الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
هو فرض كفاية، وعن ابن المسيب: فرض عين، لقوله:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} ، 1 وقال:{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية. 2 ولنا: قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، 3 وقوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . 4 فأما الآية الأولى، فقال ابن عباس:"نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية 5". رواه أبو داود، ويحتمل أنه حين استنفرهم إلى تبوك، فيجب على من استنفره الإمام.
ويشترط لوجوبه سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة، لقوله تعالى:{وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الآية 6.
وأقل ما يفعل في كل عام مرة، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره، فيجوز بهدنة وغيرها، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من مرة، وجب.
ويتعين في ثلاثة مواضع:
1 سورة التوبة آية: 41.
2 سورة التوبة آية: 39.
3 سورة النساء آية: 95.
4 سورة التوبة آية: 122.
5 سورة التوبة آية: 122.
6 سورة التوبة آية: 91.
(أحدها) : إذا تقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف، لقوله:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، 1 وقوله:{فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} 2.
(والثاني) : إذا نزل العدوّ ببلد، تعيّن على أهله قتالهم.
(الثالث) : إذا استنفرهم الإمام.
وهو أفضل ما تطوع به، وغزو البحر أفضل، لقصة أم حرام.
وقتال أهل الكتاب أفضل. وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم، فقيل له في ذلك، فقال: إنهم يقاتلون على دين.
ويغزو مع كل بر وفاجر، سئل أحمد عمن قال: لا أغزو، يأخذه ولد العباس، إنما يوفر الفيء عليهم، فقال: سبحان الله! هؤلاء قوم سوء، هؤلاء القعدة المثبطون جهال. فيقال لهم: أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الإسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ قال الله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، 3 قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين. وإن كان يعرف بشرب الخمر أو الغلول يغزى معه، إنما ذلك في نفسه. ويقاتل كل قوم من يليهم، لقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} الآية 4.
وتعجب أحمد من فعل ابن المبارك فقال: كيف هذا، ولو أن أهل خراسان فعلوه، لم يجاهد الترك أحد، ولعله فعله لكونه متبرعاً بالجهاد.
وأمر الجهاد موكول إلى الإمام، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه، فإن أمّر
1 سورة الأنفال آية: 45.
2 سورة الأنفال آية: 15.
3 سورة البقرة آية: 251.
4 سورة التوبة آية: 123.
أميراً على الجيش فمات، فلهم أن يؤمّروا أحدهم، "كما فعل الصحابة في مؤتة".
قال أحمد: يشيّع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه، "شيّع عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقّه"، وشيّع أحمد أبا الحارث ونعلاه في يده، و"ذهب إلى فعل أبي بكر، أراد أن تغبرَّ قدماه في سبيل الله".
وتمام الرباط أربعون يوماً، فإن رابط أكثر فله أجره، كما قال أبو هريرة:"ومن زاد زاده الله". قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط، وقال: أفضل الرباط أشدهم كلباً.
ولا يستحب نقل أهله إليه، قيل لأحمد: تخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الإثم؟ قال: كيف لا أخاف؟ وهو يعرض ذريته للمشركين. وقال: كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم، فإني أنهى عنه الآن، الأمر قد اقترب ولا بد لهؤلاء القوم من يوم. قيل: فذلك في آخر الزمان؟ قال: فهذا آخر الزمان. قيل: "فالنبي صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه"، قال: هذا في الواحدة، ليس الذرية. وهذا محمول على غير أهل الثغر، فأما هم، فلا بد لهم من أهلهم، ولولا ذلك تعطلت الثغور.
وقال الأوزاعي في مساجد الثغر: لو أن لي ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد واحد، فإذا جاء النفير وهم متفرقون، لم يكونوا كالمجتمعين.
وفي الحرس في سبيل الله فضل عظيم، فيه أحاديث كأحاديث ابن عباس عند الترمذي، وسهل بن الحنظلية عند أبي داود.
وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه، وتستحب لمن قدر عليه، وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: انقطعت، لقوله:"لا هجرة بعد الفتح". 1 ولنا: حديث معاوية وغيره، والحديث معناه: لا هجرة بعد الفتح من بلد
1 البخاري: الجهاد والسير (2783)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170) ، وأحمد (1/226، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .
الفتح، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} الآية، 1 وهذا وعيد شديد، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به، واجب.
وأما من عجز عنه لمرض أو غيره، فلا عليه، للآية. فإن تمكن من إظهار دينه، استحب له الهجرة ليتمكن من الجهاد، وإكثاراً لعدد المسلمين.
ومن عليه ديْن حالاً أو مؤجلاً، لم يخرج إلى الجهاد إلا بإذن غريمه، إلا إن ترك وكيلاً أو وفاء أو رهناً، وبه قال الشافعي، ورخص فيه مالك لمن لا يقدر على الوفاء؛ وإن تعين فلا إذن لغريمه.
و"من أبواه مسلمان لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما". يروى عن عمر وعثمان، وبه قال مالك والشافعي وسائر أهل العلم، لحديث عبد الله بن عمر وغيره. فإن كانا غير مسلمين، فلا إذن لهما، وقال الثوري: بلى، لعموم الأخبار. ولنا:"أن الصحابة يجاهدون، وفيهم من أبواه كافران، وأبو عبيدة قتل أباه"، فأنزل الله:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية 2، فإن تعين سقط إذنهما.
ولا يجوز الفرار للمسلمين من صفهم، إلا متحرفين أو متحيزين، فإن زاد الكفار فلهم الفرار، لقوله:{إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} . 3 وحكي عن الحسن أنها في بدر خاصة. ولنا: أن الأمر مطلق والخبر عام، وعدّه النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فإن زادوا جاز، لقول ابن عباس:"من فرَّ من اثنين فقد فرَّ، ومن فرّ من ثلاثة فما فرّ".
فإذا خشي الأسر، فالأولى أن يقاتل حتى يُقتل، فإن استأسر جاز، لقصة خبيب وأصحابه. "فأخذ عاصم بالعزيمة، وخبيب بالرخصة". ومن فر قبل إحراز الغنيمة، فلا شيء له. فإن ألقى في مركبهم ناراً،
1 سورة النساء آية: 97.
2 سورة المجادلة آية: 22.
3 سورة الأنفال آية: 15.
فالأولى فعل الذي يظن فيه السلامة، من المقام وإلقاء نفوسهم في الماء. فإن استوى الأمران، فقال أحمد: كيف شاء صنع. وقال الأوزاعي: هما موتتان فاختر أيهما، وعنه: يلزم المقام.
ويجوز تبييت الكفار، ورميهم بالمنجنيق، وقطع المياه عنهم، وهدم حصونهم، قال أحمد: وهل غزو الروم إلا البيات. قال: ولا نعلم أحداً كرهه. ونهيه عن قتل النساء والذرية محمول على التعمد لقتلهم.
ولا يجوز إحراق نخل ولا تغريقه، هذا قول عامة العلماء، وقال مالك: لا أدري ما هو. ومقتضى قول أبي حنيفة: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، أشبه قتل بهائمهم حال القتال. وهل يجوز أخذ الشهد كله، وفيه إتلاف النحل؟ فيه روايتان.
ولا يجوز عقر دوابهم في غير حال الحرب، وبه قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، وأما حال الحرب فيجوز بلا خلاف. فأما عقرها للأكل، فإن كان لا يراد إلاّ للأكل كالطيور والصيود، فكالطعام في قول الجميع، فإن كان غير ذلك كالبقر والغنم لم يبح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد: إباحته لأنه كالطعام. وإذا ذبح الحيوان أكله ورد جلده إلى المغنم. قال عبد الرحمن بن معاذ: "كلوا لحم الشاة، وردّوا إهابها إلى المغنم". ووجه الأولى: قول ثعلبة: "أصبنا غنماً فانتهبناها" الحديث، ولأنها تكثر قيمتها ويمكن حملها إلى دار الإسلام، بخلاف الطير والطعام؛ لكن إن أذن الأمير فيها جاز، لحديث عطية بن قيس، وكذلك قسمها، لقول معاذ:"أصبنا غنماً، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بيننا طائفة، وجعل بقيتها في المغنم". 1 رواه أبو داود. وروى سعيد: "أن رجلاً نحر جزوراً في أرض الروم، فقال: يا أيها الناس، خذوا، فقال
1 أبو داود: الجهاد (2707) .
مكحول: يا غساني، ألا تأتينا من لحمها؟ فقال: ألا ترى ما عليها من النهباء؟ فقال: لا نهباء في المأذون فيه".
وأما الزرع والشجر فثلاثة أقسام:
أحدها: ما يحتاج إلى إتلافه كما قرب من الحصون، أو يفعلونه بنا، فنفعله بهم؛ فهذا يجوز ولا خلاف فيه.
والثاني: ما يتضرر المسلمون بقطعه للاستظلال به والأكل من ثمره، أو إذا فعلناه فعلوه بنا، فهذا يحرم للإضرار بالمسلمين.
والثالث: ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظهم والإضرار بهم، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لوصية أبي بكر، وبه قال الأوزاعي والليث. والثانية: يجوز، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. وقال إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو، لقوله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الآية. 1 ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بغير خلاف. "وكان أبو بكر أمر بتحريق أهل الردة، وفعَله خالد بأمره"، فأما اليوم فلا نعلم فيه مخالفاًً. وأما رميهم بالنار عند العجز عنهم، فجائز في قول أكثر أهل العلم، قال عبد الله بن قيس: لم يزل أمر المسلمين على ذلك، وكذلك فتح الثقوب عليهم لغرقهم؛ وإن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن إتلاف النساء والذرية. وإذا ظفر بهم، لم يجز قتل الصبي الذي لم يبلغ بغير خلاف. ولا تقتل امرأة ولا شيخ، وبه قال مالك. وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر: يجوز قتل الشيوخ، لقوله:"اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم"؛ 2 قال ابن المنذر: لا أعرف حجة يستثنى
1 سورة الحشر آية: 5.
2 الترمذي: السير (1583)، وأبو داود: الجهاد (2670) .
فيها من عموم قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . 1 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ". 2 رواه أبو داود، وهو في وصية أبي بكر ليزيد، وعمر لسلمة بن قيس، رواهما أبو داود. والآية مخصوصة بما روينا، ولأنه خرج من عمومها المرأة. والحديث أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة ومعونة برأي أو تدبير، جمعاً بين الأحاديث، ولأنه خاص وحديثهم عام؛ والخاص يقدَّم على العام. ولا يُقتل زمِن ولا أعمى ولا راهب، والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ. ولنا: أن الزمِن والأعمى ليسا من أهل القتال، ولأن في وصية أبي بكر:"وستمرّون على أقوام في صوامع، فدعهم حتى يُميتهم الله على ضلالتهم". ولا يُقتل عبد، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أدركوا خالداً، فمُروه ألا يقتل ذرية ولا عبداً"، وهم: العبيد. ومن قاتل ممن ذكرنا، جاز قتله بلا خلاف، وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين له رأي في الحرب يُعين به، لقصة دريد بن الصمة. ولا يُقتل الفلاح الذي لا يقاتل، لقول عمر:"اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"، وقال الشافعي: يُقتل إلا أن يؤدي الجزية، لدخوله في عموم المشركين. ولنا: قول عمر، ولأن الصحابة لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد.
وإن تترسوا بالنساء والصبيان، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة. ولو وقعت امرأة في صف الكفار فشتمت المسلمين أو انكشفت، جاز رميها، لحديث عكرمة في التي على حصن الطائف، وكذلك إذا التقطت لهم السهام أو سقتهم الماء أو حرضتهم على القتال، وكذلك الحكم في الصبي. وإن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم؛ فإن دعت
1 سورة التوبة آية: 5.
2 أبو داود: الجهاد (2614) .
الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز. فإن لم يخف على المسلمين، لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي: لا يجوز، لقوله تعالى:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية؛ 1 قال الليث: "ترك فتح حصن يقدر على فتحه، أفضل من قتل مسلم بغير حق".
ولا يجوز لمن أسر أسيراً أن يقتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه، فإن خافه أو خاف هربه أو امتنع من الانقياد معه بالضرب، فله قتله. فأما أسير غيره، فلا يجوز قتله، إلا أن يصير إلى حال يجوز فعله لمن أسره. فإن قتل أسيره أو أسير غيره أساء، ولا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: إن قتله قبل أن يأتي به الإمام ضمنه. ولنا: قصة بلال هو وعبد الرحمن. فإن قتل صبيا أو امرأة ضمن، لأنه صار رقيقاً بالسبي. وإن ادعى الأسير الإسلام، لم يقبل إلا ببينة، فإن شهد معه واحد وحلف خلّي. وقال الشافعي لا يقبل إلا بشهادة عدلين. ولنا: حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى، أو تضرب عنقه. فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فقال: إلا سهيل".
والأسارى من المجوس وأهل الكتاب الذين يقرون بالجزية، يخيّر الإمام فيهم بين القتل والمنّ بغير عوض والمفاداة والاسترقاق، وعن مالك كمذهبنا. وعنه: لا يجوز المنّ بغير عوض. وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الأسرى، وقال: منّ عليه أو فاداه كما فعل بأسارى بدر، ولأن الله تعالى قال:{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 وقال أصحاب الرأي: إن شاء
1 سورة الفتح آية: 25.
2 سورة محمد آية: 4.
قتَلهم وإن شاء استرقّهم لا غير، لقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، 1 بعد قوله:{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 ولنا: على جواز المنّ والفداء الآية المذكورة، "ومنَّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة وأبي عزة الشاعر"، وقال في أسارى بدر:"لو كان المطعم بن عديّ حياً ثم سألني هؤلاء النتنى، لأطلقتهم له" 3، "وفادى أسارى بدر وغيرهم". وأما القتل فـ"إنه قتل رجال بني النضير، وقتل يوم بدر النضر وعقبة بن أبي معيط صبرا، ً وقتل أبا عزة يوم أحد"، ولأن كل خصلة قد تكون أصلح. ومن لا يقرّ بالجزية، فيخيّر فيهم بين القتل والمنّ والفداء؛ والتخيير تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة. ومتى حصل عنده تردد فالقتل أولى. فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف، ولا يجوز التمثيل به، لحديث بريدة. "ويجوز الفداء بمال وبأسرى المسلمين، لفعله صلى الله عليه وسلم الأمرين". وعنه: لا يجوز بمال، كما لا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار.
ومنع أحمد من فداء النساء بالمال، لأن في إبقائهن تعريضاً للإسلام، وجوز "أن يفدي بهن أسرى المسلمين لفعله صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع". وقال أحمد: لا يفادى بالصبيان، لأن الصبي يصير مسلماً بإسلام السابي، وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها، لقوله:{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . 4 وإن كان الصبي غير محكوم بإسلامه، كمن سبي مع أبويه، لم يجز فداؤه بمال كالمرأة، ويجوز بمسلم.
ومن استُرق أو فودي بمال كان للغانمين، لا نعلم فيه خلافاً، فإذا أسلم الأسير كان رقيقاً في الحال، وزال التخيير فيه، وقيل: يحرم قتله؛ ويخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق، وهذا الصحيح. فإن أسلم قبل الأسر، حرم ذلك كله، سواء أسلم وهو في حصر أو بضيق وغير ذلك.
1 سورة التوبة آية: 5.
2 سورة محمد آية: 4.
3 البخاري: فرض الخمس (3139)، وأبو داود: الجهاد (2689) ، وأحمد (4/80) .
4 سورة الممتحنة آية: 10.
والمسبي من الأطفال منفرداً يصير مسلماً إجماعاً، فإن كان مع أحد أبويه فكذلك، وعنه: يتبع أباه. ولنا: قوله: "فأبواه يهوِّدانه
…
إلخ"، ومفهومه: أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما. فإن سُبي معهما فهو على دينهما، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يكون مسلماً، لأن السابي أحق به. ولنا: الحديث المتقدم. وإن سُبي الزوجان معاً لم ينفسخ نكاحهما، وقال مالك والشافعي: ينفسخ، لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . 1 ولنا: أن الآية نزلت في أوطاس، ولم يأخذوا الرجال؛ والعموم مخصوص بالمملوكة المزوّجة في دار الإسلام، فخص محل النزاع بالقياس عليه. وإن سُبيت وحدها انفسخ بلا خلاف، للآية. وإن سُبي الرجل وحده لم ينفسخ، وقال أبو حنيفة: ينفسخ. وقال الشافعي: إن سُبي واستُرق انفسخ. ولنا: أنه لم يحكم على أسارى بدر بفسخ أنكحتهم.
ولا يجوز بيع شيء من رقيق المسلمين لكافر، مسلماً كان أو كافراً، وهذا قول الحسن؛ قال أحمد:"كتب عمر ينهى عنه أمراء الأمصار"، وعنه: يجوز، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لأنه رد كافر إلى كافر، والأول أولى، لأنه قول عمر ولم ينكر، فكان إجماعاً.
وأجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز، ولا بين الأب وولده، وقال مالك والليث: يجوز، لأنه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص عليه. ولنا: أنه أحد الأبوين، ولا فرق بين الكبير والصغير في إحدى الروايتين، لعموم الخبر. وعنه: مختص بالصغير، وهو قول الأكثرين،
1 سورة النساء آية: 24.
"لأن سلمة أتى بامرأة وابنتها، فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم"، والجدة والجد كالأبوين. ويحرم التفريق بين الإخوة في القسمة والبيع أيضاً، وبه قال أصحاب الرأي. وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر: لا يحرم. ولنا: ما روي عن عليّ، قال:"وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين، فبعت أحدهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رُدَّه! رُدَّه! ". 1 رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: "لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع". وما بعد الكبر فيه الروايتان، والأولى الجواز، "لأنه صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية، ووهب سيرين لحسّان". وأما ذوو الرحم المحرم كالعمة مع ابنة أخيها، فالأولى الجواز، لأن الأصل الحل، ولا يصح القياسُ على الأخوة لأنهم أقرب.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
الجهاد أفضل من الرباط، على الصحيح، قال الشيخ: هو المنصوص عن أحمد. وقال الشيخ: العمل بالقوس والرمح أفضل من الثغر، وفي غيره نظيره. والرباط أفضل من المجاورة بمكة، ذكره الشيخ إجماعاً. قوله: مستطيع، وعنه: يلزم العاجز ببدنه في ماله، اختاره الشيخ. وقال: الأمر بالجهاد منه ما يكون بالقلب والدعوة والبيان والحجة والرأي والتدبير والبدن، فيجب بغاية ما يمكنه.
وقال: إن كان العدو كثيراً لا يطيقهم المسلمون، أو يخافون أنهم إن انصرفوا
1 الترمذي: البيوع (1284)، وابن ماجة: التجارات (2249) ، وأحمد (1/102) .
عطفوا على من تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا؛ ومثله لو هجم العدو على البلاد، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. وإن كان قتال طلب، فقيل المصافة بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقاً، إلا لمتحرف أو متحيز، وقال: يسنّ انغماسه في العدو لمنفعة المسلمين، وإلا نهي عنه، وهو من التهلكة.