الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الآثار المترتبة على لزوم الجماعة والآثار المترتبة على الخروج عنها
لا خيار للمؤمن في امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم سواء ظهرت له الآثار المترتبة على فعل المأمور به أم لم تظهر، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1).
لكن في اقتران الأمر بالآثار المترتبة على فعله تحفيز للنفوس على الاستجابة، وترغيب لها في الامتثال وكلما كانت الآثار المترتبة على فعل المأمور عظيمة كان الاستجابة أشد، والرغبة آكد.
ولما كان شأن لزوم الجماعة عظيما، وخطر الخروج عن الطاعة جسيما جاءت الآثار المترتبة على لزومها كبيرة وعظيمة والآثار المترتبة على الخروج عنها خطيرة وجسيمة، وسوف نسوق فيما يلي بعض تلك الآثار لتزداد النفوس تعظيما لأمر الجماعة وإقبالا على لزومها:
فمن تلك الآثار ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة (2)» فإن هذا الخبر يفيد الرعاية التامة من الله تبارك
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2)
سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2167).
وتعالى للجماعة؟ يقول أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله في معنى الحديث: "أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله ووقايته فوقهم، وهم بعيد من الأذى والخوف، فأقيموا بين ظهرانيهم "(1).
ومن آثار تلك الرعاية الإلهية للجماعة عصمتها من الضلالة التي هي سبب كل شر وبلاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة (2)» ولا شك أن الملازم للجماعة مشمول بتلك الرعاية داخل في تلك العصمة من الضلالة.
ومن فوائد لزوم الجماعة استصلاح القلوب وتطهيرها من الغل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا؛ إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (3)» .
يقول ابن الأثير رحمه الله: والمعنى: "أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والغل والشر"(4).
(1) النهاية في غريب الحديث (5/ 293).
(2)
سنن الترمذي الفتن (2167).
(3)
سنن الترمذي (كتاب العلم، ح 2658).
(4)
النهاية (3/ 381).
وقال ابن القيم رحمه الله: " أي لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفي الغل والغش وفساد القلب وسخائمه "(1). ومن فوائد لزوم الجماعة أيضا الانتفاع بدعوات أفرادها كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (2)» . يقول ابن الأثير رحمه الله في معنى العبارة: "أي تحدق بهم من جميع جوانبهم"(3).
ويقول شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد: " ذكرت هذه الجملة بعد الخصلة الثالثة وهي لزوم جماعة المسلمين، لبيان الفائدة التي يستفيدها الملازم للجماعة، وهي أن يكون له حظ ونصيب من دعواتهم، والمعنى: أن دعوة المسلمين تحدق بهم وتحفهم من جميع جوانبهم، فمن لازم الجماعة كان له نصيب في دعوات المسلمين الصادرة من أفرادهم لعمومهم "(4).
وأعظم آثار لزوم الجماعة هي رحمة الله التي لا تفارق الجماعة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة» فقد جعل الذي أعطي جوامع الكلم ونواصي البيان -صلوات الله وسلامه عليه- الجماعة عين الرحمة وما ذلك إلا لبيان شدة ملازمة الرحمة
(1) مفتاح دار السعادة (ص 79).
(2)
سنن ابن ماجه المناسك (3056).
(3)
النهاية (1/ 461).
(4)
دراسة حديث نضر الله امرءا .. (ص 195).
للجماعة، فإنها تلازمها في كل أحوالها حتى تنتهي بها إلى جنة النعيم كما قال صلى الله عليه وسلم:«من أراد بحبحة الجنة فعليه بالجماعة (1)» .
ورحمة الله هي سبب كل سعادة وفلاح، فما خالطت قليلا إلا كثرته، ولا عسيرا إلا يسرته، ولا كربا إلا نفسته، ولا شدة إلا فرجتها، وما نزعت من شيء إلا كان نقمة ووبالا على صاحبه، وهي بيد الله وحده، قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (2)، ومفارقة الجماعة تخرج بأصحابها من تلك الرحمة إلى العذاب، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الجماعة رحمة والفرقة عذاب (3)» فملازمة العذاب للفرقة مثل ملازمة الرحمة للجماعة، وهذا أيضا مفهوم من المقابلة بينهما في الحديث، وربما كانت مفارقة الجماعة والخروج من الطاعة سببا لسوء الخاتمة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية (4)» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (5)» .
وكما تنتهي الرحمة بالملازم لجماعة إلى بحبحة الجنة، فقد
(1) سنن الترمذي الفتن (2165)، مسند أحمد (1/ 18).
(2)
سورة فاطر الآية 2
(3)
مسند أحمد (4/ 375).
(4)
صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1848).
(5)
سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4758).
ينتهي العذاب الملازم للفرقة بأهل الفرقة إلى نار جهنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار (1)» .
لهذه الأمور ولغيرها مما اشتملت عليه النصوص السابقة اشتد حرص السلف رضوان الله عليهم على لزوم الجماعة، والسمع والطاعة، وتحذيرهم من المخالفة والفرقة، يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لبعض من قل فقههم لتلك النصوص وضاقوا ذرعا ببعض المخالفات الموجودة في الجماعة:" إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة ".
ويقول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
…
منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
…
عن ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل
…
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أهمية ولاية أمر الناس وأنه لا قيام للدين والدنيا إلا بها، وساق بعض النصوص في ذلك إلى أن قال:" ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ".
ثم قال رحمه الله: " والتجربة تبين ذلك ".
(1) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2167).
قلت: صدق رحمه الله، وشاهد ذلك من واقعنا اليوم حال بلاد الصومال وبلاد العراق، فقد كان نظام الحكم فيهما على قدر كبير من الظلم والفجور، ولكن الحال الذي وصلت إليه بعد سقوط الحكم فيهما من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وخراب الديار أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل ذلك فهل من معتبر؟!.
ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان "(1).
والمراد الدعوة لولي الأمر بالصلاح والإصلاح واجتماع الكلمة عليه؛ يقول البربهاري رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنة، إن شاء الله ".
ثم أسند إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قوله: " لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان" قيل له: يا أبا علي فسر هذا؟ قال: "نعم، إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان فصلح صلح بصلاحه العباد والبلاد، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وإن جاروا؛ لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"(2).
(1) السياسة الشرعية (1/ 729 - 742).
(2)
شرح السنة (ص 116).