الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتعلق بالسائل وغيره، في حين أن حكم القاضي لا يتجاوز - في الغالب - غير المتحاكمين (1).
2 -
من حيث الاختصاص: فالقضاء خاص بالمعاملات، أما الفتوى فهي داخلة في أحكام الشرع كلها.
3 -
ما ذكره الإمام القرافي من أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة (2).
ومن هنا فإن المفتي هو: المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله (3).
(1)(مباحث في أحكام الفتوى) د. عامر الزيباري.
(2)
(الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)(ص 56).
(3)
انظر: (الغياثي) للجويني ص 81، (صفة الفتوى)(ص 44).
المطلب الثاني: خطورة مقام المفتي وأهميته:
يصور الإمام الشاطبي رحمه الله مكانة المفتي أدق تصوير بقوله: " المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم"(1).
ووجه القيام مقام النبي يكون بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها: إبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل، والإنذار بها كذلك، ومنها: بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة (2).
(1)(الموافقات)(5/ 253)
(2)
المرجع نفسه.
ولا أبلغ في بيان مكانة المفتين في هذه الأمة من أن رب العالمين؛ أوجب على عموم المؤمنين طاعتهم بنص كتابه العزيز، قال الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1).
واستنباطا من هذا المعنى القرآني عبر ابن القيم وغيره من العلماء - رحم الله الجميع -: أن المفتي موقع عن رب العالمين! فطبيعة عمل المفتي عند تحليلها بدقة نجد أنها: قول على الله وإخبار عنه، بما سيعد فيما بعد تشريعا داخلا في دين الله، يتعبد المكلف به ربه تعالى، فإذا صدرت الفتوى من أهلها المعتبرين بشروطها المعتبرة كانت أقرب إلى الحق بإذن الله؛ وبالتالي ستكون دلالة على الخير والرشاد، وإذا كانت خلاف ذلك فقد ضل صاحبها وأضل! وكم من فتوى طارت بها الركبان وطبقت الآفاق؛ وقد جانب الحق والصواب، عمل بها أقوام ورثها من بعدهم آخرون حتى أضحت من دين الله، وهي ليست منه، فكانت مثل السنة السيئة التي على صاحبها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فخطر المفتي عظيم، فإنه موقع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرم كذا، أو أوجب كذا!
وهذا كله عند التفريط في إعطاء المسألة حقها من النظر، أو إذا كان المخبر بالحكم مفتئت متقول على الله ليس من أهل الاجتهاد، أما
(1) سورة النساء الآية 59
إذا كان من أهله، وبذل وسعه فلم يوافق اجتهاده الحق؛ فهو مأجور على اجتهاده غير مأزور بإذن الله، كما دلت على ذلك النصوص، ولكن: الفتوى إذا جانبت الصواب وخالفت الحق لا سيما في المسائل العامة أو الخطيرة الأثر والتي تعم بها البلوى؛ فإن عدم الوزر لا ينفي عدم الأثر!
خطأ المفتي وما يترتب عليه:
إن خطأ المفتي في فتواه، ليس بالأمر الهين، وكلما كان تعلقها عاما وموضوعها دقيقا؛ كان أثر الخطأ عظيما!
ومما يترتب على هذا الخطأ أمور، منها:
1 -
تأثيم المفتي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، أو أفتى فيما لا يحسنه من أبواب العلم، أو قصر في البحث وتلمس الحق؟ أو أفتى اتباعا للهوى أو ابتغاء عرض من الدنيا!
لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم: وتبعهم سلف الأمة؛ من أهل القرون المفضلة، كانوا يقدرون هذا الأمر حق قدره، وهذا ما يفسر تجنبهم وتدافعهم الفتوى قدر الإمكان! وينبني على هذا أن من أفتى ولم يكن من أهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن ولاه ذلك وأقره فهو آثم كذلك.
وقد حمى رب العالمين سبحانه جناب الفتوى، ورفع من شأنها، فقد نص كتاب الله على تحريم القول عليه بغير علم في الفتيا
والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل في المرتبة العليا منها، قال تعالى اسمه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) قال ابن القيم: "فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو: القول عليه بلا علم "(2).
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: " ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ "(3).
