الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: وقوع الظلم والمعاصي لا يسوغ الخروج عن الجماعة
لقد سبق تقرير وجوب لزوم الجماعة وتحريم مفارقتها والخروج عنها، وكان في النصوص التي سبق ذكرها مقنع لأهل الإيمان كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1).
ولكن لعظم شأن لزوم الجماعة وشدة وخطر مفارقتها أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بما يسد مداخل الشيطان لتسويغ مفارقة الجماعة وشق عصى الطاعة:
فوقوع الظلم والعدوان على المرء في نفسه أو ماله يسوغ له الدفع عن نفسه وماله بكل وسيلة ممكنة ولو أدى ذلك إلى القتال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: " لا تعطه مالك "، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتله "، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته قال: هو في النار (2)» .
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2)
صحيح مسلم (كتاب الإيمان/ 140).
وفي " المسند" و" السنن" بسند صحيح عن سعيد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد (1)» الحديث.
لكن الأمر يختلف حين يكون ذلك العدوان ممن له على المرء ولاية وسلطان؛ فإن الشرع في هذه الحال لا يبيح للمرء استعمال القوة للدفع عن نفسه، أو ماله بل يأمره بالصبر والكف، وذلك حفاظا على الجماعة ووحدة الكلمة؛ ففي "صحيح مسلم " من حديث حذيفة رضي الله عنه وفيه:«قلت يا رسول الله فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وكيف؟ قال: "يكون بعدي أمراء لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، ويقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس". قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع (2)» .
وفي "الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أدوا
(1) مسند الإمام أحمد (1/ 187 - 189)، وسنن أبي داود (كتاب السنة/ ح 4772)، وسنن الترمذي (كتاب الديات/ ح 1421)، وسنن النسائي (كتاب تحريم الدم/ ح 2580).
(2)
سبق الحديث (برقم 1).
إليهم حقهم وسلوا الله حقكم (1)».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «سلوا الله حقكم (2)» أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيرا منهم" (3).
وفي "صحيح مسلم " أيضا من حديث وائل بن حجر وفيه قال: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (4)» .
وكذا وقوع المعاصي ممن له ولاية وسلطان قد يتخذه الشيطان منفذا لدفع بعض الغيورين ممن قل فقههم للنصوص الواردة في هذا الباب لسلوك بعض الأعمال التي تؤدي إلى شق عصى الطاعة ومفارقة الجماعة، لذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حقه من البيان، فأمر صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، والسمع والطاعة ما دامت الصلاة تقام وما لم يقع كفر صريح.
ففي "صحيح مسلم " من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:
(1) صحيح البخاري -مع الفتح- كتاب المناقب (ح 3603)، وصحيح مسلم -كتاب الإمارة- (ح 1843).
(2)
صحيح البخاري الفتن (7052)، صحيح مسلم الإمارة (1843)، سنن الترمذي الفتن (2190)، مسند أحمد (1/ 387).
(3)
فتح الباري (13/ 8).
(4)
صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1846 - 49).
وفي "صحيح مسلم " من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله: ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا (2)» .
قال الإمام النووي رحمه الله في كلامه على حديث حذيفة السابق: "وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية، وفيه معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور التي أخبر بها وقعت كلها"(3).
وقال في شرحه لحديث أم سلمة رضي الله عنها: "وأما قوله: «أفلا نقاتلهم؟ " قال: "لا، ما صلوا (4)»: ففيه وفيما سبق
(1) صحيح مسلم الإمارة (1855)، مسند أحمد (6/ 28)، سنن الدارمي الرقاق (2797).
(2)
سبق الحديث (برقم 17).
(3)
شرح صحيح مسلم (4/ 12/ 237).
(4)
صحيح مسلم الإمارة (1854)، سنن الترمذي الفتن (2265)، سنن أبي داود السنة (4760)، مسند أحمد (6/ 321).
أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم والفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام" (1).
وفي "الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (2)» .
قال الخطابي رحمه الله: "كفر بواح: أي ظاهرا باديا"(3).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في معنى قوله: عندكم من الله برهان: "أي نص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل"(4).
وطاعة ولي الأمر واجبة سواء باشر الإنسان بيعته أم لا:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان،
(1) المصدر نفسه (ص 243).
(2)
صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الفتن ح 7055).
(3)
حكاه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 10).
(4)
المصدر نفسه.