الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاب البيع
باب الضمان
…
باب الضمان
ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في حال الحياة والموت، وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه. ولنا: قوله عليه السلام: "الزعيم غارم". 1 وعن أحمد رواية أن الميت يبرأ بمجرد الضمان، لما روى أبو سعيد قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت قال: هل على صاحبكم من دين، قالوا: نعم درهمان. قال: صلّوا على صاحبكم. فقال عليٌّ: هما عليَّ يا رسول الله. [وأنا لهما ضامن] . 2 فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على عليٍّ فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فقيل: يا رسول الله، هذا لعليّ خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة". رواه الدارقطني.
وروى أحمد عن جابر قال: "توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه. فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران. فانصرف. فتحملهما أبو قتادة، فقال: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم. فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد، فقال قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت جلده ". 3 وهذا صريح في براءة المضمون عنه،
1 الترمذي: البيوع (1265)، وأبو داود: البيوع (3565)، وابن ماجة: الأحكام (2405) .
2 زيادة من المخطوطة.
3 أحمد (3/330) .
لقوله: "وبرئ الميت منهما". ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلّقة بديْنه حتى يُقضى عنه"، 1 وقوله:"الآن بردت جلده"، حين أخبره أنه قضى دينه. فأما صلاته على المضمون عنه، فلأنه صار له وفاء، وإنما كان يمتنع من الصلاة على من لم يخلف وفاء.
وأما قوله: " فكّ الله رهانك
…
إلخ"، فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ضمنه فكّه من ذلك أو ما في معناه. وقوله: "برئ الميت منهما" أي: صرت أنت المطالب بهما، وهذا على وجه التأكيد وثبوت الحق في ذمته، ووجوب الأداء عنه، بدليل قوله: "الآن بردت عليه جلده". ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه [ولا معرفة الضامن لهما. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضى المضمون له. ولنا: "أن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه"] . 2 وقال القاضي: يعتبر معرفتهما. ولنا: حديث أبي قتادة وعلي، "فإنهما ضمنا لمن لم يعرفا وعن من لم يعرفا"، ولا يعتبر كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله إلى الوجوب، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، صح؛ وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يصح كالثمن. ولنا: قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . 3 وهو غير معلوم، لأنه يختلف باختلافه. وقوله عليه السلام: "الزعيم غارم". ويصح ضمان ما لم يجب كقوله: ما أعطيت فلانا فهو عليَّ، والخلاف فيها كالتي قبلها، والدليل ما ذكرنا.
ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري، وعن المشتري للبائع. فعن
1 الترمذي: الجنائز (1078)، وابن ماجة: الأحكام (2413) ، وأحمد (2/440، 2/475)، والدارمي: البيوع (2591) .
2 زيادة من المخطوطة.
3 سورة يوسف آية: 72.
المشتري: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، أو إن ظهر فيه عيب، أو استحق، رجع على الضامن. وعن البائع: أن يضمن الثمن متى خرج المبيع مستحقاً، أو رد بعيب أو أرش العيب. والعهدة: الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه الثمن، فعبر به عن الثمن الذي يضمنه. وحكي عن أبي يوسف: إذا قال: ضمنت عهدته، لم يصح لأن العهدة الصك بالابتياع، كذا فسره أهل اللغة، وليس بصحيح، لأنها في العرف عبارة عن الدرك، والمطلق يحمل على الأسماء العرفية.
وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة: أبو حنيفة ومالك والشافعي. ولا يصح ضمان الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد. وإن ضمن التعدي فيها، فظاهر كلام أحمد: صحة ضمانها. فأما الأعيان المضمونة، كالغصوب، والعواري، والمقبوضة على وجه السوم، فيصح ضمانها.
ويصح ضمان الجعل في الجعالة، وفي المسابقة والمناضلة، وقال أصحاب الشافعي: لا يصح في أحد الوجهين، لأنه لا يؤول إلى اللزوم، أشبه مال الكتابة. ولنا: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} 1.
وإن ضمن وقضى بغير أمره، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع. والثانية: لا يرجع، بدليل حديث علي وأبي قتادة، فإنهما لو استحقا الرجوع على الميت صار الدين لهما، وكانت ذمة الميت مشغولة.
ووجه الأولى: أنه قضاء مبرئ من ديْن واجب، كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه. فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا، فإنهما قضيا ديناً قصداً لتبرئة ذمته، مع علمهما أنه لم يترك وفاء؛ والمتبرع لا يرجع بشيء وإنما
1 سورة يوسف آية: 72.
الخلاف في المحتسب. وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه، لم يسمع إنكاره. وفيه وجه: أنه لا يقبل، لأن الضامن مدّع بما يستحق الرجوع به، وقول المضمون له شهادة على فعل نفسه، فلا يقبل. والأول أصح. وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحة، كشهادة المرضعة، وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث.
(فصل) : الكفالة التزام إحضار المكفول به، وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة، في قول أكثر أهل العلم. وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة. فمن أصحابه من قال: مراده: ضعيفة في القياس، وإلا فهي صحيحة، للإجماع والأثر. ومنهم من حكى قولين. ولنا: قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَاّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} . 1 وتصح ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم بديْن لازم، معلوم أو مجهول. وتصح ببدن المحبوس والغائب. وقال أبو حنيفة: لا تصح. وتصح بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري. ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وهو قول أكثر العلماء. واختلف قولا الشافعي في حدود الآدميين كالقذف، فقال في موضع: لا كفالة في حد ولا لعان. وقال في موضع: يجوز، قال: لأنه حق لآدمي. ولنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، مرفوعاً:"لا كفالة في حد"، ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء بالشبهات، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول به كحد الزنى.
وإن قال: إن جئت
1 سورة يوسف آية: 66.
به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان، أو فأنا ضامن لك المال الذي عليه، أو إذا جاء زيد فأنا ضامن عليه، أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل، فقال القاضي: لا يصح، وهو مذهب الشافعي. وقال الشريف أبو جعفر: يصح، وهو قول أبي حنيفة. ولا تصح إلا برضى الكفيل، وفي رضى المكفول به وجهان. ومتى أحضره وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر.
وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل؛ وبه قال الشافعي. ويحتمل ألا يسقط بالموت، ويطالب بما عليه، وهو قول مالك. ومتى تعذر إحضار المكفول به مع حياته، أو امتنع من إحضاره، لزمه ما عليه. وقال أكثرهم: لا غرم عليه. ولنا: قوله: "الزعيم غارم"1.
وإذا كانت السفينة في البحر، وفيها متاع فخيف غرقها، فألقى بعض من فيها متاعه لتخف، لم يرجع به، سواء ألقاه محتسباً بالرجوع أو متبرعاً. وإن قال له بعضهم: ألقه، فألقاه، فكذلك لأنه لم يكرهه.
وقال مهنا: سألت أحمد: عن رجل له على رجل ألف درهم، فأقام كفيلين بها كل منهما ضامن، فأحال رب المال عليه رجلاً بحقه، قال: يبرأ الكفيلان. قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئاً؟ قال: لا شيء له، ويذهب الألف.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: قياس المذهب: يصح الضمان بكل لفظ فُهم منه الضمان عرفاً مثل: بعهُ وأنا أعطيك الثمن، أو لا تطالبه وأنا أعطيك، ونحو ذلك. واختار أيضاً صحة ضمان الحارس ونحوه، وتجار الحرب ما يذهب من
1 الترمذي: البيوع (1265)، وأبو داود: البيوع (3565)، وابن ماجة: الأحكام (2405) .
البلد أو البحر، وإن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد. وقال: لو تغيب مضمون عنه، أطلقه في موضع وقيده في آخر، بقادر على الوفاء فأمسك الضامن وغرم شيئاً بسبب ذلك، وأنفقه في حبس، رجع به على المضمون عنه.
قوله في الكفالة: ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وقال الشيخ: تصح، اختاره في الفائق. وقال الشيخ: إن كان المكفول في حبس الشرع فسلمه إليه فيه بريء ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة، ويمكنه الحاكم من الإخراج ليخاصم غريمه ثم يرده، هذا مذهب الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما. قوله: وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل. إذا مات المكفول به، برئ الكفيل سواء توانى الكفيل في تسليمه حتى مات أو لا، نص عليه. وقيل: لا يبرأ مطلقاً، فيلزمه الديْن، اختاره الشيخ. وقال: السجان كالكفيل، ولو ضمن معرفته أخذ به، نقله أبو طالب. ولو خيف من غرق السفينة فألقى بعضهم متاعه، لم يرجع، وفي الرعاية: يحتمل أن يرجع إذا نوى، وما هو ببعيد. انتهى.
ويجب الإلقاء إن خيف تلف الركاب. ولو قال: طلق زوجتك وعليَّ ألف، أو مهرها، لزمه؛ قاله في الرعاية. وقال: لو قال: بعْ عبدك من زيد بمائة، وعلي مائة أخرى، لم يلزمه، وفيه احتمال. والله أعلم.
باب الحوالة
الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع، لقوله عليه السلام:"مطْل الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء، فليتبع". 1 متفق عليه، وفي لفظ:"ومن أُحيل بحقه على مليء، فليحتل". 2 وإذا صحت برئت ذمة المحيل، وانتقل الحق إلى ذمة المحال عليه، في قول عامة أهل العلم. وعن الحسن: أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يُبرئه. وعن زفر: أنه أجراها مجرى الضمان. ولنا: أنها مشتقة من تحويل الحق، فمتى رضي بها المحتال، ولم يشترط اليسار، لم يعد الحق أبداً؛ وبه قال الشافعي وأبو عبيد. وقال شريح: متى أفلس أو مات رجع على صاحبه. [وقال أبو يوسف: يرجع في حالين: إذا مات المحال عليه مفلساً، أو إذا جحده وحلف عليه عند الحاكم، وإذا حجر عليه لفلس،] لأنه روي عن عثمان أنه سئل عن: رجل أحيل بحقه، فمات المحال عليه مفلساً؟ فقال: يرجع بحقه، لأنه لا توى على مال امرئ مسلم. ولنا:"أن حزناً جد ابن المسيب كان له على عليّ (ديْن فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا، أبعدك الله! ". فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره أن له الرجوع. وحديث عثمان لم يصح، يرويه معاوية بن قرة عن عثمان، ولم يصح سماعه منه، ولو صح لكان قول عليّ مخالفاًً له.
1 البخاري: الحوالات (2287، 2288) وفي الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2400)، ومسلم: المساقاة (1564)، والترمذي: البيوع (1308)، والنسائي: البيوع (4691)، وأبو داود: البيوع (3345)، وابن ماجة: الأحكام (2403) ، وأحمد (2/376، 2/379، 2/463، 2/465)، ومالك: البيوع (1379)، والدارمي: البيوع (2586) .
2 البخاري: الحوالات (2287، 2288)، ومسلم: المساقاة (1564)، والترمذي: البيوع (1308)، والنسائي: البيوع (4688، 4691)، وأبو داود: البيوع (3345)، وابن ماجة: الأحكام (2403) ، وأحمد (2/463)، ومالك: البيوع (1379)، والدارمي: البيوع (2586) .
ولا تصح إلا بشروط ثلاثة:
(أحدها) : أن يحيل على ديْن مستقر، فإن أحال على مال الكتابة، أو السلَم، أو الصداق قبل الدخول، لم يصح.
(الثاني) : اتفاق الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل.
(الثالث) : أن يحيل برضاه، ولا خلاف في هذا.
ولا تصح فيما لا يصح السلَم فيه. فأما ما يثبت في الذمة سلماً غير المثليات، كالمعدود والمذروع، ففي صحتها به وجهان.
ولا يعتبر رضى المحال عليه، ولا رضى المحتال، إن كان المحال عليه مليئاً، والمليء: القادر على الوفاء غير المماطل. قال أحمد في تفسير المليء: أن يكون مليئاً بماله وقوله وبدنه. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما. وقال مالك: يعتبر رضى المحتال، وأما المحال عليه فقال مالك: لا يعتبر رضاه، إلا إن كان المحتال عدوه. ولنا: الحديث المتقدم. وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع. وقال بعض الشافعية: لا يرجع، لأنها لا ترد بالإعسار. ولنا: قوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم". 1 وإذا لم يرض المحتال، ثم بان المحال عليه مفلساً أو ميتاً، رجع بغير خلاف. وإن رضي بالحوالة لم يرجع، ويحتمل أن يرجع لأن الفلس عيب. وإن فسخ العقد بعيب أو إقالة، لم تبطل الحوالة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وظاهر ما قدمه في المحرر: صحة الحوالة على المهر قبل الدخول، وعلى الأجرة بالعقد، وقال الزركشي: لا يظهر لي منع الحوالة بالمسلَم فيه.
1 أبو داود: الأقضية (3594) .
وقال عن تفسير أحمد: الذي يظهر لي أن المليء بالمال أن يقدر على الوفاء، والقول: ألا يكون مماطلاً، والبدن يمكن حضوره إلى مجلس الحكم.
وقال الشيخ: الحوالة على ماله في الديون إذن في الاستيفاء فقط، وللمحتال الرجوع ومطالبة محيله. انتهى.
ونقل مهنا فيمن بعث رجلاً إلى رجل له عنده مال، فقال: خذ منه ديناراً، فأخذ منه أكثر، قال: الضمان على المرسل لتغريره، ويرجع هو على الرسول. والله سبحانه أعلم.
باب الصلح
الصلح أنواع: بين المسلمين وأهل الحرب، وبين أهل العدل وأهل البغي، وبين الزوجين. وعن أبي هريرة، مرفوعاً:"الصلح بين المسلمين جائز، إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً". 1 صححه الترمذي. وأجمعوا على جواز الصلح في هذه الأنواع، ولكل نوع منها باب يفرد له.
وهذا بين (المختلفين في الأموال)، وهما قسمان:
القسم الأول: صلح على الإقرار، وهو نوعان:
أحدهما: صلح على جنس الحق، مثل أن يقرّ له بديْن فيضع عنه بعضه، أو عين فيهب له بعضها، فيصح إن لم يكن بشرط. قال أحمد: إذا كان للرجل الديْن فوضع بعض حقه وأخذ الباقي، كان ذلك جائزاً لهما. ولو فعل ذلك قاضٍ شافعي لم يكن عليه في ذلك إثم، إذا كان على وجه النظر لهما، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كلّم غرماء جابر ليضعوا عنه، وفي الذي أصيب في حديقته وهو ملزوم، فأشار إلى غرمائه بالنصف". ولا يصح ممن لا يملك التبرع كولي اليتيم، إلا في حال الإنكار وعدم البينة، لأن استيفاء البعض عند العجز أولى من تركه. وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لم يصح، كرهه ابن عمر، وقال:"نهى عمر أن يباع العين بالديْن"، وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس
1 الترمذي: الأحكام (1352)، وابن ماجة: الأحكام (2353) .
وابن سيرين والنخعي: "أنه لا بأس به". وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأسا بالعروض أن يأخذها عن حقه قبل محله. وإذا صالحه عن ألف حالّ بنصفه مؤجل اختياراً منه، صح الإسقاط، فلم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل. ولو صالح عن المائة الثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة، لم تصر مؤجلة، وعنه: أنها تصير مؤجلة. وإن صالح إنساناً ليقرّ له بالعبودية، أو امرأة لتقرّ له بالزوجية لم يصح، لأنه يحلّ حراماً، فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا غيره. فإن دفعت المرأة عوضاً عن الدعوى، ففيه وجهان. وإن دفع المدعى عليه العبودية إلى المدعي صلحاً صح، لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال.
النوع الثاني: أن يصالحه عن الحق بغير جنسه، فهو معاوضة، مثل أن يقرّ له بمائة درهم، فيصالحه عنها بعشرة دنانير، فهذا يشترط له شروط الصرف، أو يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بالعكس، فهذا بيع يثبت فيه أحكامه، أو يصالحه على سكنى دار، أو يعمل له عملاً معلوماً، فتكون إجارة لها حكمها. وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح. وإذا ادعى زرعاً في يد رجل فأقر له به، ثم صالحه على دراهم، جاز على الوجه الذي يجوز به بيع الزرع.
ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم، سواء كان عيناً أو ديناً، إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته. وقال ابن أبي موسى: الصلح الجائز هو صلح الزوجة من صداقها الذي لا بيّنة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه، وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة لا علم لواحد منهما بما عليه لصاحبه، وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره، وسواء كان صاحب الحق يعلم قدره ولا بيّنة له أو لا. وقال الشافعي: لا يصح الصلح عن مجهول، لأنه فرع البيع.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم للذيْن اختصما في مواريث درست: "استهما، وتوخّيا، وليحلل أحدكما صاحبه". 1 رواه أحمد. فأما ما يمكنهما معرفته، أو يعلمه الذي هو عليه ويجهله صاحبه، فلا يصح الصلح عليه مع الجهل. قال أحمد: إن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثمنها، لم يتبيّن لها ما ترك زوجها، فهي الريبة كلها. قال: وإن ورث قوم مالاً ودوراً أو غير ذلك، فقال بعضهم: نخرجك من الميراث بألف درهم، أكره ذلك. ولا يشترى منها شيئاً وهي لا تعلم، لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير. إنما يصالح الرجل الرجل على الشيء لا يعرفه، أو يكون رجل يعلم ما لَه عند رجل، والآخر لا يعلمه، فيصالحه، فأما إذا علم، فَلِمَ يصالحه؟ إنما يريد أن يهضم حقه ويذهب به.
القسم الثاني: أن يدعي عليه عيناً أو ديْناً فينكره، ثم يصالحه على مال، فيصح ويكون بيعاً في حق المدعي، حتى إن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح. والصلح على الإنكار صحيح، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا يصح لأنه عاوض عما لا يثبث له. ولنا: عموم قوله: "الصلح بين المسلمين جائز". 2 فإن قالوا: فقد قال: "إلا صلحاً أحلّ حراماً "، 3 وهذا داخل فيه، لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه، فحل بالصلح، قلنا: لا يصح حمل الحديث عليه، لأن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع، فإنه يحل لكل منهما ما كان محرماً عليه قبله، وكذلك الصلح بمعنى الهبة، ولأنه لو حل به المحرّم لكان صحيحاً، فإن الصلح الفاسد لا يحلّ الحرام، وإنما معناه: توصل به إلى تناول المحرّم مع بقائه على تحريمه، وهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه، فلأن يحل برضاه أو بذله أولى. وقولهم:
1 البخاري: المظالم والغصب (2458) والشهادات (2680) والحيل (6967) والأحكام (7169، 7181، 7185)، ومسلم: الأقضية (1713)، والترمذي: الأحكام (1339)، والنسائي: آداب القضاة (5401، 5422)، وأبو داود: الأقضية (3583)، وابن ماجة: الأحكام (2317) ، وأحمد (6/203، 6/290، 6/307، 6/308، 6/320)، ومالك: الأقضية (1424) .
2 الترمذي: الأحكام (1352)، وابن ماجة: الأحكام (2353) .
3 أبو داود: الأقضية (3594) .
إنه معاوضة، قلنا: في حقهما أم أحدهما؟ الأول: ممنوع. والثاني: مسلّم. والمدعي يأخذ عوض حقه لعلمه بثبوت، والمنكر يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه، كشرائه عبداً شهد بحريته، فهو معاوضة في حق البائع واستنقاذ في حقه. وإذا أخذ المدعي شقصاً في دار أو عقار ثبتت فيه الشفعة، فإن كان أحدهما عالماً بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه. وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح، ولم يرجع عليه. وإن كان المدعى عيناً فقال أجنبي للمدعي: أنا أعلم أنك صادق، فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها، فقال: أصحابنا يصح، وهو مذهب الشافعي. فإن قال للمدعي: أنا وكيل المدعى عليه، وهو مقر لك وإنما يجحدها في الظاهر، فقال القاضي: يصح الصلح، وهو مذهب الشافعي.
ويجوز الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان مما يجوز بيعه أو لا، فيصح عن دم العمد، وسكنى الدار، وعيب المبيع. ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز. وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح، لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة، فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق، ولم يجز أخذ العوض عنه، لأنه ليس بمال، فهو كحد القذف. وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح، وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة، لم يصح إلا بإذنه. وإن كان لضرورة، مثل أن يكون له أرض لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره، فهل له ذلك؟ على روايتين: إحداهما: لا يجوز. والأخرى: يجوز، لما روي: "أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى، فكلم فيه عمر. فدعا محمداً وأمره أن يخلي سبيله. فقال: لا والله.
فقال له عمر: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ تسقي به أولاً وآخراً؟ فقال: لا والله. فقال عمر: والله ليمرّنّ به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به، ففعل". رواه في الموطإ. وإن صالحه على أن يسقي أرضه من نهره، وقدره بشيء يعلم به، لم يجز؛ ذكره القاضي، لأن الماء ليس بمملوك، ولا يجوز بيعه، ولأنه مجهول. قال: وإن صالحه على سهم من النهر جاز، وكان بيعاً للقرار، والماء تابع له. ويحتمل أن يجوز الصلح على السقي، لأن الحاجة تدعو إليه، والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة.
وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره، فطالبه بإزالتها، فله ذلك؛ فإن أبى، فله قطعها. وإن صالحه عن ذلك بعوض، فقال أبو الخطاب: لا يصح. وقال ابن حامد وابن عقيل: يجوز. فإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما، جاز ولم يلزم. نقل عن مكحول أنه قال: أيما شجرة ظللت على قوم، فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها. ويحتمل أن لا يصح، وهو قول الأكثر، لأن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول. قال شيخنا: ويقوى عندي أن الصلح هنا يصح، فإن إلزام القطع ضرر كبير، وفي الترك من غير نفع يصل إلى صاحب الهواء ضرر عليه، ولأنه مجرد إباحة كقول كل واحد منهما: اسكن في داري وأسكن في دارك من غير تقدير مدة، أو أبيحك الأكل من بستاني وأبحني الأكل من بستانك. وفيما ذكرنا نظر للفريقين. وكذا الحكم فيما امتد من عروق شجر إنسان إلى أرض جاره، سواء أثرت ضرراً مثل تأثيرها في طي الآبار أو لم تؤثر، فالحكم في قطعه والصلح عنه كالغصن.
ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً أو ساباطاً أو دكاناً، سواء كان يضر بالمارة أو لَا، أذن الإمام أو لم يأذن. وقال ابن عقيل: إن لم يكن فيه ضرر
جاز بإذن الإمام. وقال مالك والشافعي: يجوز إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه. فأما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق، بغير خلاف علمناه، سواء أذن فيه الإمام أو لا، لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه. ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم، ولا إلى درب نافذ، إلا بإذن أهله. وقال مالك والشافعي:"يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم، لحديث عمر لما اجتاز على دار العباس"، ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير.
ولا يجوز أن يفعل ذلك في ملك إنسان، ولا درب غير نافذ، إلا بإذن أهله، فإن صالح عن ذلك بعوض، جاز في أحد الوجهين.
ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذ بئراً لنفسه، وإن أراد حفرها للمسلمين أو لنفع الطريق، مثل أن ينزل فيها ماء المطر عن الطريق، نظرنا: فإن كان الطريق ضيقاً أو يخاف سقوط الدابة فيها لم يجز، لأن ضررها أكثر، وإلا جاز. وإن فعله في درب غير نافذ، لم يجز إلا بإذن أهله. وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ، ففتح فيه بابا لغير الاستطراق، جاز لأنه له رفع جميع حائطه فبعضه أولى. قال ابن عقيل: يحتمل ألا يجوز، لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الاستطراق، فإن فتحه للاستطراق لم يجز بغير إذنهم، وفيه وجه: أنه يجوز. وإن كان بابه في آخر الدرب، ملَك نقله إلى أوله، ولم يملك نقله إلى داخل منه، في أحد الوجهين.
(فصل) : وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة ولا طاقاً بغير إذن، ولا يغرز وتداً، ولا يتصرف فيه بنوع تصرف، إلا بإذن. فأما
الاستناد إليه وإسناد شيء لا يضره فلا بأس. وليس له وضع خشبة عليه إلا عند الضرورة، بأن لا يمكن التسقيف إلا به. أما وضع خشبة عليه، فإن كان يضر بالحائط فلا يجوز، بغير خلاف، لقوله:"لا ضرر ولا ضرار". 1 وإن كان لا يضرّ به إلا أن به غنى، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز. وهو قول الشافعي، لأنه انتفاعٌ بملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة. واختار ابن عقيل جوازه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره". 2 متفق عليه. ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والعاقل والمجنون. واختلفت الرواية في وضع خشبة على جدار المسجد.
ولو أراد صاحب الحائط إعارة حائطه أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبته، لم يملك ذلك. وإذا وجد بناءه أو خشبته على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه، فمتى زال فله إعادته، لأن الظاهر أن الوضع بحق من صلح أو غيره. وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره، ومجرى ماء سطحه على سطح غيره، وما أشبه هذا، فهو له لأن الظاهر أنه بحق فجرى مجرى اليد. ومتى اختلفا: هل هو بحق أو عدوان، فالقول قول صاحب الخشب والبناء والسيل مع يمينه. وإن كان بينهما حائط فانهدم، فطالب أحدهما صاحبه ببنائه، أُجبر. وعنه: لا يُجبر. وعليها، ليس له منعه من بنائه. فإن بناه بآلته فهو بينهما، وإن بناه بآلة من عنده فهو له، وليس للآخر الانتفاع. فإن طلب الانتفاع خُير الثاني بين أخذ نصف قيمته وأخذ آلته. وإن لم يكن بين ملكيهما حائط، فطلب أحدهما البناء بين ملكيهما، لم يجبر الآخر، رواية واحدة، وليس له البناء إلا في ملكه. فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر، فطلب أحدهما المباناة من الآخر، فامتنع، فهل يجبر؟ على
1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .
2 البخاري: المظالم والغصب (2463)، ومسلم: المساقاة (1609)، والترمذي: الأحكام (1353)، وأبو داود: الأقضية (3634)، وابن ماجة: الأحكام (2335) ، وأحمد (2/274)، ومالك: الأقضية (1462) .
روايتين. فإن انهدمت حيطان السفل وطالبه صاحب العلو بإعادتها، ففيه روايتان. وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع، فإن بناه بآلته فهو على ما كان، وإن بناه بآلة من عنده، فعن أحمد: لا ينتفع به صاحب السفل، يعني: حتى يؤدي القيمة، فيحتمل أنه لا يسكن، وهو قول أبي حنيفة، ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد، وهو مذهب الشافعي. فإن طالب صاحب السفل بالبناء، وأبى صاحب العلو، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجبر، وهو قول الشافعي، لأنه ملك صاحب السفل. والثانية:"يجبر على مساعدته والبناء معه"، وهو قول أبي الدرداء، لأنهما يشتركان في الانتفاع به. وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب، فاحتاج إلى عمارة، ففي إجبار الممتنع روايتان، بناء على الحائط المشترك، والحكم في الرجوع بالنفقة، حكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى.
وليس للرجل التصرف في ملكه بما يتضرر به جاره، وعنه رواية أخرى: لا يمنع، وبه قال الشافعي. ولنا: قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". 1 وأما دخان الخبز والطبخ، فإن ضرره يسير، ولا يمكن التحرز عنه، فتدخله المسامحة. فإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره. وقال الشافعي: لا يلزمه سترة. ولنا: أنه إضرار بجاره فمنع منه، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:" لو أن رجلاً اطّلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح"2.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لو صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، وفي الإرشاد رواية: يصح،
1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .
2 البخاري: الديات (6902)، ومسلم: الآداب (2158)، والنسائي: القسامة (4861)، وأبو داود: الأدب (5172) ، وأحمد (2/243، 2/428) .
اختاره الشيخ. وذكر أيضاً رواية بتأجيل الحالّ في المعاوضة، لا التبرع. وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه، مثل أن يصالح عن دية الخطإ أو قيمة متلف، لم يصح. واختار الشيخ الصحة كعرض وكمثلى. وذكر المصنف رواية بالصحة، فيما إذا صالح عن مائة ثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة. وقال في صلح الإنكار: واقتصر صاحب المحرر على قول أحمد: إذا صالحه على بعض حقه بتأخير جاز، وعلى قول ابن أبي موسى: الصلح جائز بالنقد والنسيئة. وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره من غير ضرر، لم يجز إلا بإذن. وعنه: يجوز ولو مع حفر، اختاره الشيخ. ونقل أبو الصقر: إذا أساح عيناً تحت أرض، فانتهى حفره إلى أرض أو دار، فليس له منعه من ظهر الأرض ولا بطنها إذا لم يكن عليه مضرة. وذكر الشيخ عن أكثر الفقهاء تغيير صفات الوقف لمصلحته. و"قد زاد عمر وعثمان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيّرا بناءه"، ثم عمر بن عبد العزيز، وزاد فيه أبواباً، ثم المهدي ثم المأمون. وإذا حصل في ملكه أو هوائه أغصان شجرة، لزم المالك إزالته إن طالبه. قال ابن رزين: ويضمن ما تلف به إذا أمر بإزالته فلم يفعل، وكذا قال في المغني والشرح وفي المبهج في الأطعمة: ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين.
ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً
…
إلخ. وحكي عن أحمد جوازه بلا ضرر، واختاره الشيخ. ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق
…
إلخ. وفي المغني والشرح: احتمال بالجواز مع انتفاء الضرر. وحكي رواية عن أحمد، ذكره الشيخ، وقال: إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة، ولم يذكر أكثر الأصحاب مقدار طول الجدار الذي يشرع عليه الميزاب والساباط إذا قلنا
بالجواز، لكن حيث انتفى الضرر جاز. وقدم في الرعاية: بحيث يمكن عبور محمل، واختاره الشيخ. وليس له منعه من تعلية داره، ولو أفضى إلى سد الهواء عن جاره، قاله الشيخ.، قال في الفروع: ويتوجه من قول أحمد: لا ضرر ولا ضرار، منعه، قلت: وهو الصواب. وقال الشيخ: ليس له منعه خوفاً من نقص أجرة ملكه بلا نزاع. وقال: العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقاً. ولو استهدم جدارهما أو خيف ضرره نقضاه، فإن أبى أحدهما أجبره الحاكم. ولو أراد بناء حائط بين ملكيهما لم يجبر الممتنع منهما، رواية واحدة، قاله المصنف ومن تابعه. قال في الفائق: ولم يفرق بعض الأصحاب، اختاره شيخنا يعني به الشيخ. ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما، فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر يضمنه الذي أهمل، قاله الشيخ.
باب القرض
قال أحمد: ليس القرض من المسألة، يريد: أنه لا يكره. وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه. وإن لم يذكر البدل، ولم توجد قرينة، فهو هبة؛ وإن اختلفا، فالقول قول الموهوب له، لأن الظاهر معه.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن اقتراض ما له مثلٌ من المكيل والموزون والأطعمة جائز. وقال أبو حنيفة: لا يجوز قرض غير المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، أشبه الجواهر.. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً". 1 ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يجز، وكذلك لو اقترض مكيلاً أو موزوناً جزافاً. فإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً جاز قرضها عدداً. ولو أجّله لم يتأجل، وكل دين حلّ لم يصر مؤجّلا بتأجيله. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل، لحديث:"المؤمنون عند شروطهم". فإن ردّه المقترض عليه، لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها السلطان، فيكون له القيمة وقت القرض، نص عليه في الدراهم المكسرة، قال يقوّمها كم تساوي يوم أخذها. وأما رخص السعر فلا يمنع، سواء كان قليلاً أو كثيراً، أشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت.
ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها، إذا قلنا بجواز قرضها، وفي ما سوى ذلك وجهان: أحدهما: يرد القيمة. والثاني: يرد مثله، "لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد مثله".
1 مسلم: المساقاة (1600)، والترمذي: البيوع (1318)، والنسائي: البيوع (4617)، وأبو داود: البيوع (3346)، وابن ماجة: التجارات (2285) ، وأحمد (6/390)، ومالك: البيوع (1384)، والدارمي: البيوع (2565) .
ويجوز قرض الخبز، وإن أقرضه بالوزن ردّ مثله. وإن استقرضه عدداً وردّ عدداً، فروايتان. ولا يجوز شرط ما يجر نفعاً. وقد روي عن أبيّ وابن مسعود وابن عباس:"أنهم نهوْا عن قرض جرّ منفعة"، فإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، فروي عن أحمد: أنه لا يجوز. ورويت كراهته عن الحسن ومالك والشافعي. وروي جوازه عن أحمد. وإن فعل ذلك من غير شرط، أو قضاه خيراً منه، أو أهدى له هدية بعد الوفاء، جاز. وروي عن أبيّ وابن عباس المنع من ذلك. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً، فردّ خيراً منه". وإن فعله قبل الوفاء لم يجز، إلا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض، إلا أن يكافئه أو يحسبه من ديْنه؛ قال أحمد: لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس. ولو قال: اكفل عني ولك ألف، لم يجز، لأن الكفيل يلزمه أداء الديْن، فيجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: يصح في كل عين
…
إلخ، وقال الشيخ: يجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يوماً، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر بدلها.
ولو أقرض من له عليه ديْن ليوفيه كل وقت شيئاً جاز، نقله مهنا، ونقل حنبل: يكره. ولو أقرض فلاحه في شراء بقر أو بذر بلا شرط، حرم عند أحمد، وجوزه المصنف. وإن أمره ببذره وأنه في ذمته كالمعتاد في فعل الناس ففاسد، له تسمية المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة، ذكره الشيخ.
ولو أقرض من عليه بر يشتريه به ويوفيه إياه، فقال أحمد: حرام، وقال في المغني: يجوز.
وأداء الديْن واجب على الفور عند المطالبة، وبدونها لا يجب على الفور، قال ابن رجب: محله إذا لم يكن عيّن له وقتاً للوفاء كيوم كذا، فإن عيّن فلا ينبغي أن يجوز تأخيره. وقال في القواعد الأصولية: ينبغي أن يكون محل جواز التأخير إذا كان صاحب المال عالماً به، وإلا فيجب إعلامه
باب الرهن
يجوز الرهن في الحضر. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه إلا مجاهد لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. 1 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي بالمدينة". 2 فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب يعدم في السفر غالباً، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب، وهو مذكور في الآية، وهو غير واجب، لا نعلم فيه مخالفاًً. والأمر فيه إرشاد لا إيجاب، بدليل قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية.
ويجوز عقده مع الحق وبعده. ولا يجوز قبله، وهو مذهب الشافعي. واختار أبو الخطاب: يصح قبله، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. ويجوز رهن ما يسرع الفساد إليه بديْن مؤجل، ويباع ويجعل ثمنه رهناً. ويصح رهن المشاع، فإن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما، جاز، وإلا جعله الحاكم في يد أمين.
ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه، فأما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان. فأما المكيل والموزون فذكر القاضي أنه يصح، لأنه يمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه، ويحتمل أن لا يصح، لأنه لا يصح بيعه، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها.
ولو قال للمرتهن:
1 سورة البقرة آية: 283.
2 البخاري: البيوع (2069)، والترمذي: البيوع (1215)، والنسائي: البيوع (4610)، وابن ماجة: الأحكام (2437) .
زدني ما لا يكون الذي عندك به رهناً وبالديْن الأول، لم يجز. وقال مالك وأبو يوسف وأبو ثور وابن المنذر: يجوز. ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح، إلا أن يرهنه المشتري، والخيار له وحده، فيصح ويبطل خياره.
ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح، لأنه رهن ما لا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي له الرجوع فيها قبل رجوعه في الهبة، وفيه وجه لأصحاب الشافعي: أنه يصح. ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح، وفيه وجه: أنه لا يصح. فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره، فالرهن بحاله، وإلا فللغرماء انتزاعه.
ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، وأما قبله فيجوز للراهن فسخه، وبهذا قال الشافعي. وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد، نص عليه في رواية الميموني. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد، كالبيع. ووجه الأولى: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . 1 واستدامة القبض شرط، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره، زال لزوم الرهن. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطاً.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل قد سماه، إلى وقت معلوم، ففعل، أن ذلك جائز. ومتى شرط شيئاً من ذلك، فخالف ورهن بغيره، لم يصح. وهذا إجماع أيضاً، حكاه ابن المنذر. وإن رهنه بأكثر، احتمل أن يبطل في الكل، قاله الشافعي. واحتمل أن يصح في المأذون فيه، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. فإن أطلق الإذن في الرهن، فقال القاضي: يصح.
1 سورة البقرة آية: 283.
وله رهنه بما شاء، وهو أحد قولي الشافعي، والآخر: لا يجوز حتى يبيّن القدر وصفته وحلوله وتأجيله.
فإن تلف فإن الراهن يضمنه، نص عليه، لأن العارية مضمونة. وإن فك المعير الرهن بغير إذن الراهن، محتسبا بالرجوع، فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه.
وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية صح، وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم الرهن، لأنه لا تنافي بينهما، لأنه لو تعدى في الرهن ضمن. ولنا: أنه مأذون له في إمساكه رهناً لم يتجدد فيه منه عدوان، وقوله: لا تنافي بينهما، ممنوع لأن يد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة، ويد المرتهن يد أمانة، وهذان متنافيان، ولأن السبب المقتضي للضمان زال [فزال بزواله. وإذا تعدى في الرهن، ضمن لعدوانه لا لكونه غاصباً أو مستعيراً، وهنا زال السبب.
ويجوز للمرتهن أن يوكّل في قبض الرهن] ، 1 ويقوم وكيله مقامه في القبض وسائر الأحكام. وتصرف الراهن في الرهن لا يصح، إلا العتق، فإنه يصح، ويؤخذ منه قيمته فيجعل رهناً مكانه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر، فإن أذن فيه المرتهن صح، وبطل الرهن.
وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا غيره بغير رضى المرتهن، وقال مالك وغيره: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الديْن. وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم. وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع، وبنَوْه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن. وذكر أبو بكر في الخلاف:
1 زيادة من المخطوطة.
أن منافع الرهن تعطل مطلقاً. ولا يؤجره، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي. وقالوا: إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجاً من الرهن. ولنا: أن تعطيله تضييع للمال. وقد نهي عن إضاعته. ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أَمته المرهونة، وإن أذن له المرتهن في بيع الرهن أو هبته أو نحو ذلك صح، وبطل الرهن، إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً، أو يعجل ديْنه من ثمنه.
ونماء الرهن وغلاته تكون رهناً، وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يدخل في الرهن شيء من النماء المنفصل ولا من الكسب، حتى قال الشافعي: لو رهنه ماشية مخاضاً فنتجت، فالنتاج لا يدخل في الرهن. وخالفه أبو ثور وابن المنذر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه"، والنماء غنم فيكون للراهن. ولنا: أنه حكم ثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه النماء والمنافع. وأما الحديث فنقول به، وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن، لكن يتعلق به حق المرتهن، ومؤنته على الراهن. وقال أبو حنيفة: أجر المسكن والحافظ على المرتهن. ولنا: قوله: "الرهن من راهنه" الحديث، قال الدارقطني: إسناده جيد متصل، وإن كان الرهن نخلاً فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن. وكل زيادة تلزم الراهن فامتنع منها، أجبره الحاكم عليها، فإن لم يفعل اكترى الحاكم من ماله، وإن لم يكن له مال فمن الرهن؛ فإن بذلها المرتهن محتسباً بالرجوع، وقال الراهن: أنفقت متبرعاً، فقال: بل محتسباً، فالقول قول المرتهن، لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها، وعليه اليمين، لأن ما قال الراهن محتمل.
(فصل) : "وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف بغير تعدّ منه فلا شيء عليه". روي عن علي، وبه قال عطاء والزهري والشافعي. وروي عن شريح والنخعي والحسن: أن الراهن يضمنه بجميع الديْن وإن كان أكثر من قيمته، لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرهن بما فيه". وقال مالك: إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق لم يضمن، وإن ادعى تلفه بأمر خفي ضمن. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الديْن، لما روى عطاء:"أن رجلاً رهن فرساً فنفق عند المرتهن، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذهب حقك". ولنا: ما روى ابن أبي ذئب عن الزهري عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غُنمه، وعليه غُرمه". 1 فأما حديث عطاء فمرسل، وقوله يخالفه، قال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذاباً. والحديث الآخر إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه.
وإن رهن عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه. قال أحمد في رجلين رهنا داراً لهما عند رجل، فقضاه أحدهما: الدار رهن على ما بقي؛ وهذا محمول على أنه ليس للراهن مقاسمة المرتهن للضرر، لأن العين كلها تكون رهناً، لأنه إنما رهنه نصفها. وإن جعلا الرهن في يد عدل وادعى دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكر ولم يكن قضاه ببيّنة، ضمن. وعنه: لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل؛ وهكذا الحكم في الوكيل.
ولو تعدى المرتهن في الرهن ثم زال التعدي، أو سافر به ثم رده، لم يزل عنه الضمان لأن استئمانه زال بذلك.
وإذا
1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .
استقرض ذمي من مسلم مالاً ورهنه خمراً، لم يصح. فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها، لزمه قبوله، لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحة. قال عمر في أهل الذمة معهم الخمر:"ولّوهم بيعها، وخذوا أثمانها". وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح. فإن عزله صح عزله، وقال مالك: لا ينعزل، لأن وكالته صارت من حقوق الرهن. قال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك، فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع، وهذا يفتح باب الحيلة للراهن. فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول، أو إن جاءه بحقه في محله وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط، وفي صحة الرهن روايتان.
وعن أحمد: إذا شرط في الرهن أنه ينتفع به المرتهن أنه يجوز في البيع، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض.
وهل يفسد الرهن بالشروط الفاسدة، نصر أبو الخطاب صحته، لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغلق الرهن"، 1 ولم يحكم بفساده. قال أحمد: معناه لا يدفع رهناً إلى رجل يقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا، وإلا فالرهن لك.
قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: "لا يغلق الرهن" عند مالك والثوري وأحمد، وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر:"أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الأجل فقال الذي ارتهن: منزلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن". 2 وإذا قال: رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل، كان باطلاً، لأنه يضاهي ربا الجاهلية.
وإذا كان له على رجل ألف، فقال: أقرضني ألفاً بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين، فنقل حنبل عن أحمد:
1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .
2 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .
أن القرض باطل، لأنه قرض يجر منفعة. ونقل مهنا: أن القرض صحيح، ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط، كي لا يفضي إلى جر منفعة بالقرض، أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده.
وحكي عن مالك وأبي ثور: أنه يصح الرهن المجهول، ويلزمه أن يدفع إليه رهناً بقدر الديْن، قال أحمد: حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهناً، إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع.
(فصل) : وإذا كان الرهن محلوباً أو مركوباً، فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في ذلك، نص عليه. وعنه رواية أخرى: لا يحتسب، وهو متطوع، ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لقوله:"الرهن من راهنه، له غُنمه، وعليه غُرمه". ولنا: ما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، 1 فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع.
فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع، قلنا: لا يصح لأن في بعض الألفاظ: " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته ويركب"، 2 فجعل المنفق المرتهن، ولأن قوله:"بنفقته" يشير إلى أن الانتفاع عوض عن النفقة، والراهن إنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة، ولأن النفقة واجبة وللمرتهن فيه حق، وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن، كما يجوز للمرأة أخذ مؤونتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه. والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن فيه حق ولاية صرفه إلى نفقته لثبوت يده عليه. وأما غير المحلوب والمركوب كالعبد
1 البخاري: الرهن (2512)، والترمذي: البيوع (1254)، وابن ماجة: الأحكام (2440) ، وأحمد (2/472) .
2 أحمد (2/228) .
والأمة، فليس للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته، نص عليه. قال: الراهن لا ينتفع منه بشيء، إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قيل له: فإن كان الركوب واللبن أكثر؟ قال: لا، إلا بقدر. ونقل حنبل أن له استخدام العبد أيضاً، وبه قال أبو ثور. إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة، والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس.
وما لا يحتاج إلى مؤنة، كالدار والمتاع، فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن، لا نعلم فيه خلافاً. فإن أذن الراهن في الانتفاع بغير عوض وكان الديْن من قرض، لم يجز لأنه جر منفعة.
قال أحمد: أكره قرض الدور، وهو الربا المحض، يعني: إذا كانت الدار في قرض رهناً ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له جاز؛ روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق. وإن كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار بأجرة مثلها من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض.
ومتى استأجرها أو استعارها المرتهن، فظاهر كلام أحمد: أنها تخرج عن كونها رهناً، فمتى انقضت الإجارة والعارية عاد الرهن بحاله. قال في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها لصاحبها، خرجت من الرهن. فإذا رجعت إليه عادت رهناً.
ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضموناً، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه. وإن أنفق عليه بغير إذن الراهن مع إمكانه، فهو متبرع. وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم، فعلى روايتين، وقال شيخنا فيما إذا أنفق بغير
إذن الراهن بنية الرجوع مع إمكانه: أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى ديْنه بغير إذنه، وهذا أقيس، إذ لا يعتبر في قضاء الديْن العجز عن استئذان الغريم.
وإن انهدمت الدار فعمرها بغير إذن الراهن، لم يرجع به، رواية واحدة. وليس له أن ينتفع بها بقدر عمارتها، لأنها غير واجبة على الراهن، فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه.
وإذا جنى العبد المرهون على إنسان أو على ماله، تعلقت الجناية برقبته، وقدمت على حق المرتهن، بغير خلاف علمناه. فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره، وباقيه رهن. وقيل: يباع جميعه، ويكون باقي ثمنه رهناً، لأن التشقيص عيب ينقص به الثمن، وقد قال عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار". 1 ولا يحل للمرتهن وطء الجارية المرهونة إجماعاً، ويجب عليه الحد والمهر، وولده رقيق. وقال الشافعي: لا يجب المهر مع المطاوعة، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي". ولنا: أن المهر يجب للسيد، والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء، فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة، فقال تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} . 2 وإن وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد ولا مهر وولده حر. قال عبد الله: سألت أبي: عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها، ولا من رهن عنده؟ قال: إذا أيست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم، فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها.، فإن عرف بعد أربابها خيّرهم بين الأجر أو يغرم لهم؛ هذا الذي أذهب إليه.
وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن يكون عنده السنين
1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .
2 سورة النور آية: 33.
الكثيرة يئس من صاحبه: يبيعه ويتصدق بالفضل. فظاهره أنه يستوفي حقه. ونقل أبو طالب: لا يستوفي حقه من ثمنه، ولكن إن جاء صاحبه بعد وطلبه، أعطاه إياه وطلب منه حقه. وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه، ووفاه حقه منه، جاز.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لو أقرض غريمه ليرهنه على ما لَه عليه وعلى القرض، ففي صحته روايتان. وأما المكيل والموزون وما يلحق بهما قبل قبضه، فاختار الشيخ جواز رهنه. وجوز أحمد القراءة للمرتهن يعني: في المصحف، وعنه: يكره. نقل عبد الله: لا يعجبني بلا إذنه، ويلزم ربه بذله لحاجة. وقيل: يلزمه مطلقاً.
ولا يجوز رهن العبد المسلم لكافر. والوجه الثاني: يصح إذا شرطه في يد عدل مسلم، اختاره الشيخ. وقال: يجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على ديْن غيره كما يجوز أن يضمنه وأوْلى، وهو نظير إعارته للرهن. انتهى. وقيل: لا يصح عتق الموسر أيضاً، قال في الفائق: اختاره شيخنا.
قوله: فإن أذن له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد
…
إلخ، وقيل: يبيع بما رأى أنه أحظّ، اختاره القاضي، قلت: وهو الصواب. وإذا اختلفا في قدر الديْن فالقول قول الراهن، وقال الشيخ: القول قول المرتهن ما لم يدَّع أكثر من قيمة الرهن.
قوله: وإن انهدمت الدار فعمرها، لم يرجع
…
إلخ، فعلى هذا، لا يرجع إلا بأعيان آلته. وجزم القاضي في الخلاف الكبير: أنه يرجع بجميع ما عمر في الدار، لأنه من مصلحة الرهن. وقال الشيخ فيمن عمر وقفاً بالمعروف ليأخذ عوضه فيأخذه من مغلّه.