الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: النداء بصفات أخرى:
1 -
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1){قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (2).
افتتح خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيها وإعلاما بأهمية وعظم شأن ما سيوجه إليه ويكلف القيام به، والمزمل اسم فاعل من تزمل، أي: تلفف في الثوب (3). فالمزمل أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، وبها قرأ أبي (المتزمل) على الأصل (4).
ففي مستهل هذه السورة يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل وهو التغطي والتلفف، وينهض للقيام لربه سبحانه ويستعد للأمر العظيم الذي كلف به وهو إبلاغ الرسالة للناس كافة، فالمزمل صفة له عليه الصلاة والسلام، اشتقاقا من الحالة التي كان عليها، وليس اسما من أسمائه، كما ظن السيوطي (5).
وروي عن عكرمة أن المراد بالتزمل هو تزمل النبوة والرسالة (6) وهو معنى مجازي بعيد عن ظاهر الآية (7).
(1) سورة المزمل الآية 1
(2)
سورة المزمل الآية 2
(3)
ينظر: معاني القران للفراء3/ 196، معاني القرآن وإعرابه 5/ 239، البحر المحيط 8/ 360
(4)
ينظر: مختصر في شواذ القرآن 164، البحر المحيط 8/ 360
(5)
ينظر: الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة 238
(6)
رواه ابن جرير في تفسيره 29/ 78، ورجح المعنى الأول
(7)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1871، الجامع لأحكام القرآن 19/ 33
ونداؤه عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) في هذا المقام يراد به تأنيسه وملاطفته والتودد إليه، وقد يعدل عن نداء الشخص باسمه إلى صفة متلبس بها إيناسا وملاطفة له لنفسه للقيام بمهمة يكلف بها، كقوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه:«قم يا نومان (2)» ، وكقوله لعلي رضي عنه:«قم أبا تراب (3)» . قال السهيلي: " وفي خطابه بهذا فائدتان:
إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما فأتاه وهو نائم، وقد لصق بجنبه التراب، فقال «قم يا أبا تراب» ، وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة رضي الله عنه:«قم يا نومان» ، وكان نائما ملاطفة له وإشعارا لترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (4) فيه تأنيس وملاطفة، ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
(1) سورة المزمل الآية 1
(2)
رواه مسلم والسير في صحيحه- كتاب الجهاد غزوة الأحزاب 5/ 177
(3)
رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب فضائل الصحابة- باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 75 برقم 3703، ورواه مسلم في صحيحه- كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل علي بن أبي طالب 7/ 124
(4)
سورة المزمل الآية 1
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل، واتصف بتلك الصفة (1). وقال ابن عاشور: " والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم، فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء، من تعظيم أو تكريم نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (2) أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (3)، فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته. . . فنداء النبي بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (4) نداء تلطف وارتفاق، ومثله قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5)(6).
وهنا أساء الزمخشري الأدب كعادته مع مقام سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لسوء معتقده، معرضا نفسه لعقوبة الله عز وجل، ثم للوم العلماء ونقدهم وردهم عليه، حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يناد بذلك إلا تهجينا للحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفة، واستعداده للاستثقال
(1) التعريف والإعلام 178، وانظر: الجامع لأحكام القرآن 19/ 33، البحر المحيط 8/ 360
(2)
سورة الأنفال الآية 64
(3)
سورة الحجر الآية 6
(4)
سورة المزمل الآية 1
(5)
سورة المدثر الآية 1
(6)
تفسير التحرير والتنوير 29/ 255 - 257، وانظر. حاشية الشهاب الخفاجي 9/ 304، روح المعاني 29/ 101
في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، ثم استشهد على ذلك بأبيات قيلت ذما في جفاة حفاة من الرعاء (1)، كما يقول ابن المنير. ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والاحترام فإنه يربأ بمقام النبي صلى الله عليه وسلم عما قاله الزمخشري (2).
وقال السكوني بعد أن ذكر كلام الزمخشري: " هذا التفسير الذي يليق بعقول المعتزلة في الإلهية والنبوة، ولم يعلم الزمخشري ولا شيعته المعتزلة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزمل من أثنى الله عليه وخصصه بالتأهل للرسالة للثقلين الإنس والجن لكسل كما أشار إليه، ولا للاستثقال في النوم، وقول الزمخشري سوء أدب مع النبوة، وبالجملة فهذا كله كلام من خذل الله عقله ".
وقد حاول بعضهم (3) الدفاع عن الزمخشري وتوجيه عبارته بأن يكون التهجين المذكور محمولا على ما يفهم من معنى الآية من لطيف العتاب الممزوج بالرأفة، ولينشطه ويجعله مستعدا لما
(1) ينظر: الكشاف 4/ 174، وتبعه في هذا البيضاوي والشيخ زاده 4/ 562، وأبو السعود في تفسيره 9/ 49
(2)
ينظر: حاشية الإنصاف على الكشاف 4/ 174
(3)
نقل ذلك عنهم في روح المعاني 29/ 101، حاشية الشهاب 9/ 304
وعده تعالى بقوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1)، ولا يربأ برسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء، فقد خوطب بما هو أشد منه في قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} (2)، قال العلامة الألوسي رادا عليهم:" ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره، فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء، لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به، بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم، ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب، وربما كان العقاب هو الجواب "(3).
