الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يجدر التنبيه إليه: أن الخمر والخنزير ليسا على درجة واحدة في المالية عند الحنفية، بل هي في الخمر أقوى منها في الخنزير؛ وذلك لأن الخمر كان عصيرا قبل التخمر، وهو بعرضية العود إلى الحل بالتخلل، بخلاف الخنزير فإنه ليس ذلك.
وبنوا على ذلك أن العاشر المسلم إذا مر عليه التاجر الذمي بالخمر والخنزير للتجارة فإنه يعشر الخمر من قيمتها دون الخنزير على ظاهر الرواية عندهم؛ لما مر، ولأن حق الأخذ للحماية، والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل فكذا يحميها على غيره، ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسييبه بالإسلام فكذا لا يحميه على غيره (1).
(1) المبسوط (2/ 205)، والهداية (1/ 107).
المبحث الخامس: في مالية الكلب
اختلف الفقهاء في مالية الكلب:
ذهب الحنفية إلى أن الكلب مال. قال الكاساني: (والدليل على أنه مال أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق، فكان مالا)(1)، وهو رأي بعض المالكية (2).
وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إلى أن الكلب ليس مالا، حيث فسر الحنابلة المال بقولهم: (ما فيه منفعة
(1) بدائع الصنائع (5/ 143)، وانظر: الهداية (2/ 121).
(2)
بداية المجتهد (2/ 151)، والمعونة (2/ 1040).
مباحة لغير ضرورة) (1) أو: (ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة)(2) قالوا: فيخرج الكلب؛ لأنه لا يباح اقتناؤه إلا للحاجة (3). وكذلك جاء في شروط القطع في السرقة عندهم: (لا يقطع بسرقة كلب وإن كان معلما؛ لأنه ليس بمال)(4)، والشافعية عللوا بتحريم بيعه وبنجاسته مطلقا (5).
وقد انعكس هذا الخلاف على عدة فروع اختلف فيها الفقهاء بناء على هذا الخلاف، أو تأثرا به، فمن هذه الفروع:
أولا: بيع الكلب: حيث اختلف في حكم بيع الكلب المأذون في اتخاذه.
الرأي الأول: ذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمة بيع الكلب، وهو رواية عن الإمام مالك مستدلين بحديث أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) المقنع (2/ 5).
(2)
منتهى الإرادات (1/ 256).
(3)
معونة أولي النهى (4/ 14)، والممتع في شرح المقنع (3/ 14).
(4)
معونة أولي النهى (8/ 460).
(5)
فتح الباري (4/ 426)، ومغني المحتاج (2/ 247)، وبداية المجتهد (2/ 151).
نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (1)».
وعلله آخرون بنجاسته، ومنهم الشافعية، وعلله آخرون كالحنابلة والمالكية بأنه لا يحل اقتناؤه واتخاذه إلا لحاجة، أي أن إباحته ليست مطلقة.
الرأي الثاني: ذهب الحنفية إلى جواز بيع الكلب. وهو رواية عن الإمام مالك؛ معللين ذلك بماليته قال الكاساني: (ولنا أن الكلب مال، فكان محلا للبيع كالصقر والبازي).
ولأن الشارع قد أذن في اتخاذ الكلب لمنافعه الجائزة، وهو غير نجس عندهم، فكان حكمه حكم سائر المبيعات وعلله بعض المالكية أيضا بإباحة أكله، وهو أحد الرأيين في مذهب مالك.
(1) صحيح البخاري -كتاب البيوع- باب ثمن الكلب (4/ 426) برقم (2237)، وصحيح مسلم -كتاب المساقاة- باب تحريم ثمن الكلب (10/ 230) برقم (1567).
وأجابوا عن النهي الوارد في الحديث عن ثمن الكلب بأن الشارع قد نهى نهي تنزيه؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وأما التسوية في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن، فهو محمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة (ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) في القدر المشترك من الكراهة أعم من التنزيه والتحريم إذ كل واحد منها منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منها من دليل آخر، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه وقد علمنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي (1). ومن أهم أدلة القائلين بعدم تحريم بيع الكلب ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد (2)» وما روي من فعل عمر أو عثمان رضي الله عنهما أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا، ونحوها من الأحاديث والآثار.
(1) المعونة (2/ 1040، 1041)، والكافي لابن عبد البر ص (327)، وفتح الباري (4/ 427).
(2)
سنن الترمذي -كتاب البيوع- باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور (4/ 502) برقم (1299) قال الترمذي: (هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم (رواية عن أبي هريرة) اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج).
قال النووي -رحمه الله تعالى-: (كلها ضعيفة باتفاق المحدثين، وهكذا وضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها، ولأنهم لا يفرقون بين المعلم وغيره؛ بل يجوزون بيع الجميع وهذه الأحاديث الضعيفة فارقة بينهما)(1).
الترجيح:
نظرا للنهي الثابت في الحديث الصحيح عن ثمن الكلب فلا شك في رجحان قول الجمهور بعدم جواز بيعه، وهذا النهي باق لم يثبت دليل صحيح يصرفه عن ظاهره، بل كل ما تعلق به أصحاب الرأي الثاني القائلون بصحة بيعه آثار ضعيفة وتعليلات مردودة، والله تعالى أعلم.
ثانيا: ينبني على مسألة بيعه مسألة أخرى هي: هل يجب على من أتلف الكلب مباح النفع ضمانه بقيمته؟
اختلف الفقهاء في ذلك على الرأي الأول: أنه لا يلزم قيمة الكلب إذا أتلفه؛ لأنه ليس له عرض شرعي؛ لأنه لا يجوز بيعه، وقد ورد النهي عن ثمنه.
وهذا هو رأي الجمهور؛ من الشافعية، والحنابلة، ورواية عن الإمام مالك هي أصح الروايات عنه.
(1) المجموع (9/ 229)، وشرح النووي على صحيح مسلم (10/ 232).
الرأي الثاني: أن متلف الكلب المباح النفع يلزمه ضمانه بقيمته؛ بناء على ماليته، وجواز بيعه، فهو كغيره من الأموال المضمونة.
وهذا هو رأي أبي حنيفة ورواية عن مالك، وفي رواية ثالثة عن الإمام مالك أنه أوجب ضمانه بقيمته مع منع بيعه، وعلل إيجاب الضمان بأنه حيوان يصح الانتفاع به والوصية به، كالخيل والبغال، وأنه بهيمة يجوز الاصطياد به كالبازي، فصار مضمونا بالإتلاف ولو كان بيعه ممنوعا (1).
والذي يظهر لي بعد التأمل في الأقوال ترجيح الرأي الأول، بعدم وجوب ضمان الكلب بقيمته على من أتلفه. وإن وجب عليه التعزير لتعديه، ومما يدل على رجحان ذلك أن الحنفية القائلين بوجوب الضمان على متلفه لم يجرؤوا على إيجاب القطع على سارقه، وذلك لعدم الاتفاق على ماليته؛ قال المرغيناني: (ولا -أي ولا قطع- في سرقة كلب ولا فهد؛ لأن من جنسهما يوجد مباح مرغوب فيه، ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب، فأورث شبهة
…
) (2).
ثالثا: لو قال: له علي شيء، ثم فسره بكلب يحل اقتناؤه؛
(1) المعونة (2/ 1041)، والكافي لابن عبد البر ص (327).
(2)
الهداية (2/ 121).