الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق. . . إلى أن قال: وإذا عرف هذا فنقول: الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خلق الفعل والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته " (1).
وبتأمل الأدلة السابقة التي دلت على أن العباد فاعلون حقيقة، والله عز وجل خالقهم وخالق أفعالهم، وأن لهم إرادة ومشيئة تابعة لإرادة الله تعالى ومشيئته - يتبين لنا أن أهل الأهواء والبدع من القدرية والجبرية وغيرهم هم أبخس الناس حظا، وأقلهم نصيبا، وأفسدهم عملا، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق في هذه المسألة وغيرها.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل.
(1) المصدر السابق ص 146، 147.
المبحث الثامن: أثر الإيمان بالقدر على المسلم
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، وله آثار وفوائد عظيمة وثمار كثيرة تصلح الفرد والمجتمع، منها:
1 -
أنه يوجب للعبد توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة والتضرع والطاعة، وأن الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله من خير أو شر ونفع أو ضر، وأن الله - تعالى - هو
وحده الضار والنافع والمعطي والمانع.
2 -
أن الإيمان بالقدر طريق للخلاص من الشرك، فالمؤمنون الموحدون الذين آمنوا بالقدر وأيقنوا بأن هذا الكون وما فيه صادر عن الإله الواحد الأحد الخالق لكل شيء المعبود دون سواه سبحانه وتعالى، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فسلموا بذلك من الشرك الذي وقع فيه كل من كذب بالقدر أو نسب الخلق لغيره تبارك وتعالى، فالإيمان بالقدر طريق التوحيد والنجاة من الشرك (1).
3 -
استشعار عظمة الله سبحانه وتعالى وإحاطته الشاملة بكل شيء ونفوذ مشيئته على عموم الخلق سبحانه وتعالى.
4 -
أن الإنسان يعرف قدر نفسه وعجزه فلا يتعالى؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى، فتراه يكون صادقا في توكله على ربه، يأخذ بالأسباب التي قدر الله أقدارها، ويطلب من ربه العون على ما عجز عنها بلا تردد ولا شك.
5 -
الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة والإقدام على عظائم الأمور بثبات وعزم، فالمؤمن لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أن الأجل مقدر، وأن الرزق محدد.
ويدل على ذلك واقع السلف الذين كانوا خير هذه الأمة بعد
(1) انظر: القضاء والقدر لعمر الأشقر ص 109.
نبيها، وأفهم هذه الأمة لهذه العقيدة، وأكملهم تطبيقا لها بعد إيمانهم بالله تعالى وبقضائه وقدره، وما قاموا به من نشاط عظيم في نشر دين الله والدعوة بكل عزم وشجاعة، كل ذلك بالله ثم بإيمانهم بهذه العقيدة التي تتضمن أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، وأن لهم آجالا مكتوبة لن يتجاوزوها.
كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1).
وذكر الله - تعالى - عن المنافقين قولهم: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (2) فرد عليهم - سبحانه - بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (3).
6 -
أنه يوجب للعبد الإقبال على الله سبحانه وتعالى ويقطع قلب المؤمن من الالتفات إلى المخلوقين؛ لأن الأمور كلها بيد الله عز وجل وبقضائه وقدره سبحانه وتعالى.
7 -
الاعتماد على الله سبحانه وتعالى عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه؛ لأن كل شيء بقدر الله (4).
8 -
تنشيط النفوس الصالحة بالاجتهاد في الأعمال الصالحة،
(1) سورة التوبة الآية 51
(2)
سورة آل عمران الآية 154
(3)
سورة آل عمران الآية 154
(4)
انظر نبذة في العقيدة الإسلامية للعلامة ابن عثيمين ص 39.
وتخويف النفوس المقصرة؛ لتسرع بالتوبة والرجوع إلى ربها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة (1)» .
9 -
الإنسان خلق محبا للخير لنفسه، كارها الشر لنفسه، يجزع منه كما قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (2){إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (3){وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (4).
فإذا أصابه الخير بطر واغتر به، وإذا أصابه الشر جزع وحزن، ولا يعصم الإنسان من البطر إذا أصابه الخير والحزن إذا أصابه الشر إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير وسبق به علم الله.
10 -
إن الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض السلوكية التي تفتك بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بينها وذلك مثل الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاء وامتحانا منه سبحانه لخلقه، وأنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور.
11 -
أنه يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر (4/ 2040).
(2)
سورة المعارج الآية 19
(3)
سورة المعارج الآية 20
(4)
سورة المعارج الآية 21
الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضا دائم الافتقار إلى ربه تعالى، يستمد منه العون على الثبات ويطلب منه المزيد، وهو أيضا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم.
12 -
إن الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله - تعالى - حين يقع منه الذنب، ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يحتج بالقدر على ذنوبه - وإن كانت مقدرة عليه - لأنه يعلم أن الاحتجاج بالقدر على فعل الذنب باطل ومخالف للشرع.
13 -
أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم وما يقومون به من إفساد وتضليل، يفعل المؤمن كل ذلك بعد اتخاذ الأسباب الواقية بإذن الله، وهو راسخ الإيمان واثق بالله متوكل عليه صابر على كل ما يحصل له في سبيله؛ لأنه مؤمن أن الآجال بيد الله وحده، والأرزاق عنده وحده، وما قدر الله سيكون وما لم يقدره لن يكون، وأن العباد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة وعون.
14 -
الطمأنينة والراحة النفسية للمؤمن بقضاء الله وقدره، حيث إنه لا يقلق ولا يحزن بفوات محبوب أو حصول مكروه؛ لأنه يعلم أن
ذلك كله بقدر الله سبحانه وتعالى الذي له ملك السماوات والأرض وما قدره سبحانه وتعالى كائن لا محالة، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1){لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2).
وجاء في حديث صهيب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3)» . (4)
15 -
تكفير الذنوب والخطايا، ويدل على هذا حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به سيئاته (5)» .
16 -
غنى النفس، ويدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن
(1) سورة الحديد الآية 22
(2)
سورة الحديد الآية 23
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقائق (4/ 2295).
(4)
انظر: نبذة في العقيدة الإسلامية للعلامة ابن عثيمين رحمه الله ص 40، 39).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4/ 1993).