الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفساد كبير.
هكذا حافظوا رضي الله عنهم على وحدة الأمة ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق بذلك الحزم لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشبه ذلك. وفي أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي بالتحديد، خرجت الخوارج، وتشيعت الشيعة، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية.
فسمعت دنيا المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (1)» . هكذا بدأت الجاهلية التي نريد أن نستعرض بعض صورها في حديثنا هذا، لأن الجاهلية هنا لا تعني - كما تقدم - فترة زمنية، ولكنها أعمال وتصرفات وأوضاع معينة ومفاهيم خاطئة، ويمكن أن نوجز أمهاتها في العناوين التالية:
أ - جاهلية التصوف.
2 -
جاهلية علم الكلام.
3 -
جاهلية التعصب المذهبي.
4 -
جاهلية في الحاكمية: أي الحكم بغير ما أنزل الله.
(1) ابن ماجه.
أما
جاهلية التصوف:
فقد ظهرت واشتهرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة، فيحدثنا عن نشأتها شيخ الإسلام ابن تيمية، كما يعين لنا مكان نشأتها، وملخص حديثه: إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة فلبسوا الصوف وقاطعوا القطن بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح عليه السلام. هكذا تقول الرواية، فنسبوا إلى الصوف (1)، فقيل لهم: الصوفية فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة. يكذبها الواقع واللغة. ولما
(1) النسبة إلى الصفة (صفي) والنسبة إلى الصف (صفي).
سمع بعض السلف أن قوما لازموا لباس الصوف زاعمين التشبه بالمسيح قالوا: هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا. وهو يلبس القطن وغيره. ينسب هذا الكلام إلى ابن سيرين رحمه الله، ويروي لنا شيخ الإسلام: أن مدينة البصرة قد عرفت من تلك الفترة بهؤلاء المتصوفة وتصوفهم، كما عرفت الكوفة بالفقه والآراء والقضاء حتى قيل: عبادة البصرة وفقه الكوفة.
هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن هذه المدينة انتشرت.
ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل، لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، وذلك عندما جنح بعض الناس إلى نوع من الرهبانية، «فذهب ثلاثة أشخاص من الصحابة إلى بيت من بيوت الرسول عليه الصلاة والسلام، فسألوا عن عبادته عليه الصلاة والسلام، فلما أخبروا كأنهم تقالوها - أي رأوا أن ما يفعله الرسول من العبادة قليل، فهم يريدون أكثر من ذلك. فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثاني: وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء. فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام طلبهم فأتي بهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ فلم يسعهم إلا أن يقولوا: نعم. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أما والله إني لأعبدكم وأخشاكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1)» . .
هذه الواقعة رويناها بالمعنى تقريبا، وهي عند الشيخين وبعض أهل السنن (2).
ومما يلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام استخدم في إنكار هذه البدعة أسلوبا لا نعلم أنه كان يستخدمه عندما يبلغه أن إنسانا ما ارتكب مخالفة أو أتى معصية، بل كانت عادته الكريمة المعروفة أنه في مثل هذه الحالة يجمع الناس فيوجه إليهم كلمة عامة واستنكارا وتوبيخا لا مجابهة فيه، كأن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ وقد كان هذا الأسلوب كافيا للردع والإنكار مع ما يتضمنه من الستر على مقترف تلك المعصية. ولكننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة يطلب حضور الثلاثة الذين
(1) صحيح البخاري النكاح (5063)، صحيح مسلم النكاح (1401)، سنن النسائي النكاح (3217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 285).
(2)
البخاري ومسلم والنسائي.
جنحوا إلى ما يسمى (التصوف) اليوم، ثم يسألهم أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، ثم يعلن لهم أنه أعبدهم وأخشاهم لله مؤكدا ذلك بالقسم، كأنهم لا يعلمون ذلك. تقريعا لهم وتوبيخا، فأشعرهم أن الأساس في العبادة الاتباع دون الابتداع، وأن الكيفية مقدمة على الكم المخالف للسنة، ثم يختم التوبيخ بالبراءة أي بالإخبار أن من يرغب عن سنته وهديه ليس منه ولا هو على دينه الذي جاء به من عند الله.
ومما ينبغي التنويه به هنا أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد، كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملا صالحا. لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله، فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن، إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هو الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.
وبعد:
لعل القارئ يلاحظ أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة، إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلاميا مقبولا، بل محبوبا.
ومن أمثلة ذلك: بدعة الاحتفال بالمولد التي ابتدعها الفاطميون بالقاهرة بدعوى محبة الرسول وآل البيت، حيث كانوا يحتفلون بمولد النبي عليه الصلاة والسلام في كل عام، ثم بمولد علي رضي الله عنه، ثم بمولد فاطمة رضي الله عنها، ثم بمولد الحسن والحسين، وأخيرا يحتفل بمولد الخليفة الحاضر، وهكذا لو تتبعت نشأة كل بدعة لوجدتها لا تظهر أول ما تظهر إلا في مثل هذا الغلاف المقبول. ومما يلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور احتفالات باسم أسبوع فلان أو شهر فلان أو مرور كذا سنة على الحركة الفلانية أو بعبارة بهذا المعنى، ومثل هذه الاحتفالات التي تعد - فيما يبدو للناس - إنما هي مجرد ذكرى لأولئك المجددين والمصلحين وإحياء لدعوتهم وحركتهم الإصلاحية، ولكنها سوف تتحول على المدى البعيد - والله أعلم - إلى جنس الاحتفالات التي تسمى اليوم عند العوام وأشباههم الاحتفالات الدينية، هكذا أتصور - والله أعلم.