ومن هنا نجد أن العلماء الكبار الربانيين تصدر عنهم إشراقات تدل على شدة ورعهم وخوفهم من الله، وتقديرهم للإفتاء حق قدره،
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2)
(إعلام الموقعين)(1/ 31).
(3)
(إعلام الموقعين)(4/ 167).
فقد صح عن إمام دار الهجرة مالك رحمه الله قوله: " إن المسألة إذا سئل عنها العالم فلم يجب، فاندفعت عنه، فإنما هي بلية صرفها الله عنه "(1).
ومن هنا فقد كان الإمام الشافعي رحمه الله دقيقا صادقا عندما وصل - بثاقب بصره ودقيق فهمه لموارد الشرع وأسراره - إلى أن الحكمة من شرع الاجتهاد هي (الابتلاء). قال رحمه الله في الرسالة: " ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم "(2).
ولو وعى هذا كله أو بعضه أولئك الذين يتجرءون على الفتوى ويتطلعون لها؛ لكفوا عن كثير مما شغبوا على الناس به، ولأوكلوا الأمر إلى أهله، وحمدوا الله على بلية صرفت عنهم!
قال الإمام القرافي: "وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا"(3).
2 -
أن الفتوى الغير صحيحة كما سبق ذكره، ينسحب أثرها على تصرفات المكلفين أو معتقداتهم وتصوراتهم.
3 -
ذكر بعض العلماء مسألة "ضمان المفتي " بمعنى: من أفتى شخصا
(1)(التبصرة) لابن فرحون (1/ 52).
(2)
(ص 22).
(3)
(الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)(ص 92).
وانبنى على الفتوى إتلاف مال، أو تفويت مصلحة، ففرق بعضهم - كالإمام اللقاني المالكي في منار أصول الفتوى - بين من كان مجتهدا فلا يضمن، ومن كان غير مجتهد فيضمن (1).
وجاء في (صفة الفتوى) لابن حمدان الحنبلي قوله: " وقيل: يضمن - أي من ليس أهلا للفتوى - لأنه تصدى لمن ليس بأهل، وغر من استفتاه بتصديه لذلك "(2).
وفد فصل ابن القيم في هذه المسألة، وقارن بين خطأ المفتي وخطأ الحاكم (3).
والذي يتوجه - والله أعلم - عدم ضمانه؛ تفريعا على أنه مخبر، وليس منشئا، وأن الفتوى غير ملزمة.
ويستأنس لهذا الرأي بالحديث الذي فيه: أن رجلا من الصحابة كان في سرية فأصابه جرح ثم أجنب، فسأل من معه عما يفعل؟ هل يغتسل أم لا؟ فأفتوه بوجوب الغسل، فاغتسل فمات، فلما علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال
…
(4)».
(1)(منار أصول الفتوى)(ص 295).
(2)
(صفة الفتوى والمفتي والمستفتي)(ص 30).
(3)
انظر: (إعلام الموقعين)(ص 432).
(4)
أبو داود، كتاب الطهارة، باب: في المجروح يتيمم، رقم (337)، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب: في المجروح تصيبه جنابة، رقم (572).
ونخلص من ذلك: أن مقام المفتي مقام كبير القدر، عظيم الأثر، وأن أي مجتمع مسلم لا ينبغي أن يخلو من أهل الفتوى والاجتهاد، وإلا أدى ذلك إلى تخبط الناس في دينهم، وابتعادهم عن السنة، واختلاط الحلال بالحرام! فيضلون على الصراط السوي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يوجد مفت في بلد ما حرم السكن فيه! ووجب الرحيل منه إلى حيث من يفتيه في أحكام الدين؛ وما يستجد من نوازل! (1).
قلت: ولا ينبغي أن يكون في حياة المسلم أعظم من دين الله ليهتم به ويسأل عنه، وهذا من صدق الديانة وأمارات الإيمان. وكما قال ابن القيم، فإن " حاجة الناس إليهم - يعني المفتين - أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم عليهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب العزيز "(2).
فإذا كان مقام المفتي بهذه الدرجة من الأهمية، وبهذه الخطورة، فلا بد إذا من بيان المؤهلات والشروط التي بتحصيلها يتأهل العالم لهذه المرتبة الرفيعة في الدين.
(1) انظر: (المجموع) للنووي (1/ 47).
(2)
(إعلام الموقعين)(1/ 8).
المطلب الثالث: الشروط العلمية الواجب توفرها في العالم ليتأهل للإفتاء، وآداب المفتي:
شروط المفتي هي ذاتها شروط المجتهد، قال د. عبد الله التركي في كتابه (أصول الإمام أحمد):" تقدم أن المفتي هو المجتهد، ومن لم يبلغ درجة الاجتهاد هو: المقلد، وعند الكلام على المجتهد؛ وما يلزم له ذكرنا طرفا مما يشترط له، وهى شروط المفتي في الواقع "(1).
وفي اصطلاح المتقدمين لا فرق بين الفقيه والمجتهد والمفتي، فهي أسماء لمسمى واحد، فالفقيه الذي لا يملك أدوات الاجتهاد، ويكتفي بحفظ الفروع؛ لا يسمى فقيها على الحقيقة! فالفقه أساسه الفهم، وقد أشار إلى ذلك الزركشي رحمه الله نقلا عن غيره من الأصوليين، جاء في البحر المحيط:" تنبيه علم من تعريفهم الفقه " باستنباط الأحكام ": أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح (المستصفى) قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها " فروعي "، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، ونحوه، قال ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء، وذكر الشافعي في (الرسالة): صفة
(1)(أصول الإمام أحمد)(ص 726)، وانظر:(مجلة مجمع الفقه الإسلامي)(11/ 2).
المفتي وهو الفقيه .. " (1).
والشروط التي يذكرها الأصوليون في باب الاجتهاد واللازمة للتأهيل لرتبة الاجتهاد أو الإفتاء، هي في حقيقتها شروط الاجتهاد العامة والتي تشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع مسائل الفقه ونوازله، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله بعد عرضه العلوم التي لا بد للمجتهد منها:" اجتماع هذه العلوم الثمانية: إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع "(2).
وقد تنوعت أساليب الأصوليين في طريقة عرض الشروط والمعارف المطلوب توفرها للوصول لهذه الرتبة (الاجتهاد / الإفتاء).
ومن أول وأحسن من كتب في شروط الاجتهاد الإمام الكبير الشافعي رحمه الله، فقد سطر جملا رائعة ودقيقة في هذا المقام، حيث يقول: " ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله! فرضه، وأدبه، وناسخه، ومنسوخه، وعامه، وخاصه، وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإذا لم يكن إجماع فبالقياس،
(1)(البحر المحيط)(1/ 23 - 24)، وانظر:(أصول الإمام أحمد) للتركي (ص 694).
(2)
(المستصفى)(2/ 389).
ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب (1) ".
ومن الأصوليين من جمع الشروط في شرطين كالغزالي حيث قال: " المجتهد: وله شرطان:
أحدهما: أن يكون محيطا بمدارك الشرع، متمكنا من استثارة الظن، بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره.
الثاني: أن يكون عدلا، مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة " (2).
وكذلك الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، إذ قال: " إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط، بناء على فهمه فيها " (3).
وقد جمع تقي الدين السبكي رحمه الله. ما يجب على العالم تحصيله، والعلم به من المعارف في أمور ثلاثة، وهي:
1 -
التآليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن: كالعربية، وأصول الفقه، وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ، بحيث تصير هذه العلوم ملكة للشخص، فإذ ذاك يثق
(1)(الرسالة)(ص 509 – 510).
(2)
(المستصفى)(2/ 382).
(3)
(الموافقات)(5/ 41 – 42).
بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي، وتحريره، وتصحيح الأدلة من فاسدها.
2 -
الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة، حتى يعرف أن الدليل الذي ينظر فيه مخالف لها أو موافق.
3 -
أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشارع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل، وإن لم يصرح به (1).
إلا أن من أبرز العلوم التي تتعلق تعلقا مباشرا بعملية الاجتهاد هو (علم أصول الفقه)، فهو العلم الذي يبين منهجية الاستنباط وآلية التعامل مع النصوص، وهو كما اصطلح على تعريفه عند كثيرين (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة)(2).
وهو علم مستمد في كثير من مباحثه من (علم اللغة العربية)، فلا بد للمشتغل به من العلم باللسان؛ بالقدر الذي يمكن صاحبه من الفهم الدقيق للنصوص الشرعية بأساليبها اللغوية المتنوعة (3).
(1) انظر: (الإبهاج في شرح المنهاج)(3/ 273 - 274).
(2)
(أصول الفقه؛ الحد والموضوع والغاية) د. يعقوب الباحسين (ص 107).
(3)
انظر: (المستصفى)(2/ 386).
وقد ذكر الإمام الرازي رحمه الله " أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه "(1).
وقبله إمام الحرمين الجويني. رحمه الله إذ يقول: " ولا يرقى المرء إلى منصب الاستقلال دون الإحاطة بهذا الفن "(2).
ويقول الإمام الشوكاني رحمه الله عن أصول الفقه أنه " عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه ".
والعلم بقواعد هذا (الفن) علم بمقاصد التشريع التي هي نتاج من نتائجه، وثمرة من ثماره، والدراية بمقاصد الشريعة وأصولها الكلية من الأمور المهمة جدا في تكوين ملكة الاجتهاد عند الفقيه، حتى
(1)(المحصول)(2/ 499).
(2)
(الغياثي)(ص 181).
يصبح مع كثرة المطالعة والتدقيق فيها؛ على بصيرة بما يصلح أن يكون مناسبا للتشريع وما لا يكون كذلك.
يقول إمام الحرمين: " ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة "(1).
فالشريعة مبناها على مقاصد وأصول لا بد للمفتي من مراعاتها واعتبارها حالا ومآلا قبل أن يصدر فتواه.
وقد ذهب الإمام الشاطبي وهو يناقش القدر الذي يجب على المجتهد تحصيله من هذه العلوم والمعارف، ويقرر بعد بحث علمي شائق، أنه ليس من الواجب على العالم أن يتعمق في كل علم من العلوم المذكورة في شروط الاجتهاد حتى يصل لدرجة الاجتهاد فيها! بل يكفيه أن يمتلك القدرة العلمية على الاستفادة من كل فن ما يساعده في بناء الفتوى بناء صحيحا، سواء أكان في الحديث أو اللغة أو غيرهما من العلوم، قال رحمه الله:" ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم، لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب، وليس الأمر كذلك بالإجماع ". (2).
(1)(البرهان)(1/ 295).
(2)
(الموافقات)(5/ 47).
تنبيه:
عند التأمل في شرط الاجتهاد من لدن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله إلى عصور متأخرة، يلمس الباحث تطورا وتوسعا في تلك الشروط، وبما يتناسب مع تغير العصور والجو العلمي السائد، فالأدوات العلمية المقدمة هي الأصل المستصحب في كل عصر! إلا أنه قد يزاد عليها بالقدر الذي تقتضيه ظروف ذلك العصر، فما قرره الشافعي في القرن الثاني من شروط " لا يمكن أن تكون كافية للنظر الاجتهادي في القرن الثالث الهجري؛ الذي تبدل فيه الواقع الفكري والسياسي؛ إذ إنه بينما كان الصراع في القرن الثاني الهجري صراعا فقهيا بين المدارس الفقهية، فإن الصراع غدا من منتصف القرن الثالث الهجري صراعا كلاميا بين المدارس الكلامية - أشاعرة ومعتزلة وماتريدية - وامتزج بشيء من الفكر الأصولي، مما يبرر القول في هذا القرن بضرورة أن يتوفر في الراغب في التصدي للنظر الاجتهادي على زاد معرفي غير مغشوش من الفكر الأصولي والكلامي .. "(1).
وقد تناقل العلماء في كتبهم قديما وحديثا أن مرتبة المجتهد المطلق لم تعد موجودة من قديم الزمان، وذهب آخرون إلى انعدام أنواع
(1)(أدوات النظر الاجتهادي المنشود)، د. قطب سانو (ص 47).
أخرى من المجتهدين؛ كمجتهد التخريج مثلا، وقد تكررت دعوى انعدام المجتهدين في عصور متعددة، وممن ذكر ذلك ابن أبي الدم الشافعي المتوفى سنة 624 هـ إذ يقول:"واعلم أن هذه الشروط - يقصد شروط الاجتهاد المطلق - يعز وجودها في زماننا هذا في شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق "(1).
