الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإيثاره على ذم الله وغضبه، وكيف يطلب رضا الخلق في سخط الله تعالى عليه، مع أن مدحهم لا يفيد، ولا يدفع عنه ضرا وإنما ذلك لله وحده، فلا رازق ولا معطي ولا ضار ولا نافع إلا الله سبحانه وتعالى، على أن الخلق لو اطلعوا على ما في قلبه من الرياء لطردوه ومقتوه وذموه وحرموه، ويردد النظر بعين البصيرة إلى هذه الأمور.
ثم هناك دواء عملي وهو أن يتعود إخفاء العبادات حتى يقنع قلبه بعلم الله تعالى، واطلاعه عليه ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله تعالى به، وقد يشق عليه هذا ابتداء لكن مع الصبر يعينه الله فيجاهد نفسه حتى يشفى من هذا (1).
كذلك يلجأ إلى الله تعالى ضارعا ويدعوه مضطرا أن يشفيه من هذا المرض؛ قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (2).
(1) ينظر: الزواجر، الهيتمي 1/ 49
(2)
سورة النمل الآية 62
المطلب الثالث: علاقة الرياء بالمنة:
نهى الله تعالى في كتابه عن إبطال الصدقة بالمن، وشبه فاعل ذلك بالمرائي، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 264
فشبه الله تعالى مقارنة المن والأذى للصدقة أو إتباعها بذلك بإنفاق الكافر المرائي، الذي لا يجد بين يديه شيئا منه، مع أن مقارنة الرياء للصدقة أقبح من مقارنة الإيذاء ذلك أن المشبه بالشيء يكون أخفى من المشبه به، ولما كان الإنفاق رياء من غير المؤمن ظاهر في إبطال الصدقة، شبه به الإبطال بالمن والأذى، ثم إن حال المان شبيه بحال المرائي، لأنه لما من، ظهر أنه لم يقصد وجه الله، مع أن حال المرائي أشد من حال المان، فأمر الرياء أشد (1).
ومما يوضح هذه المسألة ما ذكره المفسرون في تفسير الآيات من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (2).
قالوا: ضرب الله تعالى في هذه الآيات ثلاثة أمثله: للمرائي، وللمنفق ابتغاء وجه الله ولم يتبع نفقته منا ولا أذى، ولمن أتبعها منا وأذى.
فأما الآية الأولى فمثل فيها عمل المرائي بالصخر الأملس الذي
(1) ينظر: فتح الباري، ابن حجر 3/ 277
(2)
سورة البقرة الآية 264
عليه تراب، ثم أصابه مطر شديد فغسله وتركه أملس يابسا وقد ذهب عنه ذلك التراب، وكان يظن الرائي لهذا الصخر أنه إذا أصابه مطر أنبت، ولكنه كالحجر، وهكذا أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس، فكما أن قلب المرائي ليس فيه إيمان بل قاس لا يلين ولا يخشع، فهكذا أعماله ونفقاته لا أصل لها تؤسس عليه بل هي باطلة.
وفي الآية الثانية ضرب مثلا للمؤمنين المنفقين أموالهم في سبيل الله فإنه لما كانت نفقتهم مقبولة مضاعفة عند الله لصدورها عن الإيمان والإخلاص فهم مثل الجنة المرتفعة، وهذا الوصف أعلى ما يطلبه الناس لأنها معرضة للرياح والشمس، والماء فيها غزير، ولهذا تؤتي أكلها متضاعفا حتى وإن أصابها طل فإنها لا تمحل أبدا، وأياما كان فهو كفايتها، وهكذا عمل المؤمن لا يبور أبدا، بل يقبله الله ويكثره وينميه، وهو بأعلى المنازل.
وأما الآية الثالثة ففيها مثل من أنفق لله، ثم أتبع نفقته منا وأذى، أو عمل عملا صالحا أتى بمبطل لهذا العمل، فمثله مثل صاحب جنة فيها نخيل وأعناب وأنهار، لكن سلط الله عليها ريحا شديدة فأحرقتها، وذلك في حال ضعفه قد أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، فتلفت الجنة دفعة واحدة وجرى عليها ما جرى حين اشتدت ضرورته إليها (1).
(1) ينظر: تفسير ابن كثير 1/ 326، 327 تفسير السعدي 1/ 327
وقد سأل عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (1) قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: أي عمل، قال ابن عباس: لعمل، فقال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (2).
قال ابن القيم: " فلو فكر العاقل في هذا المثل، وجعله قبلة قلبه لكفاه، وشفاه، فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله، ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرقة للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح، فالمرائي ضرب الله سبحانه مثله بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه، وأما مثل المان: بالجنة التي هي من أحسن الجنان ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها، فهذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم احترق، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق (3).
(1) سورة البقرة الآية 266
(2)
البخاري 4538
(3)
طريق الهجرتين، ابن القيم 2373