الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاب البيع
باب الضمان
…
باب الضمان
ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في حال الحياة والموت، وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه. ولنا: قوله عليه السلام: "الزعيم غارم". 1 وعن أحمد رواية أن الميت يبرأ بمجرد الضمان، لما روى أبو سعيد قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت قال: هل على صاحبكم من دين، قالوا: نعم درهمان. قال: صلّوا على صاحبكم. فقال عليٌّ: هما عليَّ يا رسول الله. [وأنا لهما ضامن] . 2 فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على عليٍّ فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فقيل: يا رسول الله، هذا لعليّ خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة". رواه الدارقطني.
وروى أحمد عن جابر قال: "توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه. فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران. فانصرف. فتحملهما أبو قتادة، فقال: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم. فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد، فقال قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت جلده ". 3 وهذا صريح في براءة المضمون عنه،
1 الترمذي: البيوع (1265)، وأبو داود: البيوع (3565)، وابن ماجة: الأحكام (2405) .
2 زيادة من المخطوطة.
3 أحمد (3/330) .
لقوله: "وبرئ الميت منهما". ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلّقة بديْنه حتى يُقضى عنه"، 1 وقوله:"الآن بردت جلده"، حين أخبره أنه قضى دينه. فأما صلاته على المضمون عنه، فلأنه صار له وفاء، وإنما كان يمتنع من الصلاة على من لم يخلف وفاء.
وأما قوله: " فكّ الله رهانك
…
إلخ"، فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ضمنه فكّه من ذلك أو ما في معناه. وقوله: "برئ الميت منهما" أي: صرت أنت المطالب بهما، وهذا على وجه التأكيد وثبوت الحق في ذمته، ووجوب الأداء عنه، بدليل قوله: "الآن بردت عليه جلده". ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه [ولا معرفة الضامن لهما. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضى المضمون له. ولنا: "أن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه"] . 2 وقال القاضي: يعتبر معرفتهما. ولنا: حديث أبي قتادة وعلي، "فإنهما ضمنا لمن لم يعرفا وعن من لم يعرفا"، ولا يعتبر كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله إلى الوجوب، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، صح؛ وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يصح كالثمن. ولنا: قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . 3 وهو غير معلوم، لأنه يختلف باختلافه. وقوله عليه السلام: "الزعيم غارم". ويصح ضمان ما لم يجب كقوله: ما أعطيت فلانا فهو عليَّ، والخلاف فيها كالتي قبلها، والدليل ما ذكرنا.
ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري، وعن المشتري للبائع. فعن
1 الترمذي: الجنائز (1078)، وابن ماجة: الأحكام (2413) ، وأحمد (2/440، 2/475)، والدارمي: البيوع (2591) .
2 زيادة من المخطوطة.
3 سورة يوسف آية: 72.
المشتري: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، أو إن ظهر فيه عيب، أو استحق، رجع على الضامن. وعن البائع: أن يضمن الثمن متى خرج المبيع مستحقاً، أو رد بعيب أو أرش العيب. والعهدة: الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه الثمن، فعبر به عن الثمن الذي يضمنه. وحكي عن أبي يوسف: إذا قال: ضمنت عهدته، لم يصح لأن العهدة الصك بالابتياع، كذا فسره أهل اللغة، وليس بصحيح، لأنها في العرف عبارة عن الدرك، والمطلق يحمل على الأسماء العرفية.
وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة: أبو حنيفة ومالك والشافعي. ولا يصح ضمان الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد. وإن ضمن التعدي فيها، فظاهر كلام أحمد: صحة ضمانها. فأما الأعيان المضمونة، كالغصوب، والعواري، والمقبوضة على وجه السوم، فيصح ضمانها.
ويصح ضمان الجعل في الجعالة، وفي المسابقة والمناضلة، وقال أصحاب الشافعي: لا يصح في أحد الوجهين، لأنه لا يؤول إلى اللزوم، أشبه مال الكتابة. ولنا: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} 1.
وإن ضمن وقضى بغير أمره، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع. والثانية: لا يرجع، بدليل حديث علي وأبي قتادة، فإنهما لو استحقا الرجوع على الميت صار الدين لهما، وكانت ذمة الميت مشغولة.
ووجه الأولى: أنه قضاء مبرئ من ديْن واجب، كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه. فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا، فإنهما قضيا ديناً قصداً لتبرئة ذمته، مع علمهما أنه لم يترك وفاء؛ والمتبرع لا يرجع بشيء وإنما
1 سورة يوسف آية: 72.
الخلاف في المحتسب. وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه، لم يسمع إنكاره. وفيه وجه: أنه لا يقبل، لأن الضامن مدّع بما يستحق الرجوع به، وقول المضمون له شهادة على فعل نفسه، فلا يقبل. والأول أصح. وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحة، كشهادة المرضعة، وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث.
(فصل) : الكفالة التزام إحضار المكفول به، وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة، في قول أكثر أهل العلم. وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة. فمن أصحابه من قال: مراده: ضعيفة في القياس، وإلا فهي صحيحة، للإجماع والأثر. ومنهم من حكى قولين. ولنا: قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَاّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} . 1 وتصح ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم بديْن لازم، معلوم أو مجهول. وتصح ببدن المحبوس والغائب. وقال أبو حنيفة: لا تصح. وتصح بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري. ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وهو قول أكثر العلماء. واختلف قولا الشافعي في حدود الآدميين كالقذف، فقال في موضع: لا كفالة في حد ولا لعان. وقال في موضع: يجوز، قال: لأنه حق لآدمي. ولنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، مرفوعاً:"لا كفالة في حد"، ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء بالشبهات، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول به كحد الزنى.
وإن قال: إن جئت
1 سورة يوسف آية: 66.
به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان، أو فأنا ضامن لك المال الذي عليه، أو إذا جاء زيد فأنا ضامن عليه، أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل، فقال القاضي: لا يصح، وهو مذهب الشافعي. وقال الشريف أبو جعفر: يصح، وهو قول أبي حنيفة. ولا تصح إلا برضى الكفيل، وفي رضى المكفول به وجهان. ومتى أحضره وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر.
وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل؛ وبه قال الشافعي. ويحتمل ألا يسقط بالموت، ويطالب بما عليه، وهو قول مالك. ومتى تعذر إحضار المكفول به مع حياته، أو امتنع من إحضاره، لزمه ما عليه. وقال أكثرهم: لا غرم عليه. ولنا: قوله: "الزعيم غارم"1.
وإذا كانت السفينة في البحر، وفيها متاع فخيف غرقها، فألقى بعض من فيها متاعه لتخف، لم يرجع به، سواء ألقاه محتسباً بالرجوع أو متبرعاً. وإن قال له بعضهم: ألقه، فألقاه، فكذلك لأنه لم يكرهه.
وقال مهنا: سألت أحمد: عن رجل له على رجل ألف درهم، فأقام كفيلين بها كل منهما ضامن، فأحال رب المال عليه رجلاً بحقه، قال: يبرأ الكفيلان. قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئاً؟ قال: لا شيء له، ويذهب الألف.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: قياس المذهب: يصح الضمان بكل لفظ فُهم منه الضمان عرفاً مثل: بعهُ وأنا أعطيك الثمن، أو لا تطالبه وأنا أعطيك، ونحو ذلك. واختار أيضاً صحة ضمان الحارس ونحوه، وتجار الحرب ما يذهب من
1 الترمذي: البيوع (1265)، وأبو داود: البيوع (3565)، وابن ماجة: الأحكام (2405) .
البلد أو البحر، وإن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد. وقال: لو تغيب مضمون عنه، أطلقه في موضع وقيده في آخر، بقادر على الوفاء فأمسك الضامن وغرم شيئاً بسبب ذلك، وأنفقه في حبس، رجع به على المضمون عنه.
قوله في الكفالة: ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وقال الشيخ: تصح، اختاره في الفائق. وقال الشيخ: إن كان المكفول في حبس الشرع فسلمه إليه فيه بريء ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة، ويمكنه الحاكم من الإخراج ليخاصم غريمه ثم يرده، هذا مذهب الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما. قوله: وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل. إذا مات المكفول به، برئ الكفيل سواء توانى الكفيل في تسليمه حتى مات أو لا، نص عليه. وقيل: لا يبرأ مطلقاً، فيلزمه الديْن، اختاره الشيخ. وقال: السجان كالكفيل، ولو ضمن معرفته أخذ به، نقله أبو طالب. ولو خيف من غرق السفينة فألقى بعضهم متاعه، لم يرجع، وفي الرعاية: يحتمل أن يرجع إذا نوى، وما هو ببعيد. انتهى.
ويجب الإلقاء إن خيف تلف الركاب. ولو قال: طلق زوجتك وعليَّ ألف، أو مهرها، لزمه؛ قاله في الرعاية. وقال: لو قال: بعْ عبدك من زيد بمائة، وعلي مائة أخرى، لم يلزمه، وفيه احتمال. والله أعلم.