ولعل السؤال المهم لا سيما مع تكرر هذه الدعوى من قرون طويلة، ما هي الأسباب المؤدية إلى انتشار هذه الدعوى، وندرة المجتهدين، وانتشار التقليد حتى أصبح هو الأصل؟
وقبل ذكر شيء من ذلك بحسب ما نلمسه من واقع موجود، أنقل تفسيرين لعالمين من العلماء الذين اجتهدوا في تلمس هذا الأمر، ومن قرنين مختلفين.
أولهما: أبو المعالي الجويني رحمه الله حيث قال في كتابه (الغياثي) وهو يتألم من انتشار التقليد وانحسار الاجتهاد!: "وإنما بلائي كله من ناشئة في الزمان شدوا طرفا من مقالات الأولين، وركنوا إلى التقليد المحض، ولم يتشوفوا إلى انتحاء درك اليقين، وابتغاء ثلج الصدور، فضلا على أن يشمروا للطلب
…
" (2).
(1)(أدب القضاء) للحموي.
(2)
(الغياثي)(ص 183).
وثانيهما: العالم الحنبلي (أحمد بن حمدان الحراني) المتوفى سنة 695 هـ حيث اجتهد في ذلك قائلا: " لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، ونار الجد والحذر خامدة، اكتفاء بالتقليد، واستعفاء من التعب الوطيد، وهربا من الأثقال، وأربا في تمشية الحال، وبلوغ الآمال، ولو بأقل الأعمال "(1). وقد أصاب الداء أو كاد رحمه الله!
فخلاصة النقلين: فتور الهمم، والركون إلى الأسهل، وهما سببان لا يزالان موجودين في واقعنا المعاصر.
ويضيف بعض الباحثين أسبابا أخرى منها:
1 -
الشعور بعدم الحاجة للاجتهاد عند طلبة العلم الناتج عن الثروة الفقهية الكبيرة المدونة، فلا تكاد تجد مسألة إلا وفيها رواية عن صحابي أو تابعي أو إمام.
2 -
تركز الاهتمام بكتب المذاهب الفقهية.
3 -
الهالة الكبيرة التي أحاطها تلاميذ الأئمة حول آراء شيوخهم، مما منعهم ومنع غيرهم من تناول بعضها بشيء من النقد والتمحيص.
4 -
سبب آخر ومهم - وهو في نظري - من الأسباب التي حان الوقت للوقوف عندها طويلا؛ والاجتهاد العاجل في محاولة حلها، وهو: طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي التي باتت تعتمد
(1)(صفة الفتوى)(ص 17).
بصورة غالبة على التفقيه المذهبي ومكتفى به، بل وبمجرد النظر والدراسة في كتب المذاهب، وهذا جيد ومطلوب، ولكن الواجب أن يقترن به تفتيح ذهن الطالب للتأمل في مدارك الأئمة وطرق الاستدلال والنظر في القواعد والضوابط الفقهية والأشباه والنظائر، لتعويد الطالب على التخريج ومعرفة الحكم بدليله.
وقديما أشار العلامة ابن خلدون رحمه الله لمثل هذا، حيث قال:" اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته؛ كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع في القصور "(1).
لذا أقول - وبالله التوفيق -: إن طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي الموجودة حاليا في الكليات والأقسام الشرعية ليس من ثمارها، بل ولا حتى من شأنها؛ أن تهيئ طالب علم فقيها بالمعنى الصحيح لهذا الوصف، ففي الغالب يتخرج الطالب المتميز منها، وقد حصل كما
(1)(المقدمة)(ص 531).
منوعا من العلوم والمعارف، ولكنك قلما تجده متعمقا متبحرا في نوع منها، ومن وفق لمواصلة دراساته العليا تجده قد تخصص في جزئية يسيرة من علم ما؛ هي عنوان بحثه!
أما الاهتمام بأدوات الاجتهاد، والسعي لتكوين العقلية الفقهية، التي تمكن صاحبها من النظر والقياس والتخريج والتنزيل الصحيح، فيندر وجود مثل هذا في أجوائنا العلمية، فيخرج الطالب ولو كان حاصلا على الدرجات العلمية العليا، منبتا عن نوازل العصر بمسائله الشائكة المعقدة، من اقتصادية وطبية واجتماعية وسياسية ونحوها.
لذا بات من المتعين على أصحاب القرار والمسئولين عن هذه الكليات الشرعية أن يتنبهوا لهذا الخلل، حفاظا على جناب الاجتهاد وسعيا في إحيائه واستمراريته، حتى لا نصل لجيل لا تجد فيه من يستطيع الاجتهاد والاستنباط! فيقع الناس في عماية وتنتزعهم الأهواء؛ لأنهم لم يجدوا أهل الذكر الذين أوجب الله عليهم سؤالهم!
صفات وآداب في المجتهد أو المفتي:
من أهم هذه الصفات والآداب التي لا يتصور من عالم مسلم إلا أن يتخلق بها أمور منها:
1 -
النية الصالحة الصادقة، فهي رأس الأمر وأسه، وهي الجالبة بإذن الله للتوفيق والقبول، وبعدمها يحصل الخذلان ويكثر التخبط " فكم من مريد بالفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه
وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته؟ فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب. . . وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به؛ فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء " (1).
2 -
كما تقرر من قبل فإن مكانة المفتي في الدين وفي نفوس أهل هذا الدين عظيمة، وحتى يكون صادقا مع ربه ومع الناس، وحتى يحقق معنى القدوة المنتظر من أمثاله، لا بد أن يوافق قوله عمله، ولا يكون من الذين قال الله فيهم:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2).
3 -
أن يتجرد من كل هوى وحظ نفس، ولا يتطلع في فتواه إلى إرضاء أحد من الناس أو إسخاطه، ويكون رائده ومقصده هو (إصابة الحق) تحقيقا لرضوان الله ونفعا للأمة، وكما نص القرآن وحكم الرحمن؛ فإن حكم الحاكم لا يخلو من حالين لا ثالث
(1)(إعلام الموقعين)(4/ 153).
(2)
سورة البقرة الآية 44
لهما: إما اتباع الحق أو الهوى، قال الله:{يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1).
4 -
شعوره أنه مفتقر إلى الله دائما، ولا يغتر بعلمه، ويلح دائما على ربه بأن يلهمه الصواب، وأن يثبته على الحق دائما، وكان شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله كثيرا ما يخر ساجدا لله معفرا وجهه بالتراب؛ يلح على ربه ومولاه أن يفتح عليه في مسألة أشكلت عليه وهو يقول:" يا معلم إبراهيم علمني ".
ومن وصايا الإمام الكبير الشافعي رحمه الله للعلماء وطلبة العلم قوله: "فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه (أي القرآن)، والصبر على كل عارض دون طلبه،
(1) سورة ص الآية 26
وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " (1).
(1)(الرسالة)(ص 19).
المطلب الرابع: حكم الفتوى التكليفي:
ذكر الأصوليون أن (الفتوى) تعتريها الأحكام الخمسة التكليفية وهي: الوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة.
وفيما أحسب. والله أعلم - أن الفتوى لها حكم أصلي؛ والأحكام الأخرى عوارض تعتري الحكم بحسب ما يتعلق به أو بالنظر إلى آثاره وهكذا.
فالإفتاء من فروض الكفايات من حيث الأصل، وذلك بالنظر إلى مكانته وخطورته وأنه يتعلق به بيان هذا الدين وحفظه في نفوس المكلفين، وحفظ الدين مقصد ضروري، وهو في أعلى درجات الوجوب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمته العلمية العظيمة لسفره الكبير: (المجموع): " الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي، وليس في الناحية غيره؛ يتعين عليه الجواب "(1).
وفي روضة الطالبين - له أيضا - قال ما نصه: " ومتى لم يكن في
(1)(المجموع)(1/ 47).
الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه " (1).
ويستدل على هذا بعدد من النصوص الدالة على وجوب البيان وتحريم الكتمان، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2).
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم نص في تحريم كتمان العلم؛ " من كتم علما يعلمه؛ جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ".
وترتب هذا الوعيد الشديد على هذا الوصف (الكتمان) يدل على شدة الحرمة، وبالتالي على وجوب ضدها وهو (البيان) والله أعلم.
إلا أن هذا الواجب الكفائي، قد يتحول إلى:
1 -
واجب عيني؛ إذا لم يكن في البلد أو المجتمع المسلم غيره، أو إذا ضاق وقت الحادثة وخشي فواتها.
وفى منتهى الإرادات من كتب الحنابلة: " ولمفت رد الفتيا؛ إذا
(1)(روضة الطالبين)(8/ 86).
(2)
سورة آل عمران الآية 187