الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول:
منهج عائشة الأصولي من خلال اجتهاداتها
.
المبحث الأول: التزامها بالنصوص:
فقد كانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تلتزم بالنصوص، لكن قد تأخذ بظاهرها أحيانا، أو بتأويلها، أو بعمومها، أو باعتقاد نسخها، أو عدم نسخها، وسنتعرض بشيء من التفصيل لهذه الأمور:
أولا: أخذها رضي الله عنها بظاهر الآيات والأحاديث:
كان لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها طرق متعددة للأخذ بظاهر الآيات المحكمة التي لم تنسخ، منها ما يلي:
أ - ظاهر الدلالة:
إذا كانت الآية ظاهرة الدلالة، لا تحتمل التأويل، أو التوقف عن الأخذ بها، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لا تلتفت إلى غيرها من الأدلة، بل تأخذ بها دليلا لرأيها الفقهي، وهذا كثير عندها (1).
من ذلك أنها ترى أن السعي بن الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، ولا يتم الحج إلا بالسعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (2)
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ص 558)
(2)
سورة البقرة الآية 158
وهذه الآيات الظاهرة الدلالة أنواع:
1 -
ظاهرة الدلالة مجتمعة:
هناك آيات متفرقة في القرآن لا تعطى بمفردها حكما مستقلا ولكن إذا جمع بعضها إلى بعض أعطت حكما ظاهرا، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تجمع مثل هذه الآيات بعضها إلى بعض لتأخذ الحكم المراد منها.
من ذلك أنها ترى وجوب مهر المثل لليتيمة إذا تزوجها من هي تحت ولايته.
وهذا الحكم دلت عليه الآيات التالية مجتمعة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1).
(1) سورة النساء الآية 3
(2)
سورة النساء الآية 127
2 -
ظاهرة الدلالة متفرفة:
الآيات إلى تدل كل واحدة منها على حكم مستقل عن الآية الأخرى لا يتوقف على تلك الآية، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأخذ حكم هذه الآيات مستقلة عن الأخرى.
من ذلك أنها ترى أن الرضاع بعد الحولين محرم، أخذا بعموم الآيات التي تدل على التحريم، وهي قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) إن هذه الآيات تدل على الحكم متحدة، لا دخل لها بقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2)(3).
ثانيا: أخذها رضي الله عنها بعموم الآيات والأحاديث:
إذا دلت آيات بعمومها على حكم من الأحكام، ولم يرد ما يخرج من هذا العموم شيئا فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها – تأخذ
(1) سورة النساء الآية 23
(2)
سورة البقرة الآية 233
(3)
انظر: موسوعة فقه عائشة رضي الله عنها (ص/ 559)
بحكم العموم (1).
فمن ذلك أنها ترى وجوب السكن والنفقة للمطلقة البائن حتى تنتهي عدتها، أخذا بعموم قوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2)(3).
لا تقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أمام ألفاظ الآيات للأخذ بما تدل عليه من الأحكام، بل إنها تتعمق في تلك الآيات لأن الآيات لها مفهوم تدل عليه، كما أن لها منطوقا، فتأخذ بالمفهوم كما تأخذ بالمنطوق.
من ذلك أنها ترى أن الإنسان لا يؤاخذ بذنب غيره في الدنيا والآخرة، وأن كل إنسان يتحمل عاقبة ذنبه لا يتحملها غيره، فولد الزنا ترى جواز إمامته في الصلاة، وأنه يعتق في الكفارات مستدلة بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4).
معلله ذلك بقولها رضي الله عنها " ليس عليه من خطيئة أبويه شيء "(5)
(1) انظر: موسوعة فقه عائشة رضي الله عنها (ص 561)
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
انظر: سنن البيهقي (7/ 432)، ومصنف ابن أبي شيبة (5/ 146)
(4)
سورة الأنعام الآية 164
(5)
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 30)، وانظر: مسند عائشة رضي الله عنها (ص/ 73)
ثالثا: أخذها رضي الله عنها بالتأويل في الآيات والأحاديث:
أ - تأويل الآيات:
هناك آيات في القرآن ليست ظاهرة الدلالة على الحكم المأخوذ منها، وإنما تشير إلى ذلك الحكم إشارة، فأم المؤمنين رضي الله عنها لها في الأخذ بتلك الآيات طريقان:
1 -
التأويل:
تئول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الآيات تأويلا خاصا - قد توافق غيرها على ذلك، وقد تختلف عنه.
ومن ذلك أنها ترى أن المعتدة للوفاة لا يجب عليها أن تعتد في بيت زوجها، وإنما يجوز لها الانتقال إلى غيره من البيوت وترى أن قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1).
فهذه الآية قد حددت الزمان فقط، ولم تحدد المكان، فيجوز للمعتدة الاعتداد في غير بيت زوجها (2).
2 -
التعليل:
قد يحتاج الحكم المأخوذ من بعض الآيات إلى تعليل ذلك الحكم، وذلك لعدم ظهور الدلالة عليه في الآيات.
(1) سورة البقرة الآية 234
(2)
انظر: مصنف عبد الرازق (7/ 29)، مصنف ابن أبي شيبة (5/ 183).
من ذلك أنها ترى أن الرجل إذا آلى من زوجته أنها لا تطلق بعد انقضاء مدة الإيلاء، بل لا بد من أن يوقف حتى يطلق وتعلل ذلك، وتقول: كيف قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1).
ب - تأويل الأحاديث:
يرد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي فتصرفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن ظاهره إلى معنى آخر موردة المعنى الذي حملته عليه، والسبب في ذلك (2).
ومن ذلك أنها ترى جواز صيام يوم الثلاثين من شعبان. فقد روى عبد الله بن أبي موسى قال: " سئلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي يختلف فيه من رمضان؟ فقالت: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ". مع أنه قد ورد حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، فقد قال:
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ص/ 565)
«لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم، فليصم ذلك اليوم (1)» .
فقد أولت النهى الذي في الحديث فيما إذا كان يوم الثلاثين من شعبان صحوا لا غيوم فيه، أما إذا كان ذا غيوم فلا بأس بصيامه لاحتمال كونه من رمضان (2).
رابعا: منهج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رفع التعارض الظاهري:
التعارض في الواقع ونفس الأمر لا يقع في الشريعة، فلا يقع كذلك في القرآن الكريم، وذلك لقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3).
فهناك آيات في القرآن الكريم يظهر لقارئها أن بينها تعارضا، فالحكم الذي يدل عليه أحدها يعارضه الحكم الذي تدل عليه الأخرى، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهى التي تلقت القرآن مشافهة غضا طريا من فم الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم علم اليقين أن
(1) أخرجه: البخاري في صحيحه (4/ 127)، كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1914)، ومسلم في صحيحه (ص 546)، في كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1082)
(2)
انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ص/ 566)
(3)
سورة النساء الآية 82
القرآن لا يعارض بعضه بعضا، وإنما يحتاج من المسلم إلى دقة النظر، وإمعانه، والوقوف عند الآيات قبل الحكم عليها، ثم التوفيق بينها والأخذ بها جميعا، وهذا ما تفعله.
ومن ذلك أنها ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه حينما عرج به إلى السماء وإنما رأى جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلق عليها وأن البشر لا قدرة لهم على رؤية الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا (1).
وهي بهذا الرأي قد وفقت بين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2)، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} (3)
خامسا: أم المؤمنين والأحاديث الضعيفة:
ليس في عهد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أحاديث ضعيفة، وإنما حكم عليها بالضعف فيما بعد لضعف من رواها.
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ص 559)
(2)
سورة الأنعام الآية 103
(3)
سورة التكوير الآية 23
والضعيف يتفاوت ضعفه بحسب شدة ضعف رواته وخفته، كما يتفاوت الصحيح، فمنه الضعيف، ومنه الضعيف جدا، ومنه الواهي ومنه المنكر، وشر أنواعه الموضوع (1).
قد ترى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها – رأيا يوافق حديثا ضعفه العلماء. فهذا الرأي منها يكون هو المقدم على من لا دليل له، لأن الضعيف في الحديث قد يكون طرأ عليه بعد زمنها ممن تناقله عن الصحابة وتابعيهم (2).
ومن ذلك أنها ترى أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وهذا قد ورد فيه حديث رواه واثلة بن الأسقع، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام (3)» .
وقد ضعف العلماء هذا الحديث. ولكن تضعيفهم له، كان سنده بعد عصر الصحابة؛ حيث إن بين واثلة بن الأسقع وبين من ضعفوهم راويين لم يضعفا، فدل على أن الضعف بالحديث جاء متأخرا عن عصر الصحابة، وهذا مما يقوي الحديث، ويجعل رأي أم المؤمنين
(1) انظر: علوم الحديث (ص/ 89)، تيسير مصطلح الحديث (ص 63)
(2)
انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ص 566)
(3)
أخرجه: الدارقطني في سننه (1/ 225)، كتاب الحيض، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 129) وقد ضعفه العلماء كالبيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 381) وابن الجوزي والذهبي كما في تلخيص العلل المتناهية (ص 131)، وغيرهم