الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلا عن العقلاء.
الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا يحل فيه شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف: بمرأى منى، فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام.
المثال الحادي عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه
، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (1)».
والجواب أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق.
وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته. ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟
هل يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولي وبصره ويده ورجله؟
أو يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله؟
ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين:
الأول: أن الله تعالى قال: «وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه (2)» وقال: «ولئن
(1) حديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع جـ 38 من كتاب الرقاق
(2)
صحيح البخاري الرقاق (6502).
سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (1)». فأثبت عبدا معبودا، ومتقربا ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا، وسائلا ومسئولا، ومطعيا ومعطى، ومستعيذا ومستعاذا به، ومعيذا ومعاذا. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر، وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفا في الآخر أو جزءا من أجزائه.
الوجه الثاني: أن سمع الولي وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن، ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعا وبصرا ويدا ورجلا لمخلوق بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير - فكيف يسوغ أن يقال: إنه ظاهر الحديث القدسي وإنه قد صرف عن هذا الظاهر - سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولي بسمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصا، وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعا واتباعا، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502).
المثال الثاني عشر: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة (1)» .
وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه وروى نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2)،
(1) صحيح البخاري التوحيد (7405)، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675)، سنن الترمذي الدعوات (3603)، سنن ابن ماجه الأدب (3822)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 480).
(2)
سورة البقرة الآية 186
وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1)، وقوله:{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (2). وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر (4)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه (5)» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.
فقوله في هذا الحديث: تقربت منه وأتيته هرولة من هذا الباب.
والسلف أهل السنة والجماعة يجرون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول:(6) وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش. وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر أهـ.
فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟
وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟
وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالا لما يريد على الوجه الذي به يليق؟
وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: «أتيته هرولة (7)» . يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل. وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال: «ومن أتاني يمشي (8)» ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله عز وجل الطالب للوصول إليه لا يتقرب ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها أو تارة بالركوع والسجود ونحوهما، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (9)» ، بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب
(1) سورة الفجر الآية 22
(2)
سورة الأنعام الآية 158
(3)
سورة طه الآية 5
(4)
صحيح البخاري الجمعة (1145)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758)، سنن الترمذي الصلاة (446)، سنن أبو داود الصلاة (1315)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 504)، موطأ مالك النداء للصلاة (496)، سنن الدارمي الصلاة (1478).
(5)
صحيح البخاري الزكاة (1410)، صحيح مسلم الزكاة (1014)، سنن الترمذي الزكاة (661)، سنن النسائي الزكاة (2525)، سنن ابن ماجه الزكاة (1842)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 538)، موطأ مالك الجامع (1874)، سنن الدارمي الزكاة (1675).
(6)
ص 446 ج 5 من مجموع الفتاوى
(7)
صحيح البخاري التوحيد (7405)، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675)، سنن الترمذي الدعوات (3603)، سنن ابن ماجه الأدب (3822)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 251).
(8)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687)، سنن ابن ماجه الأدب (3821)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 153)، سنن الدارمي الرقاق (2788).
(9)
صحيح مسلم الصلاة (482)، سنن النسائي التطبيق (1137)، سنن أبو داود الصلاة (875)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 421).