الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى وحماية المعتقد:
إن الانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل، ولم يعد - كما كان سابقا منذ عقد أو عقدين من الزمان - بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى!
بل وبسبب: تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد؛ بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من أكثر من مكان، ومن مشارب مختلفة ومذاهب شتى واتجاهات متباينة؛ وفي كل: الغث والسمين، والقريب والبعيد، والجيد والرديء!
لذلك أرى لزاما أنه لا بد من الاتفاق على قدر مشترك من العلم والفتوى لا ينبغي بل لا يجوز التساهل فيه والإفتاء بغيره! وإلا لوقع المكلفون في خلط عظيم، وارتكبت جناية على الدين! وهذا القدر الذي يجب الالتفاف حوله والانطلاق من خلاله واستحضاره جيدا عند كل فتوى أو اجتهاد هو "المحكمات في الدين".
والمحكمات التي نقصدها في هذا السياق - وبعد استعراض لتعريف المفسرين والأصوليين لهذا المصطلح - هي ما لوحظ في تعريفها الأوصاف التالية وهي:
1 -
الحفظ وعدم التغيير والتبديل.
2 -
الوضوح والبيان.
3 -
كونها أصلا ومرجعا.
وهذه الصفات تتوفر في الأحكام الداخلة في قواعد الدين وأصوله حال التشريع ووقت الرسالة، التي لا يتصور ورود النسخ عليها ولا تخصيصها وهي واضحة الدلالة على معانيها، بحيث أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي أصول ترد إليها المتشابهات والجزئيات.
وهي بذلك كما وصفها القرآن أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1).
قال الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله في تفسير الآية: " المحكمات هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه "(2).
وقال الإمام المفسر القرطبي رحمه الله – " فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع "(3).
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2)
(تفسير ابن كثير).
(3)
(الجامع لأحكام القرآن)(4/ 9 - 11).
ومن أمثلة المحكمات: المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة برعايتها، أو ما يعرف بالضروريات الخمس، وهي (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض).
وهذه الضروريات تمثل في الحقيقة قاعدة المحكمات، فالنصوص الدالة عليها محفوظة لا تقبل تغييرا أو نسخا، وواضحة لا تحتاج لتأويل، وهي أصول ترد إليها ما يشتبه على أفهام المكلفين.
ومن خلال هذه الصفات المهمة والخطيرة لهذا النوع من الأحكام (المحكمات) تأتي أهميتها ووجوب رعايتها من قبل المفتين وعامة المكلفين، فالفتوى عند صدورها من المفتي مهما كان مذهبه أو زمانه أو مكانه يجب أن تنسجم وتتوافق مع حفظ هذه الضروريات ولا يجوز أن تعارضها أو تعود عليها بشيء من الإبطال أو النقص.
ومن أمثلة رد ما يشتبه على المكلفين لهذه المحكمات والأصول:
(حفظ الدين) مثلا: هو الضروري الأول، ويحفظ من جانبين - كما قرر العلماء - من جانب الوجود؛ وذلك: بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومن جانب العدم، وذلك: بمنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، من خلال إقامة حكم الردة، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع.
واستحضارا لهذا الأصل العظيم، فإن الفقهاء والمفتين يردون فروعا كثيرة لا تحصى، تجتمع كلها على حفظ هذا المقصد.
فإذا دخل على بعض المكلفين إشكال في فهم (حرية المعتقد أو الرأي) بحسب مبلغ فهمه من قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) وفهم أن حرية الدين مطلقة، بحيث يسوغ للمكلف أن ينحل من أي دين أو معتقد متى ما شاء!
فإنه يفتى ويبين له من خلال الرد لهذا المقصد المحكم (حفظ الدين)، وبيان ذلك: أن الشريعة كفلت لأهل الأديان الأخرى؛ إذا كانوا تحت ولاية المسلمين (أهل ذمة) حرية البقاء على ما هم عليه، أو اتباع الإسلام، وهذا الحق مشروط بشروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومنها: أن لا تؤدي هذه الحرية للإخلال بحفظ الدين، فيمنع الإلحاد، وتسد جميع الوسائل المفضية إليه، وكذلك منع الإباحية ووسائلها، ونشر الخرافة والضلالات.
وكذلك فإن في منع المسلم من الانتقال من الإسلام للكفر حفظا لهذا الدين من الانتقاص من قدره وتهوين شأنه في نفوس أهله وغيرهم.
وبذلك يرد كل ما أشكل فهمه في هذه المسألة إلى هذا المحكم، فتكون الفتوى بحول الله من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة (2)
(1) سورة البقرة الآية 256
(2)
المحكمات في الشريعة وأثرها في وحدة الأمة. د. عابد السفياني.
آثار الالتفاف حول المحكمات على الفتوى والمكلفين:
بما أن المحكمات هن أصل هذا الدين وقاعدته المتينة، فإن الحفاظ على القاعدة فوق أنه واجب ضروري شرعا وعقلا، فإن آثار هذا الحفظ محمودة الغب ظاهرة الأثر، ومن آثار ذلك في مقام الفتوى وانعكاسه بالتالي على المكلفين:
1 -
ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا تكون فتواه بعيدة عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود.
2 -
تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد (إلى المحكمات) فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، ورعاها المفتي حق رعايتها؛ فإن كثيرا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد - قدر الإمكان - في القضايا والمسائل الكلية لا سيما المتعلقة بباب الاعتقاد.
3 -
من آثار هذا الحفظ على المكلفين (المجتمع الإسلامي) منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح