الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" ثم قال: والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين. ونقل الشيخ أيضا عن أبي سليمان الخطابي أنه قال في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهله ": فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها. انتهى.
وإذا علم هذا فليس من مذهب السلف أن معية الله لخلقه معية ذاتية، ولم يقل ذلك أحد من علماء أهل السنة والجماعة فيما علمت، وإنما هو من أقوال أهل البدع، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وتقدم في أول الكتاب، فليراجع. ومن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، واستدل على ذلك بنزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا في آخر الليل، ودنوه من أهل الموقف في عشية يوم عرفة فقد أبعد النجعة وقال على الله بغير علم.
الجملة الخامسة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه:
قول ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية:
فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) إلى قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) إلخ، فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم. اهـ.
والجواب أن يقال: إن كلام ابن رجب - رحمه الله تعالى - موافق لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أن المعية العامة: معية العلم والاطلاع والمراقبة. وأن المعية الخاصة: معية النصر والتأييد والحفظ والإعانة. وليس في كلامه ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2)
سورة المجادلة الآية 7
الجملة السادسة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه:
قول ابن كثير في تفسير سورة الحديد:
أي رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر وبحر، في ليل أو نهار، الجميع في علمه على السواء، وتحت سمعه وبصره، فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، وقال في سورة المجادلة: وقد حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء. اهـ.
والجواب أن يقال: ليس في كلام ابن كثير ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وفيما ذكره ابن كثير من الإجماع على أن المعية معية العلم أبلغ رد على صاحب الزعم المخالف للإجماع.
وأما قول المردود عليه بعد ما ذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب، ففي كلام هؤلاء العلماء الأجلاء إشارة بل في بعضه تصريح بأن تفسير معية الله تعالى لخلقه بعلمه تفسير بلازمها أو حكمها ومقتضاها، كما في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، واللازم غير الملزوم، والمقتضي غير المقتضى؛ فلهذا قال شيخ الإسلام: ففرق بين معنى المعية ومقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها.
ووجه ذلك أن دلالة اللفظ على مدلوله تارة تكون بالمطابقة، وتارة بالتضمن، وتارة بالالتزام، فدلالة المعية على العلم من دلالة الملزوم على اللازم، كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولهذا قال: وعلمه بهم من لوازم المعية ومن التبعيض، وذلك لأن العلم ليس وحده لازم المعية، بل لها لوازم أخرى كالاطلاع والسمع والرقابة والهيمنة والقدرة والسلطان، وغير ذلك مما تقتضيه المعية. وقد مثل بهذه اللوازم الزائدة على العلم شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب رحمهم الله تعالى.
وأشار إلى مثل ذلك الشيخ الشنقيطي حيث قال: وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته، فدل ذلك أن تفسير السلف لها بالعلم تفسير ببعض لوازمها، وليس وحده هو معناها، وأن مقصودهم بذلك خوف توهم حلول البارىء - جل وعلا - في أماكننا في الأرض، أو دفع دعوى من ادعى ذلك من الحلولية الجهمية، وقد ذكر أن ذلك مقصودهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم حيث قال في الفهارس العامة لمجموع الفتاوى ص 90: فسر بعض السلف بعض نصوص المعية بالعلم، وهو بعض مقتضاها؛ دفعا لاستدلا الحلولية بها. اهـ.
فجوابه أن يقال: إن العلماء الذين ذكرهم المردود عليه في هذه الجملة لم يقل أحد منهم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما كان كلامهم يدور على إثبات معية العلم والقدرة والإحاطة والسماع والرؤية لعموم الخلق. وعلى إثبات معية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه، وقد ذكر كلام شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير في ذلك قريبا، فليراجع.
وأما كلام ابن رجب الذي تقدم ذكره فهو موافق لكلام شيخ الإسلام وابن القيم وابن
كثير، وقد تقدم في الجواب عن الجملة الثانية من الجمل التي تعلق بها المردود عليه، ما ذكره شيخ الإسلام عن سلف الأمة وأئمتها أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، أنهم أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية.
وتقدم أيضا ما ذكره شيخ الإسلام والذهبي وابن القيم من الإجماع على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وفيما ذكروه أبلغ رد على من توهم عليهم خلاف ما ذكروه من الإجماع.
وقال شيخ الإسلام أيضا في "شرح حديث النزول ": ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاما، كما في هاتين الآيتين، يعني قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) إلى قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) وجاء خاصا كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (6) وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (7) فلو كان المراد أنه بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص. فإنه قد علم أن قوله:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (8) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (9) خصهم بذلك دون الظالمين والفجار - إلى أن قال: - وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم.
