الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النص محققا
ما يقول الفقهاء أئمة الدين وسادات المسلمين، وفقهم (1) الله بتوفيق العارفين فيمن يعتقد أن كلام الله تعالى معنى قائم بالذات، وأن هذه السور والآيات والحروف والكلمات التي هي في مصاحف المسلمين وصدور الحافظين ليست كلام رب العالمين، أهم أهل السنة والجماعة الذين وافقوا أئمة دينهم، وتمسكوا بسنة نبيهم، وقفوا طريق صالح سالفهم أم الذين قالوا: إن القرآن الكريم والكلام القديم الذي هو كلام الله العظيم هو هذه السور والآيات والحروف والكلمات التي في مصاحف المسلمين وصدور العالمين، وأي الفريقين أتبع للحق من ربه وتمسك بسنة نبيه وقفا طريق صالح سلفه أفتونا مأجورين مثابين؟
أجاب الشيخ الإمام العالم العلامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن القرآن العظيم الذي هو كلام الله القديم، المنزل على
(1) في المخطوط: (وفهم) ولعل الصواب ما أثبته.
صفحة فارغة
قلب سيد المرسلين، هو هذا الكتاب العزيز المبين، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، وهو سور محكمات وآيات بينات، وكلمات تامات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، أوله سورة الفاتحة وآخره الناس، سماه الله تعالى قرآنا، وفرقانا، وكتابا، وذكرا، وروحا، ونورا، وضياء، وهدى، ووصفه بكونه عربيا وهاديا ورحمة وشفاء، ينذر ويبشر، ويهدي ويقص، ويقرأ ويتلى ويسمع، ويحفظ، ويكتب، نزله الله تنزيلا، ورتله، وسماه قولا ثقيلا، وفضله على سائر الكتب تفضيلا، وأحكمت آياته ثم فصلت تفصيلا، أمر الله بترتيله، وآمنت بتنزيله، وشهد الله والملائكة بإنزاله إلى رسوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) ندب الله إلى الاستعاذة عند قراءته، وأمر بالاستماع والإنصات عند تلاوته، فمن اعتقد أنه هو القرآن فقد
(1) سورة آل عمران الآية 7
أصاب، وهدي إلى الصراط المستقيم، واعتقد معتقد المسلمين.
ومن زعم أن هذا الكتاب غير القرآن، وأنه كلام المخلوقين، وأن القرآن معنى في النفس لا ينزل ولا يقرأ، ولا يسمع ولا يتلى، ولا ينفع، ولا له أول ولا آخر، ولا جزء ولا بعض، ولا هو سور، ولا آيات وحروف، ولا كلمات، فهذا زنديق راد على رب العالمين، وعلى رسوله الصادق الأمين، مخالف لجميع المسلمين، ناكب عن الطريق المستقيم.
أما رده على الله سبحانه فإن الله تعالى قال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1)، وقال: وقرآنا فرقناه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (2)، وقال:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (3). والذي يرتل وينزل ويقرأ، إنما هو هذا الكتاب وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4)، وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ} (5)، وهذا إشارة إلى حاضر، والذي يقص ويهدي إنما هو هذا الكتاب العربي.
وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} (6) وقال:
(1) سورة المزمل الآية 4
(2)
سورة الإسراء الآية 106
(3)
سورة النساء الآية 166
(4)
سورة الإسراء الآية 9
(5)
سورة النمل الآية 76
(6)
سورة الإسراء الآية 41
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (1) والذي صرفت فيه الأمثال وضربت إنما هو هذا الحاضر.
وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (2)، ولا يتحداهم بالإتيان بما لا يعرفونه ولا يدرون ما هو، وسماه الله عربيا، وأخبر أنه هو الكتاب، فقال تعالى:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3){إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4)، وقال:{حم} (5){وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (6){إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (7)، فمن أنكر كون القرآن هو الكتاب العربي، فهو من الذين لا يعقلون.
ومن أوضح الدلائل على ذلك: أن الكفار قالوا: هذا شعر، فرد الله سبحانه عليهم بقوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (8) وما ليس بحروف لا يجوز أن يكون شعرا عند أحد، فلما سموه شعرا علم يقينا أنهم إنما أرادوا بذلك هذا النظم العربي، فلما نفى الله عنه كونه شعرا، وأثبته قرآنا، لم تبق شبهة لذي عقل أن القرآن هو هذه السور والآيات. كذلك قالوا:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} (9)
(1) سورة الروم الآية 58
(2)
سورة الإسراء الآية 88
(3)
سورة يوسف الآية 1
(4)
سورة يوسف الآية 2
(5)
سورة الزخرف الآية 1
(6)
سورة الزخرف الآية 2
(7)
سورة الزخرف الآية 3
(8)
سورة يس الآية 69
(9)
سورة الفرقان الآية 5
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (1).
فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2). وقالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (3). وقال بعضهم {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (4). فقال سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (5).
وما كانوا يشيرون بهذا القول إلا إلى هذا الكتاب العزيز، وأيضا فإنهم طلبوا الإتيان ببدله، قال الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (6). أفتراهم طلبوا تبديل ما في نفس الباري مما لا يعلمونه ولا يدرون ما هو؟! ثم كيف علموا أن في نفس الله تعالى قرآنا؟! وبأي طريق وصل إليهم؟! هذا وما كان قائل هذه المقالة خلق بعد.
والآيات الدالة على أن القرآن هو هذا الكتاب العربي كثيرة، ومن لم ينتفع بما قد ذكرنا منها لم ينتفع بزيادة عليها، لكنا نتحداهم بما تحدى الله تعالى به نظراءهم من الملحدين، فنقول: إن زعمتم أن هذا من كلام المخلوقين فأتوا بسورة مثله إن كنتم
(1) سورة الفرقان الآية 5
(2)
سورة الفرقان الآية 6
(3)
سورة الأنفال الآية 31
(4)
سورة المدثر الآية 25
(5)
سورة المدثر الآية 26
(6)
سورة يونس الآية 15
صادقين، وإن زعمتم أنه مفترى من دون الله فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين.
وأما بيان مخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقد قرآنا سوى هذا القرآن، ولو اعتقد أن هذا ليس بقرآن، وأن القرآن سواه لبينه لأمته، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته، ثم كيف يكتم مثل هذا الأمر العظيم وقد أمره الله تعالى بتبليغ رسالته، فقال:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته شفيقا عليهم رؤوفا بالمؤمنين رحيما عزيزا عليه ما عنتهم، فكيف يكتم عنهم ما فيه رشدهم، ويتركهم على ضلالتهم، ويستر عنهم الحق والصواب لا يرشدهم إليه، ولا يدلهم عليه، ولا يذكر لهم قولا في ذلك قليلا ولا كثيرا؟!.
هذا ما لا يعتقده مسلم، ثم وإن ساغ له كتمان ذلك، فكيف ساغ له أن يظهر أن القرآن هذا بتلاوته الآيات الدالة على ذلك، وبقوله:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2)، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (3)، وغير هذا من الآيات؟! وقوله: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر
(1) سورة المائدة الآية 67
(2)
سورة الأنعام الآية 19
(3)
سورة الفرقان الآية 30
حسنات (1)»، وقوله: «اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقرؤونه
(1) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في حكاية المناظرة (ص 37)، وفي البرهان (ص42) وصححه فيهما، وقال في لمعة الاعتقاد (18):" ولم أقف عليه بهذه السياقة في شيء من كتب السنة" غير أن معناه أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 41) قال: " حدثنا حمزة الكاتب، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فأعربه، كان له بكل حرف أربعون حسنة ومن أعرب بعضا ولحن في بعض كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن لم يعرب منه شيئا فإن له بكل حرف عشر حسنات ". ومن طريق نعيم أخرجه: أبو الفضل الرازي في فضائل القرآن (ص 143) رقم 111 والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 241) رقم (2097) والخطيب البغدادي في المتفق والمفترق (3/ 1865) رقم 1454، والشجري في أماليه (1/ 119)، وأخرجه ابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (ص 219) رقم (202) من طريق عبد الله بن هارون الغساني عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم به، دون آخره. والحديث بهذا الإسناد ضعيف جدا؛ للضعف الشديد في نوح بن أبي مريم فقد رماه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما بالكذب. أنظر: تهذيب الكمال (.3/ 56)، تهذيب التهذيب (10/ 486)؛ ولضعف زيد العمي فقد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم. انظر: الجرح والتعديل (1/ 560)، ميزان الاعتدال (2/ 102). ورواه ابن منده في الرد على من يقول: ألم حرف (ص 66 - 68) رقم 25، 26 موقوفا على ابن مسعود.
ويقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم (1)»، وغير هذا من الأخبار مما يطول مما يدل على أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو السور والآيات والحروف والكلمات، أفتراه صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن القرآن هو هذا وهو يعلم أنه غير هذا؛ ليصدهم عن الصواب، ويعميهم عن الهدى، ويضلهم عن سبيل الله؟! كلا، بل قائل هذه المقالة وسالك هذه الضلالة أعمى القلب، ضال عن القصد، وليس لمن ادعى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام نصيب؛ فإن الله سبحانه شهد لرسوله، فقال سبحانه:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)، وقال:{إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} (3) وقال: {يس} (4)
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 338)، وأبو داود في سننه (1/ 220) رقم (831)، وابن حبان في صحيحه كما في ترتيب ابن بلبان رقم (3/ 36)(760) و (15/ 120) رقم (6725)، والطبراني في الكبير (6/ 207) رقم (6024) كلهم من طريق بكر بن سوادة عن وفاء بن شريح الصدفي عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب من مسنده (ص171) رقم (466)، وابن المبارك في الزهد (813)، والطبراني في الكبير (6/ 206) رقم (6021)، (6/ 206) رقم (6022) من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن سهل بن سعد الساعدي، وموسى بن عبيدة ضعيف جدا. انظر: تهذيب الكمال (29/ 104 - 114)، تهذيب التهذيب (10/ 356 - 360)
(2)
سورة الشورى الآية 52
(3)
سورة الحج الآية 67
(4)
سورة يس الآية 1
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (1){إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (2){عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ومقتضى قول هذه الطائفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضل أمته بإخباره إياهم أن القرآن هذا الكتاب العربي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما مخالفتهم للمسلمين فإن المسلمين أجمعوا على أن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على أنه معجزته الدالة على صدقه ونبوته، وأجمعوا على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وقصصا وأمثالا، وهذه إنما هو هذا الكتاب.
ولما اختلف أهل السنة والمعتزلة في القرآن: هل هو
(1) سورة يس الآية 2
(2)
سورة يس الآية 3
(3)
سورة يس الآية 4
قديم أو مخلوق؟ إنما اختلفوا في هذه السور والآيات لا غير.
وقد صرحوا بذكر سور القرآن وآياته وحروفه، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما:" إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ".
وقال علي رضي الله عنه: " من كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به كله ".
وسمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن فقال: " أتراه مكفرا؟ إن عليه بكل آية كفارة ".
وقال: " من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن الألف حرف، واللام
حرف، والميم حرف " (1)، وروي نحو ذلك عن ابن عمر.
وروي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: " كنا نتعلم من ابن مسعود التشهد كما نتعلم حروف القرآن "(2).
وقال الحسن: " قرأ القرآن قوم فحفظوا حروفه، وضيعوا
(1) سبق تخريجه.
(2)
لم أجده.
حدوده ".
وذكر الأئمة من السلف عدد آيات القرآن وحروفه وكلماته، ولم يزل ذلك مستفيضا مشهورا بينهم، واتفقوا على أن من جحد آية من القرآن أو كلمة أو حرفا متفقا عليه فهو كافر، وفي هذا الإجماع تسويد وجه كل مخالف (1)، وما علمنا مخالفا في العصر حتى إن كفرة العرب سموه قرآنا، فقالوا:{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (2) وقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} (3)، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (4)
(1) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص 110) وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 174)
(2)
سورة يونس الآية 15
(3)
سورة سبأ الآية 31
(4)
سورة الزخرف الآية 31
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (1){وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ} (2){عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (3)، والجن لما استمعوا القرآن، أنصتوا له، وآمنوا به، وسموه كتابا وقرآنا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (4){يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (5)، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (6).
ومن العجب أن المخالف في هذه المسألة اجترأ على مخالفة رب العالمين ورسوله الصادق الأمين والجنة والناس أجمعين بغير حجة ولا شبهة، ولا استنباط آية، ولا خبر، ولا قول صحابي ولا إمام مرضي، مع زعمه أنه مسلم يعتقد أن كلام الله حجة وكذلك سنة رسوله وإجماع أمته، ثم ترك ذلك كله، كأنه لم يسمع منه شيئا، ولم يفقهه ولم يمر به، وقد قال سبحانه:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (7){وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (8)، والكفار الذين لا يؤمنون بالقرآن أقرب إلى العذر في جحدهم للقرآن من هؤلاء الذين يزعمون أنهم يؤمنون به ثم يتركونه بغير
(1) سورة فصلت الآية 26
(2)
سورة الفرقان الآية 32
(3)
سورة الفرقان الآية 32
(4)
سورة الجن الآية 1
(5)
سورة الجن الآية 2
(6)
سورة الأحقاف الآية 30
(7)
سورة الأنفال الآية 22
(8)
سورة الأنفال الآية 23
حجة، ونسأل الله العافية.
فإن قال قائل: لا نسلم أننا خالفنا الإجماع، بل قولنا هو مقالة السلف.
قلنا: هاتوا أخبرونا من قال قبلكم: إن هذا القرآن عبارة وحكاية، وأن حقيقة القرآن معنى قائم في النفس، ليس فيه سورة ولا آية؟! ومن قال قبلكم: إنه ليس في المصحف إلا العفص والزاج، لا فرق بينه وبين ديوان ابن
حجاج؟
من رد قبلكم على الله تعالى قسمه الذي وصفه بالعصمة، فقال في كتابه الذي أحكمه:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (1){وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (2){إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (3){فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (4).
