الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجاء تقرير هذا المعنى كذلك في كلام الشاطبي فبعد أن حكى القول بأنها السواد الأعظم قال: " فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة، أو في إمامهم فهو مخالف للحق "(1).
(1) الاعتصام 2/ 260
المبحث الثاني: الجماعة موجودة إلى قيام الساعة
الجماعة التي جاء الأمر بلزومها موجودة على مدار الزمن إلى قيام الساعة، فظاهر تلك الأحاديث التي اشتملت على الأمر بلزومها دال على وجودها؛ إذ لا معنى للأمر بلزوم بشيء لا وجود له، نعم قد يشكل عليه ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه فقد جاء فيه ما نصه: قلت: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " تعتزل تلك الفرق كلها (1)»
…
" (2).
فحذيفة رضي الله عنه افترض عدم وجود الجماعة، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، وهذا قد يفهم منه خلو بعض الأزمنة من الجماعة.
لكن يجاب عن هذا الإشكال بأن افتراض حذيفة رضي الله عنه عدم وجود الجماعة، قد يفهم منه خلو بعض الأزمنة من
(1) صحيح البخاري الفتن (7084)، صحيح مسلم الإمارة (1847)، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4244)، سنن ابن ماجه الفتن (3979)، مسند أحمد (5/ 406).
(2)
انظر الحديث (رقم 7).
الجماعة، وقد يفهم منه خلو بعض البلاد منها أيضا، والمعنى الثاني هو الأقرب؛ لأن حذيفة قال ذلك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، فمراده عدم وجود الجماعة التي يمكن لزومها، وهذا لا ينافي وجود جماعة في بلد آخر يتعذر لزومها، بل ربما تعذر العلم بها لتباعد ما بين البلدين، ويرجح هذا المعنى، بل يجعله متعينا ما جاء في أحاديث الطائفة المنصورة من التصريح ببقاء الطائفة إلى قيام الساعة، ففي " صحيح مسلم " من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1)» .
وفي " صحيح مسلم) أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، حتى تقوم الساعة (2)» .
وفي " سنن الترمذي وابن ماجه " من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (3)»
…
" (4).
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1920).
(2)
صحيح مسلم (كتاب الإيمان، ح 156).
(3)
سنن الترمذي الفتن (2192)، سنن ابن ماجه المقدمة (6)، مسند أحمد (3/ 436).
(4)
سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2192)، وسنن ابن ماجه (المقدمة، ح 6).
فهذه الأحاديث وغيرها قد اشتملت على التصريح ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، والطائفة المنصورة هي الجماعة دل على ذلك أمور ثلاثة:
أحدها: ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه فقد جاء فيه ما نصه: «قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1)» .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة باعتزال كل ما عدا الجماعة، والطائفة المنصورة إن لم تكن هي الجماعة التي أمر صلى الله عليه وسلم حذيفة بلزومها، فإنها تكون داخلة فيما أمره باعتزاله، وهذا محال، ولهذا يتعين القول بأن الطائفة المنصورة هي الجماعة التي أمر حذيفة بلزومها، ويؤكد ذلك اتحادهما في الصفة، فالجماعة المذكورة في حديث حذيفة هي التي اجتمعت على طاعة أمر كما ذكر الإمام الطبري وغيره، والطائفة المنصورة جاء في صفتها أنهم «ظاهرون على الحق (2)» وأنهم «يقاتلون على الحق (3)» ، ولا بد للظهور على الحق وللقتال في سبيل الله من جماعة وإمارة.
الأمر الثاني: اتفاق الطائفة المنصورة والجماعة في التعريف، فقد فسر كبار علماء السلف الطائفة المنصورة بأهل الحديث وأهل العلم، فقد روى الخطيب (4) البغدادي رحمه الله بسنده عن الإمام
(1) صحيح البخاري الفتن (7084)، صحيح مسلم الإمارة (1847)، سنن ابن ماجه الفتن (3979).
(2)
سنن الدارمي الجهاد (2433).
(3)
سنن أبي داود الجهاد (2484)، مسند أحمد (4/ 437).
(4)
شرف أصحاب الحديث (ص 26، 27).
عبد الله بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل والإمام علي المديني والإمام محمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم- رحمهم الله جميعا- أنهم فسروا الطائفة المنصورة بأهل الحديث.
وروى الخطيب (1) بسنده عن الحافظ أحمد بن سنان رحمه الله أنه فسرها بأهل العلم وأصحاب الآثار.
وجاء تفسيرها عن الإمام البخاري أيضا بأهل العلم (2).
وما فسرت به الطائفة المنصورة قد فسرت به الجماعة، يقول الإمام الترمذي (3) رحمه الله:" وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث ".
الأمر الثالث: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الفرقة الناجية بالجماعة؛ ففي " سنن أبي داود " و"المسند" و"المستدرك" وغيرها من حديث معاوية، عن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:«وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (4)» . وهو حديث صحيح.
(1) المصدر نفسه.
(2)
صحيح البخاري مع الفتح (13/ 293) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة .. وهم أهل العلم.
(3)
سنن الترمذي (4/ 467).
(4)
سنن أبي داود، (كتاب السنة، ح 4597).
وفي " سنن ابن ماجه "(1) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ". قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: " الجماعة (2)» . وهو حديث حسن.
والجماعة في هذين الحديثين هي الجماعة المذكورة في الأحاديث التي سبق ذكرها كما تقدمت حكاية ذلك عن الشاطبي في مبحث "معنى الجماعة".
وإذا تقرر أن الفرقة الناجية هي الجماعة، فالفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة عند أهل العلم:
قال ابن رجب (3) رحمه الله: " وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فسببها تفرق أهل القبلة، وصاروا شيعا، وكفر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأضرابا بعد أن كانوا قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (4)»
…
".
(1) سنن ابن ماجه (كتاب الفتن، ح 3992).
(2)
سنن ابن ماجه الفتن (3992).
(3)
كشف الكربة (ص 16).
(4)
صحيح البخاري المناقب (3641)، مسند أحمد (4/ 101).
وتكلم العلامة الصنعاني (1) عن تعيين الفرقة الناجية ثم قال: "وهم المرادون بحديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2)» .... ". وللشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله كتاب في عقيدة أهل السنة والجماعة سماه: "أعلام السنة المنشورة في اعتقاد الطائفة الناجية المنصورة".
فعنوان الكتاب يدل على اتحادهما عنده، حيث جعل صفتي النجاة والنصرة لطائفة واحدة، ثم قال: في الكتاب المذكور: " سؤال: من هي الطائفة التي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (3)»؟ "(4).
ثم قال: " جواب: هذه الطائفة هي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (5)» .. ".
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأجاب بقوله: " أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة
(1) شرح حديث افتراق الأمة (ص 77 - 86).
(2)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7311)، صحيح مسلم الإمارة (1921)، مسند أحمد (4/ 252)، سنن الدارمي الجهاد (2432).
(3)
صحيح مسلم الإمارة (1920)، سنن الترمذي الفتن (2229)، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4252)، سنن ابن ماجه الفتن (3952)، مسند أحمد (5/ 279).
(4)
أعلام السنة المنشورة (ص 194).
(5)
سنن ابن ماجه الفتن (3993)، مسند أحمد (3/ 145).