الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المساقاة
"تجوز في كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته"، هذا قول الخلفاء الراشدين. وقال داود: لا تجوز إلا في النخل، وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيه وفي الكرم. وفي سائر الشجر قولان. وقال أبو حنيفة: لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق أو مجهولة. ولنا: الخبر، والإجماع، فلا يعوّل على ما خالفهما. فإن قيل: راوي الخبر ابن عمر، وقد رجع إلى حديث رافع، قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع ولا حديث ابن عمر على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر، ثم الخلفاء بعده ثم من بعدهم، ولو صح خبر رافع لحمل على ما يوافق السنة؛ فروى البخاري فيه:"كنا نكري الأرض بالناحية منها". 1 وفسر بغير هذا من أنواع الفساد، وهو مضطرب جداً. قال أحمد: يروى عن رافع في هذا ضروب، كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه توهن حديثه. وأنكره زيد بن ثابت عليه. ورجوع ابن عمر يحتمل أنه عن شيء من المعاملات التي فسرها رافع، وأما غير ابن عمر فأنكر على رافع ولم يقبل حديثه، وحمله على أنه غلط في روايته. وأما تخصيصه بالنخل أو به وبالكرم، فخالف قوله:"عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر"، 2 وهذا عام في كل ثمر. وهل يصح على ثمرة موجودة؟ على روايتين: إحداهما: يجوز. ولو دفع أرضه إلى من يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز، ويحتمل
1 البخاري: المزارعة (2327) .
2 البخاري: المزارعة (2329) والمغازي (4248)، ومسلم: المساقاة (1551)، والترمذي: الأحكام (1383)، والنسائي: الأيمان والنذور (3929)، وأبو داود: البيوع (3408)، وابن ماجة: الأحكام (2467) ، وأحمد (2/17)، والدارمي: البيوع (2614) .
الجواز بناء على المزارعة. فإن شرط الأرض والشجر بينهما لم يصح، لا نعلم فيه مخالفاًً. وتصح على البعل كالسقي، لا نعلم فيه مخالفاًً، لأن الحاجة تدعو إلى المعاملة فيه، كدعائها إلى المعاملة في غيره. وهي عقد جائز، سئل أحمد عن: إكار يخرج من غير أن يخرجه صاحب الضيعة؟ فلم يمنعه، وقيل لازم، وهو قول أكثر الفقهاء.
ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة، وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل. فإن شرط على أحدهما شيء مما يلزم الآخر، فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، وعن أحمد ما يدل على صحة ذلك.
ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائداً على ما له من الثمرة، بغير خلاف. وإذا ساقاه أو زارعه فعامل العامل غيره لم يجز، وأجازه مالك، إذا جاء برجل أمين. فأما من استأجر أرضاً فله أن يزارع غيره فيها، والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج، ولا نعلم فيه خلافاً عند من أجاز المساقاة والمزارعة. وإن شرط: إن سقى سيحاً فله الربع، وإن سقى بكلفة فله النصف، أو إن زرعها شعيراً فله الربع، وحنطة النصف، لم يصح، وقيل: يصح. وإن قال: ما زرعتها من شيء فلي نصفه، صح، لحديث خيبر. وإن قال: لك الخمسان إن كان عليك خسارة، وإلا فالربع، لم يصح، نص عليه وقال: هذا شرطان في شرط، وكرِهه.
وتجوز المزارعة بجزء معلوم للعامل، في قول أكثر أهل العلم، وكرهها مالك، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان بياض الأرض أقل، فإن كان أكثر فعلى وجهين. ومنعها في الأرض البيضاء، لحديث رافع
وجابر. وإن زارعه أرضاً فيها شجرات يسيرة، لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها، وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل. وإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذرة ويقتسما الباقي لم يصح، وكذلك لو شرط لأحدهما زرع ناحية معينة، أو ما على الجداول منفرداً ومع نصيبه، فهو فاسد إجماعاً، لصحة الخبر في النهي. وعن أحمد: إذا شرط الجذاذ على العامل فجائز، لأنه عليه، وإلا فعلى رب المال حصة ما يصير إليه؛ فجعل الجذاذ عليهما، وأجاز اشتراطه على العامل. وقال محمد بن الحسن: تفسد بشرطه على العامل. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم دفع خبير إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم". 1 وإن زارع رجلاً أو آجره أرضه فزرعها، فسقط من الحب شيء فنبت، فهو لصاحب الأرض، وقال الشافعي: لصاحب الأرض. ولنا: أنه أسقط حقه منه بحكم العرف، وزال ملكه عنه، ولهذا أبيح التقاطه، لا نعلم فيه خلافاً. وتجوز إجارة الأرض بالذهب والفضة والعروض غير المطعوم، في قول عامة أهل العلم. وروي عن الحسن: الكراهة، لحديث رافع. ولنا: قول رافع: "إنما نهي عنها ببعض ما يخرج منها، أما بالذهب والفضة فلا بأس"، ولمسلم:"أما بشيء معلوم مضمون، فلا بأس"2.
وأما إجارتها بطعام، فثلاثة أقسام:
أحدها: بطعام معلوم غير الخارج منها، فأجازه الأكثر، ومنع منه مالك. وعن أحمد: ربما تهيبته، لما في حديث رافع:"لا يكريها بطعام مسمى" رواه أبو داود.
الثاني: إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يخرج منها، ففيه روايتان:
1 البخاري: المزارعة (2331)، والترمذي: الأحكام (1383)، والنسائي: الأيمان والنذور (3872)، وأبو داود: البيوع (3409)، وابن ماجة: الأحكام (2467) ، وأحمد (2/17، 2/22) .
2 مسلم: البيوع (1547)، والنسائي: الأيمان والنذور (3899) .
إحداهما: المنع، لأنه ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها.
الثالث: إجارتها بجزء مشاع بما يخرج منها، فالمنصوص عنه: جوازه، وقال الشافعي: لا يصح.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ":
لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، واختار الشيخ قسط المثل. واختار جواز المساقاة على شجر يغرسه ويعمل عليه بجزء معلوم من الشجر، أو بجزء من الشجر والثمر كالمزارعة، وقال: ولو كان مغروساً، ولو كان ناظر وقف، وإنه لا يجوز للناظر بعده بيع نصيب الوقف من الشجر بلا حاجة. وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط. ولو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد، وجهاً واحداً. وقال الشيخ: قياس المذهب: صحة ما سقط من الحب وقت الحصاد إن نبت فلرب الأرض، وفي الرعاية: هو لرب الأرض مالكاً ومستأجراً أو مستعيراً. وكذا نص أحمد فيمن باع قصيلاً فحصد وبقي يسير فصار سنبلاً، فهو لرب الأرض.
والمساقاة عقد جائز، وقيل: لازم، اختاره الشيخ. وأفتى فيمن زارع رجلاً على مزرعة بستان ثم أجرها، هل تبطل المزارعة؟ فقال: إن زارعه مزارعة لازمة لم تبطل، وإن لم تكن لازمة أعطى الفلاح أجرة عمله. وأفتى فيمن زرع أرضاً بوراً فهل له إذا خرج منها فلاحة؟ أنه إن كان له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها، فله قيمتها على من انتفع بها. فإن انتفع بها المالك وأخذ عوضاً عنها من المستأجر، فضمانها عليه، وإن أخذ الأجرة عن الأرض
وحدها فضمان الفلاحة على المستأجر المنتفع بها. ونص أحمد فيمن استأجر أرضاً مفلوحة وشرط عليه أن يردها مفلوحة كما أخذها، أنه له أن يردها كما شرط. وقال الشيخ: السياج على المالك، وكذا تسميد الأرض بالزبل إذا احتاجت إليه، ولكن تفريقه فيها على العامل. وقال: المزارعة أحل من الإجارة لاشتراكهما في المغنم والمغرم. وإن كان فيها شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح، وإن جمع بينهما في عقد واحد فكجمع بين بيع وإجارة. قال الشيخ: سواء صحت أو لا، فما ذهب من الشجر ذهب ما يقابله من العوض.
ولا تجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعاً، وجوزه ابن عقيل تبعاً للأرض ولو كان الشجر أكثر، اختاره الشيخ. بل جوز إجارة الشجر مفرداً ويقوم عليها المستأجر كأرض لزرع، بخلاف بيع السنين، فإن تلفت الثمرة فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش، لعدم المنفعة المقصودة بالعقد كجائحة. واختار أنه لا يشترط كون البذر من رب الأرض، وجوز أخذ البذر أو بعضه بطريق القرض، وقال: يلزم من اعتبر البذر من رب الأرض، وإلا فقوله فاسد. وقال أيضاً: يجوز كالمضاربة، وكاقتسامهما الباقي بعد الكلف. وقال: يتبع الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرطاً، واشترط عمل الآخر حتى يثمر ببعضه. قال: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية ونحوها، فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، أو على العقار فعلى ربه، ما لم يشرطه على مستأجر. وإن وضع مطلقاً، رجع إلى العادة. والله أعلم.