الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: معنى الإيمان بالقدر عند أهل السنة وأدلتهم على ذلك
.
الإيمان بالقدر عند السلف - رحمهم الله تعالى - أصل من أصول الدين، وركن من أركان الإيمان الستة التي لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بها، وهي الواردة في حديث جبريل عليه السلام الذي ورد فيه أن الإيمان هو:«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (1)» .
ومعنى الإيمان عندهم بالقدر هو التصديق الجازم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره السابق، سواء كان صغيرا أو كبيرا، حقيرا أو جليلا، خيرا أو شرا، حلوا أو مرا، طاعة أو معصية، وأنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وأن كل أمر قد خط في اللوح المحفوظ وأنه عز وجل خالق أفعال العباد، وعالم بجميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وأنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والإيمان بالقدر من الإيمان بالغيب الذي يجب على المسلم الإيمان به، والإيمان بالقدر تحصل به سعادة العبد في الدنيا والآخرة؛ لأن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1/ 36، 37).
لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه وتعلق بربه، وصرف أمره إليه، هذا مع ما في الإيمان بالقدر من تحقيق العبودية لله عز وجل وتعظيمه سبحانه وتعالى.
ويعتقد السلف: أن العبد فاعل حقيقة، وله مشيئة وقدرة، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته.
كما يؤمنون بأن الله - تعالى - علم كل شيء وقدره، وأنه قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعلم أهل الجنة من أهل النار، وأن كلا ميسر لما خلق له.
وقد دل على هذا كله الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1)، وقال تعالى:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (2)، وقال تعالى:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (3)، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (4).
(1) سورة القمر الآية 49
(2)
سورة الأحزاب الآية 38
(3)
سورة الرعد الآية 8
(4)
سورة التغابن الآية 11
ومن أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الدالة على القدر: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (1)» .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن " لو " تفتح عمل الشيطان (2)» .
ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك سألت الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يعجل شيئا منها قبل حله، ولا يؤخر منها شيئا قبل
(1) أخرجه الترمذي، كتاب القدر (4/ 452)، والحاكم في المستدرك 1/ 32، وقال: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، (4/ 2052).
حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان ذلك خيرا لك (1)».
قال الإمام النووي: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها ونفعها وضرها (2).
ومن الآثار في هذا الباب ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أن سلمان الفارسي رضي الله عنه سئل عن الإيمان بالقدر فقال: إذا علم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن يصيبه، فذلك الإيمان بالقدر (3).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إذا قضي الأمر من السماء عمله أهل الأرض، وإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (4)» .
(1) المصدر السابق (4/ 2051).
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 195).
(3)
مصنف عبد الرزاق (11/ 118)، وانظر: القضاء والقدر للبيهقي ص 305.
(4)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 666)، وانظر: القضاء والقدر للبيهقي ص (299).
قال ابن بطة في سياق تقرير أصول السنة: ثم من بعد ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، مقدور واقع من الله عز وجل على العباد في الوقت الذي أراد أن يقع، لا يتقدم الوقت ولا يتأخر على ما سبق بذلك علم الله، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما تقدم لم يكن ليتأخر، وما تأخر لم يكن ليتقدم (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه، لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى، وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، ولكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها
(1) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص 193، 194.