المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب أحكام الذمة - مختصر الإنصاف والشرح الكبير (مطبوع ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني)

[محمد بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب المياه

- ‌باب الآنية

- ‌باب الاستنجاء

- ‌باب السواك وسنية الوضوء

- ‌باب فروض الوضوء وصفته

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب نواقض الوضوء

- ‌باب الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب إزالة النجاسة

- ‌باب الحيض

- ‌‌‌كتاب الصلاة

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب الأذان والإقامة

- ‌باب شروط الصلاة

- ‌باب ستر العورة

- ‌باب اجتناب النجاسات

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌باب النية

- ‌باب صفة الصلاة

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب صلاة التطوع

- ‌باب صلاة الجماعة

- ‌باب صلاة أهل الأعذار

- ‌باب صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌كتاب الجنائز

-

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب زكاة بهيمة الأنعام

- ‌باب زكاة الخارج من الأرض

- ‌باب زكاة الأثمان

- ‌باب زكاة العروض

- ‌باب زكاة الفطر

- ‌باب إخراج الزكاة

- ‌باب أهل الزكاة

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة

- ‌باب ما يكره ويستحب، وحكم القضاء

- ‌باب صوم التطوع

- ‌كتاب الاعتكاف

-

- ‌كتاب المناسك

- ‌باب المواقيت

- ‌باب الإحرام

- ‌باب محظورات الإحرام

- ‌باب الفدية

- ‌باب جزاء الصيد

- ‌باب صيد الحرم

- ‌باب دخول مكة

- ‌باب صفة الحج

- ‌باب الفوات والإحصار

- ‌باب الهدي والأضحي

-

- ‌كتاب الجهاد

- ‌باب ما يلزم الإمام والجيش

- ‌باب قسمة الغنائم

- ‌باب حكم الأرضين المغصوبة

- ‌باب الفيئ

- ‌باب الأمان

- ‌باب الهدنة

- ‌باب عقد الذمة

- ‌باب أحكام الذمة

- ‌كاب البيع

- ‌باب الضمان

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الصلح

-

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الخيار

- ‌باب الربا والصرف

- ‌باب بيع الأصو ول الأثمان

- ‌باب السلم

- ‌باب القرض

-

- ‌كتاب الحجر

- ‌باب الوكالة

-

- ‌كتاب الشركة

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجارة

- ‌باب السبق

- ‌باب العارية

- ‌باب الغصب

- ‌باب الشفعة

- ‌باب الوديعة

- ‌باب احياء الموت

- ‌باب الجعالة

- ‌باب اللقطة

-

- ‌كتاب الوقف

- ‌باب الهبة والعطية

-

- ‌كتاب الوصايا

- ‌باب الموصى له

- ‌باب الموصى به

- ‌باب الموصى إليه

-

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب أركان النكاح وشروطه

- ‌باب المحرمات في النكاح

- ‌باب الشروط في النكاح

- ‌باب حكم العيوب في النكاح

- ‌باب نكاح الكفار

-

- ‌كتاب الصداق

- ‌باب الوليمة

- ‌باب عشرة النساء

- ‌كتاب الخلع

-

- ‌كتاب الطلاق

- ‌باب سنية الطلاق وبدعيته

- ‌باب صريح الطلاق وكنايته

- ‌باب الرجعة

- ‌كتاب العدد

- ‌كتاب الرضاع

-

- ‌كتاب النفقات

- ‌باب من أحق بكفالة الطفل

- ‌كتاب الجنايات

-

- ‌كتاب الديات

- ‌باب القسامة

- ‌باب الحدود

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد المحاربين

- ‌باب قتال أهل البغي

-

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الذكاة

- ‌كتاب الصيد

-

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب جامع الأيمان

- ‌باب النذر

-

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب أدب القاضي

- ‌باب طرق الحكم وصفته

- ‌باب حكم كتاب القاضي إلى القضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعوات والبينات

- ‌باب تعارض البيّنتين

-

- ‌كتاب الشهادات

- ‌باب شروط من تقبل شهاداته

-

- ‌كتاب الإقرار

- ‌باب ما يحصل به الإقرار

- ‌باب الإقرار بالمجمل

الفصل: ‌باب أحكام الذمة

‌باب أحكام الذمة

تقام عليهم الحدود فيما يعتقدون تحريمه، لحديث:"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين قد فجرا 1" الحديث. ويقرون على ما يعتقدون حله، إلا أنهم يمنعون من إظهاره. ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم، بحذف مقادم رؤوسهم، وترك الفرق.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

يصرف الفيء في المصالح، واختار الشيخ أنه لا حظ للرافضة فيه، وذكره في الهدي. وعن مالك وأحمد: يبدأ بالمهاجرين، ثم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز المفاضلة بينهم لمعنى فيهم، اختاره الشيخ.

ويحرم الأخذ من بيت المال، إلا بإذن الإمام. ولا يجوز الصدقة منه، وكذلك السرقة، ويسلمه للإمام، قال الشيخ: لو أتلفه ضمنه. والرسول والمستأمن لا يقيم سنة فصاعدا إلا بجزية، اختاره الشيخ. قوله: والأسير إذا أطلقه الكفار بشرط أن يقيم عندهم مدة، لزمه، قال الشيخ: لا ينبغي أن يدخل معهم في التزام الإقامة أبداً، لأن الهجرة واجبة عليه؛ ففيه التزام ترك الواجب، اللهم إلا أن يمنعوه من دينه، ففيه التزام ترك المستحب، وفيه نظر.

واختار في الرد على الرافضة أخذ الجزية [من كل فرق الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد نزول الجزية] بل كانوا قد أسلموا،

1 زيادة من المخطوطة ساقطة من الطبعة السلفية.

ص: 403

وقال في الاعتصام بالكتاب والسنة: من أخذها من الجميع، أو سوَّى بين المجوس وأهل الكتاب، فقد خالف الكتاب والسنة. وليس للإمام نقض عهدهم وتجديد الجزية عليهم، لأن عقد الذمة مؤبد، وقد عقده عمر معهم. واختار ابن عقيل جواز ذلك لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وقد فعله عمر بن عبد العزيز، واختاره الشيخ. ويكون العقد لازماً على الصحيح، يعني: عقد الهدنة، قال الشيخ: ويكون أيضاً جائزاً، فإن زاد على عشر سنين بطل في الزيادة. وإن هادنهم مطلقاً لم يصح. وقال الشيخ: يصح، وتكون جائزة ويعمل بالمصلحة، لأن الله أمر بنبذ العهود المطلقة وإتمام المؤقتة. وإن قال: هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان، لم يصح، وقيل: يصح. ولو قال: نقرّكم ما أقرّكم الله، لم يصح، وقال الشيخ: يصح. وإن منعناه في قوله: ما شئنا. قوله: ويأمره سراً بقتالهم والفرار منهم، قال في الترغيب وغيره: يعرِّض له أن لا يرجع إليهم. وإن سباهم كفار لم يجز لنا شراؤهم، وذكر الشيخ رواية منصوصة: يجوز شراؤهم من سابيهم. وفي الهدي في غزوة الفتح: أن أهل العهد إذا حاربوا من في ذمة الإمام، صاروا بذلك أهل حرب، فله أن يبيّتهم، وإنما يعلمهم إذا خاف منهم الخيانة، وأنه ينتقض عهد الجميع إذا لم ينكروا عليهم.

ومتى مات الإمام أو عُزل لزم مَن بعده الوفاء بعقده، لأنه لا ينتقض باجتهاد غيره، وجوَّز ابن عقيل وغيره نقض ما عقد الخلفاء الأربعة، نحو صلح تغلب، لاختلاف المصالح باختلاف الأزمنة.

ولا جزية على راهب، وقيل: بلى. ولا يبقي بيده مالاً إلا بُلْغته فقط، ويؤخذ ما بيده، قاله الشيخ. وقال: يؤخذ منهم ما لنا كالرزق الذي للديور والمزارع إجماعاً. [وقال: من له تجارة أو زراعة وهو مخالط لهم أو معاونهم

ص: 404

على دينهم، كمن يدعو إليه من راهب وغيره، فإنها تلزمه إجماعا] ، 1 وحكمه حكمهم بلا نزاع. ولا يُبدؤون بالسلام، وفيه احتمال: يجوز للحاجة، ومثله: كيف أصبحت؟ كيف حالك؟ وجوّزه الشيخ. وإذا سلّموا، ردّ عليهم، قال الشيخ: ترد تحيتهم، فقال: يجوز أن يقول له: أهلاً وسهلاً. وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان: إحداهما: أنه يجوز لمصلحة راجحة، كرجاء إسلامه، اختاره الشيخ.

وكره أحمد الدعاء بالبقاء لأحد، اختاره الشيخ. قوله: ويُمنعون من إحداث الكنائس والبِيع، قال الشيخ: إجماعاً. وقال الشيخ: يُمنعون من إظهار الأكل والشرب في رمضان، قال: ولو أبى من الصغار انتقض عهده. وقال في نصراني لعن مسلماً: تجب عقوبته بما يردعه وأمثاله عن ذلك.

وقال: قال أحمد فيمن زنى بمسلمة: يُقتل، قيل له: فإن أسلم؟ قال: وإن أسلم. هذا قد وجب عليه. قال الشيخ: من قهر قوماً من المسلمين، ونقلهم إلى دار الحرب، ظاهر المذهب: أنه يُقتل ولو بعد إسلامه، وأنه أشبه بالكتاب والسنة، كالمحارب. والله أعلم.

1 من النسخة الخطية.

ص: 405

كتاب البيع

وله صورتان:

إحداهما: الإيجاب والقبول، فإن تقدم القبول جاز، وإن تقدم بلفظ الطلب فقال: بِعني بكذا، فقال: بعتك، ففيه روايتان. وإن تقدم بلفظ الاستفهام: مثل أتبيعني؟ لم يصح. وإن تراخى القبول صح، ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه.

الثانية: المعطاة، وقال مالك يقع البيع بما يعتقده الناس بيعاً. وقال بعض الحنفية: يصح في خسائس الأشياء، لأن العرف إنما جرى به في اليسير. ولنا: أن الله تعالى أحلّ البيع، ولم يبيِّن كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولأن البيع كان موجوداً بينهم؛ وإنما علق الشرع عليه أحكاماً وأبقاه على ما كان، فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه استعمال الإيجاب والقبول، ولو اشترط ذلك لبيّنه صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً. وكذلك في الهبة والهدية والصدقة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال ذلك فيه.

ولا يصح إلا بشروط سبعة:

(أحدها) : التراضي به بينهما، لقوله تعالى: {إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ

ص: 406

تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . 1 إلا أن يُكره بحق، كالذي يُكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه.

(الثاني) : أن يكون العاقد جائز التصرف، فأما الصبي المميز والسفيه فيصح بإذن وليهما، في إحدى الروايتين. والأخرى: لا يصح، وهو قول الشافعي، لأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به للتصرف، فجعل له ضابط وهو البلوغ. ولنا: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، 2 معناه: اختبروهم لتعلموا رشدهم؛ فإن تصرف بغير إذن لم يصح إلا في اليسير، وكذلك غير المميز، لما روي:"أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله". ويحتمل أن يصح، ويقف على إجازة الولي، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك الحكم في تصرف السفيه بإذن وليه، فيه روايتان.

(الثالث) : أن يكون المبيع مالاً، وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة، فيجوز بيع دود القز وبزره والنحل؛ وقوله: لغير ضرورة، احتراز من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة. وكل عين مملوكة يجوز اقتناؤها والانتفاع بها في غير حال الضرورة، يجوز بيعها، إلا ما استثناه الشرع كالكلب وأم الولد. وقال أبو حنيفة: إن كان مع دود القز قز، جاز بيعه وإلا فلا، لأنه لا ينتفع بعينه؛ وقوله لا ينتفع بعينه، يبطل بالحيوانات التي لا يحصل منها سوى نفع النتاج. وقال القاضي: لا يجوز بيع النحل في كواراته، لأنه لا يمكن مشاهدة جميعه. وقال أبو الخطاب: يجوز كالصبرة. وفي بيع العلق التي ينتفع بها، كالتي تمص الدم، والديدان التي يصاد بها السمك، وجهان: أحدهما:

1 سورة النساء آية: 29.

2 سورة النساء آية: 6.

ص: 407

الجواز. ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد، إلا الكلب. وعن أحمد: أنه كره ثمن الهر، لما في صحيح مسلم:"أنه صلى الله عليه وسلم زجر عنه". ولنا: أنه حيوان يباح اقتناؤه، فجاز بيعه. ويمكن حمل الحديث على غير المملوك منها، وعلى ما لا نفع فيه. وقال ابن أبي موسى: لا يجوز بيع الفهد والصقر ونحوهما، لأنها نجسة كالكلب، وهذا يبطل بالبغل والحمار. وأما الكلب، فإن الشرع توعّد على اقتنائه، إلا للحاجة، ولقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، 1 خرج منه ما استثناه الشرع. قال أحمد: أكره بيع القرد، قال ابن عقيل: هذا محمول على بيعه للعب، فأما بيعه لحفظ المتاع ونحوه فيجوز، كالصقر؛ وهذا مذهب الشافعي.

فأما بيع لبن الآدميات، فرويت الكراهة فيه عن أحمد. واختلف أصحابنا في جوازه. وقال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة، ورخص في شرائها. و"ممن كره بيعها: ابن عمر وابن عباس وأبو موسى". ورخص فيه الحسن والشافعي. ولنا: قول الصحابة، ولم نعلم لهم مخالفاًً في عصرهم. ولا يجوز بيعه لكافر، وبه قال الشافعي، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن تناله أيديهم".

ولا يجوز بيع الميتة والخنزير والدم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به.

ولا يجوز بيع الكلب، أي كلب كان، ورخص في ثمن كلب الصيد عطاء. وأجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها. ولنا: ?"أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". 2 متفق عليه. فأما الحديث: "أنه نهى

1 سورة البقرة آية: 275.

2 البخاري: البيوع (2237)، ومسلم: المساقاة (1567)، والترمذي: النكاح (1133) والبيوع (1276)، والنسائي: الصيد والذبائح (4292) والبيوع (4666)، وأبو داود: البيوع (3428، 3481)، وابن ماجة: التجارات (2159) ، وأحمد (4/118، 4/119، 4/120)، ومالك: البيوع (1363)، والدارمي: البيوع (2568) .

ص: 408

عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد"، 1 فقال الترمذي: لا يصح إسناده، وقال الدارقطني: الصحيح أنه موقوف على جابر.

ولا يحل قتل الكلب المعلّم ولا غرم على قاتله. فأما قتل ما لا يباح إمساكه منها، فإن كان أسود بهيماً، أبيح قتله، لأنه شيطان، وكذلك الكلب العقور، لحديث: "خمس فواسق

إلخ". وما لا مضرة فيه، لا يباح قتله، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم نهى عنه وقال: عليكم بالأسود البهيم، ذي النقتطين؛ فإنه شيطان". 2 رواه مسلم.

ويحرم اقتناء الكلاب، إلا كلب الماشية والصيد والحرث، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من اتخذ كلباً، إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، نقص من أجره كل يوم قيراط". 3 متفق عليه. وإن اقتناه لحفظ البيوت لم يجز، للخبر؛ ويحتمل الإباحة، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأنه في معنى الثلاثة. والأول أصح، لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما تناول الخبر تحريمه. ويجوز تربية الجرو الصغير، لأجل الثلاثة، في أقوى الوجهين. والثاني: لا يجوز، لأنه ليس من الثلاثة.

ولا يجوز بيع السرجين النجس، وقال أبو حنيفة: يجوز لأن أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير، فكان إجماعاً. ولنا: أنه مجمع على نجاسته، فلم يجز بيعه كالميتة. ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك، كالمباحات قبل حيازتها، لا نعلم فيه خلافاً. ولا يجوز بيع الأدهان النجسة في ظاهر كلام أحمد، وعنه: يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها. وعن أبي موسى قال: "لتّوا به السويق وبيعوه، ولا تبيعوه من مسلم، وبيّنوه". والصحيح الأول، لقوله:"إن الله إذا حرّم شيئاّ حرّم ثمنه". 4 وفي جواز الاستصباح

1 مسلم: المساقاة (1569)، والترمذي: البيوع (1279)، والنسائي: البيوع (4668)، وأبو داود: البيوع (3479)، وابن ماجة: التجارات (2161) ، وأحمد (3/339، 3/349، 3/386) .

2 مسلم: المساقاة (1572) ، وأحمد (3/333) .

3 البخاري: المزارعة (2322)، ومسلم: المساقاة (1575)، والترمذي: الأحكام والفوائد (1489)، والنسائي: الصيد والذبائح (4289)، وأبو داود: الصيد (2844) ، وأحمد (2/345) .

4 أحمد (1/322) .

ص: 409

بها روايتان: روي عنه: أنه لا يجوز، لقوله:"وإن كان مائعاً، فلا تقربوه". وعنه: "إباحته، لأنه يروى عن ابن عمر"، وهو قول الشافعي. وكره أحمد أن يدهن منه الجلود، وقال: لا يجعل منه الأسقية. ونقل عن ابن عمر: "أنه يدهن بها الجلود"، وعجب أحمد من هذا. ولا يجوز بيع الترياق الذي فيه لحوم الحيات، لأن نفعه بالأكل، وهو محرم ولا يجوز التداوي به ولا بسمّ الأفاعي. فأما سم النبات، فإن أمكن التداوي بيسيره، جاز بيعه.

(الرابع) : أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه، فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه، لم يصح، وعنه: يصح، ويقف على إجازة المالك. والأولى: مذهب الشافعي وابن المنذر. والثانية: قول مالك وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة في البيع، وأما الشراء فيقع عنده للمشتري بكل حال، لما روى عروة البارقي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين ثم باع إحداهما في الطريق بدينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك ". 1 ووجه الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم: "لا تبع ما ليس عندك"، 2 ذكره جواباً له حين سأله أنه يبيع الشيء ويمضي ويشتريه ويسلّمه، وحديث عروة نحمله على أن وكالته مطلقة، لأنه سلّم وتسلّم، وليس ذلك لغير المالك أو وكيله باتفاقنا.

وإن اشترى في ذمته شيئاً لإنسان بغير إذنه صح، سواء نقد الثمن من مال الغير أم لا؛ فإن أجازه لزمه، وإلا لزم من اشتراه. وإن باع سلعة وصاحبها ساكت، فحكمه حكم ما لو باعها بغير إذنه، في قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: سكوته إقرار، لأنه يدل على الرضى، كسكوت البكر. ولنا: أن السكوت محتمل، فلم يكن إذناً، كسكوت الثيب. ولا يجوز بيع ما لا يملكه

1 البخاري: المناقب (3643)، والترمذي: البيوع (1258)، وأبو داود: البيوع (3384)، وابن ماجة: الأحكام (2402) .

2 الترمذي: البيوع (1232)، والنسائي: البيوع (4611، 4613)، وأبو داود: البيوع (3503، 3504)، وابن ماجة: التجارات (2188) ، وأحمد (2/174، 2/205، 3/402، 3/434) .

ص: 410

ليمضي ويشتريه ويسلّمه، رواية واحدة، ولا نعلم له مخالفاًً، لحديث حكيم بن حزام.

ولا يجوز بيع ما فتح عنوة ولم يقسم، كأرض الشام والعراق، إلا المساكن، وأرضاً من العراق فتحت صلحاً، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال الأوزاعي: لم يزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية، ويكرهه علماؤهم. وقال الثوري: إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم، توارثوها وتبايعوها؛ وروي نحوه عن ابن سيرين والقرظي، لما روي:"أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً، على أن يكفيه جزيتها". وروي عن أحمد أنه قال: كان الشراء هو: أن يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس، وهو رجل من المسلمين وكره البيع، قال شيخنا: وإنما رخص فيه لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع. ولنا: إجماع الصحابة، فإن قيل: خالف ابن مسعود، قلنا لا نسلم. وقولهم: اشترى المراد: اكترى، كذا قال أبو عبيد، لأنه لا يكون مشترياً لها وجزيتها على غيره. وروى عنه القاسم أنه قال:"من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار والذل". وإذا بيعت وحكم بصحته حاكم، صح كسائر المختلفات. وإن باع الإمام شيئاً لمصلحة رآها، مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج إلى عمارة ولا يعمره إلا من يشتريه، صح أيضاً.

ولا يجوز بيع رباع مكة، ولا إجارتها، وعنه: يجوز، وهو أظهر في الحجة؛ وما روي من الأحاديث في خلافه، فهو ضعيف.

ولا يجوز بيع كل ماء عدّ كمياه العيون ونقع البئر، ولا ما في المعادن الجارية، ولا ما ينبت في أرضه من الكلإ والشوك. وأما نفس البئر وأرض العيون، فهو مملوك، والماء غير مملوك، والوجه الآخر: يملك، روي عن أحمد نحو ذلك.

ص: 411

فإنه قيل له: رجل له أرض ولآخر ماء، يشتركان في الزرع يكون بينهما؟ قال: لا بأس، وكذا الكلأ النابت في أرضه، فكله يخرج على الروايتين في الماء. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله: عن قوم بينهم نهر، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أكريه بدراهم؟ قال: ما أدري. "أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء"، فقيل له: إنما أكريه، قال: إنما احتالوا بهذا ليحسنوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟ وروى الأثرم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"المسلمون شركاء في ثلاث: في النار، والكلإ، والماء"؛ 1 والخلاف فيه إنما هو قبل حيازته. فأما ما يحوزه من الماء في إنائه، أو يأخذه من الكلإ في حبله، أو يأخذه من المعادن، فإنه يملكه بغير خلاف، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع فيكفّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أُعطي أو مُنع". 2 رواه البخاري. وروى أبو عبيد: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء، إلا ما حمل منه". وعلى هذا مضت العادة في الأمصار من غير نكير. قال أحمد: إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره، و"قد اشترى عثمان بئر رومة من يهودي، وسبّلها للمسلمين"، وروي:"أنه اشترى منه نصفها وقال: اختر إما أن تأخذ يوماً وآخذ يوماً، وإما أن تنصب دلواً وأنصب دلواً. فاختار يوماً ويوماً. فكان الناس يسقون منها يوم عثمان لليومين. فقال اليهودي: أفسدت عليَّ بئري، فاشترِ باقيها. فاشترى باقيها". وفيه دليل على صحة بيعها، وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها، وكون مالكها أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك.

وإذا اشترى ممن في ماله حلال وحرام، كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال فهو حلال، وإن علم أنه من الحرام فهو حرام، وإن لم يعلم من أيهما

1 أبو داود: البيوع (3477) ، وأحمد (5/364) .

2 البخاري: الزكاة (1471)، وابن ماجة: الزكاة (1836) ، وأحمد (1/164، 1/167) .

ص: 412

هو كره ولم يبطل البيع. وهذه هي الشبهة؛ وبقدر كثرة الحرام وقلّته تكثر الشبهة وتقل، لحديث النعمان بن بشير. والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب:

الأول: ما أصله الحظر، كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون، فإنه لا يجوز شراؤها، وإن جاز أن تكون ذبيحة مسلم، لأن الأصل التحريم؛ والأصل فيه حديث عدي:"إذا أرسلت كلبك فخالط أكلباً لم يسمّ عليها، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله". 1 متفق عليه. فإن كان ذلك في بلد الإسلام، فالظاهر إباحتها، لأن المسلمين لا يقرّون بيع ما لا يجوز بيعه ظاهراً.

الثاني: ما أصله الإباحة، كالماء يجده متغيراً لا يعلم بنجاسة تغير أو غيرها، فهو طاهر لأن الأصل الطهارة؛ والأصل فيه حديث عبد الله بن زيد قال:"شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يُخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". 2 متفق عليه.

والثالث: ما لا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام، فهذا هو الشبهة. وكان أحمد لا يقبل جوائز السلطان، وذلك على سبيل الورع، فإنه قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة. وقال: ليس أحدٌ من المسلمين إلا له في هذه الدراهم نصيب، فكيف أقول: إنها سحت. و"ممن كان يقبل جوائزهم: ابن عمر وابن عباس"، ورخص فيه الحسن ومكحول والزهري. واحتج بعضهم بـ"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ومات ودرعه مرهونة عنده". 3 و"أجاب يهودياً دعاه، وأكل من طعامه". وقد أخبر الله أنهم {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} . 4 قال أحمد فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام: يتصدق بالثلاثة. وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة حرام، يتصدق بالعشرة،

1 البخاري: الوضوء (175)، ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929)، والترمذي: الصيد (1470)، والنسائي: الصيد والذبائح (4263، 4264)، وأبو داود: الصيد (2849)، وابن ماجة: الصيد (3208) ، وأحمد (4/256، 4/257)، والدارمي: الصيد (2002) .

2 البخاري: الوضوء (137)، ومسلم: الحيض (361)، والنسائي: الطهارة (160)، وأبو داود: الطهارة (176)، وابن ماجة: الطهارة وسننها (513) ، وأحمد (4/39) .

3 البخاري: السلم (2252)، ومسلم: المساقاة (1603)، والنسائي: البيوع (4609)، وابن ماجة: الأحكام (2436) ، وأحمد (6/160، 6/230) .

4 سورة المائدة آية: 42.

ص: 413

لأن هذا كثير. قيل له: قال سفيان: ما كان دون العشرة يتصدق به، وما كان أكثر يخرج. قال: نعم. لا يجحف به، ولأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه، وإنما حرم لتعلق حق غيره به، فإذا أخرج عوضه زال التحريم.

(الخامس) : أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع الآبق والشارد والطير في الهواء، وعن ابن عمر:"أنه اشترى من بعض ولده بعيراً شارداً"، وعن ابن سيرين: لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر". 1 [ثبت في الصحيح: "أنه نهى عن بيع الغرر" يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الأجنّة في البطون، وغير ذلك]2.

ولا يجوز بيع السمك في الآجام، روي عن ابن مسعود:"أنه نهى عنه وقال: إنه غرر"، وكرهه الحسن والنخعي، ولا نعلم لهم مخالفاًً. وروي عن عمر بن عبد العزيز فيمن له أجمة يحبس السمك فيها: يجوز بيعه. ولا يجوز بيع المغصوب، لعدم إمكان تسليمه؛ فإن باعه لغاصبه أو لقادر على أخذه جاز، وإن ظن أنه قادر صح البيع، فإن عجز فله الخيار بين الفسخ والإمضاء.

(السادس) : أن يكون معلوماً برؤية أو صفة، فإن اشترى ما لم يرهُ ولم يوصف له لم يصح، وعنه: يصح، وللمشتري خيار الرؤية، لعموم قوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، 3 ولما روي عن عثمان وطلحة:"أنهما تبايعا داريهما، إحداهما بالكوفة والأخرى بالمدينة. فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: ما أبالي، لأني بعت ما لم أره. وقيل لطلحة، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره. فتحاكما إلى جبير، فجعل الخيار لطلحة" ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى

1 ابن ماجة: التجارات (2195) ، وأحمد (1/302) .

2 زيادة من المخطوطة.

3 سورة البقرة آية: 275.

ص: 414

عن بيع الغرر"، 1 وحديث عثمان وطلحة يحتمل أنهما تبايعا بالصفة، وإن قلنا بالصحة فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية، وإن لم يره المشتري فلكل الخيار. وقال أبو حنيفة: لا خيار للبائع، لحديث عثمان. ولنا: أنه جاهل، فأشبه المشتري بصفة المعقود عليه. وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم، ورآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهراً، صح في إحدى الروايتين. ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له. وإن وجده متغيراً فله الفسخ. والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته من الثمن.

ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في التمر، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن بيع الملاقيح والمضامين غير جائز. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطن، والمضامين: ما في أصلاب الفحول. "ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة"، 2 ومعناه: نتاج النتاج. وعن ابن عمر "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم". ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لما روى ابن عباس، مرفوعاً:"نهى عن أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع". [رواه ابن ماجة، وحكي عن مالك أنه يجوز أياماً معلومة إذا عرفا حلابها، كلبن الظئر] ، 3 وأجازه الحسن وغيره. ولا يجوز بيع المسك في الفأر، وقال بعض الشافعية: يجوز لأن بقاءه في فأره مصلحة له، أشبه ما مأكوله في جوفه. وأما الصوف على الظهر فالمشهور أنه لا يجوز، وعنه: يجوز بشرط جزّه في الحال. فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق أو الشم صح، وإلا جاز بيعه بالصفة، وله خيار الخلف في الصفة. وقال أبو حنيفة: له الخيار إلى معرفة المبيع.

1 ابن ماجة: التجارات (2195) ، وأحمد (1/302) .

2 البخاري: البيوع (2143)، ومسلم: البيوع (1514)، والترمذي: البيوع (1229)، والنسائي: البيوع (4623، 4624، 4625)، وأبو داود: البيوع (3380)، وابن ماجة: التجارات (2197) ، وأحمد (1/56، 2/5، 2/10، 2/15، 2/76، 2/80، 2/108، 2/144)، ومالك: البيوع (1357) .

3 زيادة من المخطوطة.

ص: 415

ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إليَّ فهو عليّ بكذا، ولا بيع الحصاة وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا، أو بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، لا نعلم فيه خلافاً. وفي البخاري:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة"، 1 وهو طرح الرجل ثوبه [بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه]2.

ولا يجوز بيع عبد غير معيّن، ولا شجرة من بستان، ولا هذا القطيع إلا شاة غير معيّنة. وإن استثنى معيّنا من ذلك جاز، وقال مالك: يصح أن يبيع مائة شاة إلا شاة يختارها، وبيع ثمرة بستان ويستثنى ثمرة نخلات يعدّها. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، إلا أن تعلم". 3 قال الترمذي: حديث صحيح. وإن استثنى معيّناً جاز، لا نعلم فيه خلافاً. وإن باع قفيزاً من هذه الصبرة صح، لأنه معلوم. وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً، أو ثمرة شجرة إلا صاعاً، لم يصح؛ وعنه: يصح، لأنها ثنيا معلومة. روي عن ابن عمر:"أنه باع ثمرة بأربعة آلاف، واستثنى طعام الفتيان". وإن باع حيواناً واستثنى ثلثه جاز، وإن باعه أرضاً إلا جريباً، أو جريباً من أرض يعلمان جربانها، صح وكان مشاعاً فيها، وإلا لم يصح. وإن باعه حيواناً مأكولاً إلا جلده أو رأسه أو أطرافه صح، نص عليه، وقال الشافعي: لا يجوز. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم"، 4 وهذه معلومة. وروى أبو بكر في الشافي عن الشعبي قال: (قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقرة باعها رجل

1 البخاري: البيوع (2144)، وابن ماجة: التجارات (2170) ، وأحمد (3/6، 3/95) .

2 زيادة من المخطوطة.

3 النسائي: الأيمان والنذور (3880) .

4 النسائي: الأيمان والنذور (3880) .

ص: 416

واشترط رأسها، فقضى بالشروى يعني: أن يعطي رأساً مثل رأس (، فإن امتنع المشتري من ذبحها، لم يجبر ويلزمه قيمته، نص عليه، لما روي عن عليّ: (أنه قضى في رجل اشترى ناقة، واشترط ثنياها، وقال: اذهبوا إلى السوق، فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه بحساب ثنياها من ثمنها (. فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح، نص عليه أحمد. وإن استثنى الحمل لم يصح، وعنه: صحته، وبه قال إسحاق، لما روى نافع: (أن ابن عمر باع جارية واستثنى ما في بطنها (، والصحيح من حديثه: (أنه أعتق جارية (، لأن الثقات الحفاظ قالوا: (أعتق جارية (والإسناد واحد. وإن باع جارية حاملا بحرّ، فقال القاضي: لا يصح، والأولى صحته. وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ، كما لو باع جارية مزوّجة.

ويجوز بيع ما مأكوله في جوفه، لا نعلم فيه خلافاً. ويجوز بيع الطلع قبل تشققه مقطوعاً وفي شجره، وبيع الحب المشتد في سنبله. ويجوز بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره مقطوعاً وفي شجره. وقال الشافعي: لا يجوز حتى ينزع قشره الأعلى، لأنه مستور. ولنا:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". 1 والحيوان المذبوح يجوز بيعه في سلخه.

(السابع) : أن يكون الثمن معلوماً، فإن باعه بمائة ذهباً وفضة لم يصح، وقال أبو حنيفة: يصح، ويكون نصفين. وإن قال: بعتك بعشرة صحاح، أو إحدى عشرة مكسرة، وبعشرة نقداً، أو عشرين نسيئة، لم يصح، لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في بيعة". 2 وهذا هو كذلك فسّره مالك وغيره، وهذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب إلى أحدهما. وروي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف

1 البخاري: الزكاة (1487)، ومسلم: البيوع (1536)، والنسائي: البيوع (4523)، وأبو داود: البيوع (3373)، وابن ماجة: التجارات (2216) ، وأحمد (3/372، 3/381) .

2 الترمذي: البيوع (1231)، والنسائي: البيوع (4632) .

ص: 417

درهم، أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به البيع وأن يفرق بينهما. وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم صحَّ، وإن لم يعلما قدرها. وقال أبو حنيفة: يصح في قفيز واحد، ويبطل فيما سواه، لأن جملة الثمن مجهولة. وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح، لأن العدد منها مجهول، ويحتمل أن يصح بناء على قوله، إذا أجر كل شهر بدرهم، قال ابن عقيل: هو الأشبه. وإن قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة على أن أزيدك قفيزاً أو أنقصك قفيزاً لم يصح، لأنه مجهول. وإن قال: قفيزاً من هذه الصبرة الأخرى، أو وصفه بصفة يعلم بها، صح.

ويصح بيع الصبرة جزافاً مع جهلهما بقدرها، لا نعلم فيه خلافاً لقول ابن عمر: "كنا نشتري الطعام جزافاً

إلخ". ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة. وكذلك لو قال: بعتك نصفها أو جزءاً منها معلوماً. ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافاً. وقال مالك: لا يصح في الأثمان، لأن لها خطراً، ولا يشق وزنها ولا عددها. وإن كان البائع يعلم قدر الصبرة، لم يجز بيعها جزافاً؛ وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد، وبه قال مالك وإسحاق. قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، ولم ير الشافعي بذلك بأساً، لأنه إذا جاز مع جهلهما فمع العلم من أحدهما أولى. وروى الأوزاعي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من عرف مبلغ شيء، فلا يبعه جزافاً حتى يبيِّنه". وقال القاضي وأصحابه: هذا بمنزلة التدليس، إن علم به المشتري فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار، وهذا قول مالك. [وذهب بعض أصحابه إلى أن البيع فاسد، والنهي يقتضي الفساد] . 1 فإن أخبره بكيله ثم باعه بذلك صح، فإن قبضه باكتياله تم. وإن قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافاً. فإن كان المبيع باقياً كاله، فإن كان قدر حقه فقد استوفى، وإن زاد

1 زيادة من المخطوطة.

ص: 418

رد الفضل، وإن كان ناقصاً أخذ نقصه. وإن تلف فالقول قول القابض في قدره بيمينه. وليس للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله، لأن للبائع فيه علقة. ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل، لأن ذلك يمنع من معرفة كيله. وإن تصرف فيما يتحقق أنه مستحق له، مثل أن يكون حقه قفيزاً فيتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل، ففيه وجهان. فأما إن أعلمه بكيله ثم باعه إياه مجازفة، على أنه له بذلك الثمن زاد أو نقص، لم يجز، لما روى الأثرم بإسناده عن الحكم قال:"قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهبوا بنا إلى عثمان لنعينه على طعامه. فقام إلى جنبه، فقال عثمان: في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سميت الكيل فكِل". قال أحمد: إذا أخبره البائع أن في كل قارورة منّا، فأخذ بذلك ولا يكتاله، فلا يعجبني، لقوله لعثمان:"إذا سميت الكيل فكِلْ". قيل له: إنهم يقولون: إذا فتح فسد، قال: فلِم لا يفتحون واحدة ويذرون الباقي. ولو كال طعاماً وآخر يشاهده، فلمن يشاهده شراؤه بغير كيل ثان، وعنه: يحتاج إلى كيل، للخبر. ولو كاله البائع للمشتري ثم اشتراه منه فكذلك، لما ذكرناه.

وإن اشترى اثنان طعاماً فاكتالاه، ثم اشترى أحدهما حصة شريكه قبل تفرقهما، فهو جائز؛ وإن لم يحضر المشتري الكيل لم يجز إلا بكيل. وقال ابن أبي موسى: فيه رواية أخرى: لا بد من كيله. وإن باعه الثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز، ولم يحتج إلى كيل ثان، وقبضه بنقله كالصبرة. قال أحمد، في رجل يشتري الجوز فيعد في مكيل ألف جوزة، ثم يأخذ الجوز كله على ذلك العيار: لا يجوز. وقال في رجل ابتاع أعكاماً كيلاً، وقال للبائع: كل لي عكماً منها، وآخذ ما بقي على هذا الكيل: أكره هذا.

ص: 419

يكتالها كلها. قال الثوري: كان أصحابنا يكرهون هذا، وذلك لأن ما في العكوم يختلف، والجوز يختلف. وإن باعه الأدهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز، وكذلك العسل والدبس والمائعات التي لا تختلف. وإن وجد في ظرف الدهن ربّا، فقال ابن المنذر: قال أحمد وإسحاق: إن كان سمّاناً عنده سمن، أعطاه بوزنه سمناً، وإلا أعطاه بقدر الربّ من الثمن؛ وألزمه شريح بقدر الربّ سمناً بكل حال. وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح، ذكره القاضي، ويجيء على قول الخرقي أنه يصح.

ص: 420

فصل في تفريق الصفقة

وله ثلاث صور:

إحداها: بيع معلوم ومجهول، كهذه الفرس وما في بطن الأخرى بكذا، فهو باطل بكل حال، لا أعلم فيه خلافاً، لأن المعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن المجهول لا يمكن تقويمه.

الثانية: باعه مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، كعبد مشترك بينهما، صح في نصيبه بقسطه، ويفسد في نصيب الآخر. والثاني: لا يصح فيهما. وأصل الوجهين: أن أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين: إحداهما: يفسد فيهما. والثانية: يصح في الحرة. والأول: قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: لا يصح كالجمع بين الأختين وبيع الدرهم بدرهمين. ووجه الأولى: أن البيع سبب اقتضى الحكم في محلين، فامتنع حكمه في أحدهما لسهوه عن قبوله، فيصح في الآخر. وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر، فكذلك فيهما؛ ومتى حكمنا بالصحة هنا، فلا خيار لمشتر علم بالحال، وإلا فله الخيار، ولا خيار للبائع. ولو وقع العقد على شيئين يفتقر إلى القبض فيهما فتلف أحدهما قبل قبضه، فقال القاضي: للمشتري الخيار بين إمساك الباقي بحصته وبين الفسخ.

الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، ففيه روايتان:

ص: 421

إحداهما: يصح في أحدهما بقسطه. والثانية: يبطل الجميع. وللشافعي قولان. وأبطل مالك العقد فيهما، إلا أن يبيعه ملكه وملك غيره، فيصح في ملكه ويقف في ملك غيره على الإجازة. ونحوه قول أبي حنيفة، فإنه قال: إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص ولا إجماع، كالحرّ والخمر، لم يصح فيهما، وإن لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه. ومتى قلنا بالصحة، فللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً به. والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز كالحكم في البيع. وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد، فهل يصح؟ على وجهين: أحدهما: يصح، ويتقسط الثمن على قدر قيمتهما، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وإن جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف، صح، ويتقسط العوض عليهما في أحد الوجهين.

ولا يحل البيع بعد نداء الجمعة قبل الصلاة، فإن باع لم يصح، للنهي عنه.. ولا يثبت الحكم في حق من لا تجب عليه، وذكر ابن أبي موسى روايتين لعموم النهي، وذكرالقاضي رواية: أن البيع يحرم بزوال الشمس. ويصح النكاح وسائر العقود، لأن النهي مختص بالبيع وغيره ولا يساويه في الشغل لقلة وجوده.

ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب. وحكى ابن المنذر عن الحسن وغيره: أنه لا بأس ببيع التمر ممن يتخذه مسكراً، قال الثوري: بع الحلال ممن شئت. ولنا: قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، 1 فإن باعها لمن يتخذها خمراً، فالبيع باطل، ويحتمل أن يصح، وهو مذهب الشافعي، لأن المحرم في ذلك اعتقاده

1 سورة المائدة آية: 2.

ص: 422

بالعقد دونه، فلم يمنع الصحة كالتدليس. ولنا: أنه عقد على عين المعصية، كإجارة الأمة للزنى. وأما التدليس فهو المحرم دون العقد، ولأن التحريم هنا لحقّ الله، والتدليس لحق آدمي؛ وهكذا الحكم في كل ما قصد به الحرام، كبيع السلاح في الفتنة أو لقطاع الطريق، وبيع الأمة للغناء. ونص أحمد على مسائل نبه بها على ذلك، فقال في القصاب والخباز: إذا علم أن من اشترى منه يدعو عليه من يشرب المسكر، لا يبيعه. ومن يخرط الأقداح لا يبيعها لمن يشرب فيها. ونهى عن بيع الديباج للرجال. وقال في رجل مات وخلف جارية مغنية وولداً يتيماً تساوي ثلاثين ألف درهم، فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين ديناراً فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. وحكى ابن المنذر الإجماع أن بيع الخمر غير جائز. وعن أبي حنيفة: يجوز للمسلم أن يوكل ذمياً في بيعها وشرائها، ومن وكلهم في بيعها وأكل ثمنها فقد أشبههم، والتوكيل فيه كالميتة والخنزير.

ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر، إلا أن يكون ممن يعتق عليه، وقال أبو حنيفة: يصح ويجبر على إزالة ملكه.

وإن أسلم عبد لذمّي، أجبر على إزالة ملكه عنه، لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً، وليس له كتابته لأنها لا تزيل الملك عنه. ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، ولا شراؤه على شرائه وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ. فإن فعل فهل يصح؟ على وجهين.

وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسم الرجل على سوم أخيه"، 1 ولا يخلو من أربعة أقسام:

1 صحيح البخاري: كتاب الشروط (2727)، وصحيح مسلم: كتاب النكاح (1413) وكتاب البيوع (1515)، وسنن الترمذي: كتاب البيوع (1292)، وسنن النسائي: كتاب البيوع (4491، 4502) ، ومسند أحمد (2/411، 2/427، 2/457، 2/462، 2/487، 2/512، 2/516، 2/529) .

ص: 423

أحدها: أن يوجد من البائع صريح الرضى بالبيع، فهذا يحرم السوم عليه.

الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضى، فلا يحرم، "لأنه صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد"، حسنه الترمذي، وهذا إجماعاً، فإن المسلمين يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة.

الثالث: أن لا يوجد منه ما يدل على الرضى ولا عدمه، فلا يحرم السوم أيضاً، استدلالا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت له "أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة؛ وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه، كما نهى عن السوم على سومه".

الرابع: أن يظهر منه ما يدل على الرضى من غير تصريح، فقال القاضي: لا يحرم، وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة استدلالاً بحديث فاطمة، لأن الأصل إباحة السوم والخطبة، فخرج منه التصريح بالنص. قال شيخنا: ولو قيل بالتحريم ههنا، لكان حسناً، فإن النهي عام خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه على العموم؛ وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضى، لأنها جاءت مستشيرة، فكيف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تفوتينا بنفسك"1.

وبيع التلجئة باطل، لأنهما لم يقصداه، كالهازلين، وهو أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ماله، فيواطئ رجلاً على أن يظهر أنه اشتراه منه ليحتمي به، ولا يريدان بيعاً حقيقياً.

وفي بيع الحاضر للبادي روايتان: إحداهما: يصح. والأخرى: لا يصح بخمسة شروط: أن يحضر البادي لبيع سلعته بسعر يومها، جاهلاً بسعرها،

1 مسلم: الطلاق (1480) .

ص: 424

ويقصده الحاضر، وبالناس حاجة إليها. وظاهر كلام الخرقي: أنه يحرم بثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى البيع، فإن كان هو القاصد للحاضر جاز، لأن التضييق حصل منه لا من الحاضر.

الثاني: أن يكون البادي جاهلاً بالسعر، قال أحمد: إذا كان البادي عارفاً بالسعر لم يحرم، لأن التوسعة لا تحصل بتركه بيعها.

الثالث: أن يكون جلبها للبيع، فإن جاء بها ليأكلها أو يخزنها فليس لبيع الحاضر له تضييق.

وذكر القاضي شرطين آخرين:

أحدهما: أن يكون مريداً لبيعها بسعر يومها، فإن كان في نفسه ألا يبيعها رخيصة، فليس في بيعه تضييق.

الثاني: أن يكون بالناس حاجة إليها وضرر في تأخير بيعها. فأما شراؤه له فيصح، رواية واحدة؛ وكرهه طائفة أخرى، فروي عن أنس قال:"كان يقال: هي كلمة جامعة تقول: "لا تبيعنّ له شيئاً، ولا تبتاعنّ له شيئاً"". وأما إن أشار الحاضر عليه من غير أن يباشر البيع، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله وابن المنذر، وكرهه مالك والليث، وقول الصحابي أولى. وليس للإمام أن يسعّر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون. وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، واحتج بقول عمر لحاطب. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"، 1 وأمّا حديث عمر فقد روي فيه: "أنه لما رجع حاسَب نفسه، ثم أتى حاطباً فقال:

1 الترمذي: البيوع (1314)، وأبو داود: البيوع (3451)، وابن ماجة: التجارات (2200) ، وأحمد (3/156، 3/286)، والدارمي: البيوع (2545) .

ص: 425

إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد؛ فبع كيف شئت".

و"من باع سلعة بنسيئة، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، إلا إن تغيّرت صفتها"، روي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما، وأجازه الشافعي. ولنا: حديث عائشة، وقال ابن عباس في مثل هذه:"أرى مائة بخمسين، بينهما حريرة"، يعني: خرقة جعلاها في بيعها. والذرائع معتبرة، فإذا اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد، جاز بيعها لا نعلم فيه خلافاً، لأن التحريم لشبهة الربا؛ ولا ربا بين الأثمان والعروض. فإن باعها بنقد، ثم اشتراها بنقد آخر، فقال أصحابنا: يجوز، لأنه لا يحرم التفاضل بينهما. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية، وقال شيخنا: وهذا أصح، إن شاء الله. وهذه مسألة العِينة، روى أبو داود عن ابن عمر، مرفوعاً:"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"، 1 وهذا وعيد يدل على التحريم. وروي عن أحمد أنه قال: العِينة: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنقد ونسيئة، فلا بأس. وقال: أكره للرجل ألا يكون له تجارة غير العينة، لا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: إنما كره لمضارعته الربا. فإن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد: لا يجوز، إلا أن تتغير السلعة.

وإن باع ما يجري فيه الربا بنسيئة، ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه، وما لا يجوز بيعه به نسيئة، لم يصح، روي ذلك عن ابن عمر وغيره. وأجازه سعيد بن جبير وعلي بن الحسين والشافعي. ووجه التحريم: أنه ذريعة إلى

1 أبو داود: البيوع (3462) .

ص: 426

بيع الطعام بالطعام نسيئة، قال شيخنا: والذي يقوى عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة، ولا قصده في ابتداء العقد، كما قال علي بن الحسين.

والاحتكار حرام بثلاثة شروط:

أحدها: أن يشتري، قال الأوزاعي: الجالب ليس بمحتكر، لقوله:"الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون"1.

الثاني: أن يكون قوتا، فأما الإدام والعسل والزيتون وعلف البهائم فليس احتكاراً محرماً. قال أحمد: إذا كان من قوت الناس، فهو الذي يكره. وكان ابن المسيب يحتكر الزيت، وهو راوي الحديث.

الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه، ولا يحصل إلا بأمرين:

أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهلها الاحتكار، كالحرمين، قال أحمد: فظاهره أن البلد الواسعة كبغداد، لا يحرم فيها لأنه لا يؤثر غالباً.

الثاني: أن يكون في حال الضيق، فإن اشترى في حال الاتساع على وجه لا يضيق على أحد، لم يحرم.

ويستحب الإشهاد في البيع، لقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، 2 وأقل أحواله الندب. ويختص بما له خطر، فأما حوائج العطار والبقال وشبهها فلا يستحب، لأنه مما يشق ويقبح الإشهاد وإقامة البينة عليها. وقال قوم:"الإشهاد فرض"، روي عن ابن عباس وغيره، لظاهر الأمر، وقياساً على النكاح. ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، 3 قال أبو سعيد: صار الأمر إلى الأمانة، وتلا هذه الآية، و"لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من رجل فرساً ولم ينقل أنه أشهد، حتى شهد له خزيمة". وكان الصحابة يتبايعون في عصره بالأسواق، فلم يأمرهم بالإشهاد، ولا نقل

1 ابن ماجة: التجارات (2153)، والدارمي: البيوع (2544) .

2 سورة البقرة آية: 282.

3 سورة البقرة آية: 283.

ص: 427

عنهم فعله. والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب. ويكره البيع والشراء في المسجد، والبيع صحيح؛ وكراهته لا توجب الفساد كالغش والتصرية، وفي قوله:" قولوا: لا أربح الله تجارتك" 1 دليل على صحته.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

واختار الشيخ صحة البيع بكل ما عدّه الناس بيعاً، من متعاقب ومتراخ ومن قول أو فعل. وقال أيضاً: تجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تمليك. و"لا بأس بذوق المبيع عند المشتري"، نص عليه، لقول ابن عباس. ولو أكره على وزن مال فباع لذلك ملكه، كره الشراء وصح، وهو بيع المضطر. ونقل حنبل تحريمه وكراهته، واختار الشيخ تقي الدين الصحة من غير كراهة، وقال: من استولى على ملك غيره ظلماً، فطلبه صاحبه فجحده أو منعه إياه حتى يبيعه على هذا الوجه، فهذا مكره بغير حق. وسأله ابن الحكم عن رجل يقر بالعبودية حتى يباع، قال: يؤخذ البائع والمقر بالثمن؛ فإن مات أحدهما، أخد الآخر بالثمن. واختاره الشيخ تقي الدين، قال في الفروع: ويتوجه هذا في كل غارّ. وقال مهنا: سألت أبا عبد الله: عن السلم في البعر والسرجين؟ قال: لا بأس به. وفي جواز الاستصباح بها أي: الأدهان النجسة، روايتان.

إحداهما: يجوز، وهو المذهب، اختاره الشيخ تقي الدين وغيره. واختار أيضاً جواز الانتفاع بالنجاسات، وقال: سواء في ذلك شحم الميتة وغيره، أومأ إليه في رواية ابن منصور؛ وإنما حرم بيع رباع مكة وإجارتها، لأن الحرم حريم البيت والمسجد الحرام، وقد جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد التخصيص بملكه وتحجيره؛ لكن إن احتاج إلى ما في يده

1 الترمذي: البيوع (1321)، والدارمي: الصلاة (1401) .

ص: 428

منه سكنه، وإن استغنى عنه وجب بذل فاضله للمحتاج إليه، وهو مسلك ابن عقيل في نظرياته، وسلكه القاضي في خلافه، واختاره الشيخ تقي الدين، وتردد كلامه في جواز البيع، فأجازه مرة ومنعه أخرى.

ولا يجوز بيع كل ماء عدّ، ولا ما نبت في أرضه من الكلإ والشوك، وجوّز ذلك الشيخ في مقطوع محسوب عليه يريد تعطيل ما يستحقه من زرع وبيع الماء. قال في الاختيارات: ويجوز بيع الكلإ ونحوه الموجود في أرضه، إذا قصد استنباته يعني: ترك الزرع لينبت الكلأ، وإذا لم ير المبيع فتارة يوصف له وتارة لا يوصف، فإن لم يوصف لم يصح، وعنه: يصح، واختاره الشيخ في موضع وضعفه في موضع آخر. فعليها، له خيار الرؤية، وعنه: لا خيار إلا بعيب.

الثاني: بيع موصوف غير معيّن، مثل أن يقول: بعتك عبداً تركياً، ثم يستقصي صفات السلم، فمتى سلم إليه غير ما وصف فردّه فأبدله، لم يفسد العقد، وقيل: لا يصح البيع، وقيل: يصح إن كان في ملكه، وإلا فلا، اختاره الشيخ. وذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعةن لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. قال الشيخ: إن باعه لبناً موصوفاً في الذمة، واشترط كونه من شاة أو بقرة معينة، جاز.

قوله: ولا المسك في الفأر، ووجه صاحب الفروع تخريجاً بالجواز، واختار صاحب الهدي قوله: ولا الصوف على الظهر، وعنه: يجوز بشرط جزه في الحال. واختار الشيخ صحة البيع وإن لم يسمّ الثمن، وله ثمن المثل، كالنكاح. واختار صحة بيع السلعة برقمها، وبما ينقطع به السعر، وبما باع به فلان. قوله: الثالثة: باع عبده وعبد غيره

إلخ، متى صح البيع كان للمشتري

ص: 429

الخيار، ولا خيار للبائع. وقال الشيخ: يثبت له الخيار أيضاً. وقال: يجوز الجمع بين البيع والإجارة في أظهر قولهم.

ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً إذا علم أنه يفعل ذلك، وقيل: أو ظنه، اختاره الشيخ. وقال: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ الزيادة أو عوضها. قال: واستئجاره على استئجار أخيه، واقتراضه على اقتراضه، واتهابه على اتهابه، مثل شرائه على شرائه، أو شرائه على اتهابه، ونحو ذلك، بحيث تختلف جهة الملك. قوله: وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة، ثم اشترى منه بثمن قبل قبضه من جنسه، أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، لم يجز؛ واختار المصنف الصحة مطلقاً إذا لم يكن حيلة، واختار الشيخ الصحة إذا كان ثم حاجة، وإلا فلا. وكره أحمد البيع والشراء من مكان ألزم الناس بهما فيه، والشراء بلا حاجة من جالس على الطريق، ومن بائع مضطر ونحوه. ويجبر المحتكر على بيعه كبيع الناس، فإن أبى وخيف التلف فرقه الإمام ونحوه، ويردون مثله، وكذا سلاح لحاجة، قاله الشيخ. انتهى كلام الإنصاف.

ص: 430

‌باب الشروط في البيع

وهي ضربان: (صحيح) وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: شرط مقتضى البيع، كالتقابض، فهذا لا يؤثر إلا تأكيداً.

الثاني: شرط من مصلحة العقد، كتأجيل الثمن أو الرهن أو الضمين أو كون العبد كاتباً أو صانعاً، فهو صحيح يلزم الوفاء به، وإلا فللمشتري الفسخ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون عند شروطهم". ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً. فإن شرطها ثيباً فبانت بكراً، فلا خيار له لأنه زاده خيراً. وإن شرط الشاة لبوناً صح، وقال أبو حنيفة: لا يصح، لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع. ولنا: أنه أمر مقصود يأخذ جزءاً من الثمن، كالصناعة في الأمة؛ وإنما لم يجز بيعه منفرداً للجهالة، والجهالة فيما كان تبعاً لا تمنع الصحة؛ ولذلك يصح بيع أساسات الحيطان، والنوى في التمر، وإن لم يجز بيعهما مفردين. وإن شرط أنها تحلب كل يوم قدراً معلوماً لم يصح، لأنه يتعذر الوفاء به. وإن شرطها غزيرة اللبن صح. وإن شرطها حاملاً صح. وقال القاضي: قياس المذهب ألا يصح، لأن الحمل لا حكم له، ويحتمل أنه ريح. ولنا: أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها كالصناعة، وقوله: لا حكم له، لا يصح، فـ"إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها، ومنع أخذ الحوامل في الزكاة، ومنع وطء الحبالى المسبيات، وأرخص للحامل في الفطر

ص: 431

في رمضان إذا خافت على ولدها، ومنع من إقامة الحدود عليها من أجل حملها".

الثالث: أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع، كسكنى الدار شهراً، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، كحمل الحطب أو تكسيره، وقال الشافعي: لا يصح لأنه يروى "أنه نهى عن بيع وشرط". ولنا: ?"أن جابراً باع للنبي صلى الله عليه وسلم جملاً، واشترط ظهره إلى المدينة"، 1 و"لأنه نهى عن الثنيا إلا أن تعلم". 2 ولم يصح النهي عن بيع وشرط. [قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع] . 3 وإن باع المشتري العين صح، وتكون في يد الثاني مستثناة أيضاً. فإن كان عالماً بذلك فلا خيار له، وإلا فله خيار الفسخ. وإن أتلف المشتري العين فعليه أجرة المثل، وإن تلفت بتفريطه فكفعله، نص عليه. فأما إن تلفت بغير فعله وتفريطه لم يضمن، قال الأثرم: قلت: لأبي عبد الله: فعلى المشتري أن يحمله على غيره، لأنه كان له حملان؟ قال: لا. إنما شرط عليه هذا بعينه. ولا يجوز للبائع إجارتها أي: المنفعة، إلا لمثله في الانتفاع. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوباً ويشترط خياطه، واحتج أحمد في جواز الشرط، بأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها، قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع. فإن تعذر العمل بتلف المبيع أو موت البائع، رجع بعوض ذلك. وإن تعذر بمرض، أقيم مقامه من يعمل والأجرة عليه. وإن أراد المشتري أخذ العوض وتراضيا، احتمل الجواز، ويحتمل أن لا يجوز. وإذا اشترى زرعاً وجزة من الرطبة أو ثمرة، فالحصاد والجز والجذاذ على المشتري، بخلاف الكيل والوزن والعدد، فإنه على البائع، لأنها مؤنة تسليم المبيع، وهنا حصل التسليم بالتخلية، بدليل جواز

1 البخاري: الوكالة (2309) .

2 النسائي: الأيمان والنذور (3880) .

3 زيادة من المخطوطة.

ص: 432

بيعها والتصرف فيها، وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن شرطه على البائع، فقال ابن أبي موسى: لا يجوز، وقيل: يجوز.

وإن جمع بين شرطين لم يصح، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط، فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع". 1 واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما: فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد. وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين: أن يشتريها على أن لا يبيعها من أحد، ولا يطأها، ففسره بشرطين فاسدين. وروى عنه إسماعيل بن سعيد في الشرطين: أن يقول: إذا بعتها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة، فظاهره أن النهي عنهما ما كان من هذا النحو.

الثاني: (فاسد)، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يشترط على صاحبه عقداً آخر، فهذا يبطل البيع، لحديث:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، 2 قال الترمذي: حديث صحيح، ولأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في بيعة"، 3 وهذا منه، قاله أحمد، وكذلك ما في معناه، كقوله: على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، قال ابن مسعود:"صفقتان في صفقة ربا"، وهذا قول الجمهور، وجوزه مالك، وجعل العوض المذكور في الشرط فاسداً، وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير. ولنا: الخبر، وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح، لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسداً فكيف يكون صحيحاً. ويحتمل أن يصح البيع ويبطل الشرط.

1 الترمذي: البيوع (1234)، والنسائي: البيوع (4629)، وأبو داود: البيوع (3504) ، وأحمد (2/178)، والدارمي: البيوع (2560) .

2 الترمذي: البيوع (1234)، والنسائي: البيوع (4611، وأبو داود: البيوع (3504) ، وأحمد (2/205)، والدارمي: البيوع (2560) .

3 الترمذي: البيوع (1231)، والنسائي: البيوع (4632) .

ص: 433

الثاني: شرط ما ينافي مقتضى البيع، نحو لا خسارة عليه، وأن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، أو إن أعتق فالولاء له، أو يشترط أن يفعل ذلك، فهذا باطل، لحديث بريرة. وهل يبطل البيع؟ على روايتين. قال القاضي: المنصوص عن أحمد: أن البيع صحيح؛ وإذا حكمنا بالصحة، فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إذا كان هو المشترط، ويحتمل أن يثبت له الخيار ولا يرجع بشيء، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء إلا إذا اشترطوا العتق"، ففي صحته روايتان: إحداهما: يصح، وهو مذهب مالك، لأن أهل بريرة اشترطوا عتقها وولاءها، فـ"أنكر صلى الله عليه وسلم اشتراط الولاء دون العتق"، والثانية: فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة، وليس في الحديث أنها شرطت لهم العتق، إنما أخبرتهم أنها تريد ذلك من غير شرط، فاشترطوا ولاءها. فإن حكمنا بصحته فلم يعتق، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر. والثاني: لا يجبر، كما لو شرط الرهن والضمان، فللبائع خيار الفسخ، لأنه لم يسلم ما شرطه، أشبه ما لو شرط رهناً فلم يف به. وعنه: فيمن باع جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، أن البيع جائز، لما روي عن ابن مسعود قال:"ابتعت من امرأتي زينب جارية، وشرطت لها: إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به. فذكر ذلك لعمر فقال: لا تقربها ولأحد فيها شرط". فقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته، وروى عنه المروذي أنه قال: هو في معنى: لا شرطان في بيع، قال شيخنا: يحتمل أن يحمل كلامه على فساد الشرط، والأولى على جواز البيع؛ ومتى حكمنا بفساد العقد، لم يثبت به ملك، سواء اتصل به القبض أو لا، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه. وقال أبو حنيفة: يثبت الملك فيه إذا اتصل به القبض، وللبائع

ص: 434

الرجوع فيه، فيأخذه مع زيادته المتصلة، إلا أن يتصرف فيه المشتري تصرفاً يمنع الرجوع، فيأخذ قيمته، لحديث بريرة.

الثالث: أن يشترط شرطاً يعلق البيع، كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو رضي فلان، فلا يصح، وكذلك إذا قال: إن جئتك بحقك في محله، وإلا فالرهن لك، فلا يصح، إلا بيع العربون، فقال أحمد: يصح، لأن عمر فعله، وممن روي عنه القول بفساد الشرط: ابن عمر وشريح ومالك، ولا نعلم أحداً خالفهم، لحديث:"لا يغلق الرهن". 1 وضعف أحمد حديث العربون في النهي عنه. وإن قال: بعتك على أن تنقد لي الثمن إلى ثلاث، أو مدة معلومة، وإلا فلا بيع بيننا، صح، وقال به أبو ثور: إذا كان إلى ثلاث، وقال الشافعي وزفر: البيع فاسد.

وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب، لم يبرأ، وعنه:"يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه"، روي ذلك عن عثمان، ونحوه عن زيد بن ثابت؛ وهو قول مالك، وقول الشافعي في الحيوان خاصة؛ ويتخرج أن يبرأ من العيوب كلها بالبراءة بناء على جواز البراءة من المجهول، لما روت أم سلمة:"أن رجلين اختصما في مواريث درست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما وتوخّيا، وليحلّل كل واحد منكما صاحبه "، وهذا يدل على أن البراءة من المجهول جائزة. وإذا قلنا بفساد هذا الشرط، لم يفسد به البيع، لقصة ابن عمر فإنهم أجمعوا على صحتها. وإن باعه داراً أو ثوباً على أنه عشرة أذرع، فبان أحد عشر، فالبيع باطل، لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزيادة، ولا المشتري على أخذ البعض. وعنه: أنه يصح، والزيادة للبائع. وإن اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة، فبانت أحد عشر، رد الزيادة، ولا خيار له ههنا، لأنه لا ضرر في أخذ الزيادة.

1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .

ص: 435

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

قوله: وإن جمع بين شرطين لم يصح، وعنه: يصح، اختاره الشيخ، ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فإن كانا منه صح على الصحيح من المذهب، وعنه: لا يصح، اختاره في المجرد. قوله: شرط ما ينافي مقتضى العقد، نحو أن لا خسارة عليه، أو إن أعتق فالولاء له، فهذا باطل، ولا يبطل العقد على الصحيح من المذهب، وللذي فات غرضه الفسخ، أو أرش ما نقص من الثمن، بل إلغاؤه مطلقاً، وقيل: بل يختص ذلك بالجاهل بفساد الشرط، جزم به في الفائق. وقيل: لا أرش له، بل يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء، قال الشيخ: هذا ظاهر المذهب. قال الشيخ: نقل علي بن سعيد فيمن باع شيئاً وشرط عليه أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، جواز البيع والشرط. وسأله أبو طالب: عمن اشترى أمة بشرط أن يشتريها للخدمة؟ قال: لا بأس به. وروي عنه أي: أحمد، نحو عشرين نصاً على صحة هذا الشرط. قال: وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركاً في البيع مما هو مقصود البائع أو للمبيع نفسه، صح البيع والشرط، كاشتراط العتق.

واختار الشيخ صحة العقد والشرط في كل عقد وكل شرط لم يخالف الشرع، لأن إطلاق الاسم يتناول المنجّز والمعلق والصريح والكناية، كالنذور، كما يتناوله بالعربية والعجمية. ولو علق عتق عبده على بيعه، فباعه، عتق وانفسخ البيع، نص عليه. وقال الشيخ: إن قصد اليمين دون التبرر، أجزأه كفارة يمين، لأنه إذا باعه خرج عن ملكه، فبقي كنذره أن يعتق عبد غيره. وإن قصد التقرب صار عتقاً مستحقاً كالنذر، فلا يصح بيعه ويكون العتق معلقاً على صورة البيع. قوله الثالث: اشترط شرطاً يعلق البيع، كقوله: بعتك إن جئتني

ص: 436

بكذا، قال في الفائق: نقل عن أحمد تعليقه فعلاً منه، قال الشيخ: هو الصحيح، وهو المختار. انتهى. قوله: أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، فلا يصح، وهو معنى قوله:"لا يغلق الرهن". 1 وقال الشيخ: لا يبطل الثاني أي: الشرط، وإن لم يأته صار له، وفعله الإمام أحمد، قاله في الفائق. وقال: قلت: فعليه غلق الرهن، استحقاق المرتهن له بوضع العقد لا بالشرط، كما لو باعه منه. قوله: وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب، لم يبرأ، وعنه: يبرأ، إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه، اختاره الشيخ.

1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .

ص: 437

‌باب الخيار

وهو سبعة أقسام:

(أحدها: خيار المجلس) ، والمرجع في التفرق إلى عرف الناس. ولو ألحقا في العقد خياراً بعد لزومه، لم يلحقه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلحقه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار حتى يفترقا، إلا أن يكون صفقة خيار. ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". 1 رواه الترمذي وحسنه، وقوله:"إلا أن يكون صفقة خيار" 2 يحتمل أنه البيع المشروط فيه الخيار، فإنه لا يلزم بتفرقهما. ويحتمل أنه الذي شرط أن لا يكون فيه خيار، فيلزم بمجرد العقد. وظاهر الحديث: تحريم مفارقة أحدهما صاحبه خشية الفسخ. قال أحمد لما ذكر له الحديث وفعل ابن عمر قال: هذا الآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن أحمد أن الخيار لا يبطل بالتخاير ولا بالإسقاط، لأن أكثر الروايات:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" 3 من غير تقييد. وعنه: أنه يبطل بالتخاير، وهو الصحيح، لقوله:"فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع"، 4 وفي لفظ:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يكون البيع كان عن خيار؛ فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع". 5 متفق عليه. والتخاير من ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد. وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء العقد قولان: أحدهما: لا يقع لأنه إسقاط للحق قبل سببه. ولنا: ما ذكرنا من حديث

1 الترمذي: البيوع (1247)، والنسائي: البيوع (4483)، وأبو داود: البيوع (3456) .

2 الترمذي: البيوع (1247)، والنسائي: البيوع (4483)، وأبو داود: البيوع (3456) .

3 البخاري: البيوع (2110)، ومسلم: البيوع (1532)، والترمذي: البيوع (1246)، والنسائي: البيوع (4457، 4464)، وأبو داود: البيوع (3459) ، وأحمد (3/402، 3/403، 3/434)، والدارمي: البيوع (2547) .

4 مسلم: البيوع (1531) .

5 البخاري: البيوع (2107)، والنسائي: البيوع (4467) ، وأحمد (2/9) .

ص: 438

ابن عمر، فإن قال أحدهما لصاحبه: اختر، فالساكت على خياره، وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره، لقوله:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر ". 1 رواه البخاري، ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه؛ ويحتمل أن لا يبطل. ويحتمل الحديث على أنه خيره فاختار، كما لو جعل لزوجته الخيار، فلم تختر شيئاً. والأول أولى، لظاهر الحديث، ويفارق الزوجة لأنه ملكها ما لم تملك، فإذا لم تقبل سقط. وهنا كل واحد منهما يملك الخيار، فلم يكن قوله تمليكاً، إنما هو إسقاط فسقط.

(الثاني: خيار الشرط) وإن طال، وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة، مثل قرية لا يصل إليها في أقل من أربعة أيام، وقال الشافعي: لا يجوز أكثر من ثلاث، لما روي عن عمر أنه قال:"لا أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان، جعل له الخيار ثلاثة أيام". ولنا: أنه حق يعتمد الشرط، فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل، ولم يثبت ما روي عن عمر؛ وقد "روي عن أنس خلافه". وتقدير مالك بالحاجة لا يصح، فإنه لا يمكن ضبط الحكم بها لخفائها واختلافها. وقولهم: إن الخيار ينافي مقتضى البيع، لا يصح، لأن مقتضاه نقل الملك، والخيار لا ينافيه وإن سلمنا ذلك، لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل، وجب تعدية الحكم لتعدي ذلك المعنى.

ولا يجوز مجهولاً كنزول المطر، وعنه: يجوز، وهما على خيارهما، إلا أن يقطعاه، أو تنتهي مدته إن كان مشروطاً إلى مدة. وقال مالك: يصح، ويضرب لهما مدة يختبر المبيع بمثلها في العادة، لأن ذلك مقدر في العادة؛ فإذا أطلقا حمل عليه. وإذا قلنا: يفسد الشرط، فهل يفسد البيع؟ على روايتين: إحداهما: يفسد كنكاح الشغار. والثانية: لا يفسد العقد، لحديث بريرة.

1 البخاري: البيوع (2109)، ومسلم: البيوع (1531)، والترمذي: البيوع (1245)، والنسائي: البيوع (4465، 4466، 4467، 4468، 4469، 4470، 4471، 4473، 4474، 4480)، وأبو داود: البيوع (3454) ، وأحمد (1/56، 2/4، 2/9، 2/73)، ومالك: البيوع (1374) .

ص: 439

وإن شرطه إلى الحصاد والجذاذ، احتمل أن يصح، لأنه لا يكثر تفاوته ولا يثبت إلا في البيع، والصلح بمعناه. والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد، فأما الإجارة المعينة التي تلي العقد فلا، لأن دخوله يقتضي فوات بعض المنافع المعقود عليها، واستيفاءها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز. وذكر القاضي مرة مثل هذا، ومرة قال: يثبت فيها خيار الشرط، قياساً على البيع. وإن شرطاه إلى الغد، لم يدخل في المدة، وعنه: يدخل. وإن شرطاه مدة، فابتداؤها من حين العقد؛ ويحتمل أن يكون من حين التفرق. وإن شرط الخيار لغيره جاز، وكان توكيلاً له فيه.

وإن قال: بعتك على أن استأمر فلاناً، وحدَّ ذلك بوقت معلوم، فهو خيار صحيح، وله الفسخ قبل أن يستأمره، لأنّا جعلناه كناية عن الخيار. وإن لم يضبطه بمدة، فهو مجهول، فيه من الخلاف ما ذكرنا. وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه، صح، ولمن له الخيار الفسخ بغير حضور صاحبه، ولا رضاه. وقال أبو حنيفة: ليس له الفسخ إلا بحضور صاحبه، كالوديعة. وما ذكره ينتقض بالطلاق، والوديعة لا حق للمودع فيها، ويصح فسخها مع غيبته. فإن قال أحدهما عند العقد: لا خلابة، فقال أحمد: ذلك جائز، وله الخيار إن خلبه، لحديث:"إذا بايعت، فقل: لا خلابة! "، 1 ويحتمل أن يكون الخبر خاصاً بحبان، لأنه روي "أنه عاش إلى زمن عثمان، فكان يبايع الناس ثم يخاصمهم، فيمر به بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثاً"، وهذا يدل على اختصاصه به. وقال بعض الشافعية: إن كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار لثلاث، ثبت، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال". 2 ولنا: أن هذا اللفظ لا يقتضي الخيار مطلقاً، ولا تقييده بثلاث.

1 البخاري: البيوع (2117)، ومسلم: البيوع (1533)، والنسائي: البيوع (4484)، وأبو داود: البيوع (3500) ، وأحمد (2/44، 2/61، 2/72، 2/80، 2/84، 2/107، 2/116، 2/129)، ومالك: البيوع (1393) .

2 ابن ماجة: الأحكام (2355) .

ص: 440

والخبر الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجة مرسلاً، ثم لم يقولوا به على وجه، إنما قالوا به في حق من يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثاً، ولا يعلم ذلك أحد، لأن اللفظ لا يقتضيه.

وإذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض، ليأخذ غلة المبيع، فلا خيار فيه. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد رفقاً به، كأن يقرضه ما لا يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئاً وجعل له الخيار، ولم يُرد الحيلة؟ فقال: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار، ولم يكن لورثته؛ وقوله محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع به في مدة الخيار، لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة. وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد، وعنه: لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، وبه قال أبو حنيفة، إذا كان الخيار لهما أو للبائع، وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، لأنه عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض. وللشافعي قول ثالث: أن الملك موقوف، فإن أمضاه تبينا أن الملك للمشتري، وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع". 1 متفق عليه، فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع. وثبوت الخيار لا ينافي كما لو باع عرضاً بعوض، فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيباً. وقولهم: إنه قاصر، غير صحيح، وجواز فسخه لا يوجب قصوره، ولا يمنع نقل الملك كبيع المعيب، وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير، فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون، فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له، أمضيا العقد أو فسخاه. قال أحمد فيمن اشترى عبداً ووهب له مال قبل التفرق، ثم اختار البائع العبد: فالمال للمشتري. وقال الشافعي: إن أمضيا

1 البخاري: المساقاة (2379)، والترمذي: البيوع (1244)، والنسائي: البيوع (4636)، وأبو داود: البيوع (3433)، وابن ماجة: التجارات (2211) ، وأحمد (2/9، 2/82)، والدارمي: البيوع (2561) .

ص: 441

العقد، وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف، فالنماء له. وإن فسخاه، وقلنا: الملك للبائع أو موقوف، فالنماء له، وإلا فهو للمشتري. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". 1 قال الترمذي: حديث صحيح. وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له. وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه، ولم يكن مكيلاً ولا موزوناً. وإن اشترى حاملاً فولدت في مدة الخيار، ثم ردها، رد ولدها. وليس لواحد منهما التصرف في مدة الخيار، إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو نحوهما، لم ينفذ تصرفهما، إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده، فينفذ تصرفه ويبطل خياره كالمعيب. وقال أحمد في رواية أبي طالب: إذا اشترى ثوباً بشرط، فباعه بربح قبل انقضاء الشرط، يرده إلى صاحبه إن طلبه، فإن لم يقدر على رده، فللبائع قيمة الثوب، لأنه استهلك ثوبه، أو يصالحه. فقوله: يرده إن طلبه، يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه. وفي البخاري عن ابن عمر:"أنه كان على بكر صعب لعمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: بِعْنيه. فقال عمر: هو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله"، 2 فهذا يدل على التصرف قبل التفرق، والأول أصح. والحديث ليس فيه تصريح بالبيع، فقوله:"هو لك" يحتمل أنه أراد هبة، فإنه لم يذكر ثمناً. فإن تصرف المشتري بإذن البائع، أو البائع بوكالة المشتري، صح وانقطع خيارهما، لأنه يدل على تراضيهما بإمضاء البيع، كما لو تخايرا في أحد الوجهين، وفي الآخر: البيع والخيار بحالهما.

وإن تصرف المشتري في مدة الخيار مما يختص الملك، كإعتاق العبد ووطء الجارية، فهو تراض يبطل خياره؛ ولذلك يبطل خيار المعتقة بتمكينها من

1 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجة: التجارات (2243) .

2 البخاري: البيوع (2116) .

ص: 442

نفسها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن وطئك فلا خيار لك". قال أحمد: إذا شرط الخيار فباعه قبل ذلك بربح، فالربح للمبتاع، لأنه وجب عليه حين عرضه.

وإن استخدم المبيع، ففيه روايتان، ومتى بطل خيار المشتري بتصرفه، فخيار البائع باق بحاله. وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه، وبطل خيارهما. وكذا إذا تلف المبيع. وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" 1 يدل بمفهومه على أنه ينفذ في الملك، وملك البائع الفسخ، لا يمنع نفوذ العتق، كما لو وهب رجل ابنه عبداً فأعتقه، نفذ عتقه مع ملك الأب استرجاعه، ولا ينفذ عتق البائع. وقال الشافعي ومالك: ينفذ، لأنه ملكه، وإن كان الملك انتقل، فإنه يسترجعه بالعتق.

وإذا قال لعبده: إذا بعتك فأنت حر، ثم باعه، صار حراً، نص عليه أحمد، سواء شرط الخيار أو لا. وقال أبو حنيفة: لا ينفذ، لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه. ولنا: أن زمن انتقال الملك زمن الحرية، لأن البيع سبب لنقل الملك وشرط للحرية، فيجب تغليب الحرية، كقوله: إذا مت فأنت حر. وإذا أعتق المشتري العبد، بطل خياره وخيار البائع، كما لو تلف. وفيه رواية أخرى: أنه لا يبطل خيار البائع، فله الفسخ والرجوع بالقيمة يوم العتق.

وإن تلف المبيع في مدة الخيار، فإن كان قبل القبض وكان مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وكان من مال البائع، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن يتلفه المشتري، فيضمنه ويبطل خياره. وفي خيار البائع روايتان. فإن كان غير المكيل والموزون ولم يمنعه البائع من قبضه، فظاهر المذهب: أنه من ضمان المشتري كتلفه بعد القبض، وإن تلف بعد القبض، فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره.

وفي خيار البائع روايتان: إحداهما: يبطل. والثانية:

1 النسائي: الأيمان والنذور (3812) .

ص: 443

لا، ويطالب بقيمته أو مثله إن كان مثلياً، كما لو اشترى ثوباً بثوب فتلف أحدهما، ووجد بالآخر عيباً، فإنه يرده ويرجع بقيمته.

وحكم الوقف حكم البيع، في أحد الوجهين. وفيه وجه آخر: أنه كالعتق. وليس للمشتري وطء الجارية في مدة الخيار، إذا كان لهما أو للبائع وحده، لا نعلم فيه خلافاً. فإن وطئها، فلا حد عليه، ولا مهر لها؛ فإن علقت منه فالولد حر، يلحقه نسبه وتصير أم ولد له. فإن فسخ البائع رجع بقيمتها. وإن قلنا: إن الملك لا ينتقل، فعليه المهر وقيمة الولد، وإن علم التحريم وأنّ ملكه غير ثابت، فولده رقيق.

ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار، وهو قول الشافعي، وكرهه مالك، قال: لأنه في معنى بيع وسلف، إذا قبض الثمن ثم تفاسخا صار كأنه أقرضه؛ وما ذكره لا يصح، لأننا لا نجيز له التصرف فيه.

ومن مات منهما بطل خياره، إلا أن يكون قد طالب بالفسخ قبل موته، فيكون لورثته؛ ويتخرج ألا يبطل وينتقل إلى ورثته، وهذا قول مالك والشافعي. ولنا: أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة.

(والثالث: خيار الغبن)، ويثبت في ثلاث صور:

(إحداها) : إذا تلقى الركبان فباعهم أو اشترى منهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم قد غُبنوا غبناً يخرج عن العادة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يرى بذلك بأساً، وسنة رسول الله أحق أن تتبع. إذا تقرر هذا، فللبائع الخيار إذا غُبن، وقال أصحاب الرأي: لا خيار له. ولا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر المذهب: أنه لا خيار إلا مع الغبن. ويحتمل إطلاق الحديث، لجعله

ص: 444

الخيار له إذا هبط السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع. وظاهر كلام الخرقي: أن الخيار يثبت بمجرد الغبن، وإن قل، والأولى أن يقيد بما يخرج عن العادة. وقال أصحاب مالك: إنما نهى عن تلقي الركبان، لما يفوت به من الرفق بأهل السوق، لئلا ينقطع عنهم ما له جلسوا من ابتغاء فضل الله. قال ابن القاسم: فإن تلقاها متلقٍ فاشتراها، عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها. وقال الليث: تباع في السوق؛ وهذا مخالف لمدلول الحديث، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا هبط السوق"، ولم يجعلوا له خياراً، وجعْله الخيار له يدل على أن النهي عن التلقي لحقه. فإن تلقاهم فباعهم شيئاً فهو كمن اشترى منهم. وهذا أحد الوجهين للشافعية. وقالوا في الآخر: النهي عن الشراء دون البيع فلا يدخل. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تلقوا الركبان"، 1 والبائع داخل فيه. فإن خرج لغير قصد التلقي، فقال القاضي: لا يجوز الابتياع منهم ولا الشراء، ويحتمل أن لا يحرم ذلك، وهو قول الليث، لأنه لم يتناوله النهي.

(الثانية) : النجش وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ليغر المشتري. فإن اشترى معه، فالشراء صحيح في قول أكثر العلماء، وعنه: أنه باطل، وهو قول مالك للنهي. ولنا: أن النهي عاد إلى الناجش، لا إلى العاقد، ولأن النهي لحق آدمي كبيع المدلس، وفارق ما كان لحق الله تعالى؛ فإن حق الآدمي يمكن جبره بالخيار وزيادة في الثمن. لكن إن كان فيه غبن لم تجر العادة بمثله، فله الخيار. وقال أصحاب الشافعي: إن لم يكن ذلك يعلم من البائع، فلا خيار. واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه، فقال بعضهم: لا خيار. ولنا: أنه تغرير بالعاقد، فإذا غبن ثبت له الخيار، كما في تلقي الركبان.

1 البخاري: البيوع (2150)، ومسلم: البيوع (1515)، والنسائي: البيوع (4487، 4496)، وأبو داود: البيوع (3443) ، وأحمد (2/465) .

ص: 445

ولو قال: أُعطيت بهذه السلعة ما لم يُعط، فصدقه ثم كان كاذباً، فله الخيار، لأنه في معنى النجش.

(الثالثة) : المسترسل إذا غبن الغبن المذكور، ثبت له الخيار، وبه قال مالك. وقيل: لا فسخ له، وهو مذهب الشافعي. ولنا: أنه غبن حصل لجهله، فأثبت له الخيار، كالغبن في تلقي الركبان.

وإذا وقع البيع على غير معيّن، كقفيز من صبرة، فظاهر قول الخرقي أنه يلزم بالتفرق. وقال القاضي في موضع ما يدل على أنه لا يلزم إلا بالقبض، لأنه لا يملك بيعه ولا التصرف فيه، ولأنه لو تلف فهو من ضمان البائع.

ووجه اللزوم: قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن تفرّقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع، فقد وجب البيع". 1 وما ذكرناه للقول الآخر ينتقض بالموصوف والسلم، فإنه لازم مع ما ذكرناه.

(الرابع: خيار التدليس) بما يزيد به الثمن، كتصرية اللبن في الضرع، وتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها، وذلك حرام، لقوله:"مَن غشنا فليس منا"، 2 وقوله:" لا تصرّوا الإبل". 3 فمن اشترى مصرّاة فله الخيار، في قول عامة أهل العلم. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا خيار له، لأنه ليس بعيب، كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل؛ وهذا قياس يخالف النص، واتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولأنه تدليس يختلف به الثمن، فوجب به الرد، كالشمطاء إذا سوّد شعرها؛ وبه يبطل قياسهم، فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وانتفاخ البطن قد يكون لغير الحمل. وإن علم بالتصرية، فلا خيار.

وقال أصحاب الشافعي: يثبت له في وجه، للخبر، فإن حصل هذا من غير تدليس، مثل إن اجتمع اللبن من غير قصد، أو احمر وجهها لخجل أو تعب، فقال القاضي: له الرد أيضاً لدفع الضرر، أشبه العيب، ويحتمل أن'

1 البخاري: البيوع (2112) .

2 مسلم: الإيمان (101)، وابن ماجة: الحدود (2575) ، وأحمد (2/329، 2/417) .

3 البخاري: البيوع (2148)، والنسائي: البيوع (4487) ، وأحمد (2/465) .

ص: 446

لا يثبت الخيار لحمرة الوجه بخجل أو تعب. وإن أراد إمساك المدلس مع الأرش، لم يكن له ذلك، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له في المصراة أرشاً، بل خيّره بين الإمساك والرد مع صاع تمر". وإن تصرف في المبيع بعد علمه بالتدليس، بطل رده كالمعيب.

ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعاً من تمر، فإن لم يجده فقيمته في موضعه، سواء كان ناقة أو بقرة أو شاة. وذهب مالك إلى أن الواجب صاع من قوت البلد، لأن في بعض الألفاظ:"رد معها صاعاً من طعام"، وفي بعضها:"رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً"، فجمع بين الأحاديث وجعل نصه على التمر، لأنه غالب قوت المدينة، وعلى القمح لأنه غالب قوت بلد آخر. وقال أبو يوسف: يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف. ولنا: الحديث الصحيح، ولمسلم:"ردها وردّ صاعا من تمر، لا سمرا" 1 يعني: لا يرد قمحاً؛ والمراد بالطعام في الحديث التمر، لأنه مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد. وحديث ابن عمر يعني: الذي فيه ذكر القمح في رواية جميع بن عمير، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. وقياس أبي يوسف مخالف للنص فلا يقبل. ولا يبعد أن يقدر الشارع بدل هذا المتلف قطعاً للتنازع، كما قدّر دية الآدمي ودية أطرافه. ولا فرق بين الناقة والبقرة والشاة.

وأبو داود لا يثبت بتصرية البقر، لأن الحديث:"لا تصرّوا الإبل والغنم"، 2 والقياس لا تثبت به الأحكام. ولنا: عموم قوله: "من اشترى مصرّاة"، 3 "ومن ابتاع محفلة"، 4 والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر، لأن لبنها أكثر وأنفع، فثبت بالتنبيه، وهو حجة عند الجميع.

وإذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد واحد، رد مع كل واحدة صاعاً، وقال بعض المالكية: في الجميع صاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

1 البخاري: البيوع (2148)، ومسلم: البيوع (1524)، والترمذي: البيوع (1252)، والنسائي: البيوع (4489)، وابن ماجة: التجارات (2239) ، وأحمد (2/430، 2/507)، والدارمي: البيوع (2553) .

2 البخاري: البيوع (2148)، والنسائي: البيوع (4487) ، وأحمد (2/465) .

3 البخاري: البيوع (2151)، ومسلم: البيوع (1524)، والترمذي: البيوع (1251)، والنسائي: البيوع (4488، 4489)، وأبو داود: البيوع (3444، 3445)، وابن ماجة: التجارات (2239) ، وأحمد (2/259، 2/273، 2/317، 2/430، 2/463، 2/469، 2/507)، والدارمي: البيوع (2553)

4 النسائي: البيوع (4489) .

ص: 447

"من اشترى غنماً مصرّاة فاحتلبها، فإن شاء أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع". 1 ولنا: قوله: "من اشترى مصرّاة". 2 وأما الحديث فالضمير فيه يعود إلى الواحدة؛ فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه، ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر، لظاهر الخبر، ولأن الضرع أحفظ له. ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها، ثم وجد بها عيباً، فله الرد. فإن لم يكن في ضرعها شيء في حال العقد، فلا شيء عليه، لأن اللبن الحادث في ملكه. وإن كان يسيراً لا يخلو الضرع من مثله، فلا شيء عليه. وإن كان كثيراً وكان قائما بحاله، ابتنى رده على رد لبن المصراة للنص. فإن قلنا يردّه، رد مثل اللبن، لأنه من المثليات، والأصل ضمانها بمثلها، لأنه خولف في المصراة.

وإذا علم بالتصرية قبل الحلب، فله ردها ولا شيء معها، لأن التمر بدل اللبن. قال ابن عبد البر: وهذا مما لا خلاف فيه. ومتى علم التصرية فله الرد، وقال القاضي: ليس له ردها إلا بعد ثلاث، ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها، لقوله:"فهو بالخيار ثلاثة أيام". 3 رواه مسلم؛ قالوا: قدّرها الشارع لمعرفة التصرية، فإنها لا تعرف قبل مضيها. وقال أبو الخطاب: متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاث وبعدها، لأنه تدليس. فعلى هذا، فائدة التقدير بالثلاث، لأن الظاهر لا يحصل العلم إلا بها، فإن حصل بها أو لم يحصل، فالاعتبار به دونها. وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم بالتصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها، وهو قول ابن المنذر، وحكي عن الشافعي، لظاهر الحديث؛ فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة. وقال القاضي: لا يثبت في شيء منها، وقول أبي الخطاب يسوي بينها وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى.

ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها، فإن فعل فالبيع صحيح في قول الأكثر، منهم

1 البخاري: البيوع (2151)، وأبو داود: البيوع (3445) .

2 البخاري: البيوع (2151)، ومسلم: البيوع (1524)، والترمذي: البيوع (1251)، والنسائي: البيوع (4488، 4489)، وأبو داود: البيوع (3444، 3445)، وابن ماجة: التجارات (2239) ، وأحمد (2/259، 2/273، 2/317، 2/430، 2/463، 2/469، 2/507)، والدارمي: البيوع (2553) .

3 مسلم: البيوع (1524)، والترمذي: البيوع (1251، 1252)، والنسائي: البيوع (4489)، وأبو داود: البيوع (3444)، وابن ماجة: التجارات (2239) ، وأحمد (2/248، 2/417، 2/507)، والدارمي: البيوع (2553) .

ص: 448

مالك وأبو حنيفة والشافعي، بدليل حديث التصرية. وقال أبو بكر: إن دلس فالبيع باطل، لأن النهي يقتضي الفساد، قيل له: ما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً.

(الخامس: خيار العيب) . والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشترى ولها زوج، أنه عيب. والثيوبة ليست بعيب، لأنها الغالب على الجواري، فالإطلاق لا يقتضي خلافها.

والعسر ليس بعيب، وكان شريح يرد به. فمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه فله الخيار بين الرد، والإمساك مع الأرش. ومن اشترى ما يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم، فلا خيار له، لا نعلم فيه خلافاً. فإن اختار إمساك المعيب وأخذ الأرش فله ذلك. وقال الشافعي: ليس إلا الإمساك، أو الرد، إلا أن يتعذر رد المبيع، روي ذلك عن أحمد، "لأنه صلى الله عليه وسلم جعل في المصراة الخيار من غير أرش"، ولنا: أنه ظهر على عيب لم يعلم به، فكان له الأرش، كما لو تعيب عنده.

وما كسب فهو للمشتري، وكذلك نماؤه المنفصل، وعنه: لا يرده إلا مع نمائه. والزيادة المنفصلة نوعان:

أحدهما: أن يكون من غير المبيع كالكسب والأجرة. وما يوهب له فهو للمشتري، في مقابلة ضمانه، لا نعلم فيه خلافاً.

الثاني: أن يكون منه كالولد والثمرة، فهو للمشتري أيضاً، وبه قال الشافعي، لأن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه، وعنه: ليس له رده دون نمائه، قياساً على النماء المتصل. وقال مالك: إن كان النماء ثمرة لم يردها، وإن كان ولداً رده معها. وقال أبو حنيفة: النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد.

"ووطء الثيب لا يمنع الرد"، روي عن زيد بن ثابت، وبه قال مالك والشافعي. وعنه:"يُمنع"،

ص: 449

روي ذلك عن علي، لأن الوطء كالجناية، لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال. وقال شريح وابن المسيب: يردها ومعها أرش، واختلفوا فيه.

ولو اشتراها مزوّجة فوطئها الزوج، لم يمنع الرد، بغير خلاف نعلمه. وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش. وعنه: أنه مخير بين الأرش وبين الرد، وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن.

وكذلك كل مبيع كان معيباً، ثم حدث به عيب عند المشتري، قبل علمه بالأول، ففيه روايتان: إحداهما: ليس له الرد، وله أرش العيب القديم، روي عن ابن سيرين والزهري والشعبي. والثانية: له الرد، ويرد أرش العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن. وإن شاء أمسكه وله الأرش. وقال الحكم: يرده ولم يذكر معه شيئاً. ولنا: حديث المصراة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بردّها بعد حلبها، ورد عوض لبنها، ولأنه روي عن عثمان:"أنه قضى في الثوب إذا كان به عوار، يردّه وإن كان قد لبسه".

ولو اشترى أمة فحملت عنده، ثم أصاب بها عيباً، فالحمل عيب، لأنه يمنع الوطء. فإن ولدت، فالولد للمشتري، وليس له ردها دون ولدها، لما فيه من التفريق. وقال الشريف وأبو الخطاب: له ردها دون ولدها، لأنه موضع حاجة، أشبه ما لو ولدت حراً، فإنه يجوز بيعها دونه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 1، ولأنه أمكن رفع الضرر بأخذ الأرش، ويردّ ولدها معها، أما الحر فلا سبيل إلى بيعه بحال.

وإذا تعيّب المبيع في يد البائع بعد العقد، وكان المبيع من ضمانه، فهو كالعيب القديم. وإن كان من ضمان المشتري، فهو كالحادث بعد القبض، فأما الحادث بعض القبض فهو من ضمان المشتري. وقال مالك: عهدة الرقيق ثلاثة أيام، لأنه إجماع أهل المدينة، لحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "عهدة

1 الترمذي: السير (1566) ، وأحمد (5/412، 5/414)، والدارمي: السير (2479) .

ص: 450

الرقيق ثلاثة أيام". 1 ولنا: أنه عيب كسائر العيوب. وحديثهم لا يثبت، قال أحمد: ليس في العهدة حديث صحيح. قال ابن المنذر: لا يثبت في العهدة حديث.

مسألة التدليس حرام، فمتى فعله البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب في يده، فله رده وأخذ ثمنه كاملاً ولا أرش عليه، سواء كان بفعل المشتري كوطء البكر وقطع الثوب، أو بفعل آدمي آخر مثل أن يجنى عليه، أو بفعل الله.

وسواء كان ناقصاً للمبيع أو مُذهبا لجملته، قال أحمد في رجل اشترى عبداً فأبق، وأقام بينة أن إباقه كان موجوداً في يد البائع: يرجع على البائع بجميع الثمن، لأنه غر المشتري، ويتبع البائع عبده حيث كان. قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت، وأرش البكر إذا وطئها، لقوله عليه السلام:"الخراج بالضمان"، 2 وكما يلزم عوض لبن المصراة على المشتري، ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع، ولا نعلم لهذا أصلاً، ولا يشبه التغرير، لأنه يرجع على من غره ههنا.

ولو كان التدليس من وكيل البائع، لم يرجع عليه بشيء، نص عليه. وإذا زال ملك المشتري عن المبيع بعتق أو موت أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش، وبه قال مالك والشافعي، وكذا إن باعه غير عالم بعيبه، قال ابن المنذر: كان الحسن وشريح وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون: إن اشترى سلعة فعرضها على البيع بعد علمه بالعيب، بطل خياره؛ وهذا قول الشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً.

قيل لأحمد: هؤلاء يقولون: إذا اشترى عبداً فوجده معيباً فاستخدمه بأن يقول: ناولني هذا الثوب، بطل خياره، فأنكر ذلك وقال: من قال هذا؟ أو من أين أخذوا هذا؟

1 أبو داود: البيوع (3506) ، وأحمد (4/150، 4/152)، والدارمي: البيوع (2551) .

2 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجة: التجارات (2243) .

ص: 451

ليس هذا برضى حتى يكون الشيء بيِّن ويطول.

وإذا أعتق العبد، ثم علم به عيباً فأخذ أرشه فهو له، وعنه: يجعله في الرقا. وكلامه في هذه الرواية يحمل على الاستحباب. وإن صبغه أو نسجه فله الأرش ولا رد، وعنه: يرده ويأخذ زيادته بالصبغ. وقال الشافعي: ليس له إلا رده. ولنا: أنه لا يمكنه رده إلا بشيء من ماله، فلم يسقط حقه من الأرش بامتناعه من رده.

وإن اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره فوجده فاسداً، فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض دجاج، رجع بالثمن كله؛ وإن كان له قيمة كبيض نعام، خُيّر بين أخذ أرشه وبين رده. وعنه: لا يرجع على البائع بشيء في هذا كله، وهو مذهب مالك، لأنه ليس من البائع تدليس ولا تفريط، فجرى مجرى البراءة. ووجه الأولى: أن العقد اقتضى السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري، وكونه لم يفرط لا يقتضي إيجاب ثمن ما لم يسلمه كالعيب الذي لم يعلمه في العبد، ووجه رد الأرش أنه نقص لم يمنع الرد، فلزم رد أرشه كلبن المصراة والبكر إذا وطئها. وهذا يبطل قول من قال: لا أرش عليه، لأنه حصل بطريق استلام والبائع سلطه عليه، بل هنا أولى لأنه تدليس، والتصرية تدليس. وإن كسره كسراً لا يبقى معه قيمة، فله الأرش لا غير، لأنه أتلفه.

ومن علم العيب وأخر الرد، لم يبطل خياره، إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضى، من التصرف ونحوه. وعنه: أنه على الفور، ولا يفتقر الرد إلى رضى ولا حضور قبل القبض ولا بعده. وقال أبو حنيفة: إن كان بعده افتقر إلى رضى صاحبه. ولنا: أنه رفع عقد من مستحق له كالطلاق.

وإن اشترى اثنان شيئاً، وشرطا الخيار، أو وجداه معيباً فرضي أحدهما، ففيها روايتان: إحداهما: لمن لم يرض الفسخ، وبه قال الشافعي، وإحدى الروايتين

ص: 452

عن مالك. والأخرى: لا يجوز له رده مشتركاً ناقصاً كما لو تعيب عنده. ولنا: أنه إنما باع كل واحد نصفها، فخرجت من ملك البائع مشقصة، بخلاف العيب الحادث.

وإن ورثا خيار عيب فرضي أحدهما، سقط حق الآخر، لأنه لو رد وحده تشقصت السلعة.

وإن اشترى من اثنين شيئاً فوجده معيباً، رده عليهما، فإن غاب أحدهما، رد على الحاضر حصته وبقي نصيب الآخر في يده حتى يقدم. وإن كان أحدهما باع العين بوكالة الآخر، فالحكم كذلك، نص أحمد على نحو من هذا.

وإن اشترى حلي فضة بوزنه دراهم فوجده معيبا، فله رده ولا أرش، لإفضائه إلى التفاضل. فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين: يرده وأرش العيب الحادث، ويأخذ ثمنه. وقال القاضي: لا رد، لإفضائه إلى التفاضل، ولا يصح لأن الرد فسخ العقد، والأرش عوض عن العيب الحادث، كما لو جنى عليه في ملك صاحبه. وعلى الرواية الأخرى: يفسخ الحاكم البيع، ويرد البائع الثمن، ويطالب بقيمة الحلي، لأنه لا يمكن إهمال العيب ولا أخذ الأرش. واختار شيخنا أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش نقصه، وليس فيه تفاضل، وإنما الأرش بمنزلة الجناية عليه.

وإن اشترى معيبين صفقة، فليس له إلا ردهما أو إمساكهما، ولا أرش، وعنه: له رد أحدهما بقسطه، لأن المانع من الرد تشقيص المبيع على البائع، وهو موجود فيما إذا كان أحدهما صحيحاً؛ فإن تلف فله رد الباقي بقسطه، وهذا قول الأوزاعي وإسحاق. والثانية: ليس له إلا الأرش مع إمساك الباقي، وهو ظاهر قول الشافعي. والقول في قيمة التالف قول المشتري مع يمينه، لأنه منكر لما يدعيه البائع من الزيادة، ولأنه بمنزلة الغارم، كالمستعير والغاصب. وإن كان أحدهما معيباً فله رده بقسطه،

ص: 453

وعنه: ليس له إلا ردهما أو إمساكهما. فإن كان مما ينقصه التفريق كمصراعي باب، أو من لا يجوز كجارية وولدها، فليس له رد أحدهما.

وإن اختلفا في حدوث العيب، فروايتان: إحداهما: قول المشتري، فيحلف أنه اشتراه وبه هذا، لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله. والثانية: قول البائع مع يمينه على البت، لأن الأيمان كلها على البت، إلا على النفي في فعل الغير؛ وعنه: أنها على نفي العلم. والرواية الثانية: مذهب الشافعي، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي استحقاق الفسخ والبائع ينكره.

وإذا باع الوكيل ثم ظهر على عيب، رده على الموكل، فإن أقر به الوكيل وأنكره الموكل، فقيل: يقبل إقراره على موكله لخيار الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي: لا يقبل إقراره على الموكل، وهو أصح، لأنه إقرار على الغير، وفارق خيار الشرط من حيث أن الموكل يعلم صفة سلعته ولا يعلم صفة العقد؛ فعليها، لا يملك الوكيل رده على الموكل. فإن ردت على الموكل بعيب، فأنكر البائع السلعة، فقوله مع يمينه، ونحوه قول الأوزاعي، فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال الصيرفي: ليس هذا درهمي: يحلف الصيرفي بالله: لقد وفيتك، ويبرأ. فإن رد بخيار فأنكرها البائع، فحكى ابن المنذر عن أحمد: أن القول قول المشتري، وهو قول الثوري وإسحاق، لأنهما اتفقا على استحقاق الفسخ.

وإن باع عبداً يلزمه عقوبة، وعلم المشتري، فلا شيء له. وإن علم بعد البيع، فله الرد أو الأرش. فإن لم يعلم حتى قتل، فله الأرش. وقال الشافعي: يرجع بالثمن، لأن تلفه لمعنى استحق عند البائع، فجرى مجرى إتلافه. وإن كانت الجناية موجبة للمال أو القود، فعفى عنه إلى مال، فعلى السيد. وإن كان معسراً، ففي رقبة الجاني مقدماً على المشتري، وللمشتري الخيار إن لم يكن عالماً.

ص: 454

(السادس: خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة) ، ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال، ولا يثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة في الثمن أو نحو ذلك.

والتولية: الببع برأس المال، قال أحمد: لا بأس ببيع الرقم، والرقم: الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوماً. وكره طاووس بيع الرقم. وإذا اشترى شيئاً فقال لغيره: أشركتك، انصرف إلى النصف. فإن اشترى اثنان فقالا لثالث: أشركناك، احتمل أن يكون له النصف، ويحتمل أن يكون له الثلث، لأن الاشتراك يفيد التساوي. وإن أشركه كل واحد منهما منفرداً كان له النصف، ولكل واحد منهما الربع. وإن قال: أشركاني، فأشركه أحدهما، فعلى الوجه الأول: له نصف حصة الذي أشركه، وعلى الآخر له السدس، لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما. وإن قال أحدهما: أشركناك، ابتنى على تصرف الفضولي.

والمرابحة: أن يبيعه بربح فيقول: بعتك بربح عشرة. وإن قال: علي أن أربح في كل عشرة درهماً أوده يازده، فرويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس. وقال إسحاق: لا يجوز، لأن الثمن مجهول حال العقد، فلم يجز. ورخص فيه ابن المسيب وغيره. ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه، ولأن فيه نوعاً من الجهالة؛ وهذا كراهة تنزيه، والجهالة يمكن إزالتها بالحساب، كبيع الصبرة كل قفيز بدرهم.

والمواضعة: أن يقول: بعتك بها، ووضيعة درهم من كل عشرة. فإن باعه مرابحة، مثل أن يخبر أن ثمنها مائة ويربح عشرة، ثم علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع بما زاد على الثمن، وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم؛ وبهذا قال الثوري وأحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة:

ص: 455

يخير بين الأخذ بكل الثمن، أو يترك قياسا على المبيع المعيب، والفرق بينهما أن المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور، وهنا رضي برأس المال والربع المقرر. والمنصوص عن أحمد: أن المشتري يخير بين الأخذ برأس المال وحصته، وبين الفسخ، لأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن، لكونه حالفاً أو وكيلاً أو غير ذلك. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا خيار له، وأما البائع فلا خيار له.

وإن قال: رأس مالي مائة وأربح عشرة، ثم قال: غلطت، رأس مالي مائة وعشرة، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن رأس ماله ما قاله. ثانياً: ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وروى أبو طالب عن أحمد: إذا كان البائع معروفاً بالصدق قبل قوله، فإن لم يكن صدوقاً جاز البيع. وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي: أن القول قول البائع مع يمينه، لأنه أمين، والصحيح الأول؛ وكونه مؤتمناً لا يوجب قبول دعواه في الغلط، كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال: غلطت. وعنه: لا يقبل قوله ولو أقام بينة حتى يصدّقه المشتري، وهو قول الشافعي، لأنه أقر بالثمن، وإن أقام بينة لإقراره بكذبها. ولنا: أنها بينة فتقبل كسائر البينات، وإقراره حال الإخبار لم يكن عليه حق لغيره، فلم يكن إقراراً.

ومتى اشتراه بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك، فللمشتري الخيار. وحكي عن أحمد: إن كان المبيع قائماً، خُير بين أخذه بالثمن مؤجلاً وبين الفسخ. وإن كان قد استهلك، حبس الثمن بقدر الأجل، وهو قول شريح.

وإن اشترى شيئين صفقة واحدة، وأراد بيع أحدهما مرابحة، أو اشترى اثنان شيئاً فتقاسماه، وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة، فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالثياب، لم يجز حتى يبين الحال، وهذا مذهب الثوري وإسحاق.

ص: 456

وقال الشافعي: يجوز كما لو كان المبيع شقصاً وسيفاً، فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته. ولنا: أن قسمة الثمن طريقه الظن، والخطأ فيه كثير، وبيع المرابحة أمانة، فلم يجز فيه؛ فهو كالخرص لا يباع به ما يجب التماثل فيه. وأما الشفيع، فلنا فيه منع، وإن سلم فللحاجة، لأنه يتخذ طريقاً إلى إسقاط الشفعة. فإن باع فللمشتري الخيار. وإن كان من المتماثلات كالبر المتساوي، جاز ذلك، لا نعلم فيه خلافاً.

وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة، فأخذهما على الصفة، فله بيع أحدهما مرابحة بحصته. وإن حصل في أحدهما زيادة على الصفة، جرت مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكره. وإن حط عنه بعض الثمن، أخبر به، لا نعلم فيه خلافاً. وإن تغير سعرها، فإن غلت لم يلزمه الإخبار، وإن رخصت فكذلك، لأنه صادق، نص عليه. ويحتمل أن يلزمه الإخبار وما يؤخذ أرشاً لعيب، فذكر القاضي أنه يخبر به. وقال أبو الخطاب: يحط أرش العيب من الثمن، ويخبر بالباقي.

وإن اشترى ثوباً بعشرة، وقصره بعشرة، أخبر بذلك على وجهه، فإن قال يحصل بعشرين فهل يجوز؟ على وجهين.

وإن أخذ النماء المنفصل، أو استخدم الأمة، أو وطئ الثيب، أخبر برأس المال. وروي عن أحمد أنه يبين ذلك كله. وإن عمل فيها عملاً أخبر به، ولا يقول تحصل بكذا عليّ، وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وغيرهم. وفيه وجه: أنه يجوز أن يضم الأجرة إلى الثمن، ويقول تحصلت عليّ بكذا، لأنه صادق، وبه قال الشعبي والشافعي. وإن اشتراه بعشرة، ثم باعه بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة، أخبر به على وجه. وإن قال: اشتريته بعشرة جاز. وقال أصحابنا: يحط الربح من الثمن الثاني، ويخبر أنه اشتراه بخمسة عشر، روي عن ابن سيرين.

ص: 457

وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يبين أمره، أو يخبر أن رأس ماله عليه خمسة.

وإن ابتاع اثنان ثوباً بعشرين، ثم بذل لهما فيه اثنان وعشرون، فاشترى أحدهما نصيب صاحبه بذلك السعر، فإنه يخبر بأحد وعشرين، نص عليه؛ وهذا قول النخعي. وقال الشعبي: يبيعه على اثنين وعشرين، لأن ذلك الدرهم الذي أعطيه قد أحرزه. ثم رجع إلى قول النخعي بعد ذلك، ولا نعلم أحداً خالفه. قال أحمد: المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة، لأنه يعتريه أمانة واسترسال من المشتري.

(السابع: خيار يثبت لاختلاف المتبايعين) . فمتى اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيبدأ بيمين البائع فيحلف: ما بعت بكذا، وإنما بعته بكذا. ثم يحلف المشتري: ما اشتريت بكذا، وإنما اشتريته بكذا؛ وبه قال شريح والشافعي ورواية عن مالك، وله رواية أخرى: القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور، لأن البائع يدعي ما ينكر المشتري. وقال الشعبي: القول قول البائع أو يترادّان البيع، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، لما روى ابن مسعود، مرفوعاً:"إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع". 1 رواه ابن ماجة؛ والمشهور الأول. ويحتمل أن معنى القولين واحد، وأن القول قول البائع مع يمينه. فإذا حلف فرضي المشتري، أخذ به. وإن أبى حلف أيضاً، وفسخ البيع، لأن في بعض ألفاظه:"إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما، تحالفا"، ولأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعَى عليه، لأن المشتري يدعي عقداً بعشرة ينكره البائع، وهذا الجواب عما ذكروه. وقال أبو حنيفة: يبدأ بيمين المشتري، لأنه منكر، ولأنه يقضي بنكوله. ولنا: قوله: "فالقول ما قال البائع، أو يترادّان البيع"، 2 وفي لفظ: "فالقول قول البائع،

1 الترمذي: البيوع (1270)، وأبو داود: البيوع (3511)، والدارمي: البيوع (2549) .

2 ابن ماجة: التجارات (2186) ، وأحمد (1/466) .

ص: 458

والمشتري بالخيار". 1 رواه أحمد، ومعناه: إن شاء أخذ وإن شاء حلف، ولأن البائع أقوى جنبه، لأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه كصاحب اليد، والبائع إذا حلف فهو بمنزلة نكول المشتري، فهما سواء. وإذا تحالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه، أقرّ العقد، وإلا فلكل واحد منهما الفسخ. ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لأن أحدهما ظالم، ويتعذر إمضاء العقد في الحكم، كنكاح من زوّجها وليان وجهل السابق. ولنا: قوله: "أو يترادان البيع"، وروي: "أن ابن مسعود باع الأشعث رقيقاً من رقيق الإمارة، فقال: بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث: شريت منك بعشرة. فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، والمبيع قائم بعينه، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع. قال: فإني أرد البيع". 2 رواه سعيد.

وروي أيضاً عن عبد الملك بن عبدة، مرفوعاً:"إذا اختلف المتبايعان، استحلف البائع، ثم كان للمشتري الخيار: إن شاء أخذ، وإن شاء ترك". 3 وهذا ظاهر أنه يفسخ من غير حاكم، ولا يشبه النكاح، لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق. وإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها. وإن اختلفا في صفتها، فالقول قول المشتري مع يمينه. وعنه: لا يتحالفان إذا كانت تالفة، والقول قول المشتري مع يمينه؛ وهو قول أبي حنيفة لمفهوم قوله: والسلعة قائمة، ولأنهما اتفقا في نقل السلعة إلى المشتري واستحقاق عشرة، واختلفا في عشرة؛ وتركنا هذا القياس حال قيامها للحديث. ووجه الأولى: عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان، فالقول قول البائع، والمشتري بالخيار". قال أحمد ولم يقل فيه: والمبيع قائم إلا يزيد بن هارون، قال أبو عبد الله: وقد أخطأ، رواه الخلق عن المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة.

1 أحمد (1/466) .

2 ابن ماجة: التجارات (2186) .

3 أحمد (1/466) .

ص: 459

وقولهم: تركناه للحديث، قلنا: لم يثبت في الحديث: تحالفا. قال ابن المنذر ليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه، وإذا خولف الأصل لمعنى، وجب تعدية الحكم بتعدي المعنى؛ بل يثبت الحكم بالبينة بأن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة، مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها، فمع تعذره أولى.

فإذا تحالفا، فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ لعدم الحاجة، وإلا فلكل واحد منهما فسخه، ويرد المشتري قيمتها إلى البائع؛ وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ إذا كانت القيم متساوية الثمن، ويكون القول قول المشتري مع يمينه، لأنه لا فائدة فيه. وإن كانت القيمة أقل، فلا فائدة للبائع في الفسخ؛ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ، ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشتري. فإن اختلفا في الصفة، فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم، وإن تقايلا المبيع، أو رد بعيب بعد قبض الثمن، ثم اختلفا في قدره، فقول بائع لأنه منكر. وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا، إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه. وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها، نص عليه، وعلى مدعي ذلك اليمين. وإن لم يكن في البلد إلا نقدان، تحالفا كما لو اختلفا في قدره.

وإن اختلفا في أجل أو شرط، فقول من ينفيه؛ وهو قول أبي حنيفة، لأن الأصل عدمه. والرواية الثانية: يتحالفان، وهو قول الشافعي. وإن اختلفا في ما يفسد العقد، فقول مدعي الصحة مع يمينه.

وإن قال: بعتك وأنا صبي، فالقول قول المشتري، نص عليه؛ وهو قول الثوري وإسحاق، لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده. وإن قال: بعتني هذين، فقال: أحدهما، فقول بائع. وإن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، فقال: بل هو والعبد الآخر بألف، فقول بائع؛ وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يتحالفان كما لو اختلفا في الثمن، وهذا

ص: 460

أقيس. وإن قال: بعتني هذا، فقال: بل هذا، حلف كل واحد منهما على ما أنكره، ولم يثبت بيع واحد منهما، لأن كل واحد منهما يدعي عقداً على عين ينكرها المدعى عليه. فإذا حلف: ما بعتك هذه الجارية، أُقرت في يده، وإن كان المدعي قبضها رُدت. وأما العبد فإن كان في يد البائع أُقر في يده، ولم يكن للمشتري طلبه، لأنه لا يدعيه، وعلى البائع رد الثمن. وإن كان في يد المشتري ردَّه، لأنه يعترف أنه لم يشتره، وليس للبائع طلبه إذا بذل ثمنه، لاعترافه ببيعه، وإلا فله استرجاعه. وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه، ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان.

وإن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: حتى أقبض المبيع، وكان الثمن عيناً أو عرضاً، جعلا بينهما عدلاً يقبض ويسلّم إليهما. وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على التسليم [أولاً، وقال أبو حنيفة ومالك: يجبر المشتري على تسليم الثمن] ، 1 لأن للبائع حبس المبيع عليه.

وإن كان ديْناً، أجبر البائع على التسليم، ثم المشتري على تسليم الثمن. وقال مالك وأبو حنيفة: يجبر المشتري أولاً، كالتي قبلها.

وإذا سلمه البائع، وكان المشتري موسراً، أُجبر على تسليم الثمن إن كان حاضراً. وإن كان الثمن غائباً في مسافة القصر، أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ، كالمفلس. وإن كان غائباً قريباً، فللبائع الفسخ في أحد الوجهين. والثاني: لا.

فإن هرب المشتري وهو معسر، فاللبائع الفسخ. وإن كان موسراً، أثبت البائع ذلك عند الحاكم، ثم إن وجد له الحاكم مالاً قضاه، وإلا باع المبيع وقضى ثمنه منه. وقال شيخنا: ويقوى عندي: أن للبائع الفسخ بكل حال، لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيداً.

وليس للبائع الامتناع من التسليم بعد قبض الثمن، لأجل الاستبراء، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك في القبيحة، وقال في الجميلة: يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ.

1 زيادة من المخطوطة.

ص: 461

(فصل) : ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً، لم يجز بيعه حتى يقبضه. وإن تلف قبله، فمن مال بائع، إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين الفسخ ومطالبة المتلف، وسواء كان متعيّناً كالصبرة أو غير متعيّن كقفيز منها. وروي عن عثمان وابن المسيب وغيرهما:"أن ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما ليس بمكيل ولا موزون فيجوز بيعه قبل قبضه". وقال القاضي وأصحابه: المراد بذلك: ما ليس بمتعيّن، ونقل عن أحمد نحو ذلك، فإنه قال في رجل اشترى طعاماً وطلب من يحمله، فرجع وقد احترق، فمن مال المشتري.

وذكر الجوزجاني فيمن اشترى ما في السفينة صبرة ولم يسم كيلاً، فلا بأس أن يشرك فيها ويبيع ما شاء، إلا أن يكون بينهما كيلاً ونحوه؛ قال مالك وأبو حنيفة: ووجه قول ابن عمر: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فهذا من مال المبتاع". رواه البخاري.

ونقل عن أحمد: المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو لم يكن؛ فعليها، يختص ذلك بالمطعوم. قال الترمذي: روي عنه: أنه أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب، قبل قبضه.

قال الأثرم: سألته عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن؟ قال: هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب، فلا يبيعه حتى يقبضه. قال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد: أن الذي يمنع منه: الطعام، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل قبضه"، فمفهومه: إباحة بيع ما سواه. وروى ابن عمر قال: "رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يأووا إلى رحالهم"، 1 وهذا نص في بيع المعيّن، وعموم قولهم: من ابتاع طعاماً

إلخ، متفق عليهما؛ وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام، مع نصه على البيع مجازفة بالمنع، وهو خلاف قول القاضي. وكل ما لا يدخل في ضمان المشتري

1 البخاري: البيوع (2131) .

ص: 462

إلا بقبضه، لا يجوز بيعه حتى يقبضه، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما حكي عن البتي: أنه لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث؛ ومثل هذا لا يلتفت إليه.

والبيع بصفة أو رؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع. وإن تعيّب في يد البائع أو تلف بعضه بآفة سماوية، خُيّر المشتري بين أخذه ناقصاً وبين الفسخ.

وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه، في أظهر الروايتين، وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه. ولنا: على جواز التصرف فيه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال: "كنا نبيع الإبل في البقيع بالدراهم، فنأخذ بدل الدراهم الدنانير، وبالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم. فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء"، وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه. وقال صلى الله عليه وسلم في البكر:" هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع به ما شئت". 1

ولنا على أنه إذا تلف فمن مال المشتري: قوله: "الخراج بالضمان"، 2 وهذا نماؤه له. وأما أحاديثهم، فقد قيل: لم يصح منها إلا حديث الطعام، وهو حجة لنا بمفهومه. وكل عوض ملك بعقد، ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه. والأجرة وبدل الصلح عن دم العمد، إذا كان من المكيل والموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ بهلاكه، يجوز التصرف فيه، كعوض الخلع والعتق على مال، لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد. لكن ما يتوهم فيه غرر لانفساخه بهلاك المعقود عليه، لم يجز لنا بناء عقد آخر عليه، تحرزاً من الغرر. وما لا يتوهم فيه ذلك، جاز العقد عليه؛ وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك، لأنه لا ينفسخ بهلاكه. وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل

1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) .

2 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجة: التجارات (2243) .

ص: 463

قبضه، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعيّن، لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه، بالرد قبل الدخول، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة، أو نصفه بالطلاق، أو سبب من غير جهتها. وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض؛ فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول. فإن اشترى اثنان طعاماً فقبضاه، ثم باع أحدهما الآخر نصيبه قبل أن يقسماه، فكرهه الحسن وابن سيرين، لأنه لم يقبض نصيبه مفرداً. ويحتمل الجواز، لأنه مقبوض لهما، يجوز بيعه لأجنبي، فجاز لشريكه. فإن تقاسماه وتفرقا، ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل، لم يجز، كما لو اشترى من رجل طعاماً فاكتاله وتفرقا، ثم باعه إياه بذلك الكيل. وإن لم يتفرقا، خرج على الروايتين.

وكل ما يجوز بيعه قبل قبضه، لا يجوز الشركة فيه، ولا التولية، ولا الحوالة به؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه، لأنه يختص بمثل الثمن الأول، فجاز كالإقالة. ولنا: أن التولية والشركة من أنواع البيع، فيدخل في عموم النهي.

ويحصل القبض فيما بيع بكيل أو وزن، بكيله أو وزنه؛ روي عن أحمد: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز. ولنا: ما روى عثمان مرفوعاً: "إذا بعت فكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل". رواه البخاري. وروى ابن ماجة: "أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري"، 1 وهذا فيما بيع كيلاً.

وفي الصبرة وما يُنقل، بالنقل، لحديث ابن عمر، وهو يبين أن الكيل وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك قوله:"إذا سميت الكيل، فكِل ". 2 وأجرة الكيال والوزان على البائع، كسقي الثمرة، وأما نقل المنقولات وما أشبهه فعلى المشتري، لأنه لا يتعلق به حق توفية.

1 ابن ماجة: التجارات (2228) .

2 البخاري: البيوع (2054) والذبائح والصيد (5475، 5476)، والترمذي: الصيد (1471)، والنسائي: الصيد والذبائح (4264، 4274)، وأبو داود: الصيد (2854) ، وأحمد (4/256، 4/380) .

ص: 464

والإقالة فسخ، تجوز قبل القبض، ولا يستحق بها شفعة، ولا تجوز إلا بمثل الثمن. وفيه وجه آخر: أنها تجوز بمثل الثمن الأول وأقل منه.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

لو ألحقنا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحق، قال في الفائق: يتخرج إلحاقه، وهو المختار. انتهى. وهو رواية في الرعاية وغيرها.

ولا يجوز الخيار مجهولاً، وعنه: يجوز، وهما عليه إلا أن يقطعاه، أو تنتهي مدته. ولو وليت الإجارة العقد، لم يثبت فيها، يعني: خيار الشرط. وقيل: يثبت، قال في الفائق: اختاره شيخنا، وهو المختار.

وقال الشيخ: يثبت خيار الشرط في كل العقود، ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه. ونقل أبو طالب: له الفسخ برد الثمن، وجزم به الشيخ كالشفيع. وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار. وقال في القواعد: المنصوص عن أحمد: أن للمشتري التصرف فيه بالاستغلال، وظاهر قوله: ليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار، أن للبائع التصرف في الثمن المعين وغيره إذا قبضه، وهو ظاهر كلامه في الشرح والفروع وغيره، لعدم ذكرهم للمسألة.

وأما تصرف المشتري ووطؤه وتقبيله، فهو إمضاء وإبطال لخياره. وعنه: لا يبطل به. وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه، وبطل خيارهما. وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة يوم العتق.

قوله في التلقي: وعلموا أنهم قد غبنوا، وعنه: لهم الخيار وإن لم يغبنوا. وثبت للمسترسل الخيار إذا غبن، وهو من المفردات، وعنه: لا يثبت.

ويحرم

ص: 465

تغرير مشتر، بأن يسومه كثيراً ليبذل قريباً منه، ذكره الشيخ. وقال: وإن دلس مستأجر على مؤجر، وغره حتى استأجره بدون القيمة، فله أجرة المثل.

ويرد مع المصراة صاعاً من تمر، وقال الشيخ: يعتبر في كل بلد صاعاً من غالب قوته. ولا يحل تدليس ولا كتمان عيب، قال الشيخ: وكذا لو أعلمه ولم يعلما قدره، وأنه يجوز عقابه بإتلافه، والتصدق به إذا دلسه. قال: والجار السوء عيب، قال أحمد: من اشترى مصحفاً فوجده ينقص الآية والآيتين، ليس هذا عيباً، لأنه لا يخلو المصحف من هذا.

وقوله: فله الخيار، وعنه: ليس له أرش إلا إذا تعذر رده، اختاره الشيخ. وكذلك يقال في نظائره، كالصفقة إذا تفرقت. وعنه: لا رد ولا أرش لمشتر، وهبة بائع ثمناً أو براءة منه كمهر، وفي رواية: ولو أسقط المشتري الخيار بعوض بُذل له جاز، وليس من الأرش. ونص أحمد على مثله في خيار المعتقة تحت عبد.

والنماء المتصل للبائع، وقال الشيرازي: للمشتري، اختاره الشيخ، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور. فعلى هذا يقوم على البائع. ووطء الثيب لا يمنع الرد، وعنه: يمنع، اختاره الشيخ. وعنه: عهدة الحيوان ثلاثة أيام، والمذهب: لا عهدة. قال أحمد: لا يصح فيه حديث.

وتقدم أن الشيخ قال: يجبر في خيار العيب على الرد أو الأرش، إن تضرر البائع أي: بالتأخير. وقوله: لم يجز بيعه حتى يقبضه، وعنه: يجوز بيعه لبائعه، اختاره الشيخ.

وجوز التولية فيه والشركة، وخرجه من بيع دين، واختار أيضاً جواز التصرف فيه بغير بيع. وذكر أبو الخطاب رواية: أن المطعوم كالمكيل والموزون، لا يجوز التصرف فيه مطلقاً ولو ضمنه، اختاره الشيخ وقال: عليها تدل أصول أحمد، كتصرف المشتري في الثمرة،

ص: 466

والمستأجر في العين، مع أنه لا يضمنها. وعكسه كالصبرة المعينة، كما شرط قبضه لصحته، كسلم وصرف.

وما جاز له التصرف فيه فمن ضمانه، إذا لم يمنعه البائع. وقال الشيخ: لا يكون من ضمانه إلا إذا تمكن من قبضه، وقال: ظاهر المذهب: الفرق بين ما تمكن من قبضه وغيره ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره. قال في الفروع: كذا قال. ويحرم تعاطيهما عقداً فاسداً، فلا يملك به. قال الشيخ: يترجح أنه يملك بعقد فاسد.

ص: 467

‌باب الربا والصرف

وهو نوعان: (ربا الفضل) و (ربا النسيئة) ، وأجمعت الأمة على تحريمهما. وقد روي في ربا الفضل عن ابن عباس، ثم رجع؛ قاله الترمذي وغيره. وقوله:"لا ربا إلا في النسيئة" 1 محمول على الجنسين. فأما ربا الفضل فيحرم في كل مكيل أو موزون، وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين. وعنه: لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم. وعنه: لا يحرم إلا فيما إذا كان مكيلاً أو موزوناً.

والأعيان الستة ثبت الربا فيها بالنص والإجماع. واختلف فيما سواها. فعن طاووس وقتادة أنهما قصرا الربا عليهما، وبه قال داود ونفاة القياس. واتفق القائلون به على أن الربا فيها لعلة، وأنه يثبت فيما وجدت فيه، ثم اتفقوا على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير فإنه قال:"كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، كالحنطة والشعير، والتمر والزبيب، والذرة والدخن"، وهذا مخالف لقوله:"بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد"، 2 فلا يُعوّل عليه. واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة. ثم اختلفوا في علة كل واحدة منهما. فعن أحمد ثلاث روايات: أشهرهن: أن علة الذهب والفضة: كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة: كونه مكيل جنس؛ وبه قال النخعي والزهري والثوري. فعليها، لا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات.

والثانية: أن العلة

1 مسلم: المساقاة (1596)، والنسائي: البيوع (4580، 4581)، وابن ماجة: التجارات (2257) ، وأحمد (5/202) .

2 الترمذي: البيوع (1240)، والنسائي: البيوع (4560، 4561، 4562) ، وأحمد (5/320) .

ص: 468

في الأثمان: الثمنية، وما عداها: كونه مطعوم جنس؛ فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها. ونحوه قال الشافعي، لما روى معمر بن عبد الله:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلاً بمثل"، رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ به قوام الأموال، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات.

والثالثة: العلة فيما عدا النقدين: كونه مطعوم جنس مكيل أو موزون، فلا يجرى في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والبطيخ، ولا فيما ليس بمطعوم، كالزعفران والحديد؛ يروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعي، لما روي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ربا إلا فيما كِيل أو وُزن، مما يؤكل أو يشرب". أخرجه الدارقطني وقال: الصحيح أنه من قوله، ومَن رفعه فقد وهم. والأحاديث الواردة في هذا يجب الجمع بينها، فنهيه عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه، وهذا اختيار شيخنا. وقال مالك: العلة: القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدّخرات. وقال ابن سيرين: الجنس الواحد علة، وهذا لا يصح "لأنه صلى الله عليه وسلم ابتاع عبداً بعبدين". 1 قال الترمذي: حسن صحيح. وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت، ولا ربا فيه عنده.

فالحاصل: أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا، رواية واحدة، كالأرز والدخن والذرة والدهن ونحوه؛ وهذا قول الأكثر. قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، وما انعدم فيه ذلك فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم،

1 مسلم: المساقاة (1602)، وأبو داود: البيوع (3358) .

ص: 469

كالنوى والقت. وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد، ففيه روايتان. والأولى، إن شاء الله، حلُّه إذ ليس فيه دليل موثوق به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضاً، فوجب إطراحها والرجوع إلى أصل الحِلّ. وقوله: في كل مكيل

إلخ، أي: بأن كان جنسه ذلك، وإن لم يتأت فيه إما لقلته كالحبة والحفنة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو كثرته كالزبرة العظيمة.

ورخص أبو حنيفة في الحفنة بالحفنتين، وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله، ووافق في الموزون، واحتج بأن العلة: الكيل، ولم يوجد في اليسير. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر، مثلاً بمثل

إلخ". 1 ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة بحفنة.

قال أحمد: لا بأس بالثوب بالثوبين، وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال: لا يباع الفلس بالفلسين، ولا السكين بالسكينين، ولا الإبرة بالإبرتين، أصله الوزن. ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل في الجميع روايتين: إحداهما: لا يجري في الجميع، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، لأنه ليس بموزون ولا مكيل؛ وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والإجماع فيه. والثانية: يجري في الجميع، لأن أصله الوزن، فلا يخرج عنه بالصناعة.

ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف: لا يجري فيه، لأنه يباع بغير وزن. ولنا: أنه لحم، وهو من جنس ما يوزن، أشبه ما يباع من الخبز عدداً، والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور، سواء. وهذا قول الأكثر. وحكي عن مالك: جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكره أصحابه. وحكي عن أحمد: أنه لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، لأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل

إلخ". 2 وكل ما حرم فيه ربا الفضل، حرم فيه النسأ بغير خلاف.

1 مسلم: المساقاة (1587)، والترمذي: البيوع (1240)، والنسائي: البيوع (4560، 4561 ،4562، 4564)، وأبو داود: البيوع (3349) ، وأحمد (5/314 ، 5/320)، والدارمي: البيوع (2579) .

2 البخاري: البيوع (2176)، والترمذي: البيوع (1241)، والنسائي: البيوع (4570) ، وأحمد (3/47، 3/53، 3/58، 3/73) .

ص: 470

ويحرم التفرق قبل القبض، لقوله صلى الله عليه وسلم:"عينا بعين". ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، وقال مالك: يجوز بيع بعض الموزونات ببعض جزافاً. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، وزناً بوزن

إلخ". 1 ولو باع بعضه ببعض جزافاً، أو كان جزافاً من أحد الطرفين، لم يجز.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن ذلك لا يجوز، إذا كان من صنف واحد، لما روى مسلم عن جابر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها، بالكيل المسمى من التمر"2.

وفي قوله: "الذهب بالذهب

إلخ" دليل على أنه لا يجوز إلا كذلك، قال ابن المنذر: أجمع أكثر أهل العلم على أن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة لا يدري كم كيل هذه ولا كيل هذه من صنف واحد، غير جائز، ولا بأس به من صنفين، استدلالاً بقوله: "فإذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم". وذهب بعض أصحابنا إلى منع بيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، جزافاً. قال أحمد في رواية: أكره ذلك، وقاله القاضي والشريف، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة". ولنا: قوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، يداً بيد". 3 وحديثهم أراد به الجنس الواحد، ولهذا جاء في بعض ألفاظه: "نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر". 4 واختلفت الرواية في البر والشعير، فظاهر المذهب أنهما جنسان، وعنه: جنس واحد، لقول معمر: "إني أخاف أن يضارع الربا"، أخرجه مسلم. ولنا: قوله: "بيعوا البر بالشعير كيف شئتم.. . إلخ"، 5 وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس بدليل سائر أجناس الطعام. ويحتمل أنه أراد المعهود، فإنه قال في الخبر: "وكان طعامنا يومئذ الشعير، وفعله معمر وقوله لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم".

1 مسلم: المساقاة (1588) .

2 مسلم: البيوع (1530)، والنسائي: البيوع (4547) .

3 مسلم: المساقاة (1587)، والترمذي: البيوع (1240)، والنسائي: البيوع (4560، 4562) .

4 مسلم: البيوع (1530)، والنسائي: البيوع (4547) .

5 الترمذي: البيوع (1240)، وابن ماجة: التجارات (2254) .

ص: 471

وفروع الأجناس أجناس، كالأدقة والأخباز والأدهان. وعن أحمد: أن خل التمر وخل العنب جنس واحد، لأن الاسم الخاص يجمعهما. وهذا منقوض بسائر فروع الأصول التي ذكرنا، وقد يكون الجنس مشتملا على جنسين، كالتمر على النوى، واللبن على الزبد، فما داما متصلين فهما جنس، فإذا ميز أحدهما من الآخر صارا جنسين.

واللحم أجناس باختلاف أصوله، وعنه: جنس واحد، وعنه: أربعة أجناس: لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء. وفي اللبن روايتان. واللحم والشحم والكبد أجناس، وقال القاضي: لا يجوز بيع اللحم بالشحم، وكرهه مالك إلا أن يتماثلا. ولا يجوز بيع لحم الحيوان بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي، وبغير جنسه وجهان. وحكي عن مالك: لا يباع بحيوان معدّ للحم، ويجوز بغيره. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقاً. ولنا: "نهيه صلى الله عليه وسلم من بيع اللحم بالحيوان"، رواه مالك. ولا يجوز بيع حب بدقيقه، وعنه: أنه جائز؛ فعليها يباع وزناً، لأن الدقيق يأخذ من المكيال كثيراً، وبهذا قال إسحاق. فأما الخبز والهريسة والفالوذج وأشباهها، فلا يباع بالحنطة، وقال أبو حنيفة: يجوز، بناء على مسألة "مد عجوة".

ولا يجوز بيع أصل بعصيره، ولا خالصه بمشوبه، وقال أبو ثور: يجوز. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا علم أن ما في الأصل من الدهن والعصير أقل من المفرد. وعن أحمد: يجوز بيع اللبن بالزبد، إذ الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن.

ولا يجوز بيع الخالص بالمشوب، كحنطة فيها شعير بخالصه، ولبن مشوب بخالص، واللبن بالكشك الكامخ، ويتخرج الجواز إذا كان اللبن أكثر من الذي

ص: 472

في الكشك والكامخ، بناء على مسألة "مدّ عجوة". [ولا يجوز بيع المشوب بالمشوب، بناء على مسألة "مد عجوة"]1.

ويجوز بيع نوع بنوع آخر إذا لم يكن فيه منه، وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض: الشافعي وإسحاق، لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود، كالملح في الشيرج. ولا يجوز بيع الزبد بالسمن، لأن في الزبد لبناً يسيراً فيحيل التماثل، واختار القاضي جوازه، لأن اللبن غير مقصود، ولا يصح ذلك لأن التماثل شرط، كتمر منزوع النوى بما نواه فيه.

"ولا يجوز بيع رطب بيابس، كالرطب بالتمر، والعنب بالزبيب"، وبه قال سعد بن أبي وقاص وابن المسيب. وقال أبو حنيفة: يجوز، لأنه إما أن يكون جنساً فيجوز متماثلاً، وجنسين فيجوز. وعن سعد:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: عن بيع الرطب بالتمر؟ (فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟) قالوا: نعم. فنهى عن ذلك". 2 رواه مالك.

ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، والمشهور عن الشافعي: المنع. وذكر القاضي: يباع وزناً بوزن، ولا وجه له.

ولا يباع الدقيق بالسويق، وعنه: الجواز. ويجوز بيع الخبز بالخبز وزناً، إذا تساويا في النشافة والرطوبة، وقال مالك: إذا تحرى المماثلة فلا بأس. وعن أبي حنيفة: لا بأس قرصاً بقرصين. وقال الشافعي: لا يباع بعضه ببعض، إلا أن ييبس ويدق ويباع كيلاً، ففيه قولان.

ويجوز بيع العصير بجنسه متماثلاً ومتفاضلاً بغير جنسه، وقال أصحاب الشافعي: لا يباع المطبوخ بجنسه، لأن النار تعقد أجزاءهما فتختلف. وإن باع

1 زيادة من المخطوطة.

2 الترمذي: البيوع (1225)، والنسائي: البيوع (4545)، وأبو داود: البيوع (3359)، وابن ماجة: التجارات (2264) ، وأحمد (1/175، 1/179)، ومالك: البيوع (1316) .

ص: 473

عصير شيء من ذلك بتفله، فإن كان فيه بقية من المستخرج منه لم يجز، إلا على قولنا بجواز "مدّ عجوة".

ويجوز بيع الرطب بالرطب، والعنب بمثله، في قول الأكثرين؛ ومنع منه الشافعي فيما يبس، فأما ما لا ييبس كالخيار، فعلى قولين. ولنا: أن نهيه عن بيع التمر بالتمر يدل على إباحة بيع كل واحد منهما بمثله.

ويجوز بيع الدبس والخل، كل نوع بعضه ببعض متساوياً، قال أحمد في خل الدقل: يجوز بيع بعضه ببعض متساوياً، لأن الماء في كل واحد منهما غير مقصود. ولا يباع نوع بآخر، لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقلّ ويكثر، فيفضي إلى التفاضل.

ولا يباع خل العنب بخل الزبيب، لانفراد أحدهما بما ليس من جنسه. ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض، كخل العنب وخل التمر.

ويجوز بيع اللحم باللحم رطباً، وقال الخرقي: لا يجوز إلا إذا تناهى جفافه؛ وهذا مذهب الشافعي. وإذا جاز الرطب بالرطب، فهنا أولى، فأما رطبه بيابسه، ونيئه بمطبوخه، فلا يجوز. وقال القاضي: لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا بعد نزع العظام، كالعسل بمثله بعد التصفية.

ولا يجوز بيع المحاقلة، وهو: الحب المشتد في سنبله، بجنسه، قال جابر: المحاقلة: أن يبيع الزرع بمائة فرق من الحنطة، وفسره أبو سعيد باستكراء الأرض بالحنطة. ولأنه بيع الحب بجنسه جزافاً من أحد الجانبين، فإن كان بدراهم أو دنانير جاز، وإن باعه بغير جنسه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، لقوله:"إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم". والثاني: لا يجوز، لعموم الحديث.

ولا بيع المزابنة، وهو: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، إلا في العرايا،

ص: 474

وقال أبو حنيفة: لا تحل، لعموم الحديث. قال ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا، وحديثهم في سياقه:"إلا العرايا"، وإنما تجوز بشروط خمسة:

(أحدها) : أن تكون فيما دون خمسة أوسق، ولا خلاف أنه لا يجوز في زيادة عليها، وإنما تجوز فيما نقص عنها. وأما الخمسة فظاهر المذهب أنه لا يجوز فيها، وبه قال ابن المنذر. وقال مالك: يجوز، لأن في حديث زيد وسهل:"أنه رخص في العرايا مطلقاً، ثم استثنى ما زاد على الخمسة"، وشك الراوي في الخمسة، فبقي المشكوك فيه على الإباحة. ولنا: النهي عن المزابنة، ثم رخص في العرية فيما دون خمسة، وشك فيها، فتبقى على العموم في التحريم. وقولهم: أرخص فيها مطلقاً، فلم يثبت أن الرخصة المطلقة ثابتة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها؛ بل الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة، فيصير القيد المذكور كأنه مذكور في الآخر، ولذلك تقيد فيما زاد على الخمسة، باتفاقنا. ولا يشتري أكثر من خمسة فيما زاد على صفقة من واحد وجماعة، وقال الشافعي: يجوز للرجل بيع حائطه كله عرايا، من واحد أو رجال، في عقود متكررة، لعموم حديث زيد، ولأن كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر. ولنا: عموم النهي عن المزابنة، استثنى منها ما ذكر؛ فما زاد يبقى على التحريم، ولأن ما لا يجوز العقد عليه مرة إذا كان نوعاً واحداً لا يجوز في عقدين، كالجمع بين الأختين. ولا تعتبر حاجة البائع، فلو باع رجل عرية من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز. وقال القاضي: لا يجوز، لما ذكرنا في المشتري. ولنا: أن المغلب في التجويز حاجة المشتري.

ص: 475

(الثاني) : أن يكون مشتريها محتاجاً إلى أكلها رطباً، فلا يجوز لغني، وهو أحد قولي الشافعي. وله قول: تباح مطلقاً، لأن كل ما بيع وقد جاز للمحتاج جاز للغني، كسائر البياعات، ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان. ولنا: حديث زيد بن ثابت، وإذا خولف الأصل بشرط، لم تجز مخالفة بدونه، ولا يلزم من إباحته للحاجة إباحته مع عدمها، كالزكاة للمساكين. ولو باعها لواهبها، تحرزاً من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك، أو لغيره، لم يجز. وقال ابن عقيل: يباح، ويحتمله كلام أحمد، لأن الحاجة وجدت من الجانبين. ولنا: حديث زيد: "شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون رطباً، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر". والرخصة لمعنى خاص، فلا تجوز مع عدمه، ولأن في حديث زيد وسهل يأكلها أهلها رطباً، ولو جازت لتخليص المعرى لما شرط ذلك.

(الثالث) : ألا يكون للمشتري نقدٌ يشتري به، للخبر المذكور.

(الرابع) : أن يشتريها بخرصها من التمر، ويجب أن يكون التمر معلوماً بالكيل لا جزافاً، لا نعلم خلافاً في هذا عند من أباح بيع العرايا، لقوله:"تباع بخرصها كيلاً"، 1 ومعناه: أن ينظر الخارص إلى العرية كم تجيء من التمر، فللمشتري بمثله؛ وبها قال الشافعي. ونقل حنبل: بخرصها رطباً ويعطى تمراً، وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أن يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها؛ قال القاضي: والأول أصح، لأنه يبتني على خرص الثمار في العشر، والصحيح: ثم خرصه تمراً، ولأن المماثلة معتبرة حالة الادخار، وبيع الرطب بمثله تمراً يفضي إلى فوات ذلك.

وإن اشتراها بخرصها رطباً، لم يجز، وهذا أحد الوجوه لأصحاب

1 البخاري: البيوع (2191)، وأبو داود: البيوع (3363) .

ص: 476

الشافعي. والثاني: يجوز. والثالث: لا يجوز مع اتفاق النوع. ووجه جوازه: ما روى الجوزجاني عن زيد، مرفوعاً:"أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو التمر". 1 ولنا: ما روى مسلم عنه: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا، تؤخذ بمثل خرصها تمراً". 2 وحديثهم شك في الرطب أو التمر، فلا يجوز مع الشك.

(الخامس) : التقابض في المجلس، لا نعلم فيه مخالفاًً، ولا يشترط فيها أن تكون موهوبة لبائعها، وبه قال الشافعي. وقال مالك: بيع العرايا الجائز: أن يعري الرجل النخلات من حائطه، ثم يكره صاحب الحائط دخوله حائطه، لأنه ربما كان مع أهله في الحائط، فيجوز أن يشتريها. واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخل عاماً، قال أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخلة عامها ذلك، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه في اللغة ما لم يوجد ما يصرفه. ولنا: حديث زيد، وهو حجة على مالك، لتصريحه في جواز بيعها من غير الواهب، ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق. وفيه حجة على أن من اشترط كونها موهوبة لبائعها، لأن العلة حاجة المشتري، ولأن اشتراط ذلك مع حاجة المشتري إلى أكلها رطباً ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة، إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين. وقال القاضي: يجوز في سائر الثمار، وهو قول مالك والأوزاعي، ويحتمل أن يجوز في العنب دون غيره، وهو قول الشافعي. ووجه الأولى:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، التمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمرة بخرصه"، 3 وهذا حديث حسن رواه الترمذي، وهو يدل على تخصيصها

1 مسلم: البيوع (1539)، والنسائي: البيوع (4540)، وابن ماجة: التجارات (2269) .

2 البخاري: البيوع (2188)، ومسلم: البيوع (1539)، والترمذي: البيوع (1300، 1302)، والنسائي: البيوع (4536، 4538، 4539)، وابن ماجة: التجارات (2268) .

3 مسلم: البيوع (1540)، والترمذي: البيوع (1303)، والنسائي: البيوع (4543، 4544) .

ص: 477

بالتمر. وعن زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك".

(فصل) : ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم، بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم. وعنه: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، هذه تسمى "مدّ عجوة". وظاهر المذهب: أنه لا يجوز، نص عليه أحمد في مواضع. روي عن سالم والقاسم وبه قال الشافعي. وقال حرب: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفياً ودرهماً، وأخذت ديناراً شامياً، وزنهما سواء، قال: لا يجوز، إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة. وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن: الدراهم بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم؟ فقال: لا أقول فيه شيئاً. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: يجوز بما ذكرنا من على الشرط، وقال الحسن:"لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم"، وبه قال الشعبي والنخعي، واحتجوا بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد، وقد أمكن جعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل. ولنا: ما روى فضالة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما. قال: فردّه حتى ميز بينهما". 1 رواه أبو داود. ولمسلم: "أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: الذهب بالذهب، وزناً بوزن"، 2 ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا فعلنا ذلك فيمن باع

1 أبو داود: البيوع (3351) .

2 مسلم: المساقاة (1588) .

ص: 478

درهماً ومداً قيمته درهماً بمدين قيمتهما ثلاثة، حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث، هذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي بجهل ذلك، لأن التقويم ظن، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه. وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه، كدينار قراضة وصحيح بصحيحين، أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، صح، أومأ إليه أحمد؛ وهو مذهب مالك والشافعي، لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته، وروي عن أحمد منعه في النقد، لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها، فعفي عنها. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل. .. إلخ"، 1 وهذا يدل على الإباحة عند وجود المماثلة.

وإن باع جنساً فيه الربا بجنسه، ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود، فعلى أقسام:

أحدها: أن يكون غير المقصود يسيراً لا يؤثر في كيل ولا وزن، كالملح في الخبز، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع، لأنه لا يخل بالتماثل. ولو باع ذلك بجنس غير مقصود الذي معه، كخبز بملح جاز.

الثاني: أن يكون غير المقصود كثيراً، إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في الخل، فيجوز بيعه بمثله، ويستنزل خلطه منزلة رطوبته، كالرطب بالرطب. ومنع الشافعي ذلك كله، إلا الشيرج بالشيرج، لكون الماء لا يظهر فيه.

الثالث: أن يكون غير المقصود كثيراً أو ليس من مصلحته، كاللبن المشوب بالماء بمثله، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض، لأن خلطه ليس من مصلحته، وهو يخل بالتماثل. وإن باعه بجنس غير مقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم، احتمل الجواز، لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه، فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن. ويحتمل المنع بناء على الوجه

1 البخاري: البيوع (2176)، والترمذي: البيوع (1241)، والنسائي: البيوع (4570) ، وأحمد (3/47، 3/53، 3/58، 3/73) .

ص: 479

الآخر في الأصل. ولو دفع درهماً وقال: أعطني بنصفه نصف درهم، وبنصفه الآخر فلوساً، جاز. والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة: الاعتبار في كل بلد بعادته.

(فصل) : ومتى كان أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً، جاز النسأ فيهما بغير خلاف، وإلا فكل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة، بغير خلاف نعلمه عند من يعلل به. وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد، وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض في غير النقدين، لأن ما عداهما ليس بأثمان، كبيعه بأحد النقدين. ولنا: قوله: "يداً بيد". وإن باع مكيلاً بموزون، كاللحم بالبرّ، جاز التفرق قبل القبض، وفي النسإ روايتان؛ هذا ذكره أبو الخطاب، وقال: هو رواية واحدة، لأن العلة مختلفة فجاز التفرق، كالثمن والمثمن. ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض، وفي النسإ روايتان: إحداهما: لا يجوز، لأنهما من أموال الربا كالمكيل بالمكيل. والثانية: يجوز، وهو قول النخعي، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي العلة؛ وعند من يعلل بالطعم: لا يجيزه هنا.

وما لا يدخله ربا الفضل، كالثياب والحيوان، فيه أربع روايات:

إحداهن: لا يحرم النسأ فيه، لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة"، 1 فعليها تحريم النسإ للوصف الذي مع الجنس، أما الكيل أو الوزن أو الطعم عند من يعلل به، [فيختص تحريم النسإ بالمكيل والموزون]2.

الثانية: يحرم النسأ في كل مال بيع بمال آخر، سواء كان من جنسه أو لا، لحديث سمرة:"نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". 3 قال الترمذي: حديث صحيح، فتكون علة النسإ: المالية.

1 أبو داود: البيوع (3357) .

2 زيادة من الأصل.

3 الترمذي: البيوع (1237)، والنسائي: البيوع (4620)، وأبو داود: البيوع (3356)، وابن ماجة: التجارات (2270) ، وأحمد (5/12، 5/19، 5/21، 5/22)، والدارمي: البيوع (2564) .

ص: 480

قال القاضي: فعليها، لو باع عرضاً بعرض ومع أحدهما دراهم، العروض نقد والدراهم نسيئة، جاز. وإن كان بالعكس لم يجز، لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض. قال شيخنا: وهذه الرواية ضعيفة جداً، لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح، لأن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافاً لها أمر في تحريم الفضل، فلا يجوز حذفها، وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه، وإن لم يخالف أصلاً، فكيف مع مخالفة الأصل في حل البيع. والحديث من رواية الحسن عن سمرة، وأبو عبد الله لا يصحح سماعه منه.

الثالثة: يحرم النسأ في كل مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان، ولا يحرم في غيره؛ وهذا مذهب أبي حنيفة. ويروى كراهة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة عن ابن الحنفية وابن سيرين وغيرهما، لأن الجنس أحد وصفي العلة.

الرابعة: لا يحرم إلا فيما بيع بجنسه متفاضلاً، لما روى جابر، رفعه:" الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نسأ، ولا بأس به يداً بيد"، 1 قال الترمذي: حديث حسن، ولأحمد عن ابن عمر:"أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس؟ " 2 الحديث، والرواية الأولى أصح لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها فقد قال أحمد: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه. وإن كان أحد المبيعين لا ربا فيه والآخر فيه ربا، كالمكيل بالمعدود، ففي تحريم النسإ فيهما روايتان.

ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع الديْن بالديْن. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا، أن الصرف فاسد، ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال مالك:

1 الترمذي: البيوع (1238)، وابن ماجة: التجارات (2271) ، وأحمد (3/310، 3/380، 3/382) .

2 أحمد (2/109) .

ص: 481

لا خير في ذلك، لأنهما فارقا مجلسهما. ولنا: أنهما لم يفترقا، وقد دل عليه حديث أبي برزة في اللذيْن مشيا إليه قال:"ما أراكما افترقتما". وإن قبض البعض ثم افترقا، بطل في الجميع، وفيما لم يقبض، بناء على تفريق الصفقة. وإن تقابضا ثم افترقا، فوجد أحدهما عيباً فردّه، بطل العقد؛ هذا إن كان فيه عيب من غير جنسه، وإن كان منه، فتذكره. والرواية الأخرى: لا يبطل، لأن قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه. وإذا اشترى من رجل ديناراً صحيحاً بدراهم وتقابضا، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة، فلا بأس. قال أحمد: بيعها من غيره أحب إلي. قيل له: فإن لم يعلمه أنه يريد بيعها منه؟ قال: يبيعها من غيره، فهو أطيب لنفسه، وأحرى أن يستوفي الذهب منه، فإنه إذا ردها إليه لعله ألا يوفيه الذهب. ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول: هي رجع إلي. قيل له: فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره، فلم يجدها فرجع إليه. قال: إذا كان لا يبالي اشتراها منه أو من غيره، فنعم. وقال مالك: إن فعل ذلك مرة جاز، وإن فعله أكثر من مرة لم يجز، لأنه يضارع الربا. ولنا: حديث بلال، ولم يأمره أن يبيع من غير من يشتري منه، ولأن ما جاز من التبايعات مرة جاز على الإطلاق. وإن تواطآ على ذلك لم يجز، وكان حيلة محرمة، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطاً في العقد.

و (الصرف) قسمان: أحدهما: عين بعين. الثاني: أن يقع على موصوف نحو: بعتك ديناراً مصرياً بعشرة دراهم ناصرية، وقد يكون أحدهما معيناً، وكل ذلك جائز. فإن تبايعا عيناً بعين، ثم تقابضا فوجد أحدهما عيباً، فإن كان غشاً من غير جنسه كالنحاس في الدراهم، فالصرف باطل. وذكر أبو بكر

ص: 482

ثلات روايات: هذه إحداها. والثانية: صحيح، وللمشتري الخيار والرد وأخذ البدل. والثالثة: يلزمه العقد ولا رد ولا بدل.

ولنا: أنه باعه غير ما سمى فلم يصح، واللزوم لا يصح، لأنه اشترى معيباً لم يعلمه، فلا يلزمه بغير أرش.

وإن كان العيب من جنسه، كالسواد في الفضة، فيصح، ويخيّر بين الإمساك والرد. وإن قلنا: إن النقد لا يتعين بالتعيين، فله أخذ البدل ولا يبطل العقد ولو أراد أخذ الأرش، والعوضان من جنس واحد لم يجز بحصول الزيادة، وإن كان بغير جنسه فله أخذه في المجلس. وإن كان بعد التفرق لم يجز، إلا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن، كأخذ أرش عيب الفضة حنطة فيجوز. وكذلك الحكم في سائر أحوال الربا، لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما شرط فيه القبض. وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض، ثم علم عيبه، فسخ ورد الموجود، ويبقى قيمة المعيب في ذمة من تلف في يده، سواء كان الصرف بجنسه أو غيره. قال ابن عقيل: وروي عن أحمد جواز أخذ الأرش، والأول أولى، إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين.

وإن تصارفا في الذمة صح، إذا تقابضا قبل الافتراق، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وعنه: لا يجوز حتى يظهر أحد العينين وتعيّن، لقوله:"ولا تبيعوا غائباً بناجز"، 1 ولأنه بيع دين بدين. ولنا: أنهما تقابضا في المجلس، فالحديث يراد به ألا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض، بدليل ما لو عيّن أحدهما فإنه يصح.

وإن وجد أحدهما عيباً قبل التفرق، فله المطالبة بالبدل، سواء كان العيب من جنسه أو لا، لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن رضيه بعيبه وهو من جنسه جاز. وإن اختار الأرش والعوضان من جنس جاز. وإن افترقا والعيب من جنسه، فله إبداله، في إحدى الروايتين؛ روي عن الحسن

1 البخاري: البيوع (2177)، ومسلم: المساقاة (1584)، والترمذي: البيوع (1241)، والنسائي: البيوع (4571) ، وأحمد (3/4، 3/51، 3/53، 3/61، 3/73)، ومالك: البيوع (1324) .

ص: 483

وقتادة. والثانية: ليس له ذلك. ومن نصر الأول قال: قبض الأول صح به العقد، والثاني بدل عن الأول.

ويشترط أخذ البدل في مجلس الرد، وإلا بطل العقد. وإن وجد في البعض، فعلى الأولى له البدل، وعلى الثانية يبطل في المردود، وفيما لم يردّ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة.

وإن اختار الفسخ، فعلى قوله البدل: لا فسخ له إن أبدله، وعلى الأخرى: له الفسخ والإمساك في الجميع. وإن اختار الأرش بعد التفرق، لم يكن له ذلك، ويجوز على الرواية الأخرى.

وإذا كان لرجل في ذمة آخر ذهب، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا، لم يصح؛ وبه قال الشافعي، لأنه بيع ديْن بديْن. وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه لا يجوز. قال أحمد: إنما هو إجماع. وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة: جوازه، لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة.

ولو كان لرجل على رجل دنانير، فقضاه دراهم شيئاً بعد شيء، فإن كان يعطيه كل يوم درهماً بحسابه من الدينار صح، نص عليه.

ويجوز اقتضاء أحد النقدين عن الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمة، في قول الأكثرين. ومنع منه ابن عباس وغيره. ولنا: حديث ابن عمر، وفيه:"لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء". 1 قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا، إلا ما قال أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي، لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضاً. ولنا: قوله: "بسعر يومها "، ولأنه جرى مجرى القضاء فتقيد بالمثل، والتماثل هنا بالقيمة لتعذره بالصورة. قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بالدانق في الدينار وما أشبهه، فسهل فيه

1 النسائي: البيوع (4582)، وأبو داود: البيوع (3354) ، وأحمد (2/139، 2/154)، والدارمي: البيوع (2581) .

ص: 484

ما لم يكن حيلة. فإن كان الذي في الذمة مؤجلاً، فقد توقف أحمد فيه، ومنعه مالك، لأنه غير مستحق القبض، فكان القبض ناجزاً في أحدها والتأخير يأخذ قسطاً من الثمن.

والثاني: الجواز، وهو قول أبي حنيفة، لأن ما في الذمة بمنزلة المقبوض، فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، وهذا الصحيح إذا قضى بسعر يومها ولم يجعل للمقتضي فضلاً لأجل تأجيل ما في الذمة، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله.

ولو كان له عند رجل دينار وديعة، فصارفه به، وهو معلوم بقاؤه أو مظنون، صح. وإذا عرفا وزن العوضين، جاز أن يصطرفا بغير وزن. وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدّقه، فإن وجد أحدهما نقصاً بطل.

والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، فلا يجوز إبدالها. وإن خرجت مغصوبة، بطل العقد؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن أحمد: أنها لا تتعين، فيجوز إبدالها، وهذا مذهب أبي حنيفة. فعلى الأول، إن وجدها معيبة، خُيّر بين الإمساك والرد.

وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان: أظهرهما: الجواز. ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به. وقد أشار أحمد إلى هذا فقال في رجل اجتمعت عنده زيوف يسبكها، قيل: يبيعها بدينار؟ قال: لا. قيل: يبيعها بفلوس؟ قال: أخاف أن يغرّ بها مسلماً. فقد صرح بأنه إنما كرهه للتغرير، وعليه يحمل منع عمر بيع نفاية بيت المال.

فإن قيل فقد روي عن عمر: "من زافت دراهمُه فليخرج بها إلى البقيع، فيشتري بها سحق الثياب"، قلنا: قد قال أحمد: معنى: زافت أي: نفيت، ليس أنها زيوف؛ ويتعين حمله عليه، جمعاً بين الروايتين.

ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشيء من جنسه. وإن كان بغير

ص: 485

جنسه، فقد حكى ابن المندر عن أحمد: كراهة بيع تراب المعادن، وهو قول عطاء والشعبي والشافعي، لأنه مجهول. وقيل: يجوز، وهو قول مالك، روي ذلك عن الحسن والنخعي. والحيل كلها محرمة، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كما يخادعون صبياً، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليّ.

وقال أبو حنيفة والشافعي: هذا جائز إذا لم يشرط في العقد. ولنا: أن الله عذب أمة بحيلة احتالوها، وجعل ذلك موعظة للمتقين ليتعظوا بهم.

وإن اشترى شيئا بمكسرة، لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها، قال أحمد: هذا الربا المحض.

ويحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين المسلمين في دار الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يحرم بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما، لما روى مكحول، رفعه:"لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب". ولنا: قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} ، والخبر مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك؛ ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة بخبر مجهول. وقولهم: إن مال أهل الحرب يباح، ينتقض بالحربي في دار الإسلام، فإن ماله يباح إلا ما حضره الأمان.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

وجوز الشيخ بيع المصوغ المباح من النقدين بقيمته حالاً، وكذا جوزه نسأ، ما لم يقصد كونها ثمناً، قال: وإنما خرج عن القيمة بالصنعة، فليس بربوي،

ص: 486

وإلا فجنس بنفسه، فيباح خبز بهريسة.

وجوز أيضاً بيع موزون ربوي بالتحري للحاجة. وعلى المذهب، يجوز التفاضل فيما لا يوزن لصناعة، كالمعمول من الذهب والفضة، والصفر والحديد، وكالمعمول من الموزونات كالخواتم والسكاكين ونحو ذلك، اختاره الشيخ.

وبيع فلس بفلسين فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، نص عليه في رواية جماعة. والثانية: يجوز. فعليها، لو كانت نافقة هل يجوز؟ على وجهين. وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير: بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا مماثلة، معللاً بأنها أثمان، ثم حكى الخلاف في معمول الحديد. وعنه: يجوز بيع ثوب بثوبين يداً بيد، وأصله الوزن، ولم يراع أصله.

ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً

إلخ، وقال الشيخ: إن بيع المكيل بجنسه وزناً، ساغ. وذكر في الفروع عنه: جواز بيع مكيل وزناً وموزون كيلاً. ولا يصح بيع لحم حيوان

إلخ، وقال الشيخ: يحرم إذا كان الحيوان مقصود اللحم، وإلا فلا.

ولا يجوز في غير التمر، يعني: العرايا، إلا أن الشيخ جوز ذلك في الزرع. وخرج أيضاً جواز الخبز الطري باليابس في برية الحجاز ونحوها، وبيع الفضة الخالصة بالمغشوش نظراً للحاجة.

ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، وعنه: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، اختاره الشيخ في موضع من كلامه. فعليها، يشترط ألا يكون حيلة، نص عليه في رواية حرب، وعنه

ص: 487

رواية ثالثة: يجوز إذا لم يكن الذي معه مقصوداً كالسيف المحلى، اختاره الشيخ. فعلى المذهب: يكون من باب توزيع الأفراد على الجمل، وتوزيع الجمل على الجمل. وعلى الثانية: يكون من باب توزيع الأفراد على الأفراد.

ولو صرف الفلوس النافقة بذهب أو فضة لم يجز النسأ، نص عليه. ونقل ابن المنصور: الجواز، اختاره الشيخ. وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب يجوز النسأ، فيه سواء بيع بجنسه أو بغيره، متساوياً أو متفاضلاً. وعنه: لا يجوز النسأ في كل مال بيع بآخر؛ فعليها، علة النسإ: المالية. وعنه رواية ثالثة: لا يجوز في الجنس الواحد، كالحيوان بالحيوان. وعنه رواية رابعة: يجوز النسأ إلا ما بيع بجنسه متفاضلاً، اختاره الشيخ.

ولو كان لكل واحد دْين على صاحبه من غير جنسه، وتصارفا ولم يحضرا شيئاً، فإنه لا يجوز سواء كانا حالين أو مؤجلين، واختار الشيخ الجواز.

ص: 488

‌باب بيع الأصو ول الأثمان

باب بيع الأصول والثمار

وإن ظهر في الأرض معدن لا يعلم به البائع، فله الخيار.

وروي: "أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضاً، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن. وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم، فأخذه وقبله، وردّ عليهم المعدن". وعن أحمد: إذا ظهر المعدن في ملكه، ملكه. وظاهره أنه لم يجعله للبائع، ولا جعل له خياراً. وإن كان في الأرض زرع لا يحصد إلا مرة كالبر، فهو للبائع يبقى إلى الحصاد، إلا أن يشترطه المبتاع. ولا يضر جهله وعدم كماله، كما لو اشترى شجرة فاشترط ثمرتها بعد تأبيرها. وإن أطلق البيع، فهو للبائع، لا أعلم فيه مخالفاًً.

ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضر بها الأرض، فعلى البائع إزالتها، وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك آخر من غير إذن الأول، ولا فعل صدر عنه النقص وأسند إليه، كان الضمان على مُدخل النقص.

ومن باع نخلاً مؤبراً وهو ما تشقق طلعه، فالثمر للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع. والإبار: التلقيح، إلا أنه لا يكون حتى يتشقق، فعبر به عن ظهور الثمرة، وهذا قول الأكثر. وحكى ابن أبي موسى رواية عن أحمد: أنه إذا تشقق ولم يؤبر، أنه للمشتري، لظاهر الحديث. فإن أُبر بعضه، فما أُبر للبائع وما لم يؤبَّر للمشتري، نص عليه. وقال ابن حامد: الكل للبائع، وهو مذهب الشافعي

ص: 489

ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، ولا الزرع قبل اشتداد حبه، إلا بشرط القطع في الحال، لما روى مسلم:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشتري". 1 قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به. ولا يجوز بيع الرطبة والبقول إلا بشرط جزه، ولا القثاء ونحوه إلا لقطة لقطة إلا أن يبيع أصله. ورخص مالك في شراء جزتين وثلاث.

وإن باع ثمرة شيء من هذه البقول كالقثاء والباذنجان، لم يجز إلا أن يبيع الموجود منها دون المعدوم. وقال مالك: يجوز بيع الجميع، لأنه يشق تمييزه، فجعل ما لم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا.

ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالبصل حتى يقلع، وأباحه مالك وإسحاق، لأن الحاجة تدعو إليه، أشبه ما لم يبد صلاحه. ولنا: النهي عن بيع الغرر. والحصاد واللقاط على المشتري، وكذلك الجذاذ، وفارق الكيل والوزن، لأنهما من مؤنة التسليم، وهنا حصل بالتخلية، ولا نعلم فيه مخالفاًً.

وبيع الثمرة قبل الصلاح مع الأصل جائز بالإجماع. وإن باعها منفردة لمالك الأصل ففيه وجهان: أحدهما: يصح وهو المشهور عن مالك. والثاني: لا يصح، لأنها تدخل في عموم النهي، بخلاف بيعهما معاً فإنه مستثنى بالخبر.

وإذا باع الزرع الأخضر مع الأرض جاز، وإن باعه لمالك الأرض منفرداً فوجهان. وإذا اشترى قصيلا من شعير ونحوه، فقطعه ثم نبت، فهو لصاحب الأرض، لأن المشتري ترك الأصول على سبيل الرفض لها.

ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل، فلصاحب الأرض، نص أحمد على المسألتين.

1 مسلم: البيوع (1535)، والترمذي: البيوع (1227)، وأبو داود: البيوع (3368) .

ص: 490

فإن باعها بشرط القطع، ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطباً فأتمرت، بطل البيع. وعنه: لا يبطل، ويشتركان في الزيادة. وعنه: يتصدقان بها.

ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها، روي ذلك عن الزبير والحسن، و"كرهه ابن عباس لأنه بيع قبل القبض". وإن تلفت بجائحة من السماء، رجع على البائع؛ وهو قول أكثر أهل المدينة. وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: هو من ضمان المشتري. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلاً بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا: الحديث ثابت رواه مسلم وغيره، وحديثهم لا حجة لهم فيه، فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى ألا يفعل الواجب فقد تألى ألا يفعل خيراً، وإنما لم يخّيره لأنه يخيّر لمجرد قول المدعي. والجائحة: كل آفة لا صنع لآدمي فيها، وما كان بفعل آدمي فقال القاضي يخّير المشتري فيها بين الفسخ ومطالبة البائع، وبين البقاء ومطالبة الجاني.

فإن قيل: فقد نهي عن ربح ما لم يضمن، وإذا كانت القيمة أكثر من الثمن فقد ربح فيه، قلنا: النهي عن الربح بالبيع بدليل أن المكيل لو زادت قيمته قبل قبضه ثم قبضه جاز إجماعاً، وظاهر المذهب: أنه لا فرق بين القليل والكثير، إلا ما جرت العادة بتلف مثله. قال أحمد: لا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت الجائحة تستغرق الثلث أو الربع أو الخمس توضع. وعنه: ما دون الثلث من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك، لأنه لا بد أن يأكل الطائر وتنثر الريح، فحد بالثلث لاعتبار الشارع له في الوصية، وعطية المريض.

ص: 491

قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة.

وإن استأجر أرضاً فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه، ولا نعلم فيه خلافاً، كدار استأجرها ليقصر الثياب فيها، فتلفت الثياب فيها.

وصلاح بعض الثمرة في الشجرة صلاح لجميعها، لا نعلم فيه خلافا، وهل يكون صلاحاً لسائر النوع الذي في البستان؟ على روايتين. وقال محمد بن الحسن: ما كان متقارب الإدراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه، وما تأخر تأخراً كثيراً، فلا يجوز في الباقي. وبدو الصلاح في النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموّه، وفي سائر الثمرات أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله.

ومن باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، رواه مسلم. فإن كان قصده المال، اشترط علمه وسائر شروط البيع. وإن لم يكن قصده المال لم يشترط علمه.

قال أحمد في رجل اشترى أمة معها قناع فاشترطه، وظهر على عيب وقد تلف القناع: غرم قيمته بحصته من الثمن. وإن كان عليها ثياب، فقال أحمد: ما كان للجمال فهو للبائع، وأما للبس المعتاد فهو للمشتري. وقال ابن عمر:"من باع وليدة زينها بثياب، فللذي اشتراها ما عليها، إلا أن يشترطه الذي باعها"، وبه قال الحسن والنخعي. ولنا: الخبر المذكور.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

مرافق الأملاك، كالطرق والأفنية ومسيل الماء ونحوها، هل هي مملوكة أو يثبت فيها حق الاختصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: ثبوت حق الاختصاص

ص: 492

من غير ملك، جزم به القاضي، ودل عليه نصوص أحمد. ولو باع قرية لم تدخل مزارعها إلا بذكرها، قال المصنف وغيره: أو قرينة. قلت: وهو الصواب.

قوله: ومن باع نخلاً مؤبراً، وهو ما تشقق

إلخ، وعنه: أن الحكم منوط بالتأبير، لا بالتشقق، نصرها الشيخ واختارها. وإذا باعه ولم يشترط القطع، لم يصح، وعنه: يصح إن قصد القطع، ويلزم به في الحال. وقال الشيخ: يجوز بيع اللقطة الموجودة والمعدومة إلى أن تيبس المقثاة. وقال: يجوز بيع المقاثي دون أصولها.

وعن أحمد: لا جائحة في غير النخل، واختار الشيخ ثبوت الجائحة في زرع مستأجر، وحانوت نقص نفعه عن العادة، وحكم به أبو الفضل بن حمزة في حمام.

وقال الشيخ: قياس نصوصه إذا عطل نفع الأرض بآفة، انفسخت فيما بقي، كانهدام الدار، وأنه لا جائحة فيما تلف من أجناسه، فيتبع الجوز التوت، والعلة: عدم اختلاف الأيدي على الثمرة، قال في الفروع: واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالنوع.

ص: 493

‌باب السلم

قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلّه الله في كتابه، وأذن فيه. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} الآية 1". رواه سعيد. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السّلَم جائز، ولا يصح إلا بشروط سبعة:

(أحدها) : أن يكون مما يمكن ضبط صفاته، كالمكيل والموزون والمزروع. وأجمعوا على أن السّلَم في الطعام جائز؛ فأما المعدود كالحيوان ونحوه، فعنه: لا يصح. قال عمر: "إن من الربا أبواباً لا تخفى، وإن منها السّلَم في السن"، ولأن الحيوان لا يمكن ضبطه. وعن أحمد: جوازه. قال ابن المنذر: وممن روينا عنه ذلك: ابن مسعود وابن عباس وابن عمر. فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف. ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان، قال الشعبي:"إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان"، لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم، رواه سعيد. قال أحمد: لا أرى السلَم إلا فيما يُكال ويوزن أو يوقف عليه بحد، فأما الرمان والبيض فلا أرى السلَم فيه. ونقل ابن منصور جواز السلَم في الفواكه والخضروات، لأن كثيراً من ذلك يتقارب، وفي السلَم في الرؤوس من الخلاف ما ذكرناه، وكذلك الأطراف.

1 سورة البقرة آية: 282.

ص: 494

ويصح في اللحم، لقوله:" في كيل معلوم " ظاهره: إباحته في كل موزون، ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر.

(الثاني) : أن يصفه بما يختلف به الثمن، فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته، وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكر؛ وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له أخذه، لقوله:"من أسلف في شيء، فلا يصرفه إلى غيره". 1 رواه أبو داود. وذكر ابن أبي موسى رواية: أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيراً مثله.

(الثالث) : أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والزرع في المزروع، ولا نعلم في اعتبار معرفة قدر السلَم فيه خلافاً. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلَم جائز في الثياب بزرع معلوم. فإن أسلم في المكيل وزناً والموزون كيلاً، لم يصح. ونقل المروذي عن أحمد: أن السلَم في اللبن يجوز إذا كان كيلاً أو وزناً، وهو قول الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: ذلك جائز إذا كان الناس يبايعون التمر وزناً، وهذا الصحيح؛ وهذا يدل على إباحة السلَم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً، ولأن الغرض معرفة قدره. ولا بد أن يكون المكيال معلوماً، فإن اشترط مكيالاً بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلَم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعرف عياره، ولا في ثوب بذرع فلان، لأن المعيار لو تلف ومات فلان بطل السلم. وما عدا المكيل والموزون والحيوان، فعلى ضربين: معدود، وغيره. والمعدود نوعان: أحدهما: لا يتباين كثيراً، كالجوز والبيض فيسلم فيه عدداً، وقال الشافعي: لا يسلم فيهما عدداً. ولنا: أن التفاوت يسير. والثاني: ما يتفاوت، كالرمان

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجة: التجارات (2283) .

ص: 495

والسفرجل فحكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول، وفيه وجهان: أحدهما: يسلم فيه عدداً ويضبط بالصغر والكبر. والثاني: لا يسلم فيه إلا وزناً، وبه قال الشافعي.

(الرابع) : أن يشترط أجلاً معلوماً له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن أسلم حالاً أو إلى أجل قريب كاليوم ونحوه، لم يصح. وقال الشافعي وابن المنذر: يجوز السلَم حالاً. ولنا: قوله: "إلى أجل معلوم"، فأمر بالأجل. فإن باعه ما يصح السلَم فيه حالاً في الذمة صح، ولكن يشترط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فإن باعه ما ليس عنده لم يصح، إلا أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة فيصح. فأما إن أسلم إلى الحصاد والجذاذ، فعلى روايتين، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس؛ وبه قال مالك. وعن ابن عمر: "أنه كان يبتاع إلى العطاء". وعن ابن عباس أنه قال: "لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلا إلى شهر معلوم". فإن قيل: قد روي عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلي يهودي أن أبعث إليَّ بثوبين إلى الميسرة"، 1 قلنا: قال ابن المنذر: رواه حرمي بن عمارة، وقال أحمد: فيه غفلة، وهو صدوق. قال ابن المنذر: فأخاف أن يكون من غفلاته إذ لم يتابع عليه. ثم إنه لا خلاف أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. وإذا جاءه بالسلَم قبل محله ولا ضرر فيه، قبضه وإلا فلا. وليس له إلا أقل ما يقع عليه الصفة. وعليه أن يسلم في الحبوب نقية، وإن كان فيها تراب لا يؤثر في الكيل ولا يعيب، لزمه أخذه. ولا يلزمه أخذ التمر إلا جافاً، ولا يلزمه أن يتناهى جفافه.

(الخامس) : أن يكون المسلَم فيه عام الوجود في محله، لا نعلم فيه خلافاً، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يمكن تسليمه، فلا يصح، كبيع الآبق، بل أولى، لأن

1 الترمذي: البيوع (1213)، والنسائي: البيوع (4628) .

ص: 496

السلَم إذا أسلم في ثمرة بستان احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر. وقال ابن المنذر: إبطال السلَم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم. ولا يشترط وجود السلَم فيه حال العقد، بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان الشتاء. وقال الثوري وأصحاب الرأي: يشترط أن يكون جنسه موجوداً لأن كل زمان يجوز أن يكون محلاً لموت المسلَم إليه. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين

إلخ"، 1 ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطاً لذَكره ولنهاهم عن السلف سنين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلَم فيه أوسط السنة. ولا نسلّم أن الديْن يحل بالموت، وإن سلّمنا فلا يشترط ذلك، إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال السلَم مجهولة. وإذا تعذر تسليم المسلَم فيه عند محله، إما لغيبة المسلَم إليه، أو عجز عن التسليم حتى عدم المسلَم فيه، أو لم تحمل الثمار تلك السنة، فالمسلم بالخيار بين الصبر وبين الفسخ، ويرجع بالثمن إن كان موجوداً أو بمثله إن كان مثلياً، وإلا فقيمته. وفيه وجه آخر: أنه ينفسخ بنفس التعذر. وإذا أسلم ذمي إلى ذمي في خمر، ثم أسلم أحدهما، فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن المسلم يأخذ دراهمه.

(السادس) : أن يقبض رأس مال السلَم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين أو ثلاثة وأكثر ما لم يكن شرطاً. وإن قبض بعضه، فهل يصح في المقبوض؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وإن قبض الثمن فوجده رديئاً فرده، والثمن معيّن، بطل بردّه. فإن كان أحد النقدين، وقلنا يتعين بالتعيين، بطل. وإن كان في الذمة، فله إبداله في المجلس. وإن تفرقا ثم علم عيبه فردّه،

1 البخاري: السلم (2239، 2241، 2253)، ومسلم: المساقاة (1604)، والترمذي: البيوع (1311)، والنسائي: البيوع (4616)، وأبو داود: البيوع (3463)، وابن ماجة: التجارات (2280) ، وأحمد (1/217، 1/222، 1/282، 1/358)، والدارمي: البيوع (2583) .

ص: 497

ففيه وجهان: أحدهما: يبطل. والثاني: لا، وهو قول أبي يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي، ولكن يشترط أن يقبض البدل في مجلس الرد. قال أحمد: إذا ظهرت الدراهم مسروقة، فليس بينهما بيع. وإن كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلماً في طعام إلى أجل، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم. وروي عن ابن عمر أنه قال: "لا يصح ذلك". فإن اختلفا في المسلَم فيه، فقال أحدهما: في حنطة، وقال الآخر: في شعير، تحالفا وتفاسخا. وإن أسلم ثمناً واحداً في جنسين، لم يجز حتى يبيّن ثمن كل جنس. وقال مالك: يجوز. وللشافعي قولان.

(السابع) : أن يسلم في الذمة، فإن أسلم في عين لم يصح، لأنه ربما تلف قبل تسليمه، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلَم فيه. ولا يشترط مكان الإيفاء، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره، إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه، فيشترط ذكره.

ولا يجوز بيع المسلَم فيه قبل قبضه، بغير خلاف علمناه، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن"، 1 وكذلك التولية والشركة، في قول الأكثر. وحكي جوازها عن مالك. ولا يجوز هبته قياساً على البيع، ولا أخذ غيره مكانه؛ وبه قال الشافعي. وذكر ابن أبي موسى رواية فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي أن يأخذ شعيراً مثله، جاز. وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلَم فيه يتعجله، ولا يتأجله إلى الطعام.

قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس قال: "إذا أسلمت في شيء إلى أجل، فخُذ ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضاً أنقص منه، ولا تربح مرتين". رواه سعيد.

1 الترمذي: البيوع (1234)، والنسائي: البيوع (4631)، وأبو داود: البيوع (3504)، وابن ماجة: التجارات (2188) ، وأحمد (2/174، 2/178، 2/205)، والدارمي: البيوع (2560) .

ص: 498

ويجوز بيع الديْن المستقر لمن هو في ذمته، بشرط أن يقبض عوضه في المجلس، ولا يجوز لغيره، لحديث ابن عمر: "كنا نبيع الإبل

إلخ" فدل على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، وغيره مقاس عليه. ودل على اشتراط القبض في المجلس قوله: "إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ". وإن أعطاه مما يشترط فيه التقابض، مثل إن أعطاه عوض الحنطة شعيراً جاز، ولم يجز التفرق قبل القبض. وإن أعطاه مما لا يشترط فيه التقابض جاز التفرق قبل قبضه، كما لو قال: بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك. ويحتمل أن لا يجوز، لأنه في الذمة، فلم يجز التفرق قبل القبض، كالسلم.

وإن باع الديْن لغير من هو في ذمته لم يصح، قال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضاً، فبعْه من الذي هو عليه بنقد، ولا تبعْه من غيره بنقد ولا نسيئة. وإذا أقرضت رجلاً دراهم أو دنانير، فلا تأخذ من غيره عوضاً بما لك عليه. وقال الشافعي: إن كان على معسر أو مماطل لم يصح، وإن كان على مليء باذل، ففيه قولان: أحدهما: يصح، لأنها تباع بمال ثابت.

ويشترط أن يشتري بعين أو يتقابضا في المجلس، لئلا يكون بيع ديْن بديْن. ولنا: أنه غير قادر على تسليمه، كبيع الآبق.

وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، وأما الإقالة في البعض فاختلفت الرواية فيها. وإذا أقاله رد الثمن إن كان باقياً، وإلا مثله أو قيمته إن لم يكن مثلياً. ويشترط رده في المجلس كما يشترط في السلَم. وإن انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فقال الشريف: لا يجوز له صرف ذلك الثمن في عقد آخر، وبه قال أبو حنيفة، وقال القاضي: يجوز أخذ العوض عنه، وهو قول الشافعي.

ص: 499

فإن قلنا بهذا، لم يجعل في سلَم آخر، لأنه بيع ديْن بديْن.

ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت، ويأخذ أحد النقدين عن الآخر، ويقبضه في مجلس الإقالة. وإذا كان لرجل سلَم وعليه سلَم من جنسه، فقال لغريمه: اقبض سلَمي لنفسك ففعل، لم يصح، لأنه حوالة به ولا يجوز بالسلَم.

وهل يقع قبضه للآمر؟ على روايتين، وإن قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده جاز في إحدى الروايتين. والثانية: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري". 1 وإن اكتاله وتركه في المكيال، وسلمه إلى غريمه، صح، لأنه لا معنى لابتداء الكيل هنا، لأنه لا يحصل به زيادة علم. وقال الشافعي: لا يصح، للحديث الذي ذكرناه. وهذا يمكن القول بموجبه لأن قبض المشتري له في المكيال جرى لصاعه فيه. وإن دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك عليّ، ففعل، لم يصح. وإن قال: اشتر لي بها طعاماً، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه. وإن قال: اقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح؛ نص عليه. وقال أصحاب الشافعي: لا يصح، لأنه لا يكون قابضاً من نفسه لنفسه.

وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلَم فيه، على روايتين: رويت الكراهة عن علي وابن عباس. وروى حنبل جوازه، وهو قول عطاء ومجاهد ومالك والشافعي، لقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} 2 - إلى قوله - {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . 3 وروي عن ابن عباس وابن عمر: " أن المراد به السلَم"، ولأن اللفظ عام فيدخل فيه السلَم. ووجه الأولى: أن الراهن والضمين إن أخذ برأس

1 ابن ماجة: التجارات (2228) .

2 سورة البقرة آية: 282.

3 سورة البقرة آية: 283.

ص: 500

المال فقد أخذ بما ليس بواجب، ولا مآله إلى الوجوب، لأن المسلَم إليه قد ملكه. وإن أخذ بالمسلَم فيه فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلَم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ولا من ذمة الضامن، لقوله:"من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره"1.

فإن أخذ رهناً أو ضميناً بالمسلَم فيه، ثم تقايلا أو فسخ العقد لتعذر المسلَم فيه، بطل الرهن وبرئ الضامن، وعلى المسلَم إليه رد رأس مال السلَم في الحال. ولا يشترط قبضه في المجلس، لأنه ليس بعوض.

ولو أقرضه ألفاً وأخذ به رهناً، ثم صالحه من الألف على طعام في ذمته، صح وزال الرهن، وبقي الطعام في الذمة، ويشترط قبضه في المجلس لئلا يكون بيع ديْن بديْن. فإن تفرقا قبل القبض، رجع الألف إلى ذمته برهنه، وكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته، فالحكم على ما بيّنّا.

والذي يصح أخذ الرهن به: كل ديْن ثابت في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن، كالأجرة والمهر وعوض الخلع وأرش الجنايات.

ولا يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب، ولا مآله إلى الوجوب، كالدية على العاقلة قبل الحول، لأنها لم تجب بعد ولا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب، لأنها قد تسقط بالجنون والفقر والموت. ولا يجوز أخذ الرهن في الجعل في الجعالة قبل العمل. ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة. ولا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة، كالثمن المعين، والأجرة المعينة في الإجارة، والمعقود عليه في الإجارة، إذا كان منافع معينة كإجارة الدار والدابة المعينة، لأنه تعلق بالعين لا بالذمة، ومنفعة العين لا يمكن استيفاؤها

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجة: التجارات (2283) .

ص: 501

من غيرها. وأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجه السوم، ففيه وجهان.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

يجوز إسلام عرض في عرض على الصحيح، وعنه: لا يجوز إلا بعين أو ورق. فإن أسلم حالاً أو إلى أجل قريب كاليوم، لم يصح. وذكر في الانتصار رواية: يصح حالاً، اختاره الشيخ إذا كان في ملكه، وقال: وهو المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك"، 1 أي: ما ليس في ملكك، فلو لم يجز السلَم حالاً لقال: لا تبعْ هذا سواء كان عندك أو لا.

ولا يجوز بيع الديْن المستقر لغير من هو في ذمته، وعنه: يصح، قاله الشيخ. وقد شمل كلام المصنف مثله بيع الصكاك، وهو الديون الثابتة على الناس تكتب في صكاك وهو الورق ونحوه. فإن كان نقداً وبيع بنقد لم يجز. وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس، ففيه روايتان: عدم الجواز، قال أحمد: هو غرر. والجواز نص عليها في رواية حرب وغيره.

1 الترمذي: البيوع (1232)، والنسائي: البيوع (4611، 4613)، وأبو داود: البيوع (3503، 3504)، وابن ماجة: التجارات (2188) ، وأحمد (2/174، 2/205، 3/402، 3/434) .

ص: 502

‌باب القرض

قال أحمد: ليس القرض من المسألة، يريد: أنه لا يكره. وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه. وإن لم يذكر البدل، ولم توجد قرينة، فهو هبة؛ وإن اختلفا، فالقول قول الموهوب له، لأن الظاهر معه.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن اقتراض ما له مثلٌ من المكيل والموزون والأطعمة جائز. وقال أبو حنيفة: لا يجوز قرض غير المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، أشبه الجواهر.. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً". 1 ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يجز، وكذلك لو اقترض مكيلاً أو موزوناً جزافاً. فإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً جاز قرضها عدداً. ولو أجّله لم يتأجل، وكل دين حلّ لم يصر مؤجّلا بتأجيله. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل، لحديث:"المؤمنون عند شروطهم". فإن ردّه المقترض عليه، لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها السلطان، فيكون له القيمة وقت القرض، نص عليه في الدراهم المكسرة، قال يقوّمها كم تساوي يوم أخذها. وأما رخص السعر فلا يمنع، سواء كان قليلاً أو كثيراً، أشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت.

ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها، إذا قلنا بجواز قرضها، وفي ما سوى ذلك وجهان: أحدهما: يرد القيمة. والثاني: يرد مثله، "لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد مثله".

1 مسلم: المساقاة (1600)، والترمذي: البيوع (1318)، والنسائي: البيوع (4617)، وأبو داود: البيوع (3346)، وابن ماجة: التجارات (2285) ، وأحمد (6/390)، ومالك: البيوع (1384)، والدارمي: البيوع (2565) .

ص: 503

ويجوز قرض الخبز، وإن أقرضه بالوزن ردّ مثله. وإن استقرضه عدداً وردّ عدداً، فروايتان. ولا يجوز شرط ما يجر نفعاً. وقد روي عن أبيّ وابن مسعود وابن عباس:"أنهم نهوْا عن قرض جرّ منفعة"، فإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، فروي عن أحمد: أنه لا يجوز. ورويت كراهته عن الحسن ومالك والشافعي. وروي جوازه عن أحمد. وإن فعل ذلك من غير شرط، أو قضاه خيراً منه، أو أهدى له هدية بعد الوفاء، جاز. وروي عن أبيّ وابن عباس المنع من ذلك. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً، فردّ خيراً منه". وإن فعله قبل الوفاء لم يجز، إلا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض، إلا أن يكافئه أو يحسبه من ديْنه؛ قال أحمد: لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس. ولو قال: اكفل عني ولك ألف، لم يجز، لأن الكفيل يلزمه أداء الديْن، فيجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

قوله: يصح في كل عين

إلخ، وقال الشيخ: يجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يوماً، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر بدلها.

ولو أقرض من له عليه ديْن ليوفيه كل وقت شيئاً جاز، نقله مهنا، ونقل حنبل: يكره. ولو أقرض فلاحه في شراء بقر أو بذر بلا شرط، حرم عند أحمد، وجوزه المصنف. وإن أمره ببذره وأنه في ذمته كالمعتاد في فعل الناس ففاسد، له تسمية المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة، ذكره الشيخ.

ولو أقرض من عليه بر يشتريه به ويوفيه إياه، فقال أحمد: حرام، وقال في المغني: يجوز.

ص: 504

وأداء الديْن واجب على الفور عند المطالبة، وبدونها لا يجب على الفور، قال ابن رجب: محله إذا لم يكن عيّن له وقتاً للوفاء كيوم كذا، فإن عيّن فلا ينبغي أن يجوز تأخيره. وقال في القواعد الأصولية: ينبغي أن يكون محل جواز التأخير إذا كان صاحب المال عالماً به، وإلا فيجب إعلامه

ص: 505

باب الرهن

يجوز الرهن في الحضر. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه إلا مجاهد لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. 1 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي بالمدينة". 2 فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب يعدم في السفر غالباً، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب، وهو مذكور في الآية، وهو غير واجب، لا نعلم فيه مخالفاًً. والأمر فيه إرشاد لا إيجاب، بدليل قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية.

ويجوز عقده مع الحق وبعده. ولا يجوز قبله، وهو مذهب الشافعي. واختار أبو الخطاب: يصح قبله، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. ويجوز رهن ما يسرع الفساد إليه بديْن مؤجل، ويباع ويجعل ثمنه رهناً. ويصح رهن المشاع، فإن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما، جاز، وإلا جعله الحاكم في يد أمين.

ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه، فأما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان. فأما المكيل والموزون فذكر القاضي أنه يصح، لأنه يمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه، ويحتمل أن لا يصح، لأنه لا يصح بيعه، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها.

ولو قال للمرتهن:

1 سورة البقرة آية: 283.

2 البخاري: البيوع (2069)، والترمذي: البيوع (1215)، والنسائي: البيوع (4610)، وابن ماجة: الأحكام (2437) .

ص: 506

زدني ما لا يكون الذي عندك به رهناً وبالديْن الأول، لم يجز. وقال مالك وأبو يوسف وأبو ثور وابن المنذر: يجوز. ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح، إلا أن يرهنه المشتري، والخيار له وحده، فيصح ويبطل خياره.

ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح، لأنه رهن ما لا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي له الرجوع فيها قبل رجوعه في الهبة، وفيه وجه لأصحاب الشافعي: أنه يصح. ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح، وفيه وجه: أنه لا يصح. فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره، فالرهن بحاله، وإلا فللغرماء انتزاعه.

ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، وأما قبله فيجوز للراهن فسخه، وبهذا قال الشافعي. وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد، نص عليه في رواية الميموني. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد، كالبيع. ووجه الأولى: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . 1 واستدامة القبض شرط، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره، زال لزوم الرهن. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطاً.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل قد سماه، إلى وقت معلوم، ففعل، أن ذلك جائز. ومتى شرط شيئاً من ذلك، فخالف ورهن بغيره، لم يصح. وهذا إجماع أيضاً، حكاه ابن المنذر. وإن رهنه بأكثر، احتمل أن يبطل في الكل، قاله الشافعي. واحتمل أن يصح في المأذون فيه، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. فإن أطلق الإذن في الرهن، فقال القاضي: يصح.

1 سورة البقرة آية: 283.

ص: 507

وله رهنه بما شاء، وهو أحد قولي الشافعي، والآخر: لا يجوز حتى يبيّن القدر وصفته وحلوله وتأجيله.

فإن تلف فإن الراهن يضمنه، نص عليه، لأن العارية مضمونة. وإن فك المعير الرهن بغير إذن الراهن، محتسبا بالرجوع، فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه.

وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية صح، وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم الرهن، لأنه لا تنافي بينهما، لأنه لو تعدى في الرهن ضمن. ولنا: أنه مأذون له في إمساكه رهناً لم يتجدد فيه منه عدوان، وقوله: لا تنافي بينهما، ممنوع لأن يد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة، ويد المرتهن يد أمانة، وهذان متنافيان، ولأن السبب المقتضي للضمان زال [فزال بزواله. وإذا تعدى في الرهن، ضمن لعدوانه لا لكونه غاصباً أو مستعيراً، وهنا زال السبب.

ويجوز للمرتهن أن يوكّل في قبض الرهن] ، 1 ويقوم وكيله مقامه في القبض وسائر الأحكام. وتصرف الراهن في الرهن لا يصح، إلا العتق، فإنه يصح، ويؤخذ منه قيمته فيجعل رهناً مكانه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر، فإن أذن فيه المرتهن صح، وبطل الرهن.

وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا غيره بغير رضى المرتهن، وقال مالك وغيره: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الديْن. وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم. وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع، وبنَوْه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن. وذكر أبو بكر في الخلاف:

1 زيادة من المخطوطة.

ص: 508

أن منافع الرهن تعطل مطلقاً. ولا يؤجره، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي. وقالوا: إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجاً من الرهن. ولنا: أن تعطيله تضييع للمال. وقد نهي عن إضاعته. ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أَمته المرهونة، وإن أذن له المرتهن في بيع الرهن أو هبته أو نحو ذلك صح، وبطل الرهن، إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً، أو يعجل ديْنه من ثمنه.

ونماء الرهن وغلاته تكون رهناً، وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يدخل في الرهن شيء من النماء المنفصل ولا من الكسب، حتى قال الشافعي: لو رهنه ماشية مخاضاً فنتجت، فالنتاج لا يدخل في الرهن. وخالفه أبو ثور وابن المنذر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه"، والنماء غنم فيكون للراهن. ولنا: أنه حكم ثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه النماء والمنافع. وأما الحديث فنقول به، وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن، لكن يتعلق به حق المرتهن، ومؤنته على الراهن. وقال أبو حنيفة: أجر المسكن والحافظ على المرتهن. ولنا: قوله: "الرهن من راهنه" الحديث، قال الدارقطني: إسناده جيد متصل، وإن كان الرهن نخلاً فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن. وكل زيادة تلزم الراهن فامتنع منها، أجبره الحاكم عليها، فإن لم يفعل اكترى الحاكم من ماله، وإن لم يكن له مال فمن الرهن؛ فإن بذلها المرتهن محتسباً بالرجوع، وقال الراهن: أنفقت متبرعاً، فقال: بل محتسباً، فالقول قول المرتهن، لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها، وعليه اليمين، لأن ما قال الراهن محتمل.

ص: 509

(فصل) : "وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف بغير تعدّ منه فلا شيء عليه". روي عن علي، وبه قال عطاء والزهري والشافعي. وروي عن شريح والنخعي والحسن: أن الراهن يضمنه بجميع الديْن وإن كان أكثر من قيمته، لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرهن بما فيه". وقال مالك: إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق لم يضمن، وإن ادعى تلفه بأمر خفي ضمن. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الديْن، لما روى عطاء:"أن رجلاً رهن فرساً فنفق عند المرتهن، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذهب حقك". ولنا: ما روى ابن أبي ذئب عن الزهري عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غُنمه، وعليه غُرمه". 1 فأما حديث عطاء فمرسل، وقوله يخالفه، قال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذاباً. والحديث الآخر إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه.

وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه.

وإن رهن عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه. قال أحمد في رجلين رهنا داراً لهما عند رجل، فقضاه أحدهما: الدار رهن على ما بقي؛ وهذا محمول على أنه ليس للراهن مقاسمة المرتهن للضرر، لأن العين كلها تكون رهناً، لأنه إنما رهنه نصفها. وإن جعلا الرهن في يد عدل وادعى دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكر ولم يكن قضاه ببيّنة، ضمن. وعنه: لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل؛ وهكذا الحكم في الوكيل.

ولو تعدى المرتهن في الرهن ثم زال التعدي، أو سافر به ثم رده، لم يزل عنه الضمان لأن استئمانه زال بذلك.

وإذا

1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .

ص: 510

استقرض ذمي من مسلم مالاً ورهنه خمراً، لم يصح. فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها، لزمه قبوله، لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحة. قال عمر في أهل الذمة معهم الخمر:"ولّوهم بيعها، وخذوا أثمانها". وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح. فإن عزله صح عزله، وقال مالك: لا ينعزل، لأن وكالته صارت من حقوق الرهن. قال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك، فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع، وهذا يفتح باب الحيلة للراهن. فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول، أو إن جاءه بحقه في محله وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط، وفي صحة الرهن روايتان.

وعن أحمد: إذا شرط في الرهن أنه ينتفع به المرتهن أنه يجوز في البيع، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض.

وهل يفسد الرهن بالشروط الفاسدة، نصر أبو الخطاب صحته، لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغلق الرهن"، 1 ولم يحكم بفساده. قال أحمد: معناه لا يدفع رهناً إلى رجل يقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا، وإلا فالرهن لك.

قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: "لا يغلق الرهن" عند مالك والثوري وأحمد، وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر:"أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الأجل فقال الذي ارتهن: منزلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن". 2 وإذا قال: رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل، كان باطلاً، لأنه يضاهي ربا الجاهلية.

وإذا كان له على رجل ألف، فقال: أقرضني ألفاً بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين، فنقل حنبل عن أحمد:

1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .

2 البخاري: مواقيت الصلاة (525) .

ص: 511

أن القرض باطل، لأنه قرض يجر منفعة. ونقل مهنا: أن القرض صحيح، ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط، كي لا يفضي إلى جر منفعة بالقرض، أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده.

وحكي عن مالك وأبي ثور: أنه يصح الرهن المجهول، ويلزمه أن يدفع إليه رهناً بقدر الديْن، قال أحمد: حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهناً، إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع.

(فصل) : وإذا كان الرهن محلوباً أو مركوباً، فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في ذلك، نص عليه. وعنه رواية أخرى: لا يحتسب، وهو متطوع، ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لقوله:"الرهن من راهنه، له غُنمه، وعليه غُرمه". ولنا: ما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، 1 فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع.

فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع، قلنا: لا يصح لأن في بعض الألفاظ: " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته ويركب"، 2 فجعل المنفق المرتهن، ولأن قوله:"بنفقته" يشير إلى أن الانتفاع عوض عن النفقة، والراهن إنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة، ولأن النفقة واجبة وللمرتهن فيه حق، وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن، كما يجوز للمرأة أخذ مؤونتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه. والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن فيه حق ولاية صرفه إلى نفقته لثبوت يده عليه. وأما غير المحلوب والمركوب كالعبد

1 البخاري: الرهن (2512)، والترمذي: البيوع (1254)، وابن ماجة: الأحكام (2440) ، وأحمد (2/472) .

2 أحمد (2/228) .

ص: 512

والأمة، فليس للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته، نص عليه. قال: الراهن لا ينتفع منه بشيء، إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قيل له: فإن كان الركوب واللبن أكثر؟ قال: لا، إلا بقدر. ونقل حنبل أن له استخدام العبد أيضاً، وبه قال أبو ثور. إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة، والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس.

وما لا يحتاج إلى مؤنة، كالدار والمتاع، فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن، لا نعلم فيه خلافاً. فإن أذن الراهن في الانتفاع بغير عوض وكان الديْن من قرض، لم يجز لأنه جر منفعة.

قال أحمد: أكره قرض الدور، وهو الربا المحض، يعني: إذا كانت الدار في قرض رهناً ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له جاز؛ روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق. وإن كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار بأجرة مثلها من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض.

ومتى استأجرها أو استعارها المرتهن، فظاهر كلام أحمد: أنها تخرج عن كونها رهناً، فمتى انقضت الإجارة والعارية عاد الرهن بحاله. قال في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها لصاحبها، خرجت من الرهن. فإذا رجعت إليه عادت رهناً.

ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضموناً، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه. وإن أنفق عليه بغير إذن الراهن مع إمكانه، فهو متبرع. وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم، فعلى روايتين، وقال شيخنا فيما إذا أنفق بغير

ص: 513

إذن الراهن بنية الرجوع مع إمكانه: أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى ديْنه بغير إذنه، وهذا أقيس، إذ لا يعتبر في قضاء الديْن العجز عن استئذان الغريم.

وإن انهدمت الدار فعمرها بغير إذن الراهن، لم يرجع به، رواية واحدة. وليس له أن ينتفع بها بقدر عمارتها، لأنها غير واجبة على الراهن، فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه.

وإذا جنى العبد المرهون على إنسان أو على ماله، تعلقت الجناية برقبته، وقدمت على حق المرتهن، بغير خلاف علمناه. فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره، وباقيه رهن. وقيل: يباع جميعه، ويكون باقي ثمنه رهناً، لأن التشقيص عيب ينقص به الثمن، وقد قال عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار". 1 ولا يحل للمرتهن وطء الجارية المرهونة إجماعاً، ويجب عليه الحد والمهر، وولده رقيق. وقال الشافعي: لا يجب المهر مع المطاوعة، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي". ولنا: أن المهر يجب للسيد، والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء، فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة، فقال تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} . 2 وإن وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد ولا مهر وولده حر. قال عبد الله: سألت أبي: عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها، ولا من رهن عنده؟ قال: إذا أيست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم، فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها.، فإن عرف بعد أربابها خيّرهم بين الأجر أو يغرم لهم؛ هذا الذي أذهب إليه.

وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن يكون عنده السنين

1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .

2 سورة النور آية: 33.

ص: 514

الكثيرة يئس من صاحبه: يبيعه ويتصدق بالفضل. فظاهره أنه يستوفي حقه. ونقل أبو طالب: لا يستوفي حقه من ثمنه، ولكن إن جاء صاحبه بعد وطلبه، أعطاه إياه وطلب منه حقه. وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه، ووفاه حقه منه، جاز.

ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":

لو أقرض غريمه ليرهنه على ما لَه عليه وعلى القرض، ففي صحته روايتان. وأما المكيل والموزون وما يلحق بهما قبل قبضه، فاختار الشيخ جواز رهنه. وجوز أحمد القراءة للمرتهن يعني: في المصحف، وعنه: يكره. نقل عبد الله: لا يعجبني بلا إذنه، ويلزم ربه بذله لحاجة. وقيل: يلزمه مطلقاً.

ولا يجوز رهن العبد المسلم لكافر. والوجه الثاني: يصح إذا شرطه في يد عدل مسلم، اختاره الشيخ. وقال: يجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على ديْن غيره كما يجوز أن يضمنه وأوْلى، وهو نظير إعارته للرهن. انتهى. وقيل: لا يصح عتق الموسر أيضاً، قال في الفائق: اختاره شيخنا.

قوله: فإن أذن له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد

إلخ، وقيل: يبيع بما رأى أنه أحظّ، اختاره القاضي، قلت: وهو الصواب. وإذا اختلفا في قدر الديْن فالقول قول الراهن، وقال الشيخ: القول قول المرتهن ما لم يدَّع أكثر من قيمة الرهن.

قوله: وإن انهدمت الدار فعمرها، لم يرجع

إلخ، فعلى هذا، لا يرجع إلا بأعيان آلته. وجزم القاضي في الخلاف الكبير: أنه يرجع بجميع ما عمر في الدار، لأنه من مصلحة الرهن. وقال الشيخ فيمن عمر وقفاً بالمعروف ليأخذ عوضه فيأخذه من مغلّه.

ص: 515