المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كعب الأحبار - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌إذا بليت العظام وهي واقعة بين المنازلوكانت عرضة للامتهان فما الحكم، بأي شيء يعرف بلاؤها

- ‌الأخذ مما لم يدفن فيه لحاجة الشارع

- ‌هدم ما بني فيها من المساكن وعدم تعويضهم

- ‌نقل الميت من بلده إلى المدينة

- ‌ القراءة على القبر

- ‌القراءة على الميت في المسجد أو عند القبر أو في بيته بدعة،وعمل الطعام بعد ثلاثة أيام أو بعد الختمة، القراءة المشروعة

- ‌إهداء ثواب القرب

- ‌إهداء ثواب صلاة النوافل والذبح والصدقة

- ‌إهداء ثواب الدعاء

- ‌صنع الطعام للمعزين ولقراء القرآن ثلاثة أيام

- ‌إقامة المأتم في أي يوم كان غير مشروعة

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌مسألة الزكاة في حلي الذهب والفضة من مسائل الخلاف

- ‌ أقوال العلماء بالنسبة لزكاة حلي النساء المستعملة

- ‌وجوب الزكاة في الحليالملبوس أو المعد للبس أو العارية

- ‌يجب إخراج زكاة الحلي منذ العلم بوجوبها

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

- ‌ حكم من أخذ من لحيته أو حلقها بالكلية

- ‌ هل استعمال السواك له فترة محددة

- ‌ إذا اغتسل الرجل لتنظيف جسمه فهل يكفيه هذا الغسل عن الوضوء للصلاة

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمةللبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ الصلاة في النعال

- ‌ حكم دخول المسجد بالحذاء

- ‌ حدود المسجد المعتبرة شرعا

- ‌ الإفطار للصائم المسافر للعمرة

- ‌ الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي

- ‌ المسجد الذي أسس على التقوى

- ‌ المسجد الأقصى

- ‌القرآن يهدي للتي هي أقوم

- ‌نماذج مما دل عليه القرآن الكريم

- ‌ عبد الله بن سلام

- ‌ كعب الأحبار

- ‌ وهب بن منبه

- ‌ الجن المكلفون بشرع الله

- ‌الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية

- ‌فاتحة:

- ‌المبحث الأول: الفتوى وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌المطلب الأول: تعريف الفتوى:

- ‌المطلب الثاني: خطورة مقام المفتي وأهميته:

- ‌المبحث الثاني - أهمية الفتوى في حماية العقيدة:

- ‌المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى:

- ‌المطلب الثاني: الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى وحماية المعتقد:

- ‌المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة:

- ‌المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية:

- ‌الخاتمة ونتائج البحث:

- ‌أحكام الصلاة في المقابر

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: الصلاة في المقابر:

- ‌المبحث الأول: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الفعل:

- ‌المبحث الثاني: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الإجزاء:

- ‌الفصل الثاني: الصلاة على الجنازة في المقابر:

- ‌المبحث الأول: حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة:

- ‌المبحث الثالث: حكم الصلاة على قبر من صلي عليه عن فاتته الصلاة:

- ‌المبحث الخامس: بيان المدة التي يشرع فيها الصلاة على الميت في القبر:

- ‌الخاتمة:

- ‌المنهج الأصولي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهاوأثره في الأحكام الشرعية إزاء المرأة

- ‌الفصل الأول:منهج عائشة الأصولي من خلال اجتهاداتها

- ‌المبحث الأول: التزامها بالنصوص:

- ‌المبحث الثاني: أخذها رضي الله عنها بالأدلة الشرعية المختلف فيها:

- ‌الفصل الثاني: أثر منهج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الأصولي في الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة:

- ‌المبحث الأول: خروج المعتدة من وفاة من بيتها:

- ‌المبحث الثاني: أحكام الاستمتاع بالمرأة:

- ‌المبحث الثالث: صلاة المرأة في المسجد:

- ‌المبحث الخامس: وصل وإزالة شعر المرأة:

- ‌الخاتمة

- ‌التمهيد: منزلة حسن الخلق في الإسلام

- ‌المبحث الأول: مفهوم المنة، وفيه مطلبان:

- ‌المطلب الأول: معنى المنة في اللغة:

- ‌المبحث الثاني: الآثار في النهى عنها:

- ‌المبحث الثالث: الرياء وعلاقته بالمنة

- ‌المطلب الأول: معنى الرياء والنهي عنه:

- ‌المطلب الثاني: علاج الرياء:

- ‌المطلب الثالث: علاقة الرياء بالمنة:

- ‌المبحث الرابع: محبة الحمد بما لم يفعل وعلاقته بالمنة:

- ‌المبحث الخامس: العلة في النهي عن المنة:

- ‌المبحث السادس: اختصاص الله تعالى بالمنة

- ‌الخاتمة

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ كعب الأحبار

يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، فقال:{لَيْسُوا سَوَاءً} (1) أي ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون، ثم ابتدأ سبحانه الخبر عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب، ومدحهم وأثنى عليهم، بعكس ما جاء عن الفرقة الفاسقة منهم، بما وصفهم به من الهلع وتحمل خزي الدنيا، وفضيحة الآخرة. . . إلى أن قال: وقد نزلت الآيات الثلاث، في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم، وذكر في الحديث رقم 7644، الذي روي بالسند إلى ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وممن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا إلى آخر الحديث.

ثم ذكر في الحديث 7647 بالسند إلى ابن جريج قال: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} (2): عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية ومبشر، وأسيد وأسد ابنا كعب، ليسوا سواء: أي لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

(1) سورة آل عمران الآية 113

(2)

سورة آل عمران الآية 113

ص: 123

2 -

أما الثاني فهو‌

‌ كعب الأحبار

(000 - 32 هـ)، الذي تحدث عنه الزركلي في قاموسه الأعلام، وأخذ ترجمته من عشرة مصادر، قال

ص: 123

عنه، هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري، تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن أبي بكر، وقدم المدينة في دولة عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، كثيرا من أخبار الأمم الغابرة، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة، وخرج إلى الشام، فسكن حمص، وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين (104)(1).

وفي قصة إسلامه يروي أبو نعيم أن سبب ذلك سماعه لآية من القرآن، عندما مر برجل يقرأ، فخاف من وعيد الله، فبادر للإسلام، عندما قال: إن كعبا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأسلم في ولايته - وذلك أنه مر برجل، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} (2) الآية.

فأسلم كعب ثم قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنه بعد ذلك في الغزو إلى الروم، فأذن له. فانتهى إلى راهب قد حبس نفسه في صومعة أربعين سنة، فناداه كعب فأشرف عليه الراهب فقال: من أنت؟ قال: أنا كعب الحبر، قال: قد سمعت بك، فما

(1) الأعلام لخير الدين الزركلي ج 6 ص 85 الطبعة الثانية.

(2)

سورة النساء الآية 47

ص: 124

حاجتك؟ قال: جئت أسألك عن حالك، نشدتك بالله، هل حبست نفسك في هذه الصومعة، إلا لآية تجدها في التوراة؟ إن أصحاب رؤوس الصوامع البيض، هم خيار عباد الله، عند الله يوم القيامة!

قال: اللهم نعم، قال: فنشدتك بالله، هل تجد في الآية التي تتلوها، أنهم الشعث الغبر الذين أولادهم يتامى، لغيبة آبائهم، وليسوا يتامى، ونساؤهم أيامى لغيبة أزواجهن، ولسن بأيامى، أزودتهم على عواتقهم، تحملهم أرض، وتضعهم أخرى، يجاهدون في سبيل الله، هم خيار عباد الله؟

قال: اللهم نعم، قال كعب: فإن هذه ليست تلك الصوامع، إنما هي فساطيط أمة محمد عليه الصلاة والسلام، يغزون في سبيل الله، وليس هذه الصومعة التي حبست نفسك فيها، فنزل إليه الراهب، فأسلم وشهد معه شهادة الحق، وغزا معه الروم، وانصرف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأعجب عمر بإسلامهما. . . فكانت الرهبانية بدعة منهم، كما أخبر الله سبحانه عن قوم عيسى عليه السلام:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (1) الآية.

(1) سورة الحديد الآية 27

ص: 125

وجاء عند أبي نعيم تكملة في سبب إسلامه، بسياق آخر، من طريق أبي محمد بن حبان يتصل إلى يزيد بن شريح، قال: قال كعب: لما قرأت: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} (1) أسلمت حينئذ، شفقة أن يحول وجهي نحو قفاي (2).

أما الذهبي (673 - 748 هـ): فقد روى بعض أخباره، التي استقاها من عشرين مصدرا، كما وضح ذلك المحققان: محمد نعيم العرقسوسي ومأمون صاغرجي في الهامش، أو لعله من عمل شعيب الأرناؤوط، الذي أشرف على تحقيق الكتاب، وخرج أحاديثه (3).

وقد قال عنه الذهبي: قدم المدينة من اليمن، فجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة من نبلاء العلماء، حدث عن عمر وصهيب وغيرهما، وحدث عنه من الصحابة: أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وهو نادر عزيز، كما حدث عنه مجموعة عدة من التابعين.

(1) سورة النساء الآية 47

(2)

حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد الأصبهاني ج 6 ص 706.

(3)

سير أعلام النبلاء ج 3 ص 489 الهامش الطبعة الثانية.

ص: 126

وكان خبيرا بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة (1).

وجاء من التحقيق، تعليق على كلمة ويحفظ عجائب: هذا نصه، قال الحافظ ابن كثير (700 - 774هـ) في تفسير سورة النمل، بعدما أورد طائفة من الأخبار، في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام: والأقرب في مثل هذه السياقات، أنها مستقاة من أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم، كروايات كعب الأحبار، ووهب بن منبه، سامحهما الله تعالى، فيما نقلا إلى هذه الأمة، من أخبار بني إسرائيل، ومن الأوابد والغرائب، والعجائب، مما كان، ومما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه، بما هو أصح منه، وأنفع وأوضح، وأبلغ ولله الحمد والمنة (2).

وقد جاء عند البخاري (194 - 256هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني (773 - 852هـ) تصحيح وتحقيق بإشراف الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، في باب لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء: أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية، يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق

(1) المصدر السابق ص: 490.

(2)

نهاية كلام ابن كثير في تفسيره ج 3 ص 366 مطبعة البابي الحلبي بمصر.

ص: 127

هؤلاء المحدثين، الذي يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، وقد أورد الشيخ عبد العزيز بن باز، في شرحه المطول لهذا الحديث، ما يزكى فيه كعب الأحبار ويوثقه.

وفي قول معاوية: (لنبلو عليه الكذب) والمراد بالمحدثين: أنداد كعب، ممن كان من أهل الكتاب وأسلم، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم، فحدث عما فيها. قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبا أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه، وقال ابن حبان في كتاب الثقات أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال غيره: الضمير في قوله: (لنبلو عليه) للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب، لكونهم بدلوه وحرفوه.

وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب، ويتعمده، إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب، وقال ابن الجوزي (508 – 597 هـ) المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب، عن أهل الكتاب يكون كذبا، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان من أخيار الأحبار.

ثم جاء في الختام، ما يدل على أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، يميل إلى نفي الكذب، عن كعب وتعمده، استنادا على أقوال

ص: 128

العلماء فيه، حيث أورد عن ابن سعد عن طريق عبد الرحمن بن جبير، قال: قال معاوية إلا أن كعب الأحبار، أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين) ثم قال رحمه الله: فالمراد بأهل الكتاب اليهود، لكن الحكم عام، فيتناول النصارى، قوله:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (1)» هذا لا يعارض حديث الترجمة، فإنه نهي عن السؤال، وهذا نهي عن التصديق والتكذيب، فيحمل الثاني على ما إذا بدأهم أهل الكتاب بالخبر.

وما دام ظهر لنا من توثيق المحدثين لكعب الأحبار، ونفي الكذب عنه، فإننا نأخذ من أخباره، ما لا يتنافى مع نص شرعي وفيه فائدة، ومن ذلك ما جاء عند الذهبي، رواية عن محمد بن سيرين، عن أبي الرباب قال: دخلنا على أبي الدرداء رضي الله عنه نعوده، وهو يومئذ أمير وكنت أحد خمسة ولوا قبض السوس، فأتاني رجل بكتاب، فقال: بيعونيه، فإنه كتاب الله، أحسن قراءته ولا تحسنون، فنزعنا دفتيه، فأخذه بدرهمين.

(1) جزء من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 8/ 139 في تفسير الآية من سورة البقرة.

ص: 129

فلما كان بعد ذلك خرجنا إلى الشام، وصحبنا شيخ على حمار، بين يديه مصحف يقرؤه، ويبكي، فقلت: ما أشبه هذا المصحف، بمصحف شأنه كذا وكذا. فقال: إنه هو .. قلت: فأين تريد؟ قال: أرسل إلي كعب الأحبار، عام الأول فأتيته، ثم أرسل إليه فهذا وجهي إليه.

قلت فأنا معك، فانطلقنا حتى قدمنا الشام، فقصدنا عند كعب، فجاء عشرون من اليهود، فيهم شيخ كبير، يرفع حاجبيه بحريرة، فقالوا: أوسعوا أوسعوا، فأوسعوا وركبنا أعناقهم، فتكلموا. فقال كعب: يا نعيم أتجيب هؤلاء، أو أجيبهم؟ قال: دعوني حتى أفقه هؤلاء ما قالوا.

