناجون به مع علم الله به، وسمعه له.
ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء، ثم قال تعالى:{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. انتهى.
فهذا ما تيسر إيراده من أقوال أكابر العلماء في إثبات العلو لله تعالى، وأنه فوق جميع المخلوقات مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، وأن معيته لخلقه معية العلم والإحاطة، والاطلاع، والسماع، والرؤية، وأن له معية خاصة مع أنبيائه وأوليائه، وهي معية النصر والتأييد والكفاية، ولم يأت في القرآن ولا في السنة، ولا في أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ما يدل على أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما جاء ذلك عن بعض أهل البدع، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وهذا قول باطل مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب فليراجع.
وكلام أكابر العلماء المتأخرين في المائة الثامنة من الهجرة فما بعدها في إثبات العلو، والرد على من قال بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة كثير جدا، وفيما ذكرته عن المتقدمين كفاية إن شاء الله تعالى.
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
فصل
وقد تعلق المردود عليه بجمل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن رجب، وليس في شيء منها ما يؤيد زعمه أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإن توهم المردود عليه أو توهم غيره أن في شيء منها تأييدا لقوله الباطل، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين على أن الله تعالى على العرش، وعلمه في كل مكان، وأن معنى قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله تعالى فوق
(1) سورة الحديد الآية 4
السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أكابر العلماء، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن القيم عن غير واحد من الأئمة، وتقدم ذكر ذلك في أول الكتاب، وما خالف الإجماع من الأقوال فهو مردود على قائله كائنا من كان.
وإذا علم هذا، فمن الجمل التي تعلق بها المردود عليه قول شيخ الإسلام ابن تيمية في صفحة 3 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى، أن كلمة (مع) إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة، أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، قال: فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (1) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
والجواب أن يقال: ليس في هذه الجملة ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما فيها الرد عليه؛ لأن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قد صرح أن المعية المذكورة في قول الله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (3) قد دل ظاهر الخطاب على أن حكمها ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، قال: وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، قال: وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. انتهى.
فأما القول بالمعية الذاتية، فإنما هو من أقوال الحلولية من الجهمية، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، وتقدم كلامه في أول الكتاب، فليراجع.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة الحديد الآية 4
(3)
سورة الحديد الآية 4
الجملة الثانية من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له في صفحة 231 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى: فهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم، - إلى أن قال: - فإنه عالم بعباده، وهو معهم أين ما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية، ثم قال: فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى، فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة وبالالتزام، فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط، بل أريد به مدلوله الملزوم، وذلك حقيقة.
والجواب أن يقال: إن المردود عليه قد اختصر كلام شيخ الإسلام، وترك جملة من أوله فيها بيان المراد من كلامه في المعية، وأنها معية العلم؛ لعموم العباد ومعية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه، وهذا نص كلام شيخ الإسلام قال: وأما القسم الرابع فهم سلف الأمة، وأئمتها أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضا قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل (1)» ، فهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم - إلى أن قال: - فالله تعالى عالم بعباده، وهو معهم أين ما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية. انتهى.
وفي قوله: إن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وأنه مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد، والكفاية أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وكذلك قوله: إن في آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم. فيه أيضا رد عليه.
وأما المعية المذكورة في قوله: فهو مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، فهي معية الاطلاع والحفظ والكفاية، وليست معية ذاتية كما قد توهم ذلك المردود عليه. وقد أوضح ذلك شيخ الإسلام بقوله: ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم. ومن تأمل كلام شيخ الإسلام في المعية وجده يدور على أنها معية العلم والإحاطة، والاطلاع، والسماع، والرؤية لعموم الخلق، وأن لله معية خاصة مع أنبيائه وأوليائه، وهي معية النصر والتأييد والكفاية.
(1) صحيح مسلم الحج (1342)، سنن الترمذي الدعوات (3447)، سنن أبو داود الجهاد (2599)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 150)، سنن الدارمي الاستئذان (2673).
الجملة الثالثة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية": وهل هذا الكلام الذي ذكره تعالى من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف. وقال في الفصل الذي يليه: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه.