الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه هي المراتب الأربع للإيمان بالقدر يؤمن بها أهل السنة والجماعة ويثبتونها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، فمن آمن بها وأثبتها فقد آمن بالقدر، ومن أنكرها أو أنكر شيئا منها فقد كفر (1).
(1) للمزيد انظر هذه المراتب بأدلتها في شفاء العليل لابن قيم الجوزية 29 - 42.
المبحث السادس: النهي عن الخوض في القدر
.
دين الإسلام دين الوسطية والعدل؛ ولذا نهى عن التنطع والتشدد وعن البحث فيما غاب عن علم الإنسان مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ومن ذلك البحث في القدر والتعمق فيه والنظر في دقائقه؛ لأن ذلك من الأمور التي استأثر الله بعلمها، فلم يطلع عليها أحدا من الخلق لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا؛ ولهذا فإن التعمق والجدل في القضاء والقدر من الخذلان؛ لأن المجادل فيه لا يدرك مراده، وكلما احتج بحجة كسرتها أخرى، وربما أفضى به ذلك إلى الإلحاد والزيغ عن الطريق المستقيم، والخوض في القدر أول ظاهرة للشرك في هذه الأمة، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال محمد بن عبيد المكي: «قيل لابن عباس: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه، وهو يومئذ قد عمي، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في
يدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه أن يكون قدر شرا (1)».
وقد جاء كفار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك آية ترد عليهم، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: (4)» .
وقد حصل بعض الخصام بين بعض الصحابة رضي الله عنهم في القدر، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في ذلك والتعمق فيه وضرب كتاب الله بعضه ببعض، لما يؤدي إليه من نتائج سيئة. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر،
(1) أخرجه أحمد (1/ 330)، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. المسند تحقيق/ أحمد شاكر (5/ 22)، حديث رقم (3056).
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4/ 2046).
(3)
سورة القمر الآية 48 (2){يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}
(4)
سورة القمر الآية 49 (3){إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قال: وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، وقال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده (1)».
وقد كان السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يكرهون الجدال في القدر والتعمق فيه، ويذمون من خاض فيه بغير علم، بل حذروا من ذلك، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول:" باب شرك فتح على أهل الصلاة: التكذيب بالقدر، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم "(2).
ويقول أيضا رضي الله عنه: ما غلا أحد في القدر إلا خرج عن الإسلام (3).
فالسلف - رحمهم الله تعالى - كرهوا التعمق في القدر
(1) أخرجه أحمد (2/ 178)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند تحقيق أحمد شاكر (10/ 153)، حديث رقم (6668)، وأخرجه أيضا ابن ماجه: المقدمة باب في القدر (1/ 33)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 14): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(2)
أخرجه الآجري في الشريعة ص (215)، واللالكائي في شرح أصول أهل السنة (4/ 630).
(3)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (4/ 632).
والخوض فيه، أما فهم مسائل القدر ومعرفتها والإيمان به وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فذلك غير داخل في النهي؛ لأنه معرفة ركن من أركان الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها ومعرفتها والتعبد لله بها، ولكن لما خاضت المبتدعة في هذا الأمر وحادوا عن الصواب، رأى السلف الصالح أنه يجب عليهم أن يبينوا للناس الحق والصواب فيما ضل فيه هؤلاء، وأنه لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بالقدر، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:«والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (1)» .
وهذا عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول لابنه: «يا بني، إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره، قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك (2)» .
«ولما التقى ابن الديلمي فقال: يا أبا المنذر، إنه
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1/ 37).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 317)، وأخرجه الترمذي في سننه (4/ 458)، بنحوه، والآجري في الشريعة ص (204).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 182 - 183)، وابن أبي عاصم في السنة مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال الألباني: إسناده صحيح. انظر السنة لابن أبي عاصم (1/ 109).
قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعله يذهب من قلبي، قال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو أنفقت جبل أحد ذهبا في سبيل الله عز وجل ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لدخلت النار (1)».
هذا بعض كلام الصحابة رضي الله عنهم في التحذير من إنكار القدر أو الخوض فيه، وفي بغض أهله ومعاداتهم.
ولقد سلك هذا المسلك علماء السلف - رحمهم الله تعالى - الذين ساروا على نهجهم، يقول الإمام الطحاوي محذرا من النظر والتعمق في مسائل القدر: الحذر الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله - تعالى - طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال
(1)(3) بأبي بن كعب
في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1)، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين (2).
ويقول الحافظ ابن عبد البر: والقدر سر الله، لا يدرك بجدال، ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق ولا يكون في ملكه إلا ما يريد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (3).
وقال أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب: التوقيف
(1) سورة الأنبياء الآية 23
(2)
العقيدة الطحاوية مع شرحها ص (276).
(3)
سورة فصلت الآية 46
من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة (1).
ويقول الإمام أبو محمد البربهاري: والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأن القدر سر الله، ونهى الرب - جل اسمه - الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك التسليم والإقرار والإيمان واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء، واسكت عما سوى ذلك (2).
ويقول الإمام البغوي: والقدر سر من أسرار الله، لم يطلع عليه
(1) انظر فتح الباري (11/ 477).
(2)
شرح السنة للبربهاري ص (36).
ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال للجحيم عدلا (1).
ونختم هذا المبحث بكلام جامع للحافظ ابن عبد البر في هذا حيث يقول: وجملة القول في القدر أنه سر الله، لا يدرك بجدال ولا نظر، ولا تشفى منه خصومة ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق والأمر كله، لا شريك له، نظام ذلك قوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2)، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3)، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، فمن رد على الله - تعالى - خبره في الوجهين أو في أحدهما كان عنادا وكفرا، وقد تظاهرت الآثار في التسليم للقدر والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره، والعلم بعدل مقدره وحكمته، وفي نقض عزائم الإنسان برهان فيما قلنا وتبيان، والله المستعان (4).
(1) شرح السنة (1/ 144).
(2)
سورة الإنسان الآية 30
(3)
سورة القمر الآية 49
(4)
التمهيد (3/ 139، 140).