المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌إذا بليت العظام وهي واقعة بين المنازلوكانت عرضة للامتهان فما الحكم، بأي شيء يعرف بلاؤها

- ‌الأخذ مما لم يدفن فيه لحاجة الشارع

- ‌هدم ما بني فيها من المساكن وعدم تعويضهم

- ‌نقل الميت من بلده إلى المدينة

- ‌ القراءة على القبر

- ‌القراءة على الميت في المسجد أو عند القبر أو في بيته بدعة،وعمل الطعام بعد ثلاثة أيام أو بعد الختمة، القراءة المشروعة

- ‌إهداء ثواب القرب

- ‌إهداء ثواب صلاة النوافل والذبح والصدقة

- ‌إهداء ثواب الدعاء

- ‌صنع الطعام للمعزين ولقراء القرآن ثلاثة أيام

- ‌إقامة المأتم في أي يوم كان غير مشروعة

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌مسألة الزكاة في حلي الذهب والفضة من مسائل الخلاف

- ‌ أقوال العلماء بالنسبة لزكاة حلي النساء المستعملة

- ‌وجوب الزكاة في الحليالملبوس أو المعد للبس أو العارية

- ‌يجب إخراج زكاة الحلي منذ العلم بوجوبها

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

- ‌ حكم من أخذ من لحيته أو حلقها بالكلية

- ‌ هل استعمال السواك له فترة محددة

- ‌ إذا اغتسل الرجل لتنظيف جسمه فهل يكفيه هذا الغسل عن الوضوء للصلاة

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمةللبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ الصلاة في النعال

- ‌ حكم دخول المسجد بالحذاء

- ‌ حدود المسجد المعتبرة شرعا

- ‌ الإفطار للصائم المسافر للعمرة

- ‌ الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي

- ‌ المسجد الذي أسس على التقوى

- ‌ المسجد الأقصى

- ‌القرآن يهدي للتي هي أقوم

- ‌نماذج مما دل عليه القرآن الكريم

- ‌ عبد الله بن سلام

- ‌ كعب الأحبار

- ‌ وهب بن منبه

- ‌ الجن المكلفون بشرع الله

- ‌الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية

- ‌فاتحة:

- ‌المبحث الأول: الفتوى وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌المطلب الأول: تعريف الفتوى:

- ‌المطلب الثاني: خطورة مقام المفتي وأهميته:

- ‌المبحث الثاني - أهمية الفتوى في حماية العقيدة:

- ‌المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى:

- ‌المطلب الثاني: الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى وحماية المعتقد:

- ‌المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة:

- ‌المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية:

- ‌الخاتمة ونتائج البحث:

- ‌أحكام الصلاة في المقابر

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: الصلاة في المقابر:

- ‌المبحث الأول: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الفعل:

- ‌المبحث الثاني: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الإجزاء:

- ‌الفصل الثاني: الصلاة على الجنازة في المقابر:

- ‌المبحث الأول: حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة:

- ‌المبحث الثالث: حكم الصلاة على قبر من صلي عليه عن فاتته الصلاة:

- ‌المبحث الخامس: بيان المدة التي يشرع فيها الصلاة على الميت في القبر:

- ‌الخاتمة:

- ‌المنهج الأصولي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهاوأثره في الأحكام الشرعية إزاء المرأة

- ‌الفصل الأول:منهج عائشة الأصولي من خلال اجتهاداتها

- ‌المبحث الأول: التزامها بالنصوص:

- ‌المبحث الثاني: أخذها رضي الله عنها بالأدلة الشرعية المختلف فيها:

- ‌الفصل الثاني: أثر منهج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الأصولي في الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة:

- ‌المبحث الأول: خروج المعتدة من وفاة من بيتها:

- ‌المبحث الثاني: أحكام الاستمتاع بالمرأة:

- ‌المبحث الثالث: صلاة المرأة في المسجد:

- ‌المبحث الخامس: وصل وإزالة شعر المرأة:

- ‌الخاتمة

- ‌التمهيد: منزلة حسن الخلق في الإسلام

- ‌المبحث الأول: مفهوم المنة، وفيه مطلبان:

- ‌المطلب الأول: معنى المنة في اللغة:

- ‌المبحث الثاني: الآثار في النهى عنها:

- ‌المبحث الثالث: الرياء وعلاقته بالمنة

- ‌المطلب الأول: معنى الرياء والنهي عنه:

- ‌المطلب الثاني: علاج الرياء:

- ‌المطلب الثالث: علاقة الرياء بالمنة:

- ‌المبحث الرابع: محبة الحمد بما لم يفعل وعلاقته بالمنة:

- ‌المبحث الخامس: العلة في النهي عن المنة:

- ‌المبحث السادس: اختصاص الله تعالى بالمنة

- ‌الخاتمة

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية:

لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس، والأعراض ماديا أو معنويا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة.

ص: 203

‌المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة:

‌المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية:

إن الحديث عن أي مصطلح أو معنى من المعاني يستوجب الوقوف والبحث للوصول إلى مفهوم دقيق لهذا المصطلح؛ وفق منهج علمي سليم.

والوسطية من المعاني الشرعية المهمة، وقد بات هذا المصطلح لا سيما في السنوات الأخيرة مثار جدل ومحط استعمال في كثير من الأطروحات الفكرية، وكثر المنادون به، وكل يدعي وصله والأولوية به!

ومبدأ الوسطية محل إجماع على صحته؛ ووجوب الانطلاق منه، باعتباره سمة من سمات هذه الشريعة الغراء، إلا أن ذلك لا يعني الخلاص من إشكالية تحديد المراد من هذا المفهوم تحديدا يرفع الخلاف

ص: 203

القائم في اختيار الصيغة النهائية لهذا المفهوم أو يرفع الجدل القائم حول تطبيقه! والمنهج العلمي الصحيح لتحديد المراد من هذه المعاني الشرعية هو ردها للمعاني اللغوية والاستعمال الشرعي لها؛ بحسب ورودها في النصوص والسياقات التي جاءت فيها، والنظر في كلام أئمة التفسير وشراح الأحاديث عند بيانهم للمراد من هذه المعاني.

المعنى اللغوي:

مادة (وسط) في اللغة تدل على معان متقاربة كما يقول ابن فارس: " الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل والنصف، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه"(1).

وتأتي هذه الكلمة لمعان متقاربة أشهرها معنيان (العدل والخيار)، قال في القاموس:" الوسط من كل شيء أعدله "(2).

وقال في النهاية: " يقال: هو من أوسط قومه أي من خيارهم "(3).

ومنه قول الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة عن قريش: " هم أوسط العرب نسبا ودارا "(4) ".

(1)(معجم مقاييس اللغة): كتاب الواو، باب (الواو والسين) 6/ 108

(2)

(القاموس المحيط) مادة: (وسط)، باب الطاء، فصل الواو.

(3)

(النهاية في غريب الحديث)(5/ 184).

(4)

(تاريخ الطبري)(2/ 234 - 236).

ص: 204

الاستعمال الشرعي:

ينبغي أن تستحضر هذه المعاني اللغوية السابقة للوسطية عند محاولة تحديد المراد من المصطلح، ونجد أن الوسطية أو الوسط كما جاء في الكتاب والسنة يدور حول المعنيين اللغويين السابقين (العدل والخيار) ففي القرآن:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1).

وفى السنة: ما جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب، فيقول لأمته هل بلغكم؟ فيقولون لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره والوسط العدل (3)» .

والشاهد؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «والوسط العدل (4)» ، وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح أن هذا الجزء من الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مدرجا كما توهم البعض (5).

(1) سورة البقرة الآية 143

(2)

البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) رقم (3339).

(3)

سورة البقرة الآية 143 (2){وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

(4)

البخاري أحاديث الأنبياء (3161)، الترمذي تفسير القرآن (2961)، أحمد (3/ 58).

(5)

انظر: (فتح الباري) لابن حجر (8/ 172).

ص: 205

إضافة إلى أنه هو التفسير المتفق مع تفسير الآية السابقة.

وتفسير الوسطية بالعدالة والخيرية هو المنسجم كذلك مع مرتبة الشهادة التي نالتها الأمة، فالشاهد من شروطه العدالة، قال الحافظ في الفتح:" وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: وسطا؛ والوسط: العدل ".

وهذا التفسير مروي عن جمع غفير من أئمة السلف في التفسير والفقه، ومنهم: ابن عباس رضي الله عنهما – ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وغيرهم رحم الله الجميع.

معنى العدالة والخيرية:

العدالة والخيرية هما أظهر صفات هذه الأمة الوسط، والعدالة من العدل الذي هو خلاف الظلم.

أما الخيرية فقد جاء ذكر ملامحها وصفاتها في كتاب الله عز وجل:

ص: 206

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) فقد ذكر الله بعد حكمه على هذه الأمة بالخيرية؛ وصفين مناسبين هما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.

وقد تقرر في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بوصف مناسب يشعر بعلية هذا الوصف لذلك الحكم، فكأن علة (الخيرية) هما هذان الوصفان العظيمان.

فهذه الأمة أمة خير؛ لأنها كذلك، فهي أمة خير للناس! لأنها أنفع الأمم للخلق جميعا، وأي خير وأي نفع أعظم وأمضى أثرا من هداية الخلق للحق.

وفي الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه في المعنى نفسه - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) قال: خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام " (3).

فهذه الأمة المحمدية المباركة - بما وهبها الله من نعم - تحمل الخير لكل الناس، وتكره لهم أن ينتهوا إلى المصير البائس الذي توعد الله به كل منحرف وضال عن معرفة ربه ودينه الحق، وتجهد نفسها - من غير

(1) سورة آل عمران الآية 110

(2)

سورة آل عمران الآية 110

(3)

البخاري، كتاب التفسير، باب كنتم خير أمة، حديث رقم (4557).

ص: 207

من ولا أذى - في سبيل أن تحول بين البشرية وبين الضلال والشقاء؛ بأمرهم بالإيمان بالله ونهيهم عن الشرك به سبحانه.

الوسطية ليست وسطا بين رذيلتين مطلقا:

المقصود من ذلك بيان أن المنهج الوسط ليس منهجا توفيقيا أو تلفيقيا بين طرفين متضادين، نضطر للتقريب بينهما حتى نصل لرتبة وسط!

فإنه وإن كان في الغالب أنه يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، فالصدق مثلا يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطا بين رذيلتين!

والوسط بحسب اجتهاد البشر ليس بالضرورة أن يكون حقا أو خيرا، بل قد يرى الناظر - في بادي الرأي - قولا أو موقفا وسطا بين باطلين، ومع ذلك لا يكون خيرا؛ بل قد يكون باطلا مثلهما، ومثاله: أن المعتزلة قد توسطوا - بحسب اجتهادهم - بين طرفين؛ في باب الأسماء؛ بين الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة، وبين المرجئة القائلين بأن أهل الكبائر كاملو الإيمان، فذهبت المعتزلة إلى مرتبة بين المرتبتين فقالت: إن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر، فوسطية هذا المذهب هنا ليست هي الحق في هذا الباب؛ لأنها تخالف القول الوسط نفسه الذي بمعنى (الخيرية والعدل) الذي دلت عليه النصوص، والتي لا تدل دائما إلا على الوسط قولا واعتقادا وتوجها.

ص: 208

خلاصة القول: أن الدعوة للوسطية هي الدعوة للدين الحق والقول الحق والمنهج الحق، الذي دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة، الذي هو في حقيقته عدل كله وخير كله لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ لأنه من لدن لطيف خبير.

ص: 209

المطلب الثاني: أثر الفتوى في بيان المنهج الوسط:

من الأمور المقررة أهمية الفتوى وخطورة أثرها على المستفتين، ومن أجل ذلك لا بد من أن يتحرى المفتي في اجتهاده إصابة الحق ما وسعه ذلك.

ومن مقاصد الشارع من المكلفين: حملهم على التوسط في شأنهم كله من أمور الدنيا والدين؛ من غير إفراط ولا تفريط (1). وأي خروج عن هذا المنهج الوسط هو في حقيقته خروج عن قصد الشارع.

والوسطية في (الفتوى) نستطيع أن ننظر لها من خلال أمرين مهمين غاية الأهمية، وهما:

أولا: الوسطية من جهة المنهج العلمي في الإفتاء الذي يسلكه المفتي.

ثانيا: الوسطية فيما يصدر عن هذا المفتي.

ووسطية الفتوى نتاج طبيعي لوسطية منهج الإفتاء، وهذه الوسطية لا تعني - وكما قررناه سابقا - التوفيق والتلفيق وإحداث منهج جديد يلائم أهواء المكلفين ومتطلبات العصر كما يقال! بل إن هذا المنهج وإن زعم أصحابه أنه منهج وسط إلا أنه أبعد ما يكون عن

(1)(الموافقات)(5/ 276).

ص: 209

الوسطية! وإذا لم يكن ليس ثمة خلاف بين المسلمين في أن (الكتاب والسنة) هما المرجعان الرئيسان لمعرفة أحكام الله عقيدة وشريعة، إلا أنهم اختلفوا في مناهج الاستثمار أو الاستنباط؛ بمعنى كيفية استنباط الأحكام من هذين المصدرين، ولهذا الاختلاف في المناهج أسبابه وخلفياته التي ليس هذا أوان ذكرها.

والذي يهمنا هو معرفة كيف يكون منهج التوسط في كيفية الاستنباط والاجتهاد، ولا يظهر ذلك جليا إلا بعد تصور المناهج المطروقة والسبل المسلوكة في هذا الباب.

فمن العلماء قديما وحديثا من اختار الاقتصار على ما تفيده ظواهر الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية، ويعد الاقتصار على ذلك أمرا متعينا؛ لأن فيه الأمن من البعد عن مرادات النصوص قدر الإمكان، وعن تحكيم العقل فيما لا سلطة له فيه.

ومنهم من غلب جانب التعليل وإعمال العقل في النصوص؛ بحجة أن الشريعة أحكامها معقولة المعنى، فلا بد من إظهار هذه المعاني والعلل، وبناء الأحكام عليها، ومنهم لا سيما من المتأخرين من يغلو في هذا الجانب وينادي بأنه يكفي أن تكون الأحكام الفقهية منطوية تحت معان عامة تدل عليها النصوص إجمالا.

وقد أدى التمادي في هذا الاتجاه إلى بعد كثير من الفتاوى والاجتهادات عن مقتضيات النصوص، ومن العلماء من اختار سبيل

ص: 210

الاقتصاد والتوسط، فنهج مسلك الأخذ بظواهر النصوص؛ مع اعتبار المعاني بما لا يؤدي إلى تعطيل مدلولات النصوص أو نقضها، بل بالقدر الذي يوسع دلالات النص بحسب القواعد العلمية المرسومة، وهم في ذلك لم يجمدوا على ظواهر الألفاظ؛ فيعطلوا المعاني، ولم يغرقوا في إعمال المعاني ويطرحوا النصوص!

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: " وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه: لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإذا كان ثمة رأي بين هذين؛ فهو أولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم "

ص: 211

فالوسطية إذا في باب الفتوى " موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها، وهي اتجاه بين اتجاهين بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة "(1).

فإذا ثبت وتقرر المنهج الصحيح للفتوى المنضبط بقواعد أهل العلم في هذا الفن، وبانت ملامحه، والذي هو في نهايته المنهج الوسط، أقول: إذا تقرر هذا المنهج؛ فإن العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد وصار مؤهلا للاجتهاد والفتوى، فعليه واجب كبير ومن خلال ذلك المنهج العلمي الوسط أن يجتهد - قدر وسعه - في تحقيق مقصد الشارع من المكلفين المشار إليه سابقا وهو:(حمل المكلفين على الوسط).

وذلك يتأتى من جهة حمل المكلفين على موارد الشرع وأدلته، دون إفراط ولا تفريط؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال والتفلت.

وهذا كله من نتاج المقدمة الأولى المشار إليها وهي: " وسطية منهج الإفتاء ".

وهو من واجبات المفتي، ومن الأمانة الملقاة على عاتقه. وقد نبه إلى ذلك عدد من المحققين من أهل العلم، ومنهم الإمام الشاطبي حيث قال: " المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود

(1) المؤتمر الدولي في الكويت بعنوان (الوسطية منهج حياة) 21 - 23 مايو 2005.

ص: 212

الوسط فيما يليق بالجمهور! فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال

فإذا خرج عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين " (1).

والذي يليق بجمهور المكلفين هو الذي دلت عليه القواعد الشرعية الكلية المستنبطة من مجمل النصوص من كتاب وسنة، من مثل: رفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، إلا أن ذلك كله لا بد وأن يكون بعيدا كل البعد عن اتباع الهوى؛ المضاد لأصل التكليف.

وهذا الحمل على التوسط هو المنهج الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم والمفهوم من شأنه عليه الصلاة والسلام، فقد رد التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة " يا معاذ أفتان أنت "(2)، وقال:«عليكم من الأعمال ما تطيقون (3)» .

ولكن: ما الذي سيحدث لو حاد المكلفون عن هذا المنهج الوسط سواء في الاعتقاد أم في الفقه؟

الذي سيحدث - والله تعالى أعلم - هو جنوح المكلف لأحد

(1)(الموافقات)(5/ 276).

(2)

مسلم؛ كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم (465).

(3)

البخاري؛ كتاب الصوم؛ باب صوم شعبان؛ رقم (1970).

ص: 213

الطرفين المذمومين الخارجين عن الجادة، وهما: الجفاء أو الغلو.

والغلو هو: مجاوزة الحد الذي رسمه الشرع، سواء في الاعتقاد، أو الفقه، أو التصورات (1).

والجفاء: خلاف البر، والجفاء في اللغة: ما نفاه السيل (2).

وفي الحديث: «اقرءوا القرآن، واعملوا به، ولا تجفوا عنه؛ ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به (3)» .

فهذا الحديث نهي عن اتباع الطرفين المجانبين للمنهج الشرعي الوسط وهما (الغلو والجفاء) بمعنى الابتعاد عنه وهجرانه.

فالجفاء في الجملة هو: الابتعاد عن الهدي الشرعي في السلوك أو الاعتقاد، وهو نوع من التفريط كذلك.

فدين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له أيضا، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بمجاوزته الحد (4).

وتحرير الأعمال والأقوال التي يسوغ وصفها بالغلو، أمر غاية في الأهمية، لكيلا يدخل تحت وصف الغلو أعمال وأقوال هي من دين

(1) انظر: (تفسير الطبري)(6/ 43)، (اقتضاء الصراط المستقيم)(1/ 289).

(2)

(لسان العرب)، مادة:(جفأ).

(3)

(مسند أحمد)(3/ 428). وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (1168).

(4)

انظر: (مدارج السالكين) لابن القيم (2/ 469).

ص: 214

المسلمين وتكاليف الشرع القويم، وهل الغلو في العمل نفسه أم في الوسيلة المؤدية إليه؟

وعدم تحرير هذه المصطلحات والمعاني بشكل دقيق: يوقع في كثير من الخلط والنزاع، ويؤدي إلى فساد التصور الذي ينبني عليه - في الغالب - عدم صحة الأحكام.

وإلى هذا نبه المحققون من أهل العلم؛ ومنهم الغزالي رحمه الله كما في شفاء الغليل! حيث قال: " معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها "(1).

وبتعبيره بكلمة (الشغف) فإنه يصور الواقع أبلغ تصوير!

ومثله قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: " إن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان؛ ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلا عن أن يعرف دليله "(2).

ومن صور الغلو؛ والجفاء كذلك التي قد يمارسها أو يعتقدها بعض المسلمين - هدى الله الجميع - إذا لم يجدوا البيان الشافي والفتوى المنضبطة بالمنهج العلمي؛ المحققة لمقاصد الشرع، من صور ذلك:

(1)(شفاء الغليل)(ص 199).

(2)

(الفتاوى)(112/ 114).

ص: 215

1 -

الغلو في فهم النصوص على نحو مرادها الصحيح، وهذا يأتي من الخلل في معرفة المنهج العلمي في التفسير والاستنباط، ومرده إلى (الجهل بالعلم الشرعي)، و (فقد التوجيه).

2 -

الغلو المتعلق بالأحكام؛ إما بإلزام النفس أو الآخرين بمسائل وأفعال لم يوجبها الشرع، أو تحريم شيء من الطيبات المباحة على وجه التعبد.

3 -

الغلو في الموقف من الموافق أو المخالف، فالأول قد يمدح حتى يوصل به إلى مرتبة التقديس أو العصمة! والثاني قد يذم حتى قد يحكم عليه بالكفر أو الفسق والمروق من الدين؛ دون بينة أو دليل! وكلا الموقفين خلاف المنهج الوسط، وآثاره على المجتمع المسلم وخيمة جدا.

4 -

وهو من صور (الجفاء): التفريط في كثير من العبادات من فرائض وسنن ونوافل، كالجفاء في محبة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث عدم الاهتمام الواجب بهديه وسمته، وتأدية الواجب واللائق في مكانته الشريفة من الإكثار من الصلاة والسلام عليه، وزيارة مسجده الشريف، ونحو ذلك من السنن المشروعة، ومنه: الإقلال من ذكر الله تعالى، وعقوق الوالدين، وهجران المساجد وقراءة القرآن

إلخ.

ص: 216

وحاصل القول: أن هذه الأمة أمة الوسط، الوسط في القول والعمل، الوسط في التصورات والمواقف، والوسط - وتأكيدا لما سلف - ليس معناه الأخذ من كل قول أو مذهب بطرف، والتجميع لنصل لقول أو موقف متوسط بين طرفين، فهذا يعني أن يكون القول الوسط ردة فعل جاءت للتوفيق بين قولين أو رأيين على طرفين متقابلين، بل القول والمنهج الوسط - بحسب ما أفهمه - هو: القول الحق الذي دلت عليه النصوص الشرعية، وبينه علماء الأمة؛ فهو الحق الموجود أصلا، علمه من علمه وجهله من جهله!!

وهذا (الحق) تجده دائما وسطا عدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، لا تمييع ولا غلو، والناس فيه ما بين مصيب له أو مجانف عنه، وهذا يدفعني إلى القول هنا بلزوم التوازن في معالجة قضايا الغلو.

فالغلو له جانبان أو صورتان: غلو في التمسك والتشدد في التطبيق؛ لم يأذن به الله، ولم تأت بها شريعته؛ التي من أصولها (رفع الحرج، والتيسير)، ونبيها صلوات الله وسلامه عليه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

والصورة الأخرى للغلو: غلو في الانحلال والتميع، والتفلت من نصوص الشرع وقواعده؛ يؤدي إلى التطاول على محكماته، وهو أيضا

ص: 217

مما يأباه الله ورسوله والمسلمون، وقد أمرنا جميعا بالذب عن دينه وحماية حدوده ومعالمه، والضرب على يد المتطاول المتهاون والقائل على الله بغير علم ولا هدى!

فلا ننس في غمرة الانشغال بالأول: الإنكار على الثاني، وبالدرجة نفسها، فإن الصورة الثانية من الغلو (في جانب التفريط) تكون غالبا من أسباب الغلو في صورته الأولى، والواقع خير دليل.

وإن من أهم أسباب حمل المكلفين على المنهج الوسط؛ هو (التحصن بالعلم الشرعي) إذ لا بد من اتخاذ كافة الوسائل المتاحة لبث العلم الشرعي المؤصل، وتوفير سبله لكل راغب فيه، وتسهيل اتصال عامة الناس بدور الفتوى ومجالس العلماء، وأن يحتسب العلماء والمفتون الأجر في الصبر على تعليم الناس وتفقيههم بأمور دينهم، ومن المتفق على صحته: أن الإنسان كلما ازداد علما صيحا ازداد بصيرة وقربا من المنهج الوسط الذي ارتضاه الله لعباده، وهي قاعدة مطردة، الأصل فيها قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه:«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1)» .

وأختم بنقل شذرات مهمة من قرارات مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة، حيث أوصى

(1) البخاري، كتاب العلم، حديت رقم (71).

ص: 218

المجتمعون من فقهاء الأمة بتوصيات مهمة؛ تصب في السياق الذي نتحدث فيه؛ من حيث ضبط الفتوى، ودور المفتين والفقهاء في التوجيه وضبط المصطلحات. ومن تلك التوصيات:

1 -

الاتفاق على ميثاق بشأن الإفتاء، ومعالجة الفتاوى الفردية في قضايا الأمة.

2 -

تحديد المصطلحات والتعريفات الشرعية ودلالاتها؛ لإزالة اللبس الحاصل بشأنها لدى بعض الناس، في مثل:(جماعة المسلمين، الطائفة المنصورة، دار الإسلام، دار الحرب، الولاء والبراء، الجهاد، الحوار، حقوق ولي الأمر وواجباته). وطباعة ذلك في كتاب، وتعميمه بين المسلمين.

3 -

دعوة علماء الأمة لتقوية الصلة مع الشباب والناشئة من أبناء المسلمين، وتفقيههم بما يلزمهم من أمور الدين، دونما إفراط أو تفريط.

4 -

دعوة مجامع الفقه والكليات الشرعية للتعاون في تيسير ما يحتاج إليه أبناء المسلمين من كتب الفقه الإسلامية؛ بغية تحصينهم من الشذوذ الفكري والانحراف السلوكي والثقافي.

5 -

مطالبة علماء الأمة بإعداد البحوث والدراسات التي تعالج الفكر المنحرف والغلو في الدين، ودعوة الأمانة العامة لرابطة

ص: 219

العالم الإسلامي للإسهام في تكليف عدد من الباحثين المخصصين لإنجاز البحوث المطلوبة) (1).

أسأل الله تعالى رب العرش العظيم أن يوفق علماء المسلمين للهدى والحق، وأن يثبتهم عليه، ويعينهم على نشره ودلالة الخلق إليه، وأن يرد المسلمين للحق ردا جميلا.

وأقول - في نهاية هذا المبحث - بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كان مستنا فليستن بمن مات! فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"(2).

وأختم بما كان يدعو به الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله في سجوده: " اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق؛ ويظن أنه على الحق! فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق "(3).

اللهم ما كان منه صوابا فبتوفيقك كان، وما لم يكن فأنت أهل

(1) مجلة المجمع الفقهي، العدد (17).

(2)

(جامع الأصول) لابن الأثير (1/ 292).

(3)

(البداية والنهاية) لابن كثير (10/ 443).

ص: 220