الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الحج
الأولى أن نبدأ بحديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، ونقتصر منه على ما يخص هذا الباب، وهو صحيح رواه مسلم. وفي أثنائه:"فحلّ الناس كلهم وقصّروا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمسُ، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة". ثم ذكر الحديث. قال عطاء: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل منى بالخيف". وسمي يوم الثامن يوم التروية، لأنهم يتروون من الماء فيه ليوم عرفة.
"والمستحب لمن كان بمكة من أهلها وغيرهم وهم حلال، أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى، وبه قال ابن عباس وابن عمر"، وعن عمر أنه قال لأهل مكة:"إذا رأيتم الهلال، فأهلّوا بالحج"، وقاله ابن الزبير. قال مالك: أحب لمن كان بمكة أن يهلّ من المسجد لهلال ذي الحجة. ولنا: حديث جابر، وفي بعض ألفاظه:"أُمرنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى". 1 رواه مسلم. والأفضل أن يحرم من مكة، لقوله في المواقيت:"حتى أهل مكة يهلّون منها". 2 ومن أيها أحرم جاز، للحديث. وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز، لقول جابر:"فأهللنا من الأبطح"، ولأن المقصود: الجمع في النسك بين الحل والحرم. ويفعل ما يفعل عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظف،
1 مسلم: الحج (1214) .
2 البخاري: الحج (1526)، ومسلم: الحج (1181) ، وأحمد (1/238، 1/252)، والدارمي: المناسك (1792) .
ويتجرد عن المخيط. ويطوف سبعاً ويصلي ركعتين ثم يحرم عقيبهما. وممن استحبه: عطاء ومجاهد. ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه، قال ابن عباس:"لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى يرجعوا"، وهذا مذهب مالك وإسحاق. وإن فعل لم يجزئ عن السعي الواجب، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يجزئه، "فعَله ابن الزبير لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه". ولنا: أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بما تقدم، ولو شرع لهم الطواف لم يتفقوا على تركه. وقالت عائشة:"فطاف الذين أهلّوا بالعمرة وبين الصفا والمروة، ثم حلّوا. ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى". و"يستحب أن يخرج كما ذكرنا، فيصلي ثم يقيم بها حتى يصلي الصلوات الخمس، ويبيت بها"، كما في حديث جابر، وهذا قول مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. ولا يجب ذلك عند الجميع. "وقد تخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل، وصلى ابن الزبير بمكة". فإن صادف يوم التروية جمعة، فمن كان مقيماً بمكة إلى الزوال ممن تجب عليه، لم يخرج حتى يصليها، ولأنها فرض والخروج في هذا الوقت ليس بفرض. فأما قبل الزوال، فإن شاء خرج وإن شاء أقام حتى يصلي، روي أنه وجد في أيام عمر بن عبد العزيز فخرج إلى منى. وقال عطاء: كل من أدركت يصنعونه إذا أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب، ومرة لا يجمع ولا يخطب؛ فعلى هذا، إذا خرج الإمام، أمر من تخلف أن يصلي الجمعة بالناس.
و"يستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس، فيقيم بنمرة"، لما تقدم من حديث جابر. "فإذا زالت الشمس، استحب للإمام أن يخطب يعلّم الناس مناسكهم: من موضع الوقف ووقته والدفع والمبيت بمزدلفة
وأخذ الجمار"، لحديث جابر. ثم يأمر بالأذان، فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما، ويقيم لكل صلاة. وقال أبو ثور: يؤذن إذا صعد الإمام المنبر، فإذا فرغ خطب، وقيل: يؤذن في آخر الخطبة، و"حديث جابر يدل على أنه أذن بعدها". وإن لم يؤذن للأولى فلا بأس، هكذا قال أحمد، لأن كلاً مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقال: مالك يؤذن لكل صلاة، واتباع السنة أولى. والسنة تعجيل الصلاة وتقصير الخطبة، لقول سالم للحجاج: "إن كنت تريد السنة، فقصِّر الخطبة وعجِّل الصلاة"، فقال ابن عمر: "صدق"، رواه البخاري، ولأن التطويل يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال، والسنة التعجيل في ذلك، لقول ابن عمر للحجاج. قال ابن عبد البر: هذا كله مما لا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكل من صلى معه. وذكر أصحابنا أنه لا يجمع إلا من بينه وبين وطنه مسافة قصر، والصحيح: الأول، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع معه من حضر من المكيين، فلم يأمرهم بترك الجمع كما قال: " أتموا، فإنا قوم سفر". 1 فأما القصر فلا يجوز، وبه قال الشافعي. وقال مالك والأوزاعي: لهم القصر.
ثم يروح إلى الموقف، وعرفة كلها موقف، إلا بطن عُرَنة. و"يستحب أن يغتسل للوقوف، لأن ابن مسعود فعله"، وبه قال الشافعي وابن المنذر. ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكباً، وقيل: الراجل أفضل. ويكثر من الدعاء، ومن قول:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير". ويختار المأثور من الأدعية، ويدعو بما أحب من الدعاء والذكر إلى الغروب.
ولا نعلم خلافاً
1 مالك: النداء للصلاة (349) .