ولا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر ربه مع أصحابه رضي الله عنهم، فأحيوا ليلهم بالصلاة وقراءة القرآن، والدعاء والاستغفار، رافضين الدعة والرقاد، وجاهدوا أنفسهم في ذلك.
عن سعد بن هشام بن عامر قال: قلت- لعائشة رضي الله عنها: «يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: فهمت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي،
(1) سورة المزمل الآية 5
(2)
سورة عبس الآية 1
(3)
روح المعاني 29/ 101، وانظر: حاشية الشهاب 9/ 304
فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة (2)» إلخ.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3){قُمْ فَأَنْذِرْ} (4) ثبت في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5) قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (6) فقال سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «جاورت بحراء (7) فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا،!! فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، قال: فدثروني وصبوا علي ماء باردا، قال:
(1) رواه مسلم في صحيحه شرح النووي- كتاب صلاة المسافرين وقصرها- كتاب باب صلاة الليل6/ 26، 27
(2)
سورة المزمل الآية 1 (1){يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}
(3)
سورة المدثر الآية 1
(4)
سورة المدثر الآية 2
(5)
سورة المدثر الآية 1
(6)
سورة العلق الآية 1
(7)
رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير سورة المدثر 8/ 676، 677، برقم 4922 واللفظ له، ومسلم في صحيحه بشرح النووي كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2/ 207، 208
فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1){قُمْ فَأَنْذِرْ} (2){وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3)» فهذا الحديث يقتضي أن أول ما نزل من القرآن سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4) وأنها قبل نزول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (5) والمروي في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور عند علماء الأمة أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (6)، قالت عائشة رضي الله عنها:«كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم. إلى قولها: حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: مما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: الآيات، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره (11)» الحديث.
(1) سورة المدثر الآية 1
(2)
سورة المدثر الآية 2
(3)
سورة المدثر الآية 3
(4)
سورة المدثر الآية 1
(5)
سورة العلق الآية 1
(6)
سورة العلق الآية 1
(7)
رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير سورة " اقرأ " 8/ 715 برقم 4953 ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/ 197 - 204.
(8)
سورة العلق الآية 1 (7){اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
(9)
سورة العلق الآية 2 (8){خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
(10)
سورة العلق الآية 3 (9){اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
(11)
بوادره: جمع بادرة وهي لحمة بين المنكب والعنق، النهاية " بدر "1/ 106. (10)
ولصحة الحديثين ذكر العلماء وجوها في الجمع بينهما منها:
أولا: أن السؤال لجابر رضي الله عنه عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكاملها قبل نزول تمام سورة العلق، فإن أول ما نزل منها صدرها، ويؤيد هذا ما في الصحيحين وأيضا عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه:«فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني. فأنزل الله (3)» .
فقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء (4)» يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء التي نزل فيها {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (5)
ثانيا: أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، لا أولية مطلقة، ويدل على هذا ما جاء صريحا في رواية
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب (وثيابك فطهر) 8/ 678، برقم 4925 ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان ـ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/ 206.
(2)
فجئثت: وفي رواية " فجثثت " أي أفزعت ورعبت، شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 207 (1)
(3)
سورة المدثر الآية 1 (2){يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
(4)
صحيح البخاري بدء الوحي (4)، صحيح مسلم الإيمان (160)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 233).
(5)
سورة العلق الآية 1
أخرى من حديث جابر: «ثم فتر عني الوحي فترة، فبينا أنا أمشي (1)» .
ثالثا: أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، فأول ما نزل للنبوة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) وأول ما نزل للرسالة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3)
رابعا: أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم، وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4) فنزلت ابتداء من غير سبب متقدم.
و (المدثر) اسم فاعل من تدثر، أي: لبس الدثار وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، فالأصل المتدثر فأدغم التاء في الدال لتقاربهما في النطق (5)، وبها قرأ أبي على الأصل (المتدثر)(6).
نودي النبي صلى الله عليه وسلم بوصف مشتق من حاله التي كان عليها، تأنيسا له وملاطفة في الخطاب معه، ولم يناد
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب بدء الخلق- باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه 6/ 314 برقم 3238، ومسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/ 206
(2)
سورة العلق الآية 1
(3)
سورة المدثر الآية 1
(4)
سورة العلق الآية 1
(5)
ينظر: معاني القرآن للفراء، 3/ 200، البحر المحيط 8/ 370
(6)
ينظر: مختصر في شواذ القرآن 164، الجامع لأحكام القرآن 19/ 59