الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا فالإنسان مأمور بالمجاهدة في خلقه حتى يصير محمودا حسنا بأن يحمل نفسه على كل عمل يوجب حسن خلقها (1).
وما ذكر من الآثار الدالة على فضل حسن الخلق دليل على أنها مكتسبة مقدور عليها؛ ذلك أن الله تعالى لم يكلف العباد إلا ما يطيقون، كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2).
وقال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3).
(1) ينظر المفهم، فتح الباري ابن حجر: 10/ 459 - الزواجر 1/ 86
(2)
سورة البقرة الآية 286
(3)
سورة الأنعام الآية 152
المبحث الأول: مفهوم المنة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى المنة في اللغة:
للمنة في اللغة أصلان كما يقول ابن فارس:
" أحدهما يدل على قطع وانقطاع، والآخر على اصطناع خير ".
فالأول: المن: القطع، فيقال: منه يمنه منا: قطعه (1).
(1) لسان العرب، ابن منظور، دار المعارف، 6/ 4277، مادة منن
ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (1).
قال ابن كثير: ومعنى غير ممنون: أي غير مقطوع.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (2).
وقال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد
(1) سورة القلم الآية 3
(2)
سورة الانشقاق الآية 25
والضحاك: غير محسوب.
قال ابن كثير: وحاصل قولهما: أنه غير مقطوع (1).
وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (2). أي غير مقطوع. بل هو أجر دائم في أبد لا يزول ونعيم لا يحول.
ومن هذا الباب: المنون: الموت وهى جمع منية، سميت بذلك لأنها تنقص العدد وتقطع المدد (3).
وأما الأصل الثاني: من عليه يمن منا: أحسن وأنعم وصنع جميلا، والاسم المنة.
ومن هذا الباب المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل في التيه.
قال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (4).
(1) تفسير ابن كثير 4/ 524
(2)
سورة الانشقاق الآية 25
(3)
معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 267. مادة: من، لسان العرب، ابن منظور، 6/ 4279، مادة: منن
(4)
سورة البقرة الآية 57
وهذا المن اختلفت عبارات المفسرين فيه فمنهم من جعله طعاما، ومنهم من جعله شرابا. قال ابن عباس:" كان المن ينزل عليهم من الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا ".
وقال الربيع بن أنس "المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ".
وجمع ابن كثير رحمه الله بين هذه الأقوال بقوله: " والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد "(1).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين (2)» .
والكمأة نبات لا أوراق لها ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تزرع، ووصفت بأنها من المن؛ لأن الله امتن بها على عباده عفوا بغير علاج إذ إنها تنبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهي من قبيل المن الذي امتن الله به على بني إسرائيل، والمن في الحديث: مصدر بمعنى المفعول أي ممنون به، لأنه لم يكن للعبد فيه شائبة كسب فهو من
(1) تفسير ابن كثير 1/ 98
(2)
رواه البخاري 5708، مسلم 5310، الترمذي 2067، ابن ماجه 343
محض، وإن كانت جميع نعم الله على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لأحد.
ومن هذا الباب أي العطاء والإحسان، قوله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) جاء في تفسيرها، أي: هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك (2).
وكذلك قوله تعالى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (3).
قال ابن عباس: " لا تعط العطية تلتمس أكثر منها "(4). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة (5)» أي هو أكثرهم جودا لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة (6). فهذان المعنيان اللذان ذكرهما ابن فارس
(1) سورة ص الآية 39
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 42
(3)
سورة المدثر الآية 6
(4)
تفسير ابن كثير 4/ 470
(5)
البخاري 467
(6)
فتح الباري، ابن حجر، 1/ 558
للمن، وإن كان هناك معان أخرى ذكرها أيضا منها: القوة التي بها قوام الإنسان. ومنها ما جاء في الحديث «أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساء، وصبيانا مقبلين من عرس، فقام ممتنا. فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي (1)» .
فقوله "فقام ممتنا" أي قام قياما قويا، مأخوذ من المنة، بضم الميم، كما قال ابن حجر: وهي القوة: أي قام إليهم مسرعا مشتدا في ذلك فرحا بهم (2).
(1) رواه البخاري 5180
(2)
فتح الباري - ابن حجر 9/ 248
المطلب الثاني: المعنى المذموم للمنة:
أما المعنى المذموم للمنة، والذي جاء النهي عنه في النصوص - ستأتي - فهو: ذكر الإحسان وتعداده والفخر به. وفي هذا قطع للإحسان الذي عمله المرء، فتكون بهذا المعنى داخلة في المعنى اللغوي الأول من معاني المنة الذي هو القطع. وهي كبيرة من الكبائر (1).
وكما تكون المنة باللسان، فإنها قد تكون بالقلب. كما قال ابن
(1) الكبائر، شمس الدين الذهبي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 17/ 1
القيم: المن نوعان: أحدهما: من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه، ثم أوضح أن هذا لا يبطل ثواب الصدقة، وإن كان من نقصان شهود منة الله تعالى على العبد في إعطائه المال (1).
فهذا هو المحذور القلبي الأول للمنة، وأما الثاني فإن المان في حقيقة نفسه وداخل ذاته يرى نفسه خيرا من الذي قبل منه إحسانه.
فقال الهيتمي في هذا المعنى: هو أن يرى لنفسه مزية على المتصدق عليه بإحسانه إليه، ولذلك لا ينبغي أن يطلب منه دعاء، ولا يطمع فيه؛ لأنه ربما كان في مقابلة إحسانه فيسقط أجره.
وأما المن باللسان فيكون بأن يعدد نعمته على الآخذ. فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه
(1) طريق الهجرتين، ابن القيم 365
حقا أو طوقه في عنقه، فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده، أو يذكرها لمن لا يحب الآخذ إطلاعه عليها (1).
قال ابن الأثير: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، واعتد به على من أعطاه (2).
ولما سمع ابن سيرين رجلا يقول للآخر: " أحسنت إليك، وفعلت وفعلت، فقال له ابن سيرين: اسكت فلا خير في معروف إذا أحصي "(3).
وبالغ السلف في النهي عنها حتى قال ابن زيد: " كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه، أي لكونه
(1) ينظر: طريق الهجرتين، ابن القيم 3650. الزواجر، الهيتمي 1/ 188
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، 4/ 366
(3)
الزواجر، الهيتمي 1/ 189