الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوح وموسى وعيسى ويوسف وسائر الأنبياء بلسان القرآن وهو لسان عربي مبين، مع أن ألسنتهم ليست بعربية، واستدل على ما ذهب إليه من جواز ترجمة معاني القرآن بل ضرورتها بقوله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1). فذكر أن الإنذار إنما يكون بما يفهمون من لسانهم، فقراءة كل أمة من الناس تكون بلسانها حتى يقع لهم الإنذار به.
(1) سورة الأنعام الآية 19
الحكم في قضية ترجمة معاني القرآن
والحكم عندنا في هذه القضية أن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية أمر جائز بالأدلة الشرعية. . بل إن الدعوة الإسلامية تقتضيه وتوجبه، فهو رأي ليس فيه ابتداع، بل إنه واجب الاتباع. ويشترط في المترجم أن يكون على دراية تامة ومعرفة يقينية باللسان العربي واللسان المترجم إليه، مع معرفة تامة بأسباب نزول الآيات، متمكن من كل أداة توصله إلى الإدراك والفهم الدقيق لما تضمنته الآيات عند ترجمة معناها من العربية إلى اللغة الأجنبية المترجم إليها.
بل لقد أفتى بعض الحريصين على نشر الدعوة - ومنهم السيد محمد بن الحسن الحجوي المغربي - بجواز ترجمة معاني القرآن مطلقا، فقال: إن ترجمتها من الأمور المرغوب فيها، وإنها من فروض الكفاية التي يجب على الأمة القيام بها، فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين القيام بها ولم يكن عليهم حرج، وإن لم يقم بها أحد أثم الكل. ودليل ذلك عنده، أن القرآن تبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو القائل في خطبته المشهورة غداة فتح مكة، وفي خطبته في حجة الوداع:«فليبلغ الشاهد منكم الغائب (1)» ، وهو القائل أيضا:«بلغوا عني ولو آية (2)» ، ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى على رسوله الأمين أن يقوم بتبليغ الرسالة إلى الناس فقال:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3)، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ العرب بلسانهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (4)، بل إنه قد بلغ غير العرب أيضا، فبلغ
(1) صحيح البخاري الحج (1741)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، سنن ابن ماجه المقدمة (233)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 49)، سنن الدارمي المناسك (1916).
(2)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461)، سنن الترمذي العلم (2669)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 159)، سنن الدارمي المقدمة (542).
(3)
سورة المائدة الآية 67
(4)
سورة إبراهيم الآية 4
هرقل قيصر الروم، وكسرى فارس، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس عظيم القبط، فيجب على العرب أن يبلغوا رسالة الإسلام لغيرهم من الأمة نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال لهم:«بلغوا عني ولو آية (1)» . والتبليغ لجميع الأمم لا يمكن أن يكون في العادة شاملا لجميع أفراد الشعب إلا إذا كان بالترجمة إلى لغاتهم. وما دامت أمة من الأمم لم يترجم معنى القرآن إلى لغتها ففرض الكفاية بالتبليغ لم يؤد، ولم يحصل القيام به من الأمة كما يجب.
أما عن القائلين بعدم جواز الترجمة والاكتفاء في التبليغ بمجمل ما جاء به الدين، فحجتهم داحضة لا يقوم عليها دليل؛ إذ الظاهر من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) أن المراد بما أنزل هو عموم القرآن لا جزء خاص منه، بل إنه يشمل السنة أيضا.
وإنه لمن الدلالات القاطعة بفساد ما دعا إليه القائلون بعدم جواز الترجمة وإلزام الأمم بتعلم اللغة العربية، أنهم لن يستطيعوا أن يقيموا على ما ذهبوا إليه أي دليل نقلي أو عقلي. . فالدلالات النقلية تعوزهم، والدلالات العقلية المنطقية تسفه رأيهم، وليس أدل على ما نقول من قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (3)، ولقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلم أهل اليمن بلغتهم، كما جاء في كتاب (الشفاء) وغيره. ثم إنه لاختلاف ألسن العرب ولهجاتهم اقتضت حكمة الله أن يكون نزول القرآن على سبعة أحرف ليقرأ العرب ما تيسر لهم منه، وما كان ذلك إلا تسهيلا عليهم كي لا يلزموا بلغة خاصة.
فإذا كان بنو تميم وهوازن وعرب اليمن لم يلزموا بتعلم لغة قريش لغة القرآن، بل أبيح لهم أن يقرءوه بحروفهم ولحونهم مع أنه من السهل عليهم أن يروضوا ألسنتهم على لسان قريش. فغير العرب أولى وأحرى بأن لا يلزموا بتعلم العربية؛ حتى يتسنى لنا تعليمهم الدين والقرآن - طبقا لما يقول به مخالفونا في الرأي - بل يجب أن نيسر لهم تفهم القرآن بلغاتهم وألسنتهم، وبذلك نكون قد بلغناهم الرسالة وألزمناهم الحجة.
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461)، سنن الترمذي العلم (2669)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 159)، سنن الدارمي المقدمة (542).
(2)
سورة المائدة الآية 67
(3)
سورة الروم الآية 22
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بتعلم اللغات الأعجمية ليبلغوا عنه، فقد أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود ولغة السريان، فكان يبلغ عنه إليهم، ويبلغ عنهم إليه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أمر عمر بن الخطاب قواد جيوشه باتخاذ التراجمة مع من لم يعرف العربية من شعوب الأقطار التي فتحها المسلمون كفارس، والروم، ومصر، والسودان، وبرقة، وطرابلس. وكان أبو جمرة ترجمانا لعبد الله بن عباس حين كان واليا على البصرة. وكانت دفاتر الخراج ودواوين الأموال تكتب في كل قطر بلغة أهله، ويتولاها كتاب من الفرس أو الروم أو القبط أو غيرهم على حسب ما يقتضيه لسان كل إقليم، واستمر الحال كذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان حين كثر من أبناء الموالي من أتقنوا اللغة العربية، ووجد من أبناء العرب من عرفوا ألسنة الأعاجم، فأمر بنقل دواوين الخراج والمحاسبة جميعها في سائر الأقطار إلى اللغة العربية.
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية ما هي في الواقع إلا ترجمة لمعاني الكلمات، وتفسير وتوضيح لمقاصد آيات الكتاب بتلك اللغات على نحو ما يفعل المفسرون باللسان العربي. . فما أقوال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وابن جبير وغيرهم من المفسرين القدامى والمحدثين إلا ترجمة لمعاني القرآن وإيضاح لها، ولذلك سمي ابن عباس ترجمان القرآن. . ومن البدهي الذي لا خلاف فيه أن القرآن لا يمكن أن يسمى قرآنا إلا إذا كان عربيا كما أنزل بنصه ولفظه ولغته.
وإذا كان القرآن قد فسر باللغة العربية، فلقد فسر أيضا بغير اللسان العربي كتفسير العالم المحقق إسماعيل حقي الذي فسره باللغة الفارسية، وكذلك فعل غيره من المفسرين الذين فسروه بلغات مختلفة، وقد أقرهم على هذا العمل علماء الإسلام.
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية أمر لا معدى عنه، لأنه - كما صرح في غير موضع من آياته: ذكر للعالمين فرسالته عامة لجميع الأمم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1)، قال صلى الله عليه وسلم:«أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي (2)» . . إلى أن قال:
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2)
صحيح البخاري التيمم (335)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521)، سنن النسائي الغسل والتيمم (432)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304)، سنن الدارمي الصلاة (1389).
«وكان النبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت للناس عامة (1)» . وقال تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2)، وقال:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3)، ويلزم من عموم الرسالة المحمدية جواز ترجمة معاني القرآن؛ لأنه دستور الإسلام لسائر الأمم.
إن القرآن قد ترجم معناه إلى كثير من لغات العالم، ترجمه الشيخ سعدي إلى اللغة الفارسية، وترجمه كذلك العالم الهندي شاه ولي الله إلى الفارسية، وترجمه إلى اللغة الأردية أفراد من بني شاه ولي الله، وشاه رفيع الدين، وشاه عبد القادر، وهناك تراجم أخرى إلى هذه اللغة وضعت حديثا. وقد ترجم معاني القرآن أيضا إلى لغات البوشتو والترك والجاوة والملايو والجوجراتي والبنجالي والهندي والجرموقي. . . إلخ.