أن آخر وقت الوقوف: طلوع الفجر يوم النحر، وأما أوله: فمن طلوع الفجر يوم عرفة. وقال مالك والشافعي: أوله: وقت الزوال يوم عرفة. ولنا: قوله: "وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارا
…
إلخً". 1 وكيفما حصل بعرفة وهو عاقل أجزأه، ولو نائما أو مرَّ بها ولم يعرفها، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا يجزئه، لأنه لا يكون واقفاً إلا بالإرادة، ومن وقف وهو مغمًى عليه أو مجنون أو لم يفق حتى خرج منها لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال مالك في المغمى عليه: يجزئه. وتوقف أحمد فيها. والحسن يقول: بطل حجه. وعطاء لم يرخص فيه.
وقال أحمد: يستحب أن يشاهد المناسك كلها على وضوء، ولا يجب ذلك، حكاه ابن المنذر إجماعاً، لحديث عائشة:" افعلي ما يفعل الحاج"، 2 ولا يشرط له سترة ولا استقبال ولا نية، لا نعلم فيه خلافاً.
ومن دفع قبل الغروب فعليه دم، وقال مالك: لا حج له. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قال بقول مالك. وعن ابن جريج: عليه بدنة، ونحوه قول الحسن. ولنا: قول ابن عباس: "من ترك نسكاً فعليه دم". وإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً حتى غربت، فلا دم عليه، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو ثور: عليه دم. وإذا لم يأت بها 3 حتى غابت فوقف ليلاً، تم حجه ولا شيء عليه، لا نعلم فيه مخالفاًً، لقوله:"من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج". 4
"ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة وعليه السكينة، فإذا وجد فجوة أسرع"، لحديث جابر وأسامة. قال أحمد: لا يعجبني أن يدفع قبل الإمام. وسئل عن: رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس؟ فقال: ما وجدت عن أحد سهّل في الدفع قبله، كلهم يشدّدون فيه، ويكون ملبياً ذاكراً، لقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآية. 5 ويمضي على طريق المأزمين "لأنه صلى الله عليه
1 الترمذي: الحج (891)، والنسائي: مناسك الحج (3039)، وأبو داود: المناسك (1950)، وابن ماجة: المناسك (3016) ، وأحمد (4/15، 4/261، 4/262)، والدارمي: المناسك (1888) .
2 البخاري: الحيض (305) ، وأحمد (6/273) .
3 كذا في المخطوطة والمطبوعة ولعل صوابه: وإذا لم يأتها.
4 الترمذي: تفسير القرآن (2975) .
5 سورة البقرة آية: 198.
وسلم سلكها". والسنة أن لا يصلي المغرب إلا بمزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء بغير خلاف. ويجمع قبل حط الرحال، ويقيم لكل صلاة إقامة. "وممن روي عنه الجمع بينهما بإقامتين بلا أذان: ابن عمر وسالم" والقاسم والشافعي وإسحاق. و"إن اقتصر على إقامة الأولى، فلا بأس؛ روي عن ابن عمر". و"إن أذن للأولى وأقام الثانية فحسن"، وهو في حديث جابر، وبه قال ابن المنذر، وقال: الأولى آخر قولي أحمد، لأنها رواية أسامة، وهو أعلم بحاله لكونه رديفة. وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف المجموعتين بعرفة. وقال مالك: "يجمع بينهما بأذانين وإقامتين، روي عن عمر وابن مسعود"، واتباع السنة أولى. قال ابن عبد البر: لا أعلم فيما قال مالك حديثاً مرفوعاً. وقال قوم: "إنما أمر عمر بالتأذين للثانية، لأن الناس تفرقوا لعشائهم، وكذلك ابن مسعود، فإنه يجعل العشاء بمزدلفة بين الصلاتين"، والسنة أن لا يتطوع بينهما. قال ابن المنذر: لا يختلفون في ذلك. وإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: لا يجزئه، ولا نعلم خلافاً أنه إذا فاته الجمع مع الإمام بمزدلفة أنه يجمع وحده، وكذلك لو فرق لم يبطل الجمع لقوله: "ثم أناخ كل إنسان بعيره ثم صلى العشاء"، و"كذا إن فاته الجمع مع الإمام بعرفة بين الظهر والعصر، فعله ابن عمر"، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: له لا يجمع إلا مع الإمام.
والمبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، وقال علقمة: فاته الحج، لقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، 1 ولقوله: "من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا
…
إلخ"، 2 ومنطوق الآية ليس بركن إجماعاً، فإنه لو بات ولم يذكر الله ولم يشهد الصلاة، صح حجه، وكذلك شهود صلاة
1 سورة البقرة آية: 198.
2 الترمذي: الحج (891)، والنسائي: مناسك الحج (3039، 3040، 3041، 3042، 3043)، وأبو داود: المناسك (1950)، وابن ماجة: المناسك (3016) ، وأحمد (4/15، 4/261، 4/262)، والدارمي: المناسك (1888) .
الفجر. فلو أفاض من عرفة آخر ليلة النحر أمكنه ذلك، فيتعين حمله على الإيجاب أو الفضيلة.
ولا يدفع قبل نصف الليل، فإن فعل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شيء عليه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن مرَّ فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: خذوا عني مناسككم". 1 وإنما"أبيح الدفع بعد النصف للرخصة الواردة"، لحديث ابن عباس وأم سلمة، وإن عاد فدفع بعد النصف فلا دم عليه، كالعائد إلى عرفة نهاراً.
ويجب الدم على من دفع قبل النصف، وعلى من ترك المبيت بمنى، عمداً أو سهواً، عالماً أو جاهلاً، لأنه أرخص لأهل السقاية والرعاية في ترك البيتوتة. فلو وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم. والمستحب:"الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت إلى أن يصبح، ثم يقف حتى يسفر". ولا بأس بتقديم الضعفة، "وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف، وعائشة"، ولا نعلم فيه خلافاً.
ويستحب أن يعجل صلاة الفجر ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام، "ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عنده أو يرقى عليه إن أمكنه، فيذكر الله تعالى ويجتهد إلى أن يسفر"، لحديث جابر، ولا نعلم خلافاً في استحباب الدفع من قبل طلوع الشمس. وكان مالك يرى الدفع من قبل الإسفار. ولنا: حديث جابر.
و"يستحب أن يسير وعليه السكينة، فإذا بلغ محّسراً أسرع قدر رمية بحجر"، لحديث جابر. ويلبي في طريقه، لأنه من شعائر الحج، ولا ينقطع إلا بالشروع في الإحلال، وأوله رمي جمرة العقبة. ثم يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة، ومن حيث أخذه جاز، لئلا يشتغل عند قدومه بشيء قبل الرمي، لأنه تحية له كما أن الطواف تحية المسجد الحرام. ولا يبدأ بشيء قبله.
1 النسائي: مناسك الحج (3062) .
"وكان ابن عمر يأخذ من جمع"، واستحبه الشافعي. وقال أحمد: من حيث شاء، اختاره ابن المنذر، وهو أصح، لحديث ابن عباس: "القط لي حصى
…
إلخ"، 1 وكان ذلك بمنى.
ويستحب أن يكون كحصى الخذف، للخبر، ولقول جابر:"كل حصاة منها مثل حصى الخذف، فإن رمى بحجر كبير أو صغير أجزأه". وقال أحمد: لا يجوز حتى يأتي بالحصى على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بهذا القدر، ونهى عن مجاوزته؛ والأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد. وعنه:"يستحب غسله، لأنه مروي عن ابن عمر". وعنه: لا. وقال: لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وهذا هو الصحيح. وعدده: سبعون حصاة، يرمي بسبع منها يوم النحر، وباقيها في أيام منى، كل يوم بإحدى وعشرين. فإذا وصل إلى منى بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع، يكبّر مع كل حصاة.
ويستحب سلوك الطريق التي تخرج على الجمرة الكبرى، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر:"فرماها بسبع يكبّر مع كل حصاة". 2 وإن رماها دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة، نصَّ عليه، وقال عطاء: يجزيه. ويكبّر لكل حصاة، ويرميها راجلاً وراكباً، وكيفما شاء، "لأنه صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته، ولا يقف عندها"، لحديث ابن عمر. وقال نافع:"كان ابن عمر يرميها على راحلته يوم النحر، ولا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشياً ذاهباً وراجعاً"، رواه أحمد، وفيه التفريق بين هذه الجمرة وغيرها، لأنها مما يستحب البداءة به. ولا يسن عندها وقوف، فلو سن له المشي شغله النزول عن الابتداء بها. ولا يجزئه إلا أن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه لم يجزه،
1 النسائي: مناسك الحج (3057) .
2 البخاري: الحج (1750)، ومسلم: الحج (1296)، والترمذي: الحج (901)، والنسائي: مناسك الحج (3073)، وابن ماجة: المناسك (3030) ، وأحمد (1/427، 1/430، 1/432، 1/456، 1/458) .
لا نعلم فيه خلافاً، وكذلك إن وضعها في المرمى في قول الجميع، لأنه مأمور بالرمي.
ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي، وعن سعد وعائشة:"إذا راح إلى الموقف". وعن علي وأم سلمة: "أنهما يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة".
ويجزئ الرمي بكل ما يسمى حصى، وقال أبو حنيفة: يجزئ بالطين والمدر، وما كان من جنس الأرض. وعن سكينة بنت الحسين أنها رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى، وسقطت حصاة فرمت بخاتمها. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي بمثل حصى الخذف". وإن رمى بحصى أُخذ من المرمى لم يجزه. ولنا: أنه لو جاز لما احتاج أحد إلى أخذه من غير مكانه، لأن ابن عباس قال: ?"ما تُقبل منه رفع".
ويرميها قبل طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: أجمعوا: "أنه صلى الله عليه وسلم رماها ضحى ذلك اليوم"؛ ويجوز من نصف الليل، وبه قال عطاء والشافعي، وعنه: يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وبه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الثوري: لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، لحديث ابن عباس. ولنا: قصة أم سلمة، احتج به أحمد وغيره محمول على الاستحباب. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب، فقد رماها في وقت لها. فإن أخرها إلى الليل، لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد. وقال الشافعي وابن المنذر: يرمي ليلاً، لقوله عليه السلام:"ارم ولا حرج". 1 ولنا: أن ابن عمر قال: "من فاته الرمي حتى تغيب الشمس، فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد"، وقوله:"ارم ولا حرج"، في النهار، لأنه سأله يوم النحر، ولا يكون اليوم إلا قبل الغروب. وقال مالك: يرمي ليلاً وعليه دم، ومرة قال: لا دم عليه.
ثم ينحر هدياً إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره، وعنه:
1 البخاري: العلم (83)، ومسلم: الحج (1306)، والترمذي: الحج (916)، وأبو داود: المناسك (2014) ، وأحمد (2/159، 2/192، 2/202، 2/210، 2/217)، ومالك: الحج (959)، والدارمي: المناسك (1907) .
يجزئه بعضه. ويتولى النحر بيده، ويجوز أن يستنيب فيه. ويفرّقه على مساكين الحرم، ويقسم جلودها وجلالها، للخبر، ولأنه جعله لله.
ويلزم الحلق والتقصير من جميع شعره، وكذلك المرأة، وبه قال مالك، وعنه: يجزئه بعضه. وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات. وقال ابن المنذر: يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير. ولنا: قوله: {محلقين رؤوسهم} الآية، 1 "وحلق صلى الله عليه وسلم جميع رأسه"، 2 وتفسير المطلق الأمر به. وأي قدر قصر من الشعر أجزأه، قال أحمد:"يقصر قدر الأنملة"، وهو قول ابن عمر، وهو محمول على الاستحباب. قال ابن المنذر: أجمعوا على إجزاء التقصير، إلا أنه يروى عن الحسن إيجاب الحلق في الحجة الأولى، ولا يصح هذا: لقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} . 3 والحلق أفضل، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله". وأما من لبّد أو عقص أو ضفر، فقال أحمد: من فعله حلق، وبه قال مالك والشافعى، لما روي مرفوعاً:"من لبّد فليحلقْ". وثبت عن عمر وابنه: "أنهما أمرا من لبّد بالحلق"، والصحيح: التخيير، إلا إن ثبت الخبر، وهو قول عمر وابنه، وخالفهما ابن عباس.
والمرأة تقصر، حكاه ابن المنذر إجماعاً لأن حلقها مثلة. قال أحمد: نعم، تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطرافه قدر الأنملة. "والذي ليس على رأسه شعر، يستحب له إمرار الموسى على رأسه"، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. وحكاه ابن المنذر إجماعاً، وليس بواجب. وقال أبو حنيفة: يجب لقوله: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم ". 4 ولنا: أن الحلق
1سورة الفتح آية: 27.
2 البخاري: المغازي (4252) ، وأحمد (2/124) .
3 سورة الفتح آية: 27.
4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، والنسائي: مناسك الحج (2619)، وابن ماجة: المقدمة (2) ، وأحمد (2/247، 2/258، 2/313، 2/355، 2/428، 2/447، 2/456، 2/467، 2/482، 2/495، 2/508، 2/517) .
محله الشعر، كالعضو إذا قُطع سقط غسله. ويستحب تقليم أظفاره، والأخذ من شاربه، قال ابن المنذر: ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق قلّم أظفاره". "وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره". وكان عطاء وغيره يحبون لو أخذ من لحيته شيئاً. وكان ابن عمر يقول للحالق: "ابلغ العظمين، وافصل الرأس من اللحية". وكان عطاء يقول: "من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين".
ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، وعنه: إلا الوطء في الفرج؛ والأول: قول عائشة وابن الزبير والشافعي. والثاني: يروى عن ابن عباس. وعن عمر: "يحل كل شيء إلا النساء والطيب لأنه من دواعي الوطء". وعن عروة: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب، وروي فيه حديث. ولنا: قول عائشة: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت". 1 وعن سالم عن أبيه قال: قال عمر: "إذا رميتم وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب. فقالت عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تُتّبع". رواه سعيد.
وقال مالك: لا يحل النساء والطيب ولا قتل الصيد، لقوله تعالى:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} الآية، 2 وهذا حرام، وقد ذكرنا ما يردّ هذا، فإنه ليس بمحرم، وإنما بقي بعض أحكام الإحرام.
والحلق والتقصير نسك، إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟ وممن رآه نسكاً الثلاثة، وعنه: ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور، ووجهه:"أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من العمرة قبله"، لقول أبي موسى:"أمرني فطفت بالصفا والمروة فقال لي: أحلّ"، وفي حديث جابر: "من ليس معه
1 البخاري: الغسل (270) والحج (1539) واللباس (5928)، ومسلم: الحج (1189)، والنسائي: مناسك الحج (2684، 2685، 2686، 2688، 2691)، وأبو داود: المناسك (1745)، وابن ماجة: المناسك (3042)، ومالك: الحج (727) .
2 سورة المائدة آية رقم: 95.
هدي فليحلّ"، 1 والأول أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر به، ولقوله:{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، 2 فلو لم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس، ولأنه ترحّم على المحلقين ثلاثاً والمقصرين مرة، ولو لم يكن منسكاً لما دخله التفضيل كالمباحات، ولو لم يكن منسكاً لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادراً، لأنه لم يكن من عادتهم. وأما أمره بالحل فمعناه، والله أعلم، الحل بفعله، لأنه مشهور عندهم، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيه، كالسلام في الصلاة. وإذا قلنا: إنه نسك جاز تأخيره إلى آخر أيام النحر، لأنه إذا جاز تأخير النحر فهو أولى. فإن أخره عن ذلك فلا دم عليه، وعنه: عليه دم.
ولا فرق بين العامد والساهي، وقال مالك وغيره: من تركه حتى يحل فعليه دم، لأنه نسك، فوجب أن يؤتي به قبل الحل. ولنا: ما تقدم. وهل يحل قبله؟ فيه روايتان:
إحداهما: إنما يحصل بالحلق والرمي معاً، وهو قول الشافعي، لقوله:"إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء"3.
والثانية: يحصل له التحلل بالرمي وحده، وهو قول مالك، لقوله:"إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء"، 4 وكذلك قال ابن عباس. وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر، جاهلاً أو ناسياً، فلا شيء عليه. والسنة:"أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف، لفعله صلى الله عليه وسلم". وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر، فعليه دم. وإن فعله متعمداً، فقال عطاء وإسحاق: لا دم عليه، لإطلاق حديث ابن عباس وابن عمر من
1 أحمد (3/366) .
2 سورة الفتح آية: 27.
3 أبو داود: المناسك (1978) ، وأحمد (6/143) .
4 النسائي: مناسك الحج (3084)، وابن ماجة: المناسك (3041) ، وأحمد (1/234، 1/344) .
رواية ابن عيينة. وعنه: عليه دم، لقوله:{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ؛ 1 والمطلق قد جاء مقيداً، فيحمل المطلق على المقيد. قال أبو عبد الله: أما المتعمد، فلا، لقول الرجل: لم أشعر. قيل له: ابن عيينة لا يقول: لم أشعر. قال: نعم، لكن مالكاً والناس عن الزهري:"لم أشعر" وهم في الحديث. وقال مالك: إن قدم الحلق على الرمي، فعليه دم. وإن قدّمه على النحر، أو النحر على الرمي، فلا شيء عليه، لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول. فأما النحر قبل الرمي فجائز، لأن الهدي قد بلغ محله. ولنا: الحديث، فإنه لم يفرّق، ولا نعلم بينهم خلافاً أن مخالفاًت الترتيب لا تمنع الإجزاء، وإنما اختلفوا في الدم. فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأ طوافه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يجزئه، يرمي ثم ينحر ثم يفيض. ولنا: ما روى عطاء: "أن رجلا قال: يا رسول الله أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"، 2 وعنه مرفوعاً:"من قدّم شيئاً من قبل شيء، فلا حرج". 3 رواهما سعيد. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي: "أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"؛ 4 فعلى هذا، لو وطئ قبل الرمي وبعد الإفاضة، لم يفسد حجه وعليه دم. فإن رجع إلى أهله ولم يرم، فعليه دم.
ثم يخطب الإمام خطبة يعلّمهم النحر والإفاضة، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يخطب، لأنها في اليوم الذي قبله. ولنا: حديث ابن عباس. ثم يفيض ويطوف للزيارة ويعيّنه بالنية، وقال الشافعي: يجزئه وإن لم ينو الفرض. ولنا: قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، 5 وهذا ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف، لحديث صفية:"أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: اخرجوا". 6
1 سورة البقرة آية: 196.
2 مسلم: الحج (1306) ، وأحمد (2/210) .
3 ابن ماجة: المناسك (3049) .
4 البخاري: العلم (124)، ومسلم: الحج (1306)، وأبو داود: المناسك (2014) ، وأحمد (2/159، 2/202، 2/210)، ومالك: الحج (959)، والدارمي: المناسك (1907، 1908) .
5 البخاري: بدء الوحي (1)، ومسلم: الإمارة (1907)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجة: الزهد (4227) ، وأحمد (1/25، 1/43) .
6 البخاري: الحج (1757)، وأبو داود: المناسك (2003)، وابن ماجة: المناسك (3072) ، وأحمد (6/38، 6/82) .
وأول وقته: بعد نصف الليل ليلة النحر، ووقت الفضيلة: يوم النحر. وآخره: أيام التشريق، والصحيح أن آخر وقته غير محدود، لأنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما الخلاف في وجوب الدم.
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً، أو لم يسع مع طواف القدوم. وإن سعى معه لم يسع، لأن السعي الذي سعاه المتمتع إن كان للعمرة فيشرع له أن يسعى للحج، وإن كان القارن والمفرد لم يسعيا مع طواف القدوم سعيا بعد طواف الزيارة، لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلا بعده. وإن كان قد سعى مع طواف القدوم لم يسع، لأنه لا يستحب التطوع به كسائر الأنساك، ولا نعلم خلافاً فيه. فإن لم يسع لم يحلّ إن قلنا: إنه ركن. وإن قلنا: إنه سنة، فهل يحل؟ على وجهين. قال الخرقي: يستحب للمتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة، لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك؛ فإن الطواف الذي طافه في الأول طواف العمرة، وقد نص عليه في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله: إذا رجع المتمتع كم يسعى ويطوف؟ قال يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً آخر للزيارة. عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه.
وكذا القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا للقدوم، يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة، ونص عليه أيضاً، واحتج بقول عائشة:"فطاف الذين أهلّوا بالعمرة، وبين الصفا والمروة، ثم أحلّوا. ثم طافوا طوافاً آخر بعد ما رجعوا من منى لحجهم. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً"، فحمل أحمد أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم، قال شيخنا: لا أعلم أحداً وافق أحمد على هذا، بل المشروع طواف واحدٌ
للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر به أحداً. وحديث عائشة دليل على هذا، فإنها قالت:"طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم"، وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافاً آخر. ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به، وذكرت ما يستغنى عنه: وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً، فمن أين يستدل به على طوافين؟
وأطوفة الحج ثلاثة:
طواف الزيارة، وهو ركن بغير خلاف.
طواف القدوم، وهو سنّة.
طواف الوداع، واجب في تركه دم.
وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم، ولا شيء على تارك طواف الوداع. وما زاد على هذه فنفل. ولا يشرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه.
ويستحب أن يدخل البيت ويكبّر في نواحيه، ويصلي فيه ويدعو. وقدم أهل العلم كلام بلال في صلاته على كلام أسامة، لأنه مثبت وأسامة ناف. وإن لم يدخله فلا بأس، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخله في عمرته"، ولقوله:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما دخلتها"1.
ويستحب أن يأتي زمزم ويشرب من مائها لما أحب، ويتضلع منه، لحديث رواه ابن ماجة. ثم يرجع إلى منى ولا يبيت ليالي منى إلا بها، وهو واجب؛
1 الترمذي: الحج (873)، وأبو داود: المناسك (2029)، وابن ماجة: المناسك (3064) .
وبه قال مالك والشافعي. وعنه: ليس بواجب، روي عن الحسن. ووجه الأولى:"رخصه للعباس من أجل السقاية"، ففيه دليل على أنه لا رخصة لغيره.
ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق، كل جمرة بسبع: يبدأ بالأولى وهي أبعدهن من مكة، فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع. ثم يتقدم قليلاً فيقف ويدعو الله ويطيل. ثم يأتي الوسطى ويجعلها عن يمينه ويرميها بسبع. ثم يتقدم قليلاً فيقف ويدعو الله. ثم يرمي جمرة العقبة بسبع، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها. ويستقبل القبلة في الجمرات كلها، لا نعلم في جميع ذلك خلافاً، إلا أن مالكاً قال: ليس بموضع لرفع اليدين.
"ولا يرمي إلا بعد الزوال، فإن رمى قبله أعاد"، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي. ورخص إسحاق وأصحاب الرأي في الرمي قبله في يوم النفر، ولا ينفر إلا بعد الزوال. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم إنما رمى ذلك اليوم بعد الزوال". وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه، إلا أنه يستحب المبادرة حين الزوال. فإن ترك الوقوف عندها والدعاء، فلا شيء عليه. وعن الثوري: يطعم شيئاً، وإن أراق دماً فهو أحب إليَّ.
والترتيب في الجمرات واجب، فإن بدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى، أو بالوسطى لم تجزئه الأولى. وإن رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى، أعاد القصوى وحدها؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال عطاء: لا يجب الترتيب، لما روي:"من قدّم نسكاً بين يدي نسك، فلا حرج". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم رتّبها وقال: خذوا عني مناسككم"، 1 والحديث إنما هو فيمن قدّم نسكا على نسك، لا فيمن قدّم بعض نسك على بعض. والأولى أن لا ينقص عن سبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين، فلا بأس؛ ولا ينقص أكثر من ذلك. وعنه: إن رمى بست ناسياً، فلا شيء عليه؛ فإن تعمّد تصدّق بشيء.
1 النسائي: مناسك الحج (3062) .
وعنه: أن السبع شرط، فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى، لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى، لإخلاله بالترتيب.
فإن أخر الرمي كله حتى رماه آخر أيام التشريق، أجزأه، ويرتبه بنيته. فإن أخّره عنها أو ترك المبيت بمنى في لياليه، فعليه دم. قال أحمد: قال بعضهم: ليس عليه دم. وقال إبراهيم: عليه دم! وضحك وقال: دم بمرة! تشدد بمرة! قيل: ليس إلا أن يطعم شيئاً؟ قال: نعم، يطعم تمراً أو نحوه.
وليس على أهل سقاية الحاج ولا الرعاة مبيت بمنى، فإن غربت الشمس وهم بها لزم الرعاة المبيت؛ وأهل السقاية وأهل الأعذار كالمرضى. ومن خاف ضياع ماله ونحوهم كالرعاة، لأن الرخصة لهؤلاء تنبيه على غيرهم.
ومن كان مريضاً أو محبوساً أو له عذر، جاز أن يستنيب من يرمي عنه، وبه قال الشافعي ومالك، إلا أنه قال: يتحرى المريض حين رميهم فيكبّر سبع تكبيرات. ومن تركه من غير عذر فعليه دم، وكذا من ترك جمرة واحدة؛ وبه قال الشافعي. وعنه: أن في كل حصاة دماً، وبه قال مالك والليث بن سعد. وعنه: في الثلاث دم، وبه قال الشافعي، وفيما دون ذلك في كل حصاة مد.
ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام، لفعل الصحابة. ويخطب في الثاني من أيام التشريق خطبة يعلّمهم التعجيل والتأخير والوداع، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يستحب. ولنا: ما روى أبو داود عن رجلين من بني بكر: "أنه خطب في هذا اليوم، وهما عند راحلته"1.
وأجمعوا على أن من أراد الخروج من منى شاخصاً عن الحرم، أن له النفر بعد الزوال، في اليوم الثاني من أيام التشريق. فإن أحب الإقامة بمكة، فقال أحمد: لا يعجبني. وقال مالك في أهل مكة: من كان له عذر، فله أن يتعجل في
1 أبو داود: المناسك (1952) .
يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا. واحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر:"من شاء من الناس أن ينفر في النفر الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا إلا في النفر الآخر". جعل أحمد وإسحاق معناه: أنهم أهل الحرم. وقول عامة العلماء: جوازه لكل أحد، للآي؛. قال عطاء: هي عامة، وكلام أحمد أراد به الاستحباب موافقة لعمر. وروى أبو داود عن يحيى بن يعمر، مرفوعاً:"أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". 1 قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان. وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك.
"فإن غابت الشمس قبل خروجه من منى لم ينفر، ارتحل أو لم يرتحل"، وهذا قول عمر، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث، لأنه لم يدخل وقت الرمي. ولنا: الآية؛ فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين. قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: "من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس". قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن يأتي في المحصَّب - وهو الأبطح - فليصلّ به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يهجع يسيراً ثم يدخل مكة. و"كان ابن عمر يرى التحصيب سنة"، و"كان ابن عباس وعائشة لا يريانه سنّة".
قال أحمد: ثياب الكعبة إذا نزعت يُتصدق بها، وقال: إذا أراد أن يستشفى بشيء من طيب الكعبة، فيأتي بطيب من عنده فيلزقه بالبيت، ثم يأخذه، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً، ولا يأخذ من تراب الحرم، ولا يدخل فيه من الحل. كذا قال ابن عمر وابن عباس. ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والخروج أشد؛ إلا ماء زمزم أخرجه كعب.
قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله إنك لأحب البقاع إلى
1 الترمذي: الحج (889)، والنسائي: مناسك الحج (3044)، وأبو داود: المناسك (1949)، وابن ماجة: المناسك (3015) ، وأحمد (4/309، 4/335)، والدارمي: المناسك (1887) .
الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"، 1 وإنما "كره عمر المجاورة بمكة لمن هاجر منها". "وجابر بن عبد الله جاور بمكة بعد". وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يهاجر. "وابن عمر كان يقيم بمكة". والمقام بالمدينة أحب إليَّ من المقام بمكة لمن قوي عليها، لأنها مهاجَر المسلمين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها، إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة. ومن أتى مكة فأقام، فلا وداع عليه". 2 وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر، لم يسقط الطواف. ولنا: أنه غير مفارق، فيلزمه وداع، كمن نواها قبل حل النفر. وأما الخارج فلا يخرج حتى يودّع البيت بالطواف، وهو واجب يجب بتركه دم. وقال الشافعي: لا يجب بتركه شيء، لسقوطه عن الحائض. ولنا: أنه مأمور به، وسقوطه عن المعذور لا يوجب سقوطه عن غيره، كالصلاة. بل تخصيص الحائض بسقوطه، دليل على وجوبه على غيرها. ولا وداع على من منزله بالحرم، لأنهم كانوا أهل مكة. وإن كان منزله خارج الحرم قريباً منه، فعليه الوداع. وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة. ولنا: قوله: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده البيت". 3 فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو أقام، أعاد؛ وبه قال الشافعي ومالك. وقال أصحاب الرأي: إذا طاف الوداع أو تطوع بعد ما حل له النفر، أجزأه وإن أقام شهراً. ولنا: الحديث المتقدم.
وإن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في طريقه، لم يعد، لأنه ليس بإقامة، ولا نعلم فيه خلافاً.
فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، أجزأ، وعنه: لا. ومن خرج قبل الوداع، فعليه الرجوع إن كان قريباً. وكان عطاء يرى الطائف قريباً. وقال الثوري: ما خرج من
1 الترمذي: المناقب (3925)، والدارمي: السير (2510) .
2 مسلم: الحج (1377)، والترمذي: المناقب (3918) ، وأحمد (2/119) .
3 مسلم: الحج (1327)، وأبو داود: المناسك (2002)، وابن ماجة: المناسك (3070) ، وأحمد (1/222)، والدارمي: المناسك (1932) .
الحرم فهو بعيد. فأما إن ودع وخرج فقال أحمد: أحب إليَّ أن لا يدخل مكة إلا محرماً، وأن يودع البيت.
والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا فدية، في قول عامة أهل العلم، و"كان زيد بن ثابت يرى لها الإقامة حتى تودع، ثم رجع".
و"يستحب أن يقف المودع في الملتزم، فيلزمه ويلصق به صدره ووجهه ويدعو"، لحديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن صفوان، رواهما أبو داود. قال أحمد: إذا ودع يقوم عند الباب إذا خرج، ويدعو. فإذا ولى فلا يلتفت. فإذا التفت رجع وودع؛ وهذا على الاستحباب، إذ لا نعلم لإيجابه دليلاً.
فإن خرج قبل طواف الزيارة، رجع حراما حتى يطوف، لأنه ركن لا يتم الحج إلا به، ولا يحل من إحرامه حتى يفعله. فمتى لم يفعله لم ينفك من إحرامه ولو رفضه، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الحسن: يحج من العام القابل، ونحوه عن عطاء. وترْك بعض الطواف كترْكه كله، وبه قال مالك والشافعي. فإن ترك طواف الزيارة بعد الرمي، لم يبق محرماً إلا عن النساء خاصة.
ومن أراد العمرة من أهل الحرم، خرج إلى الحل فأحرم منه وكان ميقاتاً له، لا نعلم فيه خلافاً، والأفضل من التنعيم. وعنه: كلما تباعد فهو أعظم للأجر. فإن أحرم من الحرم لم يُجْزئ، وينعقد وعليه دم. فإن خرج قبل الطواف ثم عاد، أجزأه، لجمعه بين الحل والحرم. فإن لم يفعل حتى قضى عمرته، صحت ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، ثم قد حل من عمرته.
وتجزئ عمرة القارن. والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام. لا نعلم خلافاً في إجزاء عمرة المتمتع. وعنه: أن عمرة القارن لا تجزئ، لإعمار عائشة
من التنعيم، ولو أجزأت عمرة القارن لم يعمرها.
"ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً"، روي عن علي وابن عمر وغيرهما. وكره العمرة في السنة مرتين: الحسن ومالك. ولنا: "أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمره صلى الله عليه وسلم"، ولقوله:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". 1 فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما، فلا يستحب في ظاهر قول السلف، والحق في اتباعهم.
والوقوف بعرفة ركن إجماعاً، وكذا طواف الإفاضة لا خلاف فيه. وأما الإحرام، فعنه: أنه ركن، وعنه: ليس بركن، لحديث الثوري:"الحج عرفة". 2 وأما السعي، فعنه: أنه ركن، وهو قول عائشة ومالك والشافعي. وعنه: سنّة، روي عن ابن عباس وغيره. وقال القاضي: واجب يجب بتركه دم، وهو قول الثوري؛ وهذا أولى، لأن دليل من أوجبه دل على الوجوب، لأنه لا يتم الحج إلا به، وقول عائشة معارض بقول من خالفها من الصحابة.
وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي، والحلاق أو التقصير، وطواف الوداع.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
هل الحج ماشياً أفضل، أو راكباً، أو سواء؟
اختار الشيخ أن ذلك يختلف باختلاف الناس. ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة، وقيل: من الزوال يوم عرفة، اختاره الشيخ، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً. ولو خاف فوات الوقوف إن صلى صلاة آمن، صلى صلاة خائف، اختاره الشيخ، ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، قيل: وعقد النكاح. واختار الشيخ حل
1 صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، وصحيح مسلم: كتاب الحج (1349)، وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (2622، 2629)، وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (2888) ، ومسند أحمد (3/447)، وموطأ مالك: كتاب الحج (776) .
2 الترمذي: الحج (889)، والنسائي: مناسك الحج (3044)، وأبو داود: المناسك (1949)، وابن ماجة: المناسك (3015) ، وأحمد (4/309، 4/335)، والدارمي: المناسك (1887) .
العقد، وذكره عن أحمد. وقال الشيخ: لا يستحب للمتمتع أن يطوف للقدوم بعد رجوعه من عرفة قبل الإفاضة.
قوله: ثم يسعى إن كان متمتعاً، وعنه: يكتفي بسعي عمرته، اختاره الشيخ. قال الزركشي: في ما قال الأصحاب: أنه يستقبل القبلة بعد جمرة العقبة: نظر، إذ ليس ذلك في الحديث. ويدفن بقية الحصى، وقيل: لا.
وليس للإمام التعجيل لأجل من يتأخر، ذكره الشيخ.
قال في الفروع: لو ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة، يتوجه جوازه، وإن خرج غير حاج، فظاهر كلام شيخنا: لا يودع. وقيل: لا يولي ظهره حتى يغيب، قال الشيخ: هذا بدعة مكروهة. والصحيح: كراهة الإكثار من العمرة والموالاة بينهما. قال في الفروع: يتوجه مرادهم: إذا عوض بالطواف وإلا لم يكره، خلافاً لشيخنا. وكره الشيخ الخروج من مكة للعمرة إذا كان تطوعاً، وقال: هو بدعة، "لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابي على عهده، إلا عائشة"، لا في رمضان ولا في غيره، اتفاقاً.