وقد بسط الكلام عليه في موضع أخر، وبين أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى المقصود من كلامه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقد تقدم في الجواب عن الجملة الرابعة ما ذكره ابن القيم عن القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني أنه قال في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (10) يعني بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم. قال وقوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (11) محمول على هذا التأويل. وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (12) يعني أنه عالم بهما، وبما خفي من سرهم ونجواهم. انتهى. وقد أقره ابن القيم على هذا القول، وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة الحديد الآية 4
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة المجادلة الآية 7
(5)
سورة النحل الآية 128
(6)
سورة طه الآية 46
(7)
سورة التوبة الآية 40
(8)
سورة التوبة الآية 40
(9)
سورة النحل الآية 128
(10)
سورة النحل الآية 128
(11)
سورة طه الآية 46
(12)
سورة المجادلة الآية 7
وتقدم أيضا كلام ابن كثير على قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) إلى قوله: {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) وما ذكره من الإجماع على أن المراد بالآية معية العلم، قال: وسمعه أيضا علمه بهم وبصره نافذ فيهم. انتهى. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (4) هذه المعية خاصة بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق، وأما المعية العامة لجميع الخلق، فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا، فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، وهذه هي المذكورة أيضا في آيات كثيرة كقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ} (5) الآية، وقوله الله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) الآية، وقوله:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (7)، وقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (8) الآية. إلى غير ذلك من الآيات. فهو جل وعلا مستو على عرشه - كما قال - على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. انتهى كلامه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة المجادلة الآية 7
(3)
سورة المجادلة الآية 7
(4)
سورة النحل الآية 128
(5)
سورة المجادلة الآية 7
(6)
سورة الحديد الآية 4
(7)
سورة الأعراف الآية 7
(8)
سورة يونس الآية 61
وإذا علم هذا فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلام من ذكر بعده من العلماء موافق لما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن الله سبحانه وتعالى مع العباد عموما بالعلم والقدرة والإحاطة والسماع والرؤية، وأنه يخص أنبياءه وأولياءه بمعية النصر والتأييد والكفاية، وليس في كلامهم ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما قول المردود عليه: وإذا أردت أن تعرف أن معنى معية الله لخلقه معية حقيقية ذاتية، لا تقتضي أن يكون حالا فيهم ولا في أمكنتهم، فتأمل ما يأتي:
أ- قول شيخ الإسلام وغيره: إن ما ذكر من معيته لا ينافي ما ذكر من علوه، وأنه
سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه، فإنه لو كان معنى المعية مجرد العلم، ما احتاجوا إلى ذكر ذلك؛ لأن تصور المنافاة بين عموم العلم وعلو الذات غير وارد ولا مورد أيضا.
ب- قول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في "مختصر الصواعق": والذي يسهل عليك فهم هذا إلى آخر ما نقلناه عنه في هذه الورقات. وقول الشنقيطي في تفسيره - رحمه الله تعالى -: فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل - إلى أن قال: - فهو سبحانه مستو على عرشه، كما قال على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله وهو محيط بخلقه كأنهم (1) قبضة يده.
ج- قول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وهو مع ذلك فقو سماواته على عرشه. فأثبت له القرب الذاتي مع علوه قربا ليس له نظير.
فالجواب عن أول كلامه من وجهين أحدهما: أن يقال: إن آخر كلامه ينقض أوله. وذلك أنه أثبت المعية الذاتية للخلق، وإثباتها يستلزم إثبات الحلول معهم في أمكنتهم. كما أن نفي الحلول مع الخلق يستلزم نفي المعية الذاتية لهم. وحيث إن المردود عليه قد أثبت المعية الذاتية للخلق، وفي الحلول معهم في أمكنتهم، فقد وقع في التناقض، وإذا فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يثبت المعية الذاتية للخلق والحلول معهم في أمكنتهم، ويكون من الحلولية الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وإما أن ينفي المعية الذاتية للخلق، والحلول معهم في أمكنتهم، ويكون من أهل السنة والجماعة الذين قد أجمعوا على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق جميع المخلوقات، وأنه تعالى مع عموم الخلق بالعلم والمشاهدة والسماع لأقوالهم وحركاتهم، وأنه يخص أنبياءه وأولياءه بمعية النصر والتأييد والكفاية. فليختر المردود عليه ما يناسبه من أحد الأمرين.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس في كلام شيخ الإسلام وابن القيم والشنقيطي ما يؤيد زعم المردود عليه أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما الذي في كلامهم إثبات معية العلم والقدرة، والإحاطة والسماع والرؤية لعموم الخلق. وإثبات معية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه.