إن هؤلاء، أثنوا على أهل ملتنا خيرا، ثم قلبوا ألسنتهم، فزعموا أنا بعنا الآخرة بالدنيا، هلم فلنواثقكم، فإن جئتم بأهدى مما نحن عليه، اتبعناكم، وإلا فاتبعونا إن جئنا بأهدى منه. قال: فتواثقوا، فقال كعب: أرسل إلي ذلك المصحف، فجيء به، فقال: أترضون أن يكون ما بيننا؟ قالوا: نعم. لا يحسن أحد أن يكتب مثله اليوم. فدفع إلى

ص: 130

شاب منهم، فقرأ كأسرع قارئ، فلما بلغ إلى مكان منه، نظر إلى أصحابه، كالرجل يؤذن صاحبه بالشيء، ثم جمع يديه فقال: يه

فنبذه، فقال كعب: آه وأخذه، فوضعه في حجره، فقرأ

فأتى على آية منه، فخروا سجدا، وبقي الشيخ يبكي.

قيل: ما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي، رجل عمل في الضلالة كذا وكذا سنة، ولم أعرف الإسلام حتى كان اليوم.

قال مطرف بن مالك وكان معهم في السوس: فبدا لي أن آتي بيت المقدس، فبينما أنا في الطريق، إذا أنا براكب، شبهته بذلك الأجير النصراني، فقلت: نعيم؟ قال: نعم. قلت: ما فعلت بنصرانيتك؟ قال: تحنفت بعدك - أي دخلت الحنيفية وهي الإسلام.

ثم أتينا الشام (دمشق) فلقيت كعبا الحبر، ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا أبا الدرداء، فقالت أم الدرداء لكعب: ألا تعينني على أخيك؟ يقوم الليل، ويصوم النهار، قال: فجعل لها من كل ثلاث ليال ليلة.

ثم أتينا بيت المقدس، فسمعت يهود بنعيم وكعب، فاجتمعوا فقال: كعب: هذا كتاب قديم وإنه بلغتكم، فاقرءوه.

فقرأه قارئهم، حتى أتي على ذلك المكان {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)،

(1) سورة آل عمران الآية 85

ص: 131

فأسلم منهم اثنان وأربعون حبرا، ففرض لهم معاوية، وأعطاهم.

والحبر هو العالم الكبير في علمه، ومكانته عند اليهودي وهذا من معاوية رضي الله عنه تثبيتا لإيمانهم، وترغيبا في الإسلام.

وروى أبو نعيم الأصبهاني، بسنده إلى عكرمة، عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل من التوراة، عشر آيات، وهي العشر التي نزلت في آخر سورة الأنعام (1).

وحدث أبو نعيم بالسند، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن السلوي، عن كعب الأحبار قال: اختار الله البلاد: فأحب البلاد إلى الله البلد الحرام، واختار الله الزمان، فأحب الزمان إلى الله الأشهر الأوائل الحرم، وأحب الشهور إلى الله، ذو الحجة وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول، واختار الله الأيام فأحب الأيام إلى الله يوم الجمعة، واختار الله الليالي، فأحب الليالي إلى الله ليلة القدر، واختار الله ساعات الليل والنهار، فأحب ساعات الليل والنهار إلى الله، ساعات المكتوبات، واختار الله الكلام، فأحب الكلام إلى الله: لا إله إلا الله، والله أكبر وسبحان الله، والحمد لله (2).

(1) حلية الأولياء لأبي نعيم ج 6 ص 13 الناشر دار أم القرى بمصر.

(2)

المصدر السابق ص 113.

ص: 132

إن نور الله إذا أراد سبحانه بالعبد خيرا، يقذفه الله بحاسة القلب، فينفتح لهذا النور الذي هو هبة من الله جل وعلا، ويتغير إحساس صاحبه من الانغلاق إلى التبصر، ومن الظلمة إلى النور، ليتأصل هذا الإحساس، في أعماق القلب، ومن ثم يدفع صاحبه إلى البحث عن الحقيقة التي يجدها في عمق ما يقرأ، أو يسمع من آية في كتاب الله، تربطه بمفهوم دقيق في نفسه، أو فيما حوله، أو بموازنة بما لديه من معتقد، ليقارب ويتبصر، ومن ثم يبرز عنده الحق، ويتضاءل الباطل بعلامات كل منهما

وهذا من فضل الله على ذلك الإنسان، أن يسر الله طريق الهداية، كما قال سبحانه لنبيه الكريم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (2).

