الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (1)».
يقول العلامة ابن القيم: وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطر التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والبيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكون، وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفى مشيئة الله بالكلية ولم يثبت له -سبحانه - مشيئة واختيارا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم (2).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4/ 2045).
(2)
شفاء العليل ص (96).
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله هو الخالق وحده
. هي الإيمان بأن الله عز وجل خالق كل شيء، فهو خالق العباد، وخالق أفعالهم وحركاتهم، ومقدر أرزاقهم، وآجالهم، وسعادتهم وشقاوتهم، قضى سبحانه وتعالى ذلك وقدره، فما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها
وخالق حركتها وسكونها سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه.
فمرتبة الخلق والإيجاد هي وقوع الأشياء طبقا لما علمه وكتبه وشاءه عز وجل، ومن الأدلة من الكتاب على هذه المرتبة:
قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (1)، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2).
وقوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3)، وقال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (4).
قال البغوي في تفسير هذه الآية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (5) أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة (6).
(1) سورة يس الآية 36
(2)
سورة النساء الآية 1
(3)
سورة الفرقان الآية 2
(4)
سورة الزمر الآية 62
(5)
سورة الرعد الآية 16
(6)
تفسير البغوي (3/ 96).
وقال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) الآية: وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته، فإن الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته - سبحانه - داخلة في مسمى اسمه، فإن الله - سبحانه - اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كل صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته " اهـ (2).
وقال ابن كثير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته (4).
وقال شارح الطحاوية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (5) أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم كل، وما أفسد قولهم - يعني المعتزلة - في إدخال كلام الله - تعالى - في عموم " كل " الذي هو صفة من صفاته يستحيل عليه أن يكون مخلوقا، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم " كل "!!، وهل يدخل في عموم
(1) سورة الرعد الآية 16
(2)
شفاء العليل ص (53).
(3)
سورة الرعد الآية 16
(4)
تفسير القرآن العظيم (6/ 105).
(5)
سورة الرعد الآية 16
" كل " إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها (1).
ومن الأدلة من السنة على هذه المرتبة: حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - قالت: «دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: " أو غير ذلك، يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (2)» .
ومنها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق كل صانع وصنعته (3)» .
قال الإمام البخاري عقب هذا الحديث: فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة.
وبهذه يتبين لنا أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة لله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل الخالق، وما سواه مخلوق.
(1) شرح الطحاوية ص (496).
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4/ 2050).
(3)
أخرجه البخاري قي خلق أفعال العباد ص (73)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 158)، والبيهقي في القضاء والقدر ص (170، 171)، والحاكم في المستدرك (1/ 31)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.