وأما قول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: إن ما ذكر من معية الله تعالى لا ينافي ما
(1) قوله: كأنهم كذا هو بخط المردود عليه وصوابه كلهم.
ذكر من علوه، فراده بالمعية: معية العلم والقدرة والسلطان لعموم الخلق، ومعية الإعانة والنصر والتأييد لأنبياء الله وأوليائه. وهذا واضح في كلامه المنقول من "شرح حديث النزول "، وقد تقدم ذكره قريبا، فليراجع.
وأما قول ابن القيم: والذي يسهل عليك فهم هذا؛ معرفة عظمة الرب، وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه، ويقرب من خلقه كيف شاء، وهو على العرش. فمراده ما صرح به قبل هذه الجملة، وهو أن الله تعالى يقرب من عباده في آخر الليل، وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة، وهو فوق عرشه، وأن المعية العامة يكون من لازمها العلم والتدبير والقدرة، وأما المعية الخاصة فإنه يكون من لازمها النصر والتأييد والمعونة، وقد تقدم قريبا ما نقله ابن القيم عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني أنه قال في المعية الخاصة: إنها بالحفظ والنصر والتأييد، قال: ولم يرد أن ذاته معهم. وقال في المعية العامة: إنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم. وقد أقره ابن القيم على هذا القول وفيه- مع مما تقدم من كلا ابن القيم، وما نقله من الإجماع على أن معنى قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء - أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما الشنقيطي فقد تقدم كلامه قريبا، وفيه التصريح بأن المعية الخاصة هي بالإعانة والنصر والتوفيق. وأما في المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا، قال: وهو مستو على عرشه على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله. فكلام الشنقيطي فيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما قول ابن القيم: فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وقول المردود عليه فأثبت له القرب الذاتي مع علوه قربا ليس له نظير.
فجوابه أن يقال: أما قرب رحمة الله تعالى من المحسنين فهو ثابت في القرآن، قال الله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2)، وأما قرب ذاته منهم فليس عليه
(1) سورة الحديد الآية 4
(2)
سورة الأعراف الآية 56
دليل ينص عليه لا من القرآن ولا من السنة، وما ليس عليه دليل ينص عليه فليس عليه تعويل.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر (1)» ، وجاء في حديث مرفوع:«إن الله تعالى يهبط إلى السماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة» ، فيجب إثبات ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإمراره كما جاء، وترك ما سوى ذلك من أقوال الناس، وإن كانوا من الأكابر المرموقين، قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3)، والكلام في الصفات بابه التوقيف ولا دخل للاجتهاد في ذلك أيضا.
وإذا علم هذا فليعلم أن من أثبت لله صفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، فقوله مردود عليه كائنا من كان، والدليل على ذلك ما أمر الله به في الآيتين من سورة الأعراف.
وأما قول المردود عليه: وهكذا نقول في المعية: نثبت لربنا معية حقيقية ذاتية، تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق، ونثبت مع ذلك علوه على خلقه، واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، لا نكيف ذلك ولا نتصور له كيفية؛ لأن تكييفنا له قول على الله بلا علم، وتصورنا لذلك كيفية محاولة لما لا يمكن الوصول إليه ولا القول به.
ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها، فعقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) قاله مقررا له ومعتقدا له، منشرحا له صدره، كاتبه. . . في 24/ 6 / 1403هـ التوقيع والختم.
فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن إثبات المعية الذاتية لله تعالى مع خلقه لم يرد في القرآن ولا في السنة، ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم، وأئمة العلم
(1) صحيح البخاري الجمعة (1145)، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (758)، سنن الترمذي كتاب الدعوات (3498)، سنن أبو داود الصلاة (1315)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 265)، موطأ مالك النداء للصلاة (496)، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1479).
(2)
سورة الأعراف الآية 3
(3)
سورة الأعراف الآية 158
(4)
سورة الشورى الآية 11
والهدى من بعدهم. ولم أر أحدا أثبتها سوى المردود عليه. وقد ذكرت قريبا أن من أثبت لله تعالى صفة لم ترد في القرآن ولا في السنة فقوله مردود عليه، وذكرت الدليل على ذلك من القرآن.