ويظهر هذا جليا، في حالات من أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، ليسترشد من أراد الله له الهداية، والخير، ويعاند من تقوم عليه الحجة، لأنهم يعرفون الله في الكتب المنزلة على أنبيائهم، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق وأن القرآن المنزل عليه حق من عند الله، مثبت لما عندهم. وناسخ

(1) سورة القصص الآية 56

(2)

سورة الشورى الآية 52

ص: 133

لما في أيديهم من أحكام، خفف الله بها عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، رحمة ورأفة، من الله سبحانه بهذه الأمة، كما جاء في حديث الإسراء والمعراج، في موضوع فرض الصلاة، التي بدأت بخمسين، وموسى عليه السلام، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع إلى ربك واسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق، فقد جربت قبلك بني إسرائيل، واسأل ربك التخفيف، وما زالت المراجعة حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة، وجعلها الله سبحانه، خمسا في الأداء، خمسين في الأجر (1).

ونختم الحديث عن كعب الأحبار، وسيرته التي اعتنى بها علماء الإسلام، لأنه من كبار أحبار اليهود، والمرجع لهم في كل ما نزل، من تشريعات في التوراة، علاوة على اطلاعه على أخبار الأمم السابقة، وما فيها من معلومات عن تلك الأمم، إذ كان خبيرا، بكثير من الكتب القديمة، ومنها التوراة، ومدركا لما فيها بالذات مما يبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفاته، مما دفعه إلى المبادرة بالإسلام، خوفا من عقاب الله، كما مر بنا آنفا.

وعن وفاته التي ارتبطت بذلك المصحف - الكتاب - الذي وجد

(1) يراجع في هذا الحديث حديث الإسراء والمعراج المطول، عند ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء.

ص: 134

في " السوس " والتي وجدوا فيها النبي دانيال في لحد من صفر، وكان أهل " السوس " إذا أجدبوا استخرجوه، فاستسقوا به، فلما كتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إليه: إن نبي الله دعا أن لا يرثه إلا المسلمون، فصل عليه وادفنه، قال همام بن يحيى وحدثنا فرقد، حدثنا أبو تميمة: أن كتاب عمر جاء: أن اغسله بالسدر وماء الريحان.

ثم قال الذهبي لتلك الرواية ما يوضح إسلام كبار علماء من اليهود معقبا بقوله: ثم رجع إلى حديث مطرف بن مالك قال: فبدا لي أن آتي بيت المقدس، فبينما أنا في الطريق، إذا أنا براكب، شبهته بذلك الأجير النصراني، فقلت: نعيم؟ قال: نعم. قلت: ما فعلت بنصرانيتك؟ قال: تحنفت بعدك - أي دخلت في الإسلام - بعدك، ثم أتينا الشام (دمشق) فلقيت كعبا الحبر.

ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا أبا الدرداء، فقالت أم الدرداء لكعب: ألا تعني على أخيك؟ يقوم الليل، ويصوم النهار، قال: فجعل لها من كل ثلاث ليال ليلة.

ص: 135

ثم أتينا بيت المقدس، فسمعت يهود بنعيم وكعب، فاجتمعوا فقال: كعب: هذا كتاب قديم وإنه بلغتكم، فاقرءوه.

فقرأه قارئهم، حتى أتى على ذلك المكان:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)، فأسلم منهم اثنان وأربعون حبرا، ففرض لهم معاوية، وأعطاهم.

ثم قال همام: وحدثني بسطام بن مسلم، حدثنا معاوية بن قرة، أنهم تذاكروا ذلك الكتاب، فمر بهم شهر بن حوشب، فقال: على الخبير سقطتم ثم ذكر حكاية إخفاء كعب لمعالم ذلك الكتاب، قال: إنها التوراة، ولكن خشيت أن يتكل على ما فيها، ولكن قولوا: لا إله إلا الله ولقنوها موتاكم.

ثم قال الذهبي رحمه الله: هكذا رواه ابن أبى خيثمة في تاريخه عن هدبة عن همام.

وهذا القول من كعب، دال على أن تيك النسخة، من التوراة، وأن ما عداها بخلاف ذلك، فمن الذي يستحل أن يورد اليوم، من التوراة شيئا على وجه الاحتجاج، معتقدا أنها التوراة المنزلة؟ كلا والله.

(1) سورة آل عمران الآية 85

ص: 136