وكان أول من حاول ترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية من الأوربيين الإنجليزي روبرت من رتينا، وألماني اسمه هيرمان من دلماسيا، وكان ذلك في عام 1143 م بأمر من بطرس راعي دير كلاجني، ولكن الترجمة لم تنشر إلا بعد أربعة قرون أي في سنة 1543 م على يد تيودور بيبلباندر، ثم ترجم إلى الإيطالية والألمانية والهولندية بعد ذلك.
وأقدم ترجمة إلى الفرنسية قام بها دي رييه في باريس عام 1647 م، ثم نشرت لمعاني القرآن ترجمة باللغة الروسية في سان بطرس برج (لينينجراد) عام 1776 م.
وأول ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن قام بها إسكندر روس وقد نقلها عن الترجمة الفرنسية (1649 - 1688) م، وكذلك نشرت ترجمة سيل الشهيرة عام 1737 م. وطبعت ترجمة رودويل عام 1861 م، ونشرت ترجمة بالمر من كلية كمبريدج عام 1880 م.
وفي القرن العشرين قامت الجمعية الأحمدية بلاهور في الهند بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأوربية، فترجمته إلى الإنجليزية والهولندية والألمانية عام 1951 م.
وقد يقول قائل: إن معاني القرآن كثيرة، فليس في مقدور مخلوق أن يحيط بها فيترجمها، وللرد على ذلك نقول: إن الله نزل القرآن وهو حافظ له، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4)،
(1) صحيح البخاري التيمم (335)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521)، سنن النسائي الغسل والتيمم (432)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304)، سنن الدارمي الصلاة (1389).
(2)
سورة المدثر الآية 2
(3)
سورة الأنعام الآية 19
(4)
سورة الحجر الآية 9
فلا يمكن أن تنشأ من تعدد الترجمات اختلاف في القرآن كما وقع في التوراة والإنجيل، لأن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقد أوحي إليه بلفظه ونصه وأسلوبه. وأما غير القرآن من كتب الشرائع السماوية فقد أوحى بها إلى أصحابها بمعانيها دون ألفاظها وأساليبها. ولذلك فإن القرآن لا يمكن أن يتطرق إليه تغيير أو اختلاف أو تبديل، أما الترجمات المختلفة لمعاني القرآن فهي تفسير لمعانيه، ومن اليسير على أئمة المسلمين وعلمائهم أن يقابلوا الترجمة على الأصل العربي المنزل، فيقبل الموافق للنص، وينبذ المخالف.
وكل تفسير للقرآن - سواء أكان بلسان عربي أم غير عربي - ليس هو القرآن، وإنما القرآن هو المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنصه ولفظه ولغته. وللقرآن الكريم سمات وصفات لا يمكن أن تنطبق على غيره من التفاسير والشروح والترجمات. قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1){وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2)، وقال:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3)، وقال:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (4)، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم لسان عربي مبين، قال تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (5)، وقال:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (6){فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (7)، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (8){فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (9).
وبعد: فالذي نستخلصه من كل ما سبق، هو ضرورة ترجمة معاني القرآن ضرورة ملزمة، وهي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأنه من الخير أن يقوم بالترجمة جماعة على مستوى عال من الثقافات الشرعية واللسانية والعلوم الاجتماعية مع سلامة العقيدة، والحذق التام والمهارة البارعة في اللغتين العربية والأجنبية المترجم إليها. وحسبنا من القائمين بترجمة معاني القرآن أن يبذلوا أقصى الجهد في نقله إلى اللغات الأجنبية بما يوضح معانيه ولا يخرج عن مقاصده، في أسلوب واضح وبيان مقنع راجح. . . وبالله التوفيق.
(1) سورة الزخرف الآية 3
(2)
سورة الزخرف الآية 4
(3)
سورة الزمر الآية 28
(4)
سورة مريم الآية 97
(5)
سورة النحل الآية 103
(6)
سورة البروج الآية 21
(7)
سورة البروج الآية 22
(8)
سورة الدخان الآية 3
(9)
سورة الدخان الآية 4