الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله وأخذ عليه الرشا
…
" (1).
وتتضح أهمية (الفتوى) في هذا الجانب العظيم من خلال هذين المطلبين:
(1)(فتح القدير) للشوكاني (1/ 252).
المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى:
إن أعظم ما يجب حفظه وبيانه والذب عنه؛ هو دين الله الخاتم الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والذي لن يقبل الله من أحد دينا سواه.
وحماية جناب التوحيد وصحة المعتقد من أولى الواجبات، بل هو أهم الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، والضروريات كما عرفها الإمام الشاطبي رحمه الله هي:" ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين "(1).
وهذه الضروريات خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب.
وأعظمها شأنا والتي من أجلها خلق الله الخلق (حفظ الدين)!
(1)(الموافقات)(2/ 17 - 18).
" وحين نتكلم عن الدين وكونه ضروريا للحياة فإنا نعني بذلك الدين الحق الصحيح المنزل من رب العالمين، الخالص من التحريف، لا مطلق الدين، وإنما نخصه بالدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الدين الإسلامي الحنيف لكون ما عداه منسوخا لا يجوز العمل به {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1). (2).
بعد تقرير أن حفظ الدين أهم مقاصد الشريعة، فلا يمكن أن تترك الشريعة هذا المقصد عرضه للضياع أو التحريف، ففي ضياعه ضياع للمقاصد الأخرى، وخراب لنظام الحياة بأسرها.
ومن خلال استقراء أدلة الشرع من كتاب وسنة، وجد العلماء أن (مقصد الدين) يحفظ من جانبين: جانب الوجود، وجانب العدم.
فجانب الوجود بمعنى: المحافظة عليه بما يقيم أركانه ويثبت قواعده.
ومن جانب العدم بمعنى: درء الفساد عنه الواقع أو المتوقع.
ومن الجانب الأول تأتي الوسائل الآتية: العمل به، الحكم به، الدعوة إليه، الجهاد من أجله.
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2)
(مقاصد الشريعة) لليوبي (ص 193).
ومن الجانب الثاني: بالرد على كل ما يخالفه من البدع والأهواء.
وسأتحدث بما يتناسب وطبيعة البحث وهو عن دور " الفتوى والمفتين " في حماية المعتقد.
فقد جاء الأمر في كتاب الله بالدعوة إلى هذا الدين وبيان حقيقته، وأعظم قضية تناولها القرآن وجاهد من أجلها محمد صلى الله عليه وسلم قضية (التوحيد){قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)، وفي هذا المقام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدا، لكن يكون فيه من يدخل من التحريف، والتبديل، والكذب، والكتمان ما يلبس به الحق من الباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق، ويبطل الباطل ولو كره المشركون "(2).
ويقول الشيخ د. بكر أبو زيد - وفقه الله - في سياق بيانه لوجوب الذب عن حياض الحق بالفتوى الصحيحة والكلمة المقنعة " ويزداد الأمر شدة حينما يكون مع صاحب الهوى: حق يلبس به بدعته
(1) سورة يوسف الآية 108
(2)
(الفتاوى)(11/ 434).
وهكذا! حتى إذا طفحت الكأس: هب من شاء الله من حملة الشريعة ينزعون من أنوارها بذنوب وافرة، يطفئون بها جذوة الهوى والبدعة، فهم مثل العافية في الناس لدينهم وأبدانهم، بما يقيمونه من حجج الله وبيناته القاهرة، فتهب بذلك ريح الإيمان، وتقوم سوق الانتصار للكتاب والسنة (1) ".
وللنظر في تأثير (الفتوى) في مثل المسائل الإيمانية والعقدية المهمة، فإن ذلك الأثر لا يبدو ظاهرا واقعا إلا من خلال ذكر نماذج لمواقف عدد من العلماء من أهل الفتوى والاجتهاد، الذين كان لفتاواهم واجتهاداتهم في مواقف معينة أثرها البالغ والظاهر في حفظ الدين وحماية العقيدة الصحيحة في نفوس وعقول المكلفين من الذين يدخلون بإذن الله في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) وهم كثير ولله الحمد، ومنهم: إمام دار الهجرة العالم المجتهد صاحب المذهب مالك بن أنس، المتوفى سنة 179 هـ رحمه الله الذي أثرت عنه الأقوال المتواترة في تقدير الفتوى وبيان عظم شأنها! ومنها: ما نقله ابن خلكان عن الحميدي في كتابه (جذوة المقتبس) قال: وحدث القعنبي قال: دخلت
(1)(الردود)(ص 15 - 16).
(2)
سورة السجدة الآية 24
على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه؛ فسلمت عليه، فجلست فرأيته يبكي! فقلت: يا أبا عبد الله وما يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكى؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط، وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي!! " (1).
ولقد سئل هذا الإمام العلم عن مسألة عقدية تتعلق بصفات الله تعالى، فأفتى فيها عن علم وفقه، فكانت فتواه شافية كافية في المسألة ذاتها، إلا أن أثرها تعدى خصوص المسألة لتكون منهجا علميا ينسحب على هذه المسألة ومثيلاتها من مسائل الصفات أو الأمور الغيبية التي يعجز العقل عن إدراكها.
ساق الإمام الذهبي رحمه الله بسنده هذه المسألة؛ إلى جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: " الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به
(1)(وفيات الأعيان)(4/ 137 - 138).
(2)
سورة طه الآية 5
واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج (1) ".
ولقد فتح الله على الإمام مالك رحمه الله بهذه الفتوى العظيمة؛ التي هي المذهب الحق والمنهج القويم عند الحديث في صفات الله تعالى، نؤمن بها ونمرها على ظاهرها اللائق بجلال الله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف تحت قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .. فهو سبحانه أعلم بنفسه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به سبحانه، فمتى جاءنا نص من كتاب أو سنة صحيحة بإثبات صفة أو نفيها فلا يجوز العدول إلى رأي أو قياس مهما كان قائله.
وهو ما قرره مالك وعلماء السلف في فتاواهم للخلق، رحم الله الجميع.
ومن هذه الكوكبة أيضا: الإمام الرباني والفقيه المجتهد الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: المتوفى سنة 241 هـ رحمه الله، الذي ظهر في أيامه بدعة خلق القرآن وهي من البذور الأولى لبدعة الجهمية في تقديم المعقولات على الوحي، وامتحن الناس بها، وفتحت السجون من أجلها، فتصدى الإمام أحمد لهذه الفتنة التي كادت أن تفسد على الناس دينهم لولا أن ثبته الله لبيان الحق، وفي ذلك يقول الإمام الناقد
(1)(سير أعلام النبلاء)(9/ 100).
(2)
سورة الشورى الآية 11
الذهبي رحمه الله: " فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق، مجعول .. فأنكر ذلك العلماء "(1).
فكانت فتوى الإمام متطابقة مع نصوص الوحيين؛ الكتاب والسنة، ومنهج السلف في فهم هذه النصوص؛ ولم يحد عنهما قيد أنملة! ولم تأخذه في الله لومة لائم، بل صبر لمدة أربعة عشر عاما كاملة توالى على سجنه وتعذيبه ثلاثة خلفاء من كبار خلفاء بني العباس وعلى التوالي! إلا أنه رحمه الله حسم القضية من بدايتها، وشعر بعظم الأمانة التي تحملها، وهو من علماء هذه الأمة، وعلم أن كل فتوى تصدر منه سيكون لها بالغ الأثر في هداية الناس أو تضليلهم والعياذ بالله، وبالتالي حماية العقيدة أو الانتقاص منها!
لذلك لما جاءه تلميذه المروذي وهو بين الهنبازين! قال: يا أستاذ! قال الله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) قال: يا مروذي، اخرج وانظر، فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقا لا يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم؛ والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا ننظر ما يقول أحمد؟ فنكتبه، فدخل فأخبره؛ فقال: يا مروذي! أضل هؤلاء كلهم؟ " (3).
(1)(سير أعلام النبلاء)(11/ 236).
(2)
سورة النساء الآية 29
(3)
(سير أعلام النبلاء)(11/ 253).
وفي هذا السياق سياق (الفتوى) المؤثرة في باب الاعتقاد لا سيما وهي إذا صدرت من عالم مجتهد، ما كان يصل للإمام أحمد من سؤالات واستفتاءات في قضايا أشكلت على بعض طلبة العلم، فيفتي فيها الإمام بما يصحح المعتقد ويهدي سواء السبيل.
ومن ذلك: ما جاء في طبقات الحنابلة: أنه لما أشكل على مسدد بن مسرهد أمر الفتنة وما وقع الناس فيه من اختلاف في القدر والرفض والاعتزال، وخلق القرآن والإرجاء، كتب إلى أحمد بن حنبل: اكتب إلي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ورد كتابه على أحمد بن حنبل بكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! يزعم هذا البصري أنه قد أنفق على العلم مالا عظيما، وهو لا يهتدي إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهونه عن الردى يحيون بكتاب الله تعالى الموتى وبسنة رسول الله أهل الجهالة والردى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين؛ الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عنان الفتنة، يقولون عن الله وفي الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - وفي كتابه بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة .. وصلى الله
على محمد
…
أما بعد:
…
ثم شرع رحمه الله في الإفتاء والبيان " (1).
ومات الإمام أحمد، ومات معذبوه، ومات أهل الفتن والأهواء؛ وبقيت فتاواه والحق الذي جاهد من أجله راسخا في قلوب المسلمين، وظل كتاب الله محفوظ الجناب من الزيغ والضلال، فلله الحمد من قبل ومن بعد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2).
ومع صورة مشرقة أخرى لعالم رباني مجتهد آخر، كان لفتاواه واجتهاداته أثرها البالغ في تصحيح المفاهيم وحماية المعتقد، وهو الإمام الأصولي المالكي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790 رحمه الله.
فقد عاش هذا الإمام المجتهد عصرا - كما يذكر - انتشرت فيه البدع، وكادت أن تندثر معالم السنة في كثير من أحكامها لا سيما في جانب الأمور التعبدية وفي منهج التلقي عموما حتى عادت، ويصف تلك الفترة فيقول: " وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق؛ وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم
(1)(طبقات الحنابلة) لأبي يعلى (1/ 342).
(2)
سورة يوسف الآية 21
غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد " (1).
ومع ضغط الواقع الذي كان يعيشه الشاطبي رحمه الله وإحساسه بالغربة فيه وما حصل له من تردد كما يقول هو نفسه؛ إلا أن ذلك لم يثنه عن قولة الحق وموقف الصدق، فقد استشعر عظم الأمانة وخطورة الفتوى والقول في دين الله، ووجوب حماية المعتقد وسلامة المنهج حتى وصل إلى القناعة الواجبة، يصورها قوله:" فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك في حكم التدريج في بعض الأمور، قامت علي القيامة! "(2).
فتوكل على ربه، وألف، وأفتى، وجاهد، وكان كما قال عن نفسه:" ولم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، ويبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة، لعلي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت أن تطفئ نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها، وأعد يوم القيامة فيمن أحياها"(3).
(1)(الاعتصام)(ص 25).
(2)
(الاعتصام)(ص 27).
(3)
المصدر نفسه (ص 30).
فألف رحمه الله كتابه العظيم الفريد في بابه الموسوم بـ (الاعتصام) الذي حرر فيه معنى البدعة وقواعد التفريق بينها وبين السنة، وعرض فيه الكثير من الشبه التي قد تفسد على المكلفين صحة المنهج وسلامة المعتقد، ثم كر عليها بالبيان والنقض.
وكذلك كانت له فتاوى مشهورة (1)، ومن تلك الفتاوى أذكر هذا النموذج الذي يتعلق ببيان البدعة من السنة:
فقد سئل رحمه الله عن تكبير العيدين بصوت واحد، وأنه كما جاء في السؤال (من بدع الخير التي شهد الشرع باعتبار حسنها .. ).
فأجاب: الحمد لله أما من لم يكبر في مواضع التكبير فقد فاتته سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالسلف الصالح، وكفى بذلك خسرانا، وأما قول القائل: إن التكبير على صوت واحد فيه الأجر! فإن أثبت ذلك نقلا صريحا لا احتمال فيه عن السلف صح الأجر، وإلا فلا أجر فيه ألبتة، وأما قوله: إنه من بدع الخير التي شهد الشرع بحسنها فغلط؛ إذ لا بدعة في الدنيا يشهد الشرع باعتبار حسنها، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام:«كل بدعة ضلاله (2)» وأشباهه.
والمسألة وإن كانت في فرع فقهي، إلا أن الذي يعنينا هو بيان
(1) انظر: (فتاوى الإمام الشاطبي) تحقيق: د. محمد أبو الأجفان.
(2)
(فتاوى الشاطبي)(ص 202).
المنهج السليم في التلقي، وأن الأصل فيه هو التوقيف، وبيان ذلك وتمييز السنة من البدعة من أهم مسائل الاعتقاد ولا ريب. وهذه الفئة من الناس - العلماء والمفتون الربانيون - مضت سنة الله - ولأمر خير أراده الله في هذه الطائفة الذابة عن دين الله وشرعه - أن يصيبهم بسبب صدعهم بالحق؛ الأذى والمحاربة، زيادة في مضاعفة الأجر، وخلود الذكر، ومن أسوأ ذلك: نفثات المخذلين المقصرين! فترى المثخن بجراح التقصير، الكاتم للحق، البخيل ببذل العلم؛ إذا قام إخوانه بنصرة السنة يضيف إلى تقصيره؛ مرض التخذيل، ومن وراء هذا ليوجد لنفسه عند المناشدة والمطالبة العذر في التولي يوم الزحف على معتقده (1).
قلت: إذا أظهر أهل الباطل باطلهم، وتقول في دين الله كل دعي أفاك متعالم، وأهل العلم والحق ما بين ساكت أو مخذل أو متشاغل أو لا يدري عن الواقع! فمتى بربك يتبين الناس الحق، وكيف يحفظ الدين ويسلم المعتقد؟!
