الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن لم يعاهدهم، وإن لم يحلف لهم عليه الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة .... " إلى أن قال:"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم"(1).
والسمع والطاعة واجبة كذلك لكل من نصبه ولي الأمر حفاظا عن الجماعة ودفعا للخلاف والفرقة:
يقول العلامة ابن أبي العز شارح "العقيدة الطحاوية" رحمه الله: "وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية"(2).
(1) الفتاوى (35/ 9، 10، 12).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 424).
المبحث السادس: إنكار المنكر لا ينافي لزوم الجماعة
تبين لنا من خلال استعراض النصوص الواردة في المبحث السابق أن لزوم الجماعة والسمع والطاعة واجب على المرء المسلم
حتى مع وجود المعاصي والمنكرات ما أقيمت الصلاة، وما لم يقع كفر ظاهر بنص الكتاب أو السنة الصحيحة. لكن ذلك لا يعني إقرار المنكر والرضى به، فإنكار المنكر واجب أيضا أوجبه من أوجب لزوم الجماعة وأدلة وجوبه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كتاب الله قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان (2)» . والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد (3).
والأمر في الآية والحديث يقتضي الوجوب، ثم إن الجماعة التي جاء الأمر بلزومها هي المتابعة للحق، ومتابعة الحق تقتضي رد الباطل وإنكاره، وهي التي تتوافر فيها صفات الخيرية وأهم صفات الخيرية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4).
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2)
صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، سنن أبي داود الملاحم (4340)، سنن ابن ماجه الفتن (4013)، مسند أحمد (3/ 92).
(3)
صحيح مسلم/ كتاب الإيمان 49.
(4)
سورة آل عمران الآية 110
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم شروط النصر والتمكين للجماعة قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية .. يوضح ذلك: أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
…
" (3).
وإذا كان إنكار المنكرات بتلك المنزلة والأهمية بالنسبة للجماعة، فإن القائم به هو أولى الناس بلزوم الجماعة. لكن الإنكار الذي تلك منزلته وأهميته هو الإنكار المنضبط بالضوابط الشرعية الملتزم فيه هدي خير البرية صلوات الله وسلامه عليه، وقد قيده النبي صلى الله عليه وسلم بالاستطاعة وجعله على مراتب حسب قدرة المتصدي للإنكار كما جاء في الحديث السابق.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإزالة المنكر باليد عند القدرة على ذلك مع الأمن من حصول منكر أكبر منه أو مساو له، فإن لم
(1) سورة الحج الآية 40
(2)
سورة الحج الآية 41
(3)
السياسة الشرعية ..
يتحقق بذلك انتقل إلى المرتبة التي تليها وهي الإنكار باللسان بشرطه السابق، فإن تعذر ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة والأخيرة وهي الإنكار بالقلب، وهي كراهية المنكر واستصحاب النية على تغييره عند القدرة. وعمل القلب هذا كاف لرفع التبعة والحرج، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم تغييرا، والإنكار بالقلب أكثر ما تدعو إليه الحاجة عندما تصدر المنكرات ممن له ولاية وسلطان ويغلب على الظن أن الإنكار يؤدي إلى فتنة أو ضرر محقق على المنكر، ولذلك جاء توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من الإنكار مقرونا بالأمر بالسمع والطاعة، ففي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (1)» .
وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع (2)» .
قال النووي رحمه الله في شرحه على هذا الحديث: "معناه من كره ذلك فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من
(1) سبق الحديث (رقم 16).
(2)
سبق الحديث (برقم 17).
لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فليكره ذلك بقلبه، وليبرأ
…
"لكن من رضي وتابع": ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع، وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل يأثم بالرضا به، أو بأن لا يكره بقلبه، أو بالمتابعة عليه" (1).
فذلك هو هدي رسول الله في الإنكار ولا أغير منه على حرمات الله.
أما الإنكار باليد أو اللسان الذي تترتب عليه فتنة أو شر فهو إنكار مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافق لطريقة أهل البدع، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراتب الإنكار ثم قال: "وهنا يغلط فريقان من الناس:
فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما «قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته:"أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده (3)». رواه الترمذي.
والفريق الثاني: من يريد أن يأمر إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه ولا حلم، ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا
(1) شرح صحيح مسلم (4/ 12/ 243).
(2)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3057)، سنن أبي داود الملاحم (4338)، سنن ابن ماجه الفتن (4005)، مسند أحمد (1/ 7).
(3)
سورة المائدة الآية 105 (2){عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه
…
فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع لله ورسوله، وهو متعد في حدوده. كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة قال:«أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم (1)» ولذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة. وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون قتال الأئمة من أصول دينهم" (2).
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة والخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: «أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا ما أقاموا
(1) صحيح البخاري الفتن (7052)، صحيح مسلم الإمارة (1843)، سنن الترمذي الفتن (2190)، مسند أحمد (1/ 433).
(2)
رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 39، 40).