الوجه الثاني: أن يقال: إن كلام المردود عليه قد اشتمل على حق وباطل، فأما الذي فيه من الحق: فهو إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، وأن الاستواء لا يكيف ولا تتصور كيفيته، وأن الله تعالى هو العالي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه محيط بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ومن الحق فيه أيضا تكفير وتضليل من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، وتكذيب من نسب ذلك إلى أحد من سلف الأمة وأئمتها، وتنزيه الله تعالى عن الاختلاط بالخلق والحلول في أمكنتهم.
وأما الذي فيه من الباطل فهو: إثبات المعية الذاتية لله مع خلقه، ولا يخفى على من له علم وفهم أن إثبات المعية الذاتية لله مع خلقه، يستلزم الاختلاط بهم والحلول معهم في أمكنتهم، وهذا مما يجب تنزيه الله عنه، وفيه من الباطل أيضا زعمه أن المعية الذاتية لله مع الخلق تليق بعظمة الرب وجلاله، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن المعية الذاتية للرب مع خلقه تستلزم مخالطتهم والحلول معهم في أمكنتهم، وذلك ينافي عظمة الرب وجلاله وعلوه على جميع خلقه.
وفيه من الباطل أيضا جمعه بين إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، وبين المعية الذاتية للخلق، وهذا من الجمع بين النقيضين. وفيه من الباطل أيضا زعمه أن علو الرب على خلقه، واستواءه على عرشه لا ينافي المعية الذاتية للخلق، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن علو الرب واستواءه على العرش الذي هو فوق جميع الخلق، ينافي المعية الذاتية التي تستلزم مخالطة الخلق والحلول معهم في أمكنتهم.
وفيه من الباطل أيضا تقريره لقوله: الباطل في المعية الذاتية، واعتقاده له، وانشراح صدره له. فكل هذا باطل وضلال، والله المسئول أن يرد صاحب المقال الباطل إلى الحق، وأن لا يجعله من دعاة الضلالة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد وقع الفراغ من كتابة هذا الرد في 28/ 3 / 1404هـ على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(1) سورة الشورى الآية 11
* محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين الوهيبي التميمي.
* المولد: في عنيزة في العشر الأواخر من رمضان سنة 1347 هـ.
* قرأ القرآن على جده من جهة أمه فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب.
* بدأ دراسة العلم على الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله، فأخذ عنه مبادئ التوحيد والفقه والفرائض والنحو، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان الفرائض والفقه، ثم قرأ على الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي الذي يعتبر أكثر مشائخه ملازمة له، وقراءة عليه وتحصيلا، فقرأ عليه التوحيد والتفسير والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض والمصطلح، والنحو والصرف.
* وفي عام 1371 هـ جلس للتدريس في الجامع، ولما فتحت المعاهد العلمية في الرياض التحق بها عام 1372 هـ، وبعد سنتين تخرج وعين مدرسا في معهد عنيزة العلمي مع مواصلة الدراسة انتسابا في كلية الشريعة.
* أما شيخه الثاني فهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فابتدأ عليه قراءة صحيح البخاري، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية، فكان له بذلك اتجاه كبير إلى علم الحديث والاعتماد عليه، والنظر في أراء فقهاء المذاهب، وربط ذلك بالمشهور من مذهب الحنابلة.
* ولما توفي ابن سعدي رحمه الله تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة، والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية، بالإضافة إلى التدريس في المعهد العلمي، ثم انتقل إلى التدريس في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، ومازال على الإمامة والتدريس في جامع عنيزة، وفي فرع الجامعة في كليتي الشريعة وأصول الدين حتى الآن.
المؤلفات:
1 -
تفسير آيات الأحكام لم يكمل.
2 -
شرح عمدة الأحكام لم يكمل.
3 -
المصطلح.
4 -
الأصول.
5 -
رسالة في الوضوء والغسل والصلاة.
6 -
مجالس رمضان.
7 -
الأضحية والزكاة.
8 -
المنهج لمريد العمرة والحج.
9 -
تسهيل الفرائض.
15 -
تلخيص الحموية.
11 -
شرح لمعة الاعتقاد.
12 -
شرح الواسطية.
13 -
عقيدة أهل السنة والجماعة.
14 -
رسالة في أن الطلاق الثلاث واحدة ولو بكلمات.
15 -
تخريج أحاديث الروض المربع.
16 -
رسالة الحجاب.
17 -
رسالة في مواقيت الصلاة الشرعية.
18 -
رسالة في وجوب زكاة الحلي.
19 -
رسالة في أحكام الميت من غسله ونحوه.
20 -
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
21 -
نيل الأدب من قواعد ابن رجب.
22 -
أصول وقواعد فقهية نظم على بحر الرجز.
23 -
الضياء اللامع من الخطب الجوامع.