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا وأخيرا أسوة حسنة، وفي سلف هذه الأمة كذلك، وكل من سار على هذا النهج القويم.
وممن ينتظم في سلك هذه الكوكبة المضيئة من العلماء العاملين
(1) انظر: (الردود) للشيخ المحقق بكر أبو زيد (ص 16).
المجتهدين المؤثرين، علم كبير القدر، جليل الأثر؛ هو الشيخ العالم الفقيه صاحب الفتاوى المشهورة أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، المتوفى سنة 728 هـ.
فقد برز هذا العالم المجتهد في أمور كثيرة، من أهمها وأظهرها: جهاده العظيم في الذب عن حياض المعتقد الصحيح؛ وحمله لواء البيان عن الله ورسوله! فقد كرس حياته ووظف علمه قي بيان الحق ومناظرة أهل الأهواء والبدع، ولقد " تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء والتدريس والتأليف؛ وإنما كان رحمه الله رابطا العلم بالعمل! فعلمه يدفعه إلى تحمل مسئوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل " (1).
والحديث عن سيرته العلمية والعملية يطول، وقد ألفت فيها الكتب، وعني بها العلماء قديما وحديثا؛ إلا أني أشير إلى القدر الذي يقتضيه السياق، وبالقدر الذي يتحمله المقام، فالمتأمل لحياته رحمه الله يجد أنه عني كثيرا بإرسال الفتاوى المحققة والمؤصلة المبنية على القواعد المنهجية والشرعية لمن يسأله ويراسله مستفتيا وطالبا للحق، فرسائله
(1)(موقف ابن تيمية من الأشاعرة)، د. عبد الرحمن محمود (1/ 159).
العلمية المشهورة المسماة بالعقيدة الحموية أو التدمرية أو الواسطية؛ إنما هي في أصلها فتاوى عقدية صدرت منه رحمه الله بناء على أسئلة وردت إليه من أهل حماة أو تدمر أو واسط تتعلق بمسائل عقدية عظيمة.
فالواسطية: فتوى تتعلق بسؤال موضوعه: أسماء الله وصفاته الواردة في القرآن والسنة والمنهج الشرعي الصحيح في فهمها، وقد جاءت هذه الفتوى الكبرى بأسلوب تقريري متقن؛ حيث إنها مليئة بالقواعد الأصولية والمنهجية التي تقرر مذهب السلف.
وكذلك فتواه المسماة بالتدمرية، فهي من الفتاوى المهمة والنافعة في بابها، واحتوت على فوائد عظيمة منهجية في مسائل عقدية مهمة؛ كان لها كبير الأثر في فهم منهج السلف؛ وفى مناقشة المخالف بمنهج وأسلوب علميين رصينين.
ومن المسائل العقدية المهمة والخطيرة التي أفتى بها شيخ الإسلام وأكد عليها في كثير من فتاواه مسألة (التكفير) فقد كان لفتاواه أثرها الكبير في ضبط هذه المسألة ووضعها في إطارها العلمي الصحيح، وتحقيق مبدأ الوسطية التي جاءت به الشريعة لتكون أحكامها وسطا بين الطرفين الغالي في الحق أو الجافي عنه.
ومما قرره في تلك الفتاوى: أن للتكفير شروطا وضوابط علمية
لا بد من توفرها، وأن لا يجوز تكفير إلا من قامت الأدلة الشرعية الصحيحة على تكفيره، ومن شروط التكفير التي ذكرها: قصد المعنى المكفر، وقيام الحجة من حيث إخبار القائل أو الكاتب بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وتوضيح هذه الحجة وإزالة الشبهة إن وجدت، والتفريق بين تكفير المعين والتكفير المطلق، ومن جملة قوله في هذا رحمه الله:" والأصل الثاني: أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول به بإطلاقه وعمومه، وإطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر، فقد يكون الفعل كفرا، ولا يكون فاعله كافرا؛ لانتفاء أحد الشروط، كقيام الحجة مثلا، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلا "(1).
وجملة القول: أن فتاوى هذا الإمام العلم كان لها أكبر الأثر في بيان مسائل الاعتقاد، وفق المنهج الوسط المستمد من الأدلة الشرعية والمنهج الشرعي. ولعل من أظهر سمات منهجه رحمه الله هي: العناية الشديدة بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع وتعظيم الآثار: وتقديمها على غيرها من الأدلة، وتأكيده وإثباته لمسألة مهمة - كانت مزلة أقدام وأقلام لكثيرين - وهى دفع التعارض بين النقل والعقل، وإنزال كل منهما منزلته الصحيحة التي تليق به.
(1)(مجموع الفتاوى)(12/ 497)، وانظر:(الفتاوى)(1/ 106)، (10/ 434).