من قال: إن القرآن العظيم غير الكتاب المبين والذكر الحكيم؟
أخبرونا هل وجدتم هذه الضلالة وقبيح هذه المقالة عند أحد من المتقدمين سوى قائدكم إلى
(1) سورة الواقعة الآية 75
(2)
سورة الواقعة الآية 76
(3)
سورة الواقعة الآية 77
(4)
سورة الواقعة الآية 78
الجحيم، الناكب بكم عن الصراط المستقيم، الذي لم يعرف له فضيلة في علم شرعي ولا دين مرضي، سوى علم الكلام المذموم المشئوم الذي الخير فيه معدوم، نشأ في الاعتزال إلى أربعين عاما يناظر عليه ويدعو الناس إليه، ثم أثمر ذلك مقالته
هذه التي يرد بها على الله سبحانه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم وخالف به المسلمين والجنة والناس أجمعين، فكيف رضيتم به إماما عوضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكيف قدمت قوله على قول الله سبحانه؟!
وكيف خالفتم إجماع المسلمين بمجرد قوله بلا حجة سوى مجرد تقليده والمصير إلى قوله؟!
وما عوض لنا منهاج جهم
…
بمنهاج ابن آمنة الأمين (1)
فلسان حالكم يقول: إن الحق ضاع عن رب العالمين ورسوله الصادق الأمين والصحابة والتابعين والجنة والناس أجمعين، حتى وجده قائدكم إلى الجحيم، فدعاكم إليه ونبهكم، فأجبتم مقاله، ورضيتم حاله، وقبلتم محاله، ونسبتم من لم يوافقكم على هذه الضلالة إلى الضلالة، ورميتموه بالجهالة.
وأهل السنة قبلوا قول ربهم ووصيته، واتبعوا رسول ربهم وسنته، وسلكوا سبيل سلفهم وطريقته {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2){الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3) والله أعلم.
(1) ذكر هذا البيت مع غيره من الأبيات: اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 148).
(2)
سورة الأنعام الآية 81
(3)
سورة الأنعام الآية 82
تمت الفتوى المباركة على يد أفقر الورى إلى رحمة ربه الجليل، عبد صالح بن حسن بن صالح المقدسي الحنبلي السلفي، مصليا مسلما محوقلا يوم الاثنين 17 رجب سنة 1227 هـ.
صفحة فارغة
نداء الله نبيه الكريم في آي الذكر الحكيم
للدكتور / بدر بن ناصر البدر (1)
المقدمة:
الحمد الله رب العالمين إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن الله عز وجل قد أنعم على هذه الأمة وامتن عليها بأن أرسل إليها أفضل رسله وخيرته من خلقه وأنزل عليه القرآن هدى ونورا، ضياء وشفاء، يقول تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2).
بعثه الله عز وجل بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وجعله رحمته المهداة ونعمته المسداة، ففتح الله به أعينا عميا وقلوبا غلفا وآذانا صما، أنار به الطريق وأوضح به المحجة، وأوجب على الأمة محبته وطاعته واتباع سنته وألا يعبد جل وعلا إلا بما شرع. وقد بذل عليه الصلاة والسلام جهده
(1) الأستاذ المساعد بقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بالرياض / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2)
سورة آل عمران الآية 164
ووقته وما يملك في بيان الدين ودعوة الناس إليه، حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد عظم الله عز وجل منزلة رسوله عليه الصلاة والسلام عنده وأعلى قدره، وخصه بفضائل ومحاسن تدل على شرفه ورفعة مكانته، وأثنى عليه بها وأثابه عليها الجزاء الأوفى، وإن العلم بما خصه الله به من الفضائل الكريمة والمحاسن الجميلة والأخلاق الحميدة وتأييده بالمعجزات الباهرة والبراهين الواضحة ليغرس في القلوب محبته والإيمان به، ويوجب على الأمة طاعته والتمسك بسنته، والسير على نهجه واقتفاء أثره، والتحاكم إليه وإلى سنته في كل شأن من شؤون الحياة، عن إيمان راسخ وحب صادق، يقول تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)، ويقول تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
وفي القرآن الكريم آيات بينات دالة على عظيم قدره وعلو منزلته عند ربه جل وعلا، منها أن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم، أما هو فقد ناداه بوصفه الشريف " الرسول " في موضعين من القرآن، و " النبي " في ثلاثة عشر موضعا، وناداه بوصف مشتق من حالته التي كان عليها " المزمل "، " المدثر" لطفا به وتأنيسا له وشفقة عليه.
(1) سورة النساء الآية 65
(2)
سورة آل عمران الآية 31