الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة في القرآن وكلام الله
للإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة
المقدسي المعروف بالموفق ابن قدامة
(541 هـ - 620هـ)
درسها وحققها د: يوسف بن محمد السعيد (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن من أعظم الأمور التي وقع فيها الخلاف بين هذه الأمة: مسألة القرآن، فإن سلف هذه الأمة وأئمتها كانوا على صراط مستقيم في هذه المسألة، ولم يكن عندهم أي إشكال فيها فكانوا يعتقدون أن هذا القرآن كلام الله تعالى وأنه منزل منه جل وعلا حتى نبغت نابغة الجهمية، فأتوا بقول خالفوا فيه من سبقهم، وشاقوا بذلك المسلمين، وخالفوا إجماعهم وما كانوا عليه متفقين، وكان لهؤلاء الجهمية الدولة في وقت من الأوقات، فامتحنوا بذلك علماء هذه الأمة، وجعلوا القول بخلق القرآن دليل - الإيمان من عدمه، وقتلوا من قتلوا من العلماء، وسجنوا من سجنوا، وجلدوا من جلدوا، وأجلبوا على ذلك بخيلهم ورجلهم.
(1) الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالرياض
ووقف علماء هذه الأمة الربانيون من أولئك الجهمية موقفا يحمدون عليه، حيث إنهم نصروا السنة، وفضحوا أهل البدع، وكشفوا عوارهم، وبان خزيهم، وافتضح أمرهم.
وقد كفر العلماء من قال بمقالة الجهمية في خلق القرآن، وأجمعوا على ذلك، وصنفوا الكتب والمصنفات في ذلك.
ولما خمدت نار الجهمية، وانطفأت فتنة القول بخلق القرآن، وكان في هذه الأمة من لم يفهم كلام السلف، ولم يرفع بالسنة رأسا، وكان يريد مجادلة الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الطوائف على القول بخلق القرآن، فإنه قد وقع في أخطاء جسيمة لا تقل شناعة عن قول الجهمية والمعتزلة، بل جهم العلماء من قال بها، حيث ظهرت " اللفظية " الذين يقولون: بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وقد شدد العلماء في ذلك.
وقال الإمام أحمد (ت 241) رحمه الله تعالى: " افترقت الجهمية على ثلاث فرق: الذين يقولون: مخلوق، والذين شكوا، والذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة "(1).
وقال أبو زرعة (ت 264) وأبو حاتم (ت 277) الرازيان: " من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي "(2).
(1) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، ومجانبة الفرق المذمومة ـ الرد على الجهمية ـ (1/ 297) رقم (72)
(2)
رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 179).
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280): " إن الحق والصواب الواضح المستقيم الذي أدركنا عليه أهل العلم: أن من زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا مخلوقة، فهو جهمي مبتدع خبيث "(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728) رحمه الله تعالى: " وأما البدعة الثانية المتعلقة بالقرآن المنزل: تلاوة العباد له، وهي مسألة اللفظية فقد أنكر بدعة اللفظية- الذين يقولون: إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق- أئمة زمانهم، جعلوهم من الجهمية، وبينوا أن قولهم يقتضي القول بخلق القرآن، وفي كثير من كلامهم تكفيرهم، وكذلك من يقول: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله، وإنما هو حكاية عنه، أو عبارة عنه، أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك، وهذا محفوظ عن الإمام أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي مصعب الزهري، وأبي ثور، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته ".
(1) رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (2/ 353)
وحقيقة قول القائلين بأن القرآن عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه هو قول اللفظية.
قال الإمام ابن بطة (ت 387) رحمه الله تعالى: " واعلموا رحمكم الله أن صنفا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم وخبث آرائهم وقبيح أهوائهم أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها وتمويها وبهرجة على العامة؛ ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله، هو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة، فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه "(1) وقد كان لأبي محمد موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى قدم صدق في رد هذه البدعة، وبيان فسادها، وصنف في ذلك مصنفات، منها:
1 -
البرهان في بيان القرآن.
2 -
الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم.
(1) الإبانة ـ الرد على الجهمية (1/ 317 - 318)
3 -
حكاية المناظرة في القرآن الكريم.
4 -
هذه الرسالة التي بين أيدينا.
وفي هذه الكتب كلها يقرر بطلان قول الأشعرية.
وقد أحببت نشر هذه الرسالة؛ لأمور:
أولا: أهمية موضوعها، وعظم فائدتها.
ثانيا: جلالة مؤلفها، وكونه من الأئمة الكبار.
ثالثا: لتكمل ما سبق نشره من تلك الكتب المتعلقة بالموضوع نفسه. وقد سلكت- بعد هذه المقدمة- الخطة التالية في العمل في هذه الفتيا:
أولا: ترجمت للمؤلف.
ثانيا: قمت بالتعريف بهذه الرسالة من حيث وصف النسخة الخطية، وإثبات نسبتها للموفق.
ثالثا: قراءة المخطوط، وتصويب ما فيه من أخطاء، وكتابته وفق الرسم الإملائي الحديث.
رابعا: عزوت الآيات إلى مواطنها من السور، وخرجت الأحاديث والآثار، وترجمت لبعض الأعلام، وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق.
والله تعالى أسأل الهداية والسداد، وأن يستر العورات، وأن يغفر الزلات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.