الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب احياء الموت
…
باب إحياء الموات
ما فيه آثار الملك ولا يعلم لها مالك، ففيه روايتان، وما ملك بشراء أو عطية لم يملك بالإحياء، بغير خلاف. قال ابن عبد البر: جميعهم على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى عاد مواتاً، فلا يملك؛ وقال مالك: يملك، لعموم الحديث. ولنا: أن في الرواية الأخرى: "من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد"، 1 وقوله في غير حق مسلم، ثم هو مخصوص بما ملك بشراء أو عطية، فيقاس هذا عليه. وإن وجد فيه آثار ملك قديم جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود، ملك بالإحياء. وروى سعيد من مراسيل طاووس:"عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد". قال أبو عبيد: عاديّ الأرض: التي بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا، نسبهم إلى عاد، لأنهم مع تقدمهم ذوو قوة وآثار كثيرة، فنسب كل أثر قديم إليهم. والرواية الثانية: لا يملك، لأنه إما لمسلم أو ذمي أو لبيت مال. وما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معيّن، فعنه: لا يملك بالإحياء، وعنه: أنها تملك؛ وهو مذهب مالك، لعموم الأخبار. ولا يفتقر إلى إذن الإمام، وبه قال الشافعي. ولو أحيا مسلم مواتاً في أرض كفار صولحوا عليها، لم يملكه، ويحتمل أن يملكها، لعموم الخبر. وروي عن أحمد: ليس في السواد موات، يعني: سواد العراق. ويحتمل أنه قال: لكونه كله معموراً في زمن عمر، حتى بلغنا أن رجلاً من الكفار
1 أحمد (3/326)، والدارمي: البيوع (2607) .
سأل أن يعطى خربة فلم يجدوها، فقال: أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها منا. وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر ما دثر من أملاك المسلمين مواتاً، على إحدى الروايتين. وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، لم يملك بالإحياء، وإن لم يتعلق بمصالحه فعلى روايتين. وقال الشافعي: يملك ولو تعلق بمصالحه. وقال الليث: لا يملك ولو لم يتعلق بمصالحه.
ولا تملك المعادن الظاهرة، كالملح والكحل، بالإحياء؛ وليس للإمام إقطاعه، ولا نعلم فيه مخالفاًً. وأما التي لا يوصل إليها إلا بالمؤنة، وهي المعادن الباطنة كالذهب والفضة والحديد، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء، وإن حفرها إنسان وأظهرها لم تملك بذلك. ويحتمل أن تملك، وهو قول الشافعي. وليس للإمام إقطاعها. والصحيح: جوازه، "لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبيلة".
ويلزمه بذل ما فضل من مائه لبهائم غيره. وهل يلزمه بذله لزرع غيره؟ على روايتين. قال أحمد: الإحياء أن يحوط عليها حائطاً، أو يحفر فيها بئراً أو نهراً، لحديث سمرة:"من أحاط حائطاً على أرض، فهو له". 1 رواه أبو داود. وإن حفر بئراً عادية، وهي القديمة، ملك حريمها خمسين ذراعاً، وإن لم تكن عادية فخمسة وعشرون ذراعاً، نص عليه. ولا بد أن تكون البئر فيها ماء، فإن لم يصل إليه فهو كالمتحجر. والبئر العادية: التي انطمست وذهب ماؤها، فجدد حفرها وانقطع ماؤها واستخرجه. وأما البئر التي ينتفع بها المسلمون فليس لأحد احتجارها، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة. وهكذا العيون النابعة، ليس لأحد أن يختص بها.
ولو حفر رجل بئراً للمسلمين أو ينتفع بها مدة إقامته ثم يتركها، لم يملكها وكان له الانتفاع بها. فإذا تركها كانت للمسلمين كلهم، كالمعادن الظاهرة، وهو أحق
1 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3077) ، وأحمد (5/12، 5/21) .
بها ما دام عندها. وإذا كان لإنسان شجرة في موات، فله حريمها قدر ما تمتد إليه أغصانها حواليها.
و"في النخلة مدّ جريدها"، لحديث أبي سعيد. وإن غرس شجرة في موات فهي له وحريمها. وإن سبق إلى شجر فسقاه وأصلحه فهو له، لحديث:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به".
ومن كانت له بئر فحفر أخرى قريباً منها يتسرب إليها ماؤها، فليس له ذلك سواء حفر في ملكه أو في موات، ووافق الشافعي في الموات وقال: في ملكه له ذلك كتعلية داره. وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماماً يضر بعقار جاره. وقال الشافعي: له ذلك كله. ولنا: قوله: "لا ضرر ولا ضرار". 1 ولو كان الذي حصل منه الضرر سابقاً لم يلزمه إزالة الضرر، بغير خلاف نعلمه، لأنه لم يحدث ضرراً. ومن تحجر مواتاً لم يملكه وكان أحق به ووارثه بعده ومن ينتقل إليه، وليس له بيعه، وقيل: له ذلك، لحديث:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به". فإن لم يُتم إحياءه قيل له: أحيه أو اتركه، فإن أحياه غيره ملكه بالإحياء، لعموم الحديث في الإحياء، وقيل: لا، لقوله:"في غير حق مسلم". وروى سعيد أن عمر قال: "من كانت له أرض - يعني: من تحجر أرضاً - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها". وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها.
وللإمام إقطاع موات لم يحيه ولا يملكه به، بل بمنزلة المتحجر، ولا يقطع إلا ما قدر على إحيائه، لأن إقطاعه أكثرَ ضرر على المسلمين. فإن فعل فتبين عجزه عن إحيائه، استرجعه "كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم".
1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .
وإن كان الماء في نهر غير مملوك، فإن كان عظيماً كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منه، فلكل أحد أن يسقي كيف شاء. وإن كان صغيراً يزدحم الناس فيه ويتشاحون في مائه، أو سيلاً يتشاح فيه أهل الأرض، فيبدأ بمن في أوله فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك، إلى أن تنتهي الأرض، ولا نعلم فيه مخالفاًً، لحديث الزبير والأنصاري.
والنهر المملوك قسمان:
أحدهما: أن يكون الماء مباح الأصل، مثل أن يحفر إنسان نهراً صغيراً يتصل بنهر كبير مباح، فما لم يتصل الحفر لا يملكه وإنما هو تحجر، فإذا اتصل الحفر ملكه، لأن الملك بالإحياء أن تنتهي العمارة إلى قصدها، بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها، سواء أجرى الماء أو لا. فإن كان لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة.
والثاني: أن يكون منبع الماء مملوكاً مثل أن يشترك جماعة في استنباط عين وإجرائها، فإنهم يملكونها، لأن ذلك إحياء لها. وعلى كل حال، فلكل أحد أن يسقي من الماء الجاري لشربه ووضوئه وغسل ثيابه وأشباه ذلك، مما لا يؤثر فيه، من غير إذن إذا لم يدخل إلى محوط، ولا يحلّ لصاحبه المنع، لحديث:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم". 1 رواه البخاري.
وللإمام أن يحمي أرضاً من الموات لدواب المسلمين، ما لم يضيق عليهم، وقال الشافعي في أحد قوليه: ليس له ذلك، لقوله:"لا حمى إلا لله ولرسوله". 2 ولنا: "أن عمر وعثمان حميا"، واشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً.
1 البخاري: المساقاة (2358)، ومسلم: الإيمان (108)، والترمذي: السير (1595)، والنسائي: البيوع (4462)، وأبو داود: البيوع (3474)، وابن ماجة: التجارات (2207) والجهاد (2870) ، وأحمد (2/253، 2/480) .
2 البخاري: المساقاة (2370)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3083) ، وأحمد (4/38، 4/71، 4/73) .
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
إذا كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولا فيه أثر عمارة، ملك بالإحياء بلا خلاف، وإن علم له مالك بشراء أو عطية والمالك موجود هو أو أحد من ورثته، لم يملك بالإحياء بلا خلاف. وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتاً، فلا يملك به أيضاً. وإن لم يعلم له مالك، فهو أربعة أقسام:
أحدها: ما أثر الملك فيه غير جاهلي، كالقرى الخربة التي درست آثارها، ففي ملكها بالإحياء روايتان. وإذا لم يملك بالإحياء كان للإمام إقطاعه.
الثاني: ما أثر الملك فيه جاهلي قديم، كديار ثمود، فلم يذكر المصنف وغيره خلافاً في جواز إحيائه.
الثالث: ما لا أثر فيه جاهلي قريب، والصحيح أنه يملك بالإحياء.
الرابع: ما تردد في جريان الملك عليه، وفيه روايتان.
ولو ملكها من له حرمة ولم يعلم، لم تملك بالإحياء لأنها فيء، وعنه: تملك، قال في الفائق: في أظهر الروايات.
وموات أرض العنوة كغيره، وهو المذهب، وعنه: لا تملك بالإحياء، لكن تقر بيده بالخراج، وقيل: لا موات في أرض السواد.
ولو اختلفوا في الطريق وقت الإحياء، جعلت سبعة أذرع، للخبر؛ ولا تغير بعد وضعها وإن زادت على سبعة، لأنها للمسلمين، نص عليه. وذكر ابن بطة أن الخبر ورد في أرباب ملك مشترك أرادوا قسمته، واختلفوا في قدر حاجتهم، خلاف ما ذكر الجوزجاني عن قول أحمد: لا بأس ببناء مسجد في طريق واسع إذا لم يضر بالطريق، قال: مراده: ما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الأذرع.
وقال الشيخ فيمن نزل عن وظيفة الإمامة: لا يتعين المنزول له، ويولِّي من له الولاية من يستحق التولية شرعاً.
ولو ترك دابته بفلاة ليأسه منها، ملكها آخذها، نص عليه؛ وهو من المفردات. وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه، وما حماه غيره فعلى وجهين. قال في الفروع: ويتوجه في نقض الإطلاقات الخلاف، ونقل حرب: القطائع جائز، وأنكر شديداً قول مالك: لا بأس بقطائع الأمراء، وقال: يزعم أنه لا بأس بقطائعهم، وقال: قطائع الشام والجزيرة من المكروهة كانت لبني أمية فأخذها هؤلاء، وقال: ما أدري ما هذه القطائع يخرجونها ممن شاؤوا؟ قال أبو بكر: لأنه لا يملكها من أقطعها، فكيف تخرج منه؟