المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٦١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

- ‌النذر والذبح للولي

- ‌حكم دعاء غير الله

- ‌دعوة الجن

- ‌حكم الغلو في القبور والآثار

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ليلة القدر هي أفضل الليالي

- ‌ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان

- ‌علامة ليلة القدر

- ‌قد ترى ليلة القدر بالعين

- ‌تعريف الاعتكافوبيان المقصود منه

- ‌حكم الاعتكافوما يجب على المعتكف التزامه

- ‌محل الاعتكاف ووقته وحكم قطعه

- ‌ الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

- ‌حكم خروج المعتكفمن معتكفه للإتيان بعمرة

- ‌الذنوب تتضاعف فيالزمان والمكان الفاضل كيفا لا كما

- ‌مضاعفة الأعمال الصالحة بمكة

- ‌حكم التفرغ للعبادة في رمضان

- ‌ الدعاء في السجود بأمور الدنيا

- ‌ وضع المكياج بعد الوضوء

- ‌ صلى العشاء في جماعة والفجر مع الجماعة، هل يكتب له قيام الليل كله

- ‌ ينام بعض الناس في المسجد وهم يسبحون بالمسابح فهل يجب عليه إعادة الوضوء قبل الصلاة

- ‌ حكم من مس ذكره أثناء التنشيف بعد اغتساله

- ‌ نقض وضوء من مس ذكره

- ‌ لمس العورة أو حكها حتى ولو فوق الملابس ولو لم تتحرك شهوته هل ينقض الوضوء

- ‌ لمس المتوضئ يد زوجته فهل ينتقض وضوءه

- ‌ هل ينتقض الوضوء بملامسة أو (مصافحة) المرأة الأجنبية

- ‌ هل يفسد الوضوء بمجرد النظر إلى النساء والرجال العراة

- ‌ الوضوء من أكل لحم الجزور

- ‌ لحم الجزور، هل هو من نواقض الوضوء أم لا

- ‌رسالة في القرآن وكلام الله

- ‌ترجمة المؤلف:

- ‌التعريف بالرسالة:

- ‌نماذج من صور المخطوطة

- ‌النص محققا

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: رفعة قدره عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل:

- ‌المبحث الثاني: النداء في القرآن الكريم:

- ‌الفصل الأول: أساليب نداء الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام:

- ‌المبحث الأول: النداء بصفة الرسالة:

- ‌المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة:

- ‌المبحث الثالث: النداء بصفات أخرى:

- ‌المبحث الرابع: ما قيل: إنه نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس كذلك:

- ‌الفصل الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام والمعاني التي تضمنها:

- ‌المبحث الأول: ما يعقب النداء في القرآن الكريم:

- ‌المبحث الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام في القرآن:

- ‌المبحث الثالث: المعاني التي تضمنها نداؤه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثالث: خصائص نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن:

- ‌المبحث الأول: نداؤه عليه الصلاة والسلام بالوصف لا باسمه العلم:

- ‌المبحث الثالث: الفرق بين ندائه عليه الصلاة والسلام والإخبار عنه:

- ‌الخاتمة:

- ‌تنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه

- ‌المقصود بتنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه:

- ‌القواعد العامة لتنفيذ العقوبة التعزيرية:

- ‌ عمومية التعزير:

- ‌ من يقيم التعزير:

- ‌ علانية التعزير:

- ‌ مكان التعزير:

- ‌كيفية تنفيذ العقوبات التعزيرية في الفقه:

- ‌ تنفيذ عقوبة الجلد:

- ‌ آلة الجلد:

- ‌ جلد الرجل:

- ‌ هل يجلد الرجل قائما أو قاعدا

- ‌ صفة المجلود عند جلده:

- ‌ جلد المرأة:

- ‌ تجريد المرأة من ثيابها:

- ‌ هيئة المرأة عند الجلد:

- ‌ من يتولى جلد المرأة:

- ‌ صفة الجلد:

- ‌ موضع الضرب من الجسم:

- ‌صفة مسك السوط:

- ‌ أقل الجلد:

- ‌ أشد الضرب:

- ‌ وقت إقامة الجلد:

- ‌ تنفيذ عقوبة السجن:

- ‌ مكان السجن:

- ‌ صفة السجن:

- ‌ مدة السجن:

- ‌ حالات خروج السجين:

- ‌ ما يمنع المحبوس عنه:

- ‌ عزل الرجال عن النساء:

- ‌ تنفيذ عقوبة القتل:

- ‌ تنفيذ عقوبة النفي:

- ‌ المقصود بعقوبة النفي:

- ‌ 2 - مشروعية النفي:

- ‌ 3 - الحكمة من عقوبة النفي:

- ‌ مدة النفي:

- ‌ تنفيذ عقوبة الصلب:

- ‌ كيفية الصلب:

- ‌ ما لا يمنع عن المصلوب:

- ‌ مدة الصلب:

- ‌سقوط العقوبة التعزيرية وأسبابه في الفقه:

- ‌ العفو:

- ‌ التوبة:

- ‌ الموت:

- ‌دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهابفي دائرة المعارف الإسلامية

- ‌تمهيد: تعريف بدائرة المعارف الإسلامية:

- ‌الطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌ نظرة عامة لما في الدائرة:

- ‌ عدم وجود الأدلة على ما زعموا:

- ‌ علماء الدعوة وتكفير المسلمين:

- ‌ وصف أتباع محمد بن عبد الوهاب بالمشبهة:

- ‌ اتهامهم بإنكار الإجماع والقياس:

- ‌ اتهامهم بالتطرف والتشدد والتزمت:

- ‌ فيما يتعلق بالقبور:

- ‌ الرد على وصفهم بالقرصنة:

- ‌ فيما يتعلق بتجارة الرقيق:

- ‌ فيما يتعلق بالتقليد:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة:

وذلك كما في هاتين الآيتين، ويتجه النداء بصيغة (يا أيها النبي) فيما عدا الحالين السابق ذكرهما، وذلك حينما يكون الغرض توجيه الرسول عليه الصلاة والسلام في شأن عام أو خاص به وبأهله، وذلك في ثلاث عشرة آية.

ص: 197

‌المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة:

جاء ذلك في ثلاث عشرة آية:

1 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) في هذه الآية نداء للنبي صلى الله عليه وسلم بوصف النبوة إشعارا برفعة قدره وعلو منزلته، واعتناء بمضمون الخطاب وما يدل عليه من أوامر وتعاليم عظيمة، مهد لقبولها وتسهيلها بما سبق في السورة من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين، وأن الفلاح والخير في طاعة الله عز وجل وطاعته (2).

وفي معنى الآية قولان:

أحدهما: أن الله كافيك وحافظك وناصرك ومؤيدك وكافي أتباعك المؤمنين وناصرهم فلا تحتاجون مع الله إلى أحد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو اختيار المحققين من أهل

(1) سورة الأنفال الآية 64

(2)

ينظر: روح المعاني 10/ 30، تفسير التحرير والتنوير 10/ 65.

ص: 197

العلم، وهذا القول هو مقتضى كمال التوحيد، وهو كفاية الله له ولهم، كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1)، فالحسبلة مقتضى التوكل، وإنما يكون التوكل على الله وحده، كما قال لنبيه:{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2) أي: عليه وحده، بدلالة تقديم الظرف، ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة (3).

الثاني: أن المعنى: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، فإن الله ينصرك بهم، وهذا قول مرجوح لما سبق.

2 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (4).

تكرر النداء مرة أخرى لنبينا صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه؛ تكريما له ورفعة لقدره، وللتنويه بشأن الكلام الوارد بعد

(1) سورة آل عمران الآية 173

(2)

سورة الزمر الآية 38

(3)

ينظر: تفسير المنار 10/ 74.

(4)

سورة الأنفال الآية 65

ص: 198

النداء، وإظهارا لكمال الاعتناء بشأن المأمور به، وهو المبالغة في الحث على القتال (1)، قال الراغب:" التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه "(2).

ثم وعدهم بأنهم إن صبروا في قتال الكفار، الواحد لعشرة غلبوا بعون الله وتأييده، وذلك متى احتسبوا أنفسهم في سبيل الله وثبتوا عند لقاء عدوهم.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (3) بيان لسبب انتصار المؤمنين عليهم، وهو أن الكفار قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى وطاعته وإعلاء لكلمته كما يفعل المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان، فلا يستحقون- والحالة هذه- إلا القهر والخذلان، وقيل: لأن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد، والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها، ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب، فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية، وإنما السعادة في الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا، ولا يلتفت إليها، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير (4).

(1) ينظر: روح المعاني 10/ 30، تفسير التحرير والتنوير 10/ 66.

(2)

المفردات 113.

(3)

سورة الأنفال الآية 65

(4)

ينظر: جامع البيان 10/ 27، التفسير الكبير 15/ 199، روح المعاني 10/ 30، 31.

ص: 199

ثم نسخ هذا الأمر في الآية بالآية التي بعدها، قال تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) شق ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3) قال: " فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم ".

3 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4).

هذه الآية والتي تليها: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (5) متممتان للكلام في أسرى بدر، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرغبهم في الإسلام وبيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عقاب بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن

(1) سورة الأنفال الآية 66

(2)

سورة الأنفال الآية 65

(3)

سورة الأنفال الآية 66

(4)

سورة الأنفال الآية 70

(5)

سورة الأنفال الآية 71

ص: 200

ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين (1).

وقد جاء في سبب نزولها في أسارى بدر عدة ألفاظ، منها ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} (2) كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية (3) من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا، إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله (4)، والخطاب للعباس ولغيره (5).

أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للأسرى الذين في يده وأيدي أصحابه ممن أخذوا منهم الفداء: إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما وتصديقا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء ويغفر لكم جرمكم الذي أجرمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله، وإن يريدوا غدرا وخيانه بإظهار خلاف ما في أنفسهم، فقد خانوا الله من قبل حيث خالفوا أمره من قبل وقعة بدر، فأمكن منهم المؤمنين ببدر، والله عليم بما يقولون

(1) ينظر: التفسير الكبير 15/ 211، تفسير المنار 10/ 100.

(2)

سورة الأنفال الآية 70

(3)

أوقية: سبعة مثاقيل وأربعون درهما، القاموس (وقى) 4/ 401.

(4)

ينظر: جامع البيان 10/ 35، أسباب النزول 276، 277، الدر المنثور 4/ 111 - 113.

(5)

ذكر الرازي في التفسير الكبير 15/ 211، 212 ستة أوجه من الآية للدلالة على أنها عامة.

ص: 201

بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم، حكيم في تدبير أمور خلقه (1).

(1) ينظر: جامع البيان 10/ 34 - 36.

ص: 202

4 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1).

في هذه الآية يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين مع الغلظة والشدة عليهم وعدم اللين معهم، وسبب أمره صلى الله عليه وسلم بهذا لأنه جبل على الرحمة والرأفة بالأمة، فأمر بأن يتخلى عن جبلته في حق الكفار والمنافقين، وأن لا يغضي عنهم ويتسامح معهم كما كان شأنه من قبل، وجمع في الآية جهاد هاتين الفئتين لإلقاء الرعب في قلوبهم، فإن كل واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامل معاملة الكفار والمحاربين، فيكون ذلك قاطعا لدابرهم ومستأصلا لشوكتهم (2).

أما جهاد الكفار فظاهر، وأما جهاد المنافقين فمختلف في المراد به، لأنهم غير مظهرين للكفر بل ظاهرهم الإسلام، وهم مع المسلمين في غالب أحوالهم، قال ابن عباس:" أمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم "(3).

(1) سورة التوبة الآية 73

(2)

ينظر: تفسير التحرير والتنوير 10/ 266، 267.

(3)

رواه الطبري في تفسيره 10/ 126.

ص: 202

وقال الحسن وقتادة: " جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحدود، أقم حدود الله عليهم "(1)، واستشكل هذا القول بأن إقامة الحدود واجبة على غيرهم أيضا، فلا يختص ذلك بهم (2).

وقيل: جاهد الكفار والمنافقين معا باليد واللسان وبكل ما أطاق جهادهم، روى الطبري عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (3) قال: " بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه"(4) واختار هذا القول الطبري ثم قال: " فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟

قيل: إن الله - تعالى ذكره - إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكل هو- جل ثناؤه- بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر " (5).

(1) رواه عنهما الطبري في تفسيره 10/ 126، 127

(2)

ينظر: روح المعاني 10/ 137.

(3)

سورة التوبة الآية 73

(4)

ينظر: جامع البيان 10/ 126

(5)

ينظر: جامع البيان 10/ 127، وذهب إلى هذا ابن كثير في تفسيره 2/ 371.

ص: 203

فلا غرو إذا أن يكون جهاد المنافقين فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط وحرج بين رحمته صلى الله عليه وسلم ولينه مع المؤمنين المخلصين، وبين شدته في قتاله الأعداء الحربيين، مما يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم (1).

5 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2).

في هذه الآية نداء من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بوصفه الشريف (النبي) وترك نداءه باسمه كرامة له وتشريفا وإعلاء لمحله وتنويها بفضله وجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، ولأن مواجهة العظماء بأسمائهم في النداء لا تليق بخلاف الإخبار عنهم (3).

وهذا هو النداء الأول في هذه السورة، افتتح به؛ لأن غرضه والمراد منه هو الأصل، حيث تضمن الأمر بالتقوى وواجب تأدية رسالة ربه على أكمل وجه، دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، سيرا على منهج الله مع التوكل عليه وحده، وما بعده من النداءات الأربعة مندرجة أغراضها في هذا الغرض الأساس (4).

(1) ينظر: تفسير المنار 10/ 551.

(2)

سورة الأحزاب الآية 1

(3)

ينظر: الكشاف 3/ 248، البحر المحيط 7/ 210، روح المعاني 21/ 143، حاشية الشهاب 7/ 457.

(4)

ينظر: تفسير التحرير والتنوير 21/ 249، 250.

ص: 204

وقد اختلف في المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالتقوى مع أنه خير المتقين على الإطلاق، أعرف الناس بالله وأشدهم له خشية، فقيل: المراد واظب على ما أنت عليه من التقوى واثبت عليه وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب عظيم لا يبلغ آخره، وقيل: المراد الازدياد من التقوى فإن مراتبها لا تتناهى، فكان عليه الصلاة والسلام يزداد علمه وتقواه واستغفاره، وتتجدد له هذه المقامات، على حد قوله صلى الله عليه وسلم:«إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة (1)» . وقيل: إن هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بتقواه وهو خير المتقين، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى، وأمره صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل مانع له من طاعة الكافرين والمنافقين ومتابعتهم، وخص الكافرين والمنافقين بالذكر هنا ليشمل من هو معلن كفره مصرح به، أو من هو متستر باسم الإسلام وهو مبطن للكفر، سواء قرب أم بعد، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين، قال تعالى:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2)، ثم أمره بالتوكل عليه

(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 8/ 72 عن الأغر المزني رضي الله عنه.

(2)

سورة الأحزاب الآية 2

ص: 205

وتفويض الأمور إليه، وهو خير حافظا موكولا إليه كل الأمور، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1)، وجاء الإظهار في لفظ الجلالة مقام الإضمار للتعظيم والتقرير (2).

6 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (3){وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (4).

ذكر الرازي وجه تعلق هذا النداء بما قبله من النداء الأول، وهو " أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين، التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. . . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (5) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة (6).

وافتتاح هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (7) تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به، وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب

(1) سورة الأحزاب الآية 3

(2)

ينظر: التفسير الكبير 25/ 191، 192، البحر المحيط 7/ 210، 211، روح المعاني 21/ 144.

(3)

سورة الأحزاب الآية 28

(4)

سورة الأحزاب الآية 29

(5)

سورة الأحزاب الآية 1

(6)

التفسير الكبير 25/ 206، وانظر: روح المعاني 21/ 182.

(7)

سورة الأحزاب الآية 28

ص: 206

مرتبة النبوة ومقام الرسالة (1).

وقد ثبت في الصحيحين في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا قول عائشة: «فأنزلت آية التخيير فبدأ بي أول مرة، فقال: إني ذاكر لك أمرا، ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله قال: إلى قوله: قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة (4)» .

فقد خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بأمر الله له أن يقول: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (5) أي: السعة والتنعيم فيها {وَزِينَتَهَا} (6) أي: زخرفها ومباهجها، {فَتَعَالَيْنَ} (7) أي: أقبلن بإرادتكن واختياركن {أُمَتِّعْكُنَّ} (8) أي: أعطكن متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (9) التسريح في الأصل مطلق الإرسال كني به عن الطلاق {جَمِيلًا} (10) أي: ذا حسن كثير، بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي، وقيل: الطلاق

(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 21/ 315.

(2)

رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية 8/ 519 برقم 4785، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الطلاق- باب بيان آن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية 4/ 185، 186.

(3)

سورة الأحزاب الآية 28 (2){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}

(4)

سورة الأحزاب الآية 29 (3){أَجْرًا عَظِيمًا}

(5)

سورة الأحزاب الآية 28

(6)

سورة الأحزاب الآية 28

(7)

سورة الأحزاب الآية 28

(8)

سورة الأحزاب الآية 28

(9)

سورة الأحزاب الآية 28

(10)

سورة الأحزاب الآية 28

ص: 207

الخالي عن الخصومة والمشاجرة والإيذاء (1). وفي تقديم التمتيع على التسريح مع أنه في الواقع بعده، ما يدل على كرمه عليه الصلاة والسلام وحسن خلقه، وفي ذلك إيناس لهن وقطع لمعاذيرهن من أول الأمر، حيث سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة وتوسعة الحال (2).

وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} (3) أي: تردن رضا الله لما يريده رسوله وهو البقاء في عصمته، ونعيم الدار الآخرة الباقي، وتؤثرن ذلك على هذه الدنيا الفانية {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} (4) أي: هيأ ويسر {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} (5) جزاء إحسانهن {أَجْرًا عَظِيمًا} (6) لا تحصى كثرته ولا تستقصى عظمته، قال الرازي:" الأجر العظيم: الكبير في الذات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات "(7).

ولما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤي الفرح في وجهه مسرورا بذلك، فشكرهن الله على ذلك فجعلهن أمهات المؤمنين، وقصره عليهن فلم ينكح بعدهن، قال تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (8) الآية.

(1) ينظر: جامع البيان21/ 99، 100، روح المعاني 21/ 181، 182

(2)

. ينظر: البحر المحيط 7/ 227، أنوار التنزيل للبيضاوي 4/ 61، روح المعاني 21/ 181

(3)

سورة الأحزاب الآية 29

(4)

سورة الأحزاب الآية 29

(5)

سورة الأحزاب الآية 29

(6)

سورة الأحزاب الآية 29

(7)

التفسير الكبير 25/ 207

(8)

سورة الأحزاب الآية 52

ص: 208

فرفع الله محلهن وأجل قدرهن، وجعلهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وشاهدن من أحواله وأفعاله وأقواله بالليل والنهار ما لم يكن لغيرهن، فكن أشد تعلقا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على اقتفاء أثره والتمسك بسنته، وقد ذكرهن الله ذلك تذكيرا بديعا بقوله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) الآية (2).

7 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3){وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4).

هذا هو النداء الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، فإن الله تعالى لما أبلغه بالنداء الأول: ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني: ما هو متعلق بأزواجه، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه تنويها بشأنه وزيادة رفعة في قدره، وبين له أركان رسالته، ذكر له هنا خمسة أوصاف هي: شاهد، مبشر، نذير، داع إلى الله، سراج منير، فهذه الأوصاف تنطوي على مجامع الرسالة وعليها تقوم الدعوة إلى هذا الدين، ولذلك اقتصر

(1) سورة الأحزاب الآية 34

(2)

ينظر: روح المعاني 21/ 182، حاشية زادة على البيضاوي 4/ 62، تفسير التحرير والتنوير 21/ 317

(3)

سورة الأحزاب الآية 45

(4)

سورة الأحزاب الآية 46

ص: 209

عليها من بين أوصافه الكثيرة (1). وقيل: إن السورة فيها تأديب وتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه، فقوله في ابتدائها:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (2) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (3) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} (4) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق (5).

(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 22/ 52.

(2)

سورة الأحزاب الآية 1

(3)

سورة الأحزاب الآية 28

(4)

سورة الأحزاب الآية 45

(5)

ينظر التفسير الكبير 25/ 217.

ص: 210

فأول أوصافه: أنه شاهد، وقد اختلف في المراد به، فقيل: يكون شاهدا على الخلق يوم القيامة بما بلغهم، كما قال تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1)، وقيل: إنه شاهد أن لا إله إلا الله، وقيل: شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وبأعمال الخلق، كما قال تعالى:{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2).

الوصف الثاني والثالث: قوله: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) فيه ترتيب حسن فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل شاهدا مبلغا لا إله إلا الله، مرغبا في ذلك، يبشرهم بالجنة إن صدقوه وآمنوا به

(1) سورة البقرة الآية 143

(2)

سورة النساء الآية 41

(3)

سورة الأحزاب الآية 45

ص: 210

وعملوا بما جاءهم به من ربه،، ونذيرا من النار أن يدخلوها إن هم كذبوه ولم يؤمنوا به وخالفوا ما جاءهم به، وقدم التبشير على الإنذار لشرف المبشرين وعظيم ثوابهم، ولأنه المقصود الأصلي، إذ هو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

الوصف الرابع: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (1) أي: يدعو الناس إلى توحيده سبحانه وإلى سائر ما يجب الإيمان به وطاعته والحذر من معصيته، والوقوع في نواهيه، وقوله:{بِإِذْنِهِ} (2) أي: بأمره إياك بذلك.

الوصف الخامس: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) أي: ضياء ينير لمن استضاء بضوئه، وهو النور الذي أتى به الخلق من عند الله، فهو يهدي به من اتبعه من أمته، مؤمنا به عاملا بما يأمرهم به، تاركا ومجانبا ما حذرهم منه، وما أتاهم به مبرهن عليه، مظهر على غيره بأوضح الحجج وأصدق الأدلة.

وبولغ في الوصف بالإنارة، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودق فتيله، فهو كوصف الشيء بالمشتق من لفظه كقولهم: شعر شاعر وليل أليل، أو من معناه كالآية، لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به، فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أوضح الهدي وإرشاده أبلغ الإرشاد، فهو كالسراج الوقاد الذي يضيء ظلمة المكان، فهديه ودعوته واضحة لا لبس فيها، لا تترك باطلا إلا فضحته ولا شبهة إلا أزالتها، وهو القائل:

(1) سورة الأحزاب الآية 46

(2)

سورة الأحزاب الآية 46

(3)

سورة الأحزاب الآية 46

ص: 211

«قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (1)» .

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.

8 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3)

(1) جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في مسنده 4/ 126، وابن ماجه في سننه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 13، 14، وفي السلسلة الصحيحة 2/ 647، 648 برقم 937.

(2)

سورة الأحزاب الآية 45

(3)

سورة الأحزاب الآية 50

ص: 212

قال ابن عاشور: " نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به، هو بيان ما أحل له من الزوجات والسراري، وما يزيد عليه وما لا يزيد، مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به، أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه، أو مما روعي في تخصيصه به علو درجته "(1).

فالآية امتنان وتذكير بنعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه عز وجل قد اختار لرسوله عليه الصلاة والسلام الأفضل والأولى واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغير ذلك من الخصائص وآثره بما سوى ذلك، مما فيه رفعة قدره، وعلو منزلته، ومما جاء في الآية على وجه الإجمال:

قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (2) أي: أعطيتهن مهورهن، وتسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، لا يعرف بينهم غيره، وفي التعجيل بإعطاء المهر براءة الذمة وطيب النفس وأولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) تفسير التحرير والتنوير 22/ 62.

(2)

سورة الأحزاب الآية 50

ص: 213

وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (1) فالجارية التي سباها الرجل بنفسه وغنمها في الحرب أحل وأطيب من التي اشتراها من غيره، لأنه لا يدري كيف حالها، ولأن الله قال:{مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (2) وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أن رزق الله يطلق على الحلال دون الحرام، وأولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (3) أي: نكاح اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه، والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة والمقارنة فيها، يقال: دخل فلان معي في كذا، أي: كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان.

قال الحافظ ابن كثير: " هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع "(4).

وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (5) أي:

(1) سورة الأحزاب الآية 50

(2)

سورة الأحزاب الآية 50

(3)

سورة الأحزاب الآية 50

(4)

تفسير القرآن العظيم 3/ 499.

(5)

سورة الأحزاب الآية 50

ص: 214

وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها، ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وذلك تكرمة لنبيه وإجلالا لقدره، وجاء الإظهار في موضع الإضمار في قوله:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} (2) للإيذان والإعلام بأن هذا الحكم مما خص به تكرمة له، لأجل النبوة، وتكريم تفخيم له، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته وفي ذلك تزكية لفعل المرأة التي تهب نفسها له بأنها راغبة لكرامة النبوة وجليل قدر الرسالة، فأرادت أن تكون في عداد أهل بيته ومن يشرف بخدمته، ويقرب من هديه وحاله.

أما قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (3) فجملة اعتراضية، معناها: أن ما ذكر فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل أحد المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن له في النكاح وغيره خصائص ليست لغيره.

أما قوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} (4) فتعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في الآية من التوسعة في الازدياد مما خص به عن أمته وفيما ساواهم فيه، فلم يضيق عليه، وهذا تعليم وامتنان، وقد سلك عليه الصلاة والسلام في الأخذ بهذه التوسعات والعيش مع هذه المنن والكرامات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمل من عباده وهو أكملهم، فكان عبدا

(1) سورة الأحزاب الآية 50

(2)

سورة الأحزاب الآية 50

(3)

سورة الأحزاب الآية 50

(4)

سورة الأحزاب الآية 50

ص: 215

شكورا لما خص به من اختيار وإباحة ما هو أولى وأفضل.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) أي: كثير المغفرة فيغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها {رَحِيمًا} (2) أي واسع الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج، ولم يعاقبهم على سالف ذنب منهم بعد توبتهم منه.

9 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3).

قال أبو حيان: " كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان (4) للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن. . . وقوله:{وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم

(1) سورة الأحزاب الآية 50

(2)

سورة الأحزاب الآية 50

(3)

سورة الأحزاب الآية 59

(4)

الغيطان: جمع غائط، وهو المطمئن الواسع من الأرض، القاموس (غوط) 2/ 376.

(5)

سورة الأحزاب الآية 59

ص: 216

النساء إلى دليل واضح " (1).

وقد جاء في سبب نزول الآية عدة روايات، منها: ما روته عائشة رضي الله عنها «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - فكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فنادها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (3)» . وعن أنس رضي الله عنه قال: «قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب (4)» .

وكان البدء بأزواجه وبناته عليه الصلاة والسلام لشرفهن ورفعة قدرهن، فأفردهن بالذكر اهتماما بذلك، فهن من أهل

(1) البحر المحيط 7/ 250

(2)

رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب الوضوء - باب خروج النساء إلى البراز 1/ 248، برقم 146، ومسلم في صحيحه بشرح النووي - كتاب السلام - باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان 14/ 152.

(3)

المناصع: جمع منصع، مواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة، القاموس (نصع) 3/ 89. (2)

(4)

رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب التفسير- باب تفسير لا تدخلوا بيوت النبي 8/ 527، برقم 4790.

ص: 217

بيته (1)، والله عز وجل يقول:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2).

ومعنى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (3) أي: ذلك أقرب أن يعرفن ويميزن لتسترهن بالحجاب والعفة، فلا يتعرض لهن أحد ولا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية من التستر لم يقدم عليها فاسق، بخلاف المتبرجة، فإنه مطموع فيها (4).

وقد كان من المؤمنات الامتثال والانقياد لأمر الله والاستجابة له ولرسوله عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة رضي الله عنها:«رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت: الآية، شققن مروطهن فاعتجرن (8)» ، وعن أم سلمة رضي الله عنها

(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 518، تفسير التحرير والتنوير 22/ 106.

(2)

سورة الأحزاب الآية 33

(3)

سورة الأحزاب الآية 59

(4)

ينظر: البحر المحيط 7/ 250، روح المعاني 22/ 89.

(5)

ذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 660، عنها وعزاه لابن مردويه، وروى البخاري نحوه في التفسير، ورواه أبو داود برقم 4100 في اللباس.

(6)

سورة الأحزاب الآية 59 (5){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}

(7)

المروط: جمع مرط، كساء من صوف أو خز، القاموس (مرط) 2/ 385 (6)

(8)

(7) بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان

ص: 218

قالت: «لما نزلت هذه الآية: خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها (2)» .

10 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3).

اشتملت الآية على بيان بيعة النساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تعددت مواضع ذلك، فوقع ذلك بعد فتح مكة، ووقع أيضا في المدينة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد النساء بذلك بعد صلاة العيد وغيرها (4).

مع شفقته عليه الصلاة والسلام ورحمته بهن وعدم تكليفهن ما لا يطقنه، والعفو عما كان منهن قبل ذلك، وكان لا يصافحهن بل كانت بيعتهن من وراء حجاب.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر أسفل منه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة بين النساء، خوفا من رسول الله صلى الله

(1) رواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 123.

(2)

سورة الأحزاب الآية 59 (1){يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}

(3)

سورة الممتحنة الآية 12

(4)

ينظر: جامع البيان 28/ 51، تفسير القرآن العظيم 4/ 352 - 356.

ص: 219

عليه وسلم أن يعرفها، فقال عليه الصلاة والسلام: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فرفعت هند رأسها وقالت: والله لقد عبدنا الأصنام، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد. وفي رواية: قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ - تعني: أن هذا بين لزومه - فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فما أدري أتحل لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: فقالت: أو تزني الحرة؟! فقال عليه الصلاة والسلام: فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (5)».

(1) ينظر: الكشاف 4/ 95، التفسير الكبير 29/ 308، الدر المنثور 8/ 140، ورواه الطبري في تفسيره مختصرا عن ابن عباس من طريق العوفي 28/ 51، وهو إسناد ضعيف فيه ضعفاء ومجاهيل كما بحث ذلك الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه تفسير الطبري 1/ 263، 264 حاشية رقم (1)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 10/ 3350 عن مقاتل بن حيان فذكره، وهذا إسناد معضل، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في الكشاف 4/ 169:" لم أره بسياقه " ثم ذكر ما تقدم وسكت عنه، فالأثر لم يثبت وهو على ضعفه الشديد فيه غرابة ونكارة في بعض ألفاظه، وقد استغربه الزيلعي فقال:" غريب بهذا اللفظ "، تخريج الأحاديث والآثار الواردة في تفسير الكشاف 3/ 462

(2)

سورة الممتحنة الآية 12 (1){وَلَا يَزْنِينَ}

(3)

سورة الممتحنة الآية 12 (2){وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ}

(4)

سورة الممتحنة الآية 12 (3){وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}

(5)

سورة الممتحنة الآية 12 (4){وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}

ص: 220

وعن أميمة بنت رقيقة، قالت:«دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقلن: يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: فقال: فيما أطقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا (2)» .

فقد جاء في الآية أنه بايعهن على هذه الأمور الستة، وقدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح، ثم ما بعده إلى آخرها، وقيل: قدم من الأشياء المذكورة ما هو الأظهر فيما بينهم (3).

وقوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} (4) قال الفراء: " كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى "(5) وذلك أن الولد إذا أرضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى النهي عن الزنا؛ لأن

(1) ينظر: جامع البيان 28/ 51، 52 الدر المنثور 8/ 138، 139.

(2)

سورة الممتحنة الآية 12 (1){وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}

(3)

ينظر: التفسير الكبير 29/ 310.

(4)

سورة الممتحنة الآية 12

(5)

معاني القرآن 3/ 152،

ص: 221

النهي عن الزنا قد تقدم (1). وقوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (2) أي: فيما تأمرهن به من معروف، وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويدخل في هذا عموم ما نهى عنه النساء من النياحة وشق الجيوب ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة.

(1) ينظر: الكشاف 4/ 95، التفسير الكبير 29/ 309، روح المعاني 28/ 80.

(2)

سورة الممتحنة الآية 12

ص: 222

11 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1).

خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء ثم جاء الخطاب عاما له ولأمته؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه إمام قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه، فكان وحده في حكم كلهم، وسادا

(1) سورة الطلاق الآية 1

ص: 222

مسد جميعهم، وجاء اختيار لفظ {النَّبِيُّ} (1) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته ورفعة قدره عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله - حكاية عن فرعون -:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} (2). فأفرد موسى عليه السلام بالنداء؛ لأنه كان أجل الاثنين والمقدم فيهما عليهما السلام ثم عمهما بالخطاب (3)، وقيل: المعنى يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء، فأضمر القول، فالله عز وجل خاطبه وجعل الحكم للجميع، كما يقال للرجل: ويحك أما تتقون الله! أما تستحون منه! تذهب إليه وإلى أهل بيته، على سيبل تلوين الخطاب (4).

وقيل: النداء له ولأمته، فحذف نداء الأمة، والتقدير: يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، فالخطاب له ولهم، أي: أنت وأمتك (5). وقيل: إنه بعدما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته، تكريما له صلى الله عليه وسلم؛ لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما وإجلالا لقدره (6).

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

سورة طه الآية 49

(3)

ينظر: الكشاف وحاشية الإنصاف عليه 4/ 117.

(4)

ينظر: التفسير الكبير 30/ 29، تفسير القرآن العظيم 4/ 377، البحر المحيط 8/ 281.

(5)

ينظر: البحر المحيط 8/ 281، روح المعاني 28/ 128، 129.

(6)

ينظر: روح المعاني 28/ 128.

ص: 223

وقد اختلف في سبب نزول الآية:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة (2)» .

وعن «عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليراجعها. فردها، وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن (3)» .

(1) رواه ابن كثير في تفسيره 4/ 379 وعزاه لابن أبي حاتم في تفسيره هكذا موصولا، ورواه الطبري في تفسيره 28/ 58 مرسلا عن قتادة، وذكره السيوطي في لباب النقول 215، والدر المنثور 8/ 189 وعزاه لابن المنذر عن ابن سيرين مرسلا.

(2)

سورة الطلاق الآية 1 (1){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

رواه مسلم في صحيحه مع شرح النووي بهذا اللفظ، كتاب الطلاق 10/ 69، والحديث قد جاء بعدة ألفاظ منها ما رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب الطلاق - باب قول الله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن الآية 9/ 345، 346، برقم 5251، ومسلم في صحيحه مع شرح النووي - كتاب الطلاق 10/ 59 - 61 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:" أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ".

ص: 224

وعن مقاتل قال: " بلغنا في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أنها نزلت في عبد الله بن عمرو بن العاص، وطفيل بن الحارث، وعمرو بن سعيد بن العاص "(2).

ومعنى الآية: إذا أردتم الطلاق فالتمسوا لطلاقهن الأمر المشروع، ولا تبادروا بالطلاق من حين يوجد سببه، بل طلقوهن لأجل عدتهن، بأن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه أو وهي حامل، وهذا هو طلاق السنة، أما طلاق البدعة فأن يطلقها وهي حائض، أو في طهر جامعها فيه.

وذلك أمر بإحصاء العدة وذلك ضبطها إن كانت تحيض، أو بالأشهر إن لم تكن تحيض وليست حاملا، وذلك لما يترتب عليها من الحقوق، فلا بد من معرفة بدايتها لتعرف نهايتها، والخطاب موجه للزوج وللمرأة إن كانت مكلفة أو لوليها، وأمر بتقواه جل وعلا والخوف منه، وأمر بعدم إخراجها من بيتها زمن العدة بل تلزم بيت زوجها ولا يجوز لها أن تخرج منه، فإن لها الحق في النفقة والسكنى، وتستمر على تلك الحال إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، أي بأمر قبيح واضح موجب لإخراجها، قيل:

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

ذكره السيوطي في الدر المنشور 8/ 189، ولباب النقول 215، وعزاه لابن أبي حاتم عنه.

ص: 225

هو الزنا، وقيل: إدخال الضرر على أهل البيت بأذيتها لهم بالقول والفعل، فهي التي تسببت في إخراج نفسها، وقد كان سكنها جبرا لخاطرها ورفقا بها، وهذا في المعتدة الرجعية، أما المطلقة البائن فلا نفقة لها ولا سكنى.

وما سبق من هذه الأحكام من حدود الله التي وضعها لعباده، فالواجب التزامها والوقوف عندها ولا يجوز تعديها، ففيها الخير والمصالح، ومن ذلك أن في بقاء المطلقة طلاقا رجعيا في بيت زوجها مصلحة عظيمة، فلعله يحدث في قلب زوجها الرحمة والمودة لها، ولعله أن يرى منها ما يعجبه فتميل نفسه إليها، ولعل السبب الموقع للطلاق يزول، ونحو ذلك (1)، وصدق الله القائل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2).

12 -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3).

جاء في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال:

أولا: أنها نزلت في تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه العسل، وذلك في قصة مخرجة في الصحيحين بعدة ألفاظ، منها ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث

(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 378، تيسير الكريم الرحمن 805، 806.

(2)

سورة المائدة الآية 50

(3)

سورة التحريم الآية 1

ص: 226

عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا (2)».

ثانيا: أنها نزلت في تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه وطء جاريته مارية، عن أنس رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله عز وجل: الآية (4)» .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه: «أن أم إبراهيم القبطية أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها، فوجدته حفصة، فقالت: يا نبي الله لقد جئت إلي شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله، في يومي وفي

(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح واللفظ له - كتاب التفسير- باب يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك 8/ 656، برقم 4912، ومسلم في صحيحه مع النووي- كتاب الطلاق 10/ 74، 75.

(2)

مغافير: جمع مغفور، شيء ينضحه شجر العرفط حلو له ريح كريهة منكرة، النهاية (غفر) 3/ 374. (1)

(3)

رواه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - تفسير سورة التحريم 2/ 493، وقال:" صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 386، والحافظ في الفتح 8/ 657 وعزياه للنسائي وصححه السيوطي في لباب النقول 217، والدر المنثور 8/ 214.

(4)

سورة التحريم الآية 1 (3){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

ص: 227

دوري وعلى فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد، فذكرته لعائشة فأظهره الله عز وجل عليه، فأنزل الله: الآيات كلها، فبلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه وأصاب جاريته (2)».

ثالثا: أنها نزلت في الواهبة التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني وهبت لك نفسي، فلم يقبلها، روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما (3)، قال ابن العربي:" أما من روى أن الآية نزلت في الموهوبة فهو ضعيف في السند وضعيف في المعنى، أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه؛ فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، وإنما حقيقة التحريم بعد التحليل ".

(1) رواه الطبري في تفسيره 28/ 102، وقال ابن كثير في تفسيره 4/ 386 بعد أن ذكر له طريقا آخر:" هذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة "، وقال عنه الحافظ في الفتح 8/ 657، بعد أن ذكر بعض طرقه:" وهذه طرق يقوي بعضها بعضا "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 126:" رواه البزار بإسنادين، والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح، غير مبشر بن آدم وهو ثقة ".

(2)

سورة التحريم الآية 1 (1){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

(3)

ذكره السيوطي في لباب النقول 218، والدر المنثور 8/ 217، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عنه.

ص: 228

قال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر قصتي العسل ومارية -:

" فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا "(1)، وقال الشوكاني:" فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة العسل وقصة مارية، وأن القرآن نزل بهما جميعا، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه "(2)، فافتتاح السورة بنداء النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه على أن ما سيذكر بعده، مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة؛ لما اشتمل عليه من بيان الأمور وذكر الأحكام والتوجيهات المناسبة لها، ولأن سبب النزول كان مرتبطا به عليه الصلاة والسلام وفي بيته (3).

وقد أساء الزمخشري الأدب مع مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وزل لسانه بما ينبغي أنه يطهر عنه ويكرم من أعلى الله عز وجل مقامه ورفع من قدره، حيث قال:"وكان هذا زلة منه؛ لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله؛ لأن الله عز وجل إنما أحل ما أحل لحكمة أو مصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة {وَاللَّهُ غَفُورٌ} (4) قد غفر لك ما زللت فيه، {رَحِيمٌ} (5) قد رحمك فلم يؤاخذك به ".

(1) فتح الباري 10/ 657.

(2)

فتح القدير 5/ 252، وانظر: جامع البيان 28/ 102.

(3)

ينظر: تفسير التحرير والتنوير 28/ 346.

(4)

سورة التحريم الآية 1

(5)

سورة التحريم الآية 1

ص: 229

وقد شنع بعض المفسرين على الزمخشري إساءته الأدب وزلل لسانه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فما أطلقه في حق النبي صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبي صلى الله عليه وسلم منه براء، وإذا كان آحاد المؤمنين يتحاشى أن يعتقد تحريم ما أحل الله له، فكيف لا يربأ بمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عما يرتفع عنه منصب عامة الأمة.

وذلك أن تحريم الحلال على وجهين:

الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام، وهذا محظور يوجب الكفر، فلا يمكن صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم أصلا.

الثاني: الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض، وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع، فإذا أراد الحنث فيه والعود إليه كفر كفارة يمين، وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به؛ لرفعة منزلته وسمو مكانته عنده جل وعلا.

وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (1) في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه ما لا يخفى، ونظير

(1) سورة التحريم الآية 1

ص: 230

ذلك تقديم العفو على العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (1).

أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ففيه تعظيم لشأنه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب، وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلى الله عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، والإيناس له مما حصل (3).

13 -

قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4) سبق الحديث عن هذه الآية فيما سبق عند الآية التي مثلها في سورة التوبة (5)، ومناسبته للذي قبله في أول السورة، أن هذا النداء الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح هموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء الكفار والمنافقين بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج (6).

(1) سورة التوبة الآية 43

(2)

سورة التحريم الآية 1

(3)

ينظر: البحر المحيط 8/ 289، حاشية الإنصاف 4/ 125، 126، روح المعاني 28/ 146، 147

(4)

سورة التحريم الآية 9

(5)

ينظر ما سبق ص 22

(6)

ينظر: تفسير التحرير والتنوير 28/ 347

ص: 231