الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه منة من الله عز وجل على عباده؛ حيث جعلهم مقبورين أي: مدفونين في الأرض، ولم يجعلهم مما يلقى على وجه الأرض للطير والسباع (1).
(1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/ 219.
الفصل الأول: الصلاة في المقابر:
المبحث الأول: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الفعل:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم الصلاة في المقبرة، من حيث الفعل سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن فعل الصلاة في المقبرة محرم:
وقال بذلك الشافعية في المقبرة المنبوشة، أو المشكوك في نبشها على قول عندهم (1)، وهو المذهب عند الحنابلة وعليه أكثر الأصحاب (2) وقال به الظاهرية (3)، وجماعة من السلف (4).
ولا فرق في هذا القول بين المقابر القديمة والحديثة، ولا بين مقابر المسلمين والكفار (5).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
(1) ينظر: المجموع 3/ 164.
(2)
ينظر: الإنصاف 1/ 489.
(3)
ينظر: المحلى 4/ 30.
(4)
ينظر: المصدر السابق.
(5)
ينظر: المغني 2/ 470.
أولا: حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (1)» .
ففي هذا الحديث نهي عن الصلاة إلى القبر (2)، وهذا دليل على تحريم فعل الصلاة في المقبرة.
ثانيا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (3)» .
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 2/ 668، رقم (972).
(2)
ينظر: إغاثة اللهفان 1/ 162.
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا يجوز فيها الصلاة 1/ 130 رقم (492)، والترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام 2/ 131، رقم 317 وابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة 1/ 246 رقم 745، والحاكم في كتاب الصلاة من طريقين 1 380، 381 رقم (919، 920)، والبيهقي: في كتاب الصلاة باب ما جاء في النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام 2/ 609، رقم 4272، وأحمد 3/ 83، 96. والحديث قال عنه الترمذي: وهذا حديث فيه اضطراب يعني بين الوصل والإرسال ورجح الترمذي إرساله برواية الثوري قال: وهي أثبت وأصح الجامع الصحيح 2/ 131. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أسانيد الحديث جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 677. ينظر: تعليق أحمد شاكر على الترمذي وتقويته للحديث 2/ 133.
ثالثا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور (1)» .
فهذان الحديثان يدلان على النهي عن فعل الصلاة في المقبرة: لأن الأصل في النهي التحريم.
رابعا: حديث ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا
…
(2)».
فالحديث دليل على أن المقبرة ليست موضع صلاة. وهذا دليل على التحريم.
خامسا: حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي توفي فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا. قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3)» .
(1) أخرجه ابن حبان في كتاب الصلاة، باب شروط الصلاة 4/ 596 رقم (1698). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 30 رجاله رجال الصحيح وأخرجه الطبراني في الأوسط 6/ 293، برقم (9627)، بلفظ " نهى أن يصلى على الجنائز بين القبو ر "
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب التطوع في البيت 1/ 351؛ برقم 1187، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها؛ باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد 1/ 538 برقم (777).
(3)
أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور 1/ 395 رقم (1330)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها 1/ 376 برقم (529).
حيث دل هذا الحديث على أن الصلاة عند القبور هو من اتخاذها مساجد وهو محرم؛ بل هو من كبائر الذنوب.
سادسا: عن ثابت البناني عن أنس قال: رآني عمر، وأنا أصلي عند قبر، فجعل يقول: القبر، فحسبته أنه يقول: القمر، فجعلت أرفع رأسي إلى السماء فأنظر، قال: إنما أقول القبر لا تصل إليه. قال ثابت: فكان أنس يأخذ يدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور (1).
وهذا يدل على أن المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور (2).
سابعا: إن الصلاة في المقابر يترتب عليها مفاسد عظيمة منها التشبه باليهود والنصارى والمشركين ممن يعظمون القبور، ويصلون عندها.
ومن المفاسد – أيضا – مفسدة الشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الصلاة عند القبور، حماية لحمى التوحيد، لئلا تتخذ ذريعة إلى الشرك بالعكوف عندها وتعلق القلوب بها (3).
(1) أخرجه البخاري تعليقا مختصرا في كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية .. 1/ 152.
(2)
ينظر: إغاثة اللهفان 1/ 163.
(3)
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 684.
القول الثاني: أن الصلاة في المقبرة مكروهة:
وقال بذلك الحنفية إلا أن تكون نجسة فلا تصح الصلاة فيها، لانعدام طهارة المكان (1) وهو قول في مذهب المالكية (2)، والشافعية إذا لم تكن المقبرة منبوشة أو مشكوكا في نبشها على الصحيح عندهم (3) وهو رواية في مذهب أحمد (4).
والقول بالكراهة روي عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وأنس وابن عباس رضي الله عنهم (5).
وقال به عطاء، والنخعي، وإسحاق، وأبو ثور (6).
(1) ينظر: تحفة الفقهاء 1/ 257، بدائع الصنائع 1/ 115.
(2)
ينظر: التفريع 1/ 267، المعونة 1/ 287.
(3)
ينظر: الأم 1/ 187، والمجموع 3 163، 164.
(4)
ينظر: الإنصاف 1/ 289.
(5)
ينظر: المحلى 4/ 32.
(6)
ينظر: المغني 2/ 468، والمحلى 4/ 32.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (1)» .
ثانيا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور (2)» .
فهذان الحديثان يدلان على النهي عن الصلاة في المقبرة، وهذا النهي حمله أصحاب هذا القول على الكراهة؛ لأن العلة عندهم في النهي عن الصلاة في المقبرة هي مظنة النجاسة (3).
ويجاب عن هذا الاستدلال بما يلي:
1 -
أن هذا التعليل الذي ذكروه ليس مذكورا في الحديث لا نصا ولا ظاهرا؛ بل هي علة مظنونة (4).
2 -
أن العلة في النهي عن الصلاة في المقبرة، ليست هي مظنة النجاسة، لأن النجاسة على الأرض مانع من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة، أو لم تكن كذلك (5).
(1) تقدم تخريجه ص 230.
(2)
تقدم تخريجه ص 231.
(3)
ينظر: رد المحتار 1/ 380، 2/ 471.
(4)
ينظر: الفتاوى 27/ 159، إغاثة اللهفان 1/ 163.
(5)
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 678.
3 -
أن نجاسة تراب المقبرة محل نظر، حيث إنه مبني على مسألة (الاستحالة)، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح ونحوه (1).
4 -
أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقبرة للمشركين فنبشت، وجعل مكانها المسجد، ولو كان ذلك التراب نجسا، لوجب أن ينقل من المسجد (2).
5 -
أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يبلون وتراب قبورهم طاهر، ومع ذلك جاء النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد.
مما يدل على أن النهي عن الصلاة في المقبرة ليس لأجل أنها مدفن النجاسة (3).
6 -
أنه قد جاء النهي عن الصلاة إلى القبور، وهذا يدل على أن المراد بالنهي عن الصلاة في المقبرة ليس مظنة النجاسة. لأن النجاسة إذا كانت أمام المصلي لا تبطل الصلاة (4).
ومما سبق يتبين أن المقصود من النهي عن الصلاة في المقابر، أو
(1) ينظر: الفتاوى 21/ 322.
(2)
ينظر: الفتاوى 21/ 321.
(3)
ينظر: الفتاوى 27/ 160.
(4)
ينظر: المغني 2/ 473، 474.
الصلاة إليها، ما ذكره المحققون من أهل العلم وهو ما في ذلك من التشبه بأهل الشرك والبدع ولئلا يكون ذلك ذريعة ووسيلة إلى الشرك (1).
القول الثالث: أن الصلاة في المقبرة جائزة.
وقال بذلك مالك في المشهور عنه (2). وروي ذلك عن أبي هريرة، وواثلة بن الأسقع، وقال به الحسن البصري (3).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل
…
(4)» الحديث.
حيث دل هذا الحديث على جواز الصلاة في المقبرة؛ إذا كان المكان طاهرا (5).
(1) ينظر: المبسوط 2/ 206، الفتاوى 21/ 159.
(2)
ينظر: المدونة 1/ 90، التفريع 1/ 267.
(3)
ينظر: الأوسط 2/ 185
(4)
أخرجه البخاري في كتاب التيمم 1/ 125، برقم 335، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370 رقم 521.
(5)
ينظر: شرح السنة للبغوي 2/ 147.
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث عام، وأحاديث النهي عن الصلاة في المقابر خاص، فلا يبقى الحديث على عمومه، ثم إن حديث جابر فيه بيان لفضل هذه الأمة حيث رخص لهم في الطهور في الأرض، والصلاة في البقاع التي لم تبن، لأجل الصلاة كالمساجد، وهذا بخلاف الأمم السابقة التي لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم (1).
حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر هذه المرأة ومن المعروف أن قبرها في المقبرة، فدل ذلك على جواز الصلاة في المقابر.
(1) ينظر: المصدر السابق 2/ 147.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان 1/ 160 برقم (458)؛ وفي كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن 1/ 397 رقم (1337)، ومسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر 2/ 659 رقم (956).
ويجاب عن هذا الاستدلال:
أن هذا الحديث ليس في محل النزاع، وهو الصلاة في المقبرة، وإنما يدل على جواز صلاة الجنازة على القبر بعد الدفن؛ لفعله عليه الصلاة والسلام.
ثالثا: استدل أصحاب هذا القول ببعض الآثار، ومنها:
1 -
ما روي عن نافع مولى ابن عمر، قال: صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر (1).
2 -
فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم قال الإمام مالك رحمه الله: "بلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون في المقبرة"(2).
3 -
ما روي أن واثلة بن الأسقع كان يصلي صلاة الفريضة في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر (3).
ويجاب عن هذا: بأن هذا الفعل من بعض الصحابة - إن صح عنهم - معارض لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الصلاة في المقبرة، ومعارض - أيضا - لعدد من الصحابة الذين قالوا: بكراهة الصلاة في المقبرة، كما بينت ذلك سابقا.
(1) الأوسط لابن المنذر 2/ 185.
(2)
المدونة 1/ 90.
(3)
الأوسط لابن المنذر 2/ 185.