الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإجارة
الإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، 1 وقول تعالى:{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} الآية، 2 وقال تعالى:{لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} . 3 ولابن ماجة مرفوعاً: "إن موسى عليه السلام أجّر نفسه ثماني حجج أو عشراً، على عفة فرجه وطعام بطنه"، 4 وفي الصحيح:"أنه استأجر رجلاً من بني الديل"، 5 وفيه:"ثلاثة أنا خصمهم: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجره "6.
وهي عقد على المنافع، تنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وما في معناهما. ولا تصح إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: معرفة المنفعة، مثل بناء الحائط يذكر طوله وعرضه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن إجارة المنازل والدواب جائزة. ويجوز الاستئجار للخدمة كل شهر بشيء معلوم. قال أحمد: أجير المشاهرة
1 سورة الطلاق آية: 6.
2 سورة القصص آية: 26-27.
3 سورة الكهف آية: 77.
4 ابن ماجة: الأحكام (2444) .
5 البخاري: الإجارة (2263) .
6 البخاري: البيوع (2227)، وابن ماجة: الأحكام (2442) ، وأحمد (2/357) .
يشهد الأعياد والجمعة وإن لم يشترط. قيل له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضر بصاحبه. قال ابن المبارك: يصلي الأجير ركعتين من السنّة، وقال ابن المنذر: ليس له منعه منها. وإذا استأجر أرضاً احتاج إلى ذكر ما تكترى له من غراس أو بناء أو زرع.
الثاني: معرفة الأجرة، لا نعلم فيه خلافاً، فإن علمت بالمشاهدة دون القدر كالصبرة جاز. واختلفت الرواية عن أحمد: فيمن استأجر أجيراً بطعامه وكسوته، أو جعل له أجراً، وشرط طعامه وكسوته، فعنه: يجوز، وهو مذهب مالك وإسحاق. وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى "أنهم استأجروا الأجراء لإطعامهم وكسوتهم". وعنه: يجوز في الظئر دون غيرها، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه مجهول. وجاز في الظئر، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية. 1 وعنه: لا يجوز في الظئر ولا غيرها، وبه قال الشافعي وابن المنذر، لأنه يختلف اختلافاً كثيراً متبايناً. ولو استأجر دابة بعلفها لم يجز لأنه مجهول، وعن أحمد: أنه يجوز. وقال: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بالسدس، وهو أحب إلي من المقاطعة. ويستحب أن يعطي عند الفطام عبداً أو وليدة إذا كان موسراً، لحديث حجاج الأسلمي:"قلت: يا رسول الله، ما يذهب عني مذمّة الرضاع؟ قال: الغرة، العبد أو الأمة". 2 صححه الترمذي. والمذمة بكسر الذال من الذِمام، وبفتحها من الذَّم. قيل: خص الرقبة بالمجازاة، لأن فعلها من الحضانة والرضاعة سبب حياة الولد، فاستحب جعل الجزاء هيئتها رقبة لتناسب ما بين النعمة والشكر، ولهذا جعل الله المرضعة أماً، فقال تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَاّتِي} ، 3
1 سورة البقرة آية: 233.
2 الترمذي: الرضاع (1153)، والنسائي: النكاح (3329)، وأبو داود: النكاح (2064) ، وأحمد (3/450)، والدارمي: النكاح (2254) .
3 سورة النساء آية: 23.
وقال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه". 1 وإذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار من غير عقد ولا شرط فلهما الأجر، وقال أصحاب الشافعي: لا أجر لهما. ولنا: أن العرف الجاري يقوم مقام القول، كنقد البلد، ودخول الحمام، وركوب السفينة. وقال أحمد: لا بأس أن يكتري بطعام موصوف، وكرهه الثوري. وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه، وقيل: لا، وعن أحمد في إجارة الحلي: ما أدري ما هو. وقال مالك في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات.
ولو استأجر راعياً لغنم بدرّها ونسلها وصوفها أو بعضه لم يصح، نص عليه، لأنه مجهول. وسئل عن: الرجل يدفع البقرة بعلفها، والولد بينهما؟ قال: أكرهه، ولا أعلم فيه مخالفاًًً؛ فإن قيل: جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف مغلها، قلنا: ذلك تشبيهاً بالمضاربة. وذكر صاحب المحرر رواية أخرى: أنه يجوز. وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فنصف درهم، فهل يصح؟ على روايتين. ونقل عبد الله فيمن اكترى دابة فقال: إن رددتها اليوم فكراها خمسة، وإن رددتها غداً فكراها عشرة: لا بأس، وظاهر رواية الجماعة: الفساد، على قياس بيعتين في بيعة، وقياس حديث عليّ: صحته، وسنذكره. ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال مالك: قد عرف وجه ذلك، وأرجو أن يكون خفيفاً. وإن سمى لكل يوم شيئاً معلوماً جاز، وقال الشافعي: لا يصح، لأن مدة الإجارة مجهولة. ولنا: "أن علياً أجّر نفسه كل دلو بتمرة، وكذلك
1 مسلم: العتق (1510)، والترمذي: البر والصلة (1906)، وأبو داود: الأدب (5137)، وابن ماجة: الأدب (3659) ، وأحمد (2/230، 2/263، 2/376، 2/445) .
الأنصاري فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم". قال علي: "كنت أدلي الدلو بتمرة وأشترطها جَلْدة. واشترط الأنصاري أن لا يأخذ حدرة ولا بارزة ولا حشفة ولا يأخذ إلا جلدة. فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم". رواهما ابن ماجة.
الثالث: أن تكون المنفعة مباحة، فلا تجوز على الزمر والغناء، ولا إجارة دار لتجعل كنيسة، أو لبيع الخمر والقمار. والاستئجار لكنس الكنيف جائز، إلا أنه يكره له أكل أجرته كأجرة الحجام. وروى سعيد بن منصور:"أن رجلاً حج وأتى ابن عباس فقال: إني رجل أكنس، فما ترى في مكسبي؟ قال: أي شيء تكنس؟ قال العذرة. قال: فمنه حججت ومنه تزوجت؟ قال: نعم. قال: أنت خبيث، وحجك خبيث، وما تزوجت خبيث". ولا يجوز استئجار شمع ليتجمل به ويردّه، ولا طعام ليتجمل به على مائدته ثم يردّه، لأن فيه سفهاً، وأخذه من أكل المال بالباطل.
والإجارة على ضربين:
أحدهما: إجارة عين، فيجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها، كالأرض والدار والعبد. ويجوز استئجار كتاب ليقرأ فيه، إلا المصحف، في أحد الوجهين. والذي يحرم بيعه تحرم إجارته، إلا الحر والوقف وأم الولد.
ويجوز استئجار دار يتخذها مسجداً يصلى فيه. وبه قال الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ويجوز استئجار امرأته لرضاع ولده، وحكي عن الشافعي: لا يجوز، لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض، فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك.
ولا تصح إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يعقد على نفع العين دون أجزائها، فلا يجوز استئجار الشمع ليشعله، ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر ونقع البئر. ولا يجوز استئجار الفحل للضرب، وجوزه الحسن. ولنا:"أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل"1.
الثاني: معرفة العين برؤية أو صفة، في أحد الوجهين. وفي الآخر: يصح، وللمستأجر خيار الرؤية. وكره أحمد كراء الحمام، لأنه يدخله من يكشف عورته، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن كراء الحمام جائز، إذا حدده وذكر جميع آلته شهوراً مسماة.
الثالث: القدرة على التسليم، فلا يصح إجارة الآبق ولا المغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه، ولا إجارة المشاع مفرداً لغير شريكه، وعنه: ما يدل على الجواز. ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته، وإن كان في عمل شيء جاز بغير خلاف، لحديث علي.
الرابع: اشتمال العين على المنفعة، فلا يجوز إجارة أرض لا تنبت للزرع.
الخامس: كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذونا له فيها، ويحتمل أن يجوز، ويقف على إجازة المالك. وللمستأجر أن يؤجر العين إذا قبضها، وعنه: لا يجوز، لنهيه عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه؛ والأول أصح، لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل جواز التصرف فيها كبيع الثمرة على الشجر. ولا يجوز إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر، فأما إجارتها قبل قبضها، فيجوز من غير المؤجر، في أحد الوجهين. والثاني: لا يجوز، وهو
1 البخاري: الإجارة (2284)، والترمذي: البيوع (1273)، والنسائي: البيوع (4671)، وأبو داود: البيوع (3429) ، وأحمد (2/14) .
قول أبي حنيفة. وأما إجارتها للمؤجر قبل القبض، فإن قلنا: لا يجوز من غيره، فهنا فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن القبض لا يتعذر عليه، وأصلها بيع الطعام قبل قبضه، هل يصح من بائعه؟ على روايتين. ويجوز إجارتها من المؤجر بعد قبضها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة، وعنه: لا تجوز الزيادة. وعنه: إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة، و"نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن". 1 ولنا: أن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، لأنها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه. والقياس على بيع الطعام قبل قبضه لا يصح، فإنه لا يجوز وإن لم يربح فيه. وسئل أحمد عن: الرجل يتقبل عملاً فيقبله بأقل، أيجوز له الفضل؟ قال: ما أدري، هي مسألة فيها بعض الشيء. قلت: أليس إذا قطع الخياط الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئاً؟ قال: إذا عمل فهو أسهل. فإن مات المؤجر لم تنفسخ، في أحد الوجهين. والثاني: تنفسخ فيما بقي، لأنا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره، بخلاف الطلق، فإن الوارث لا يرث إلا ما خلفه. وإن أجر الولي اليتيم أو ماله مدة فبلغ في أثنائها، فليس له الفسخ، ويحتمل أن تبطل فيما بعد البلوغ، لزوال الولاية. وإن مات الولي أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره، لم يبطل عقده، كما لو مات ناظر الوقف أو عزل.
وإجارة العين على قسمين:
أحدهما: أن تكون على مدة، كإجارة الدار شهراً، والعبد للخدمة مدة معلومة؛ ويسمى الأجير فيها: الأجير الخاص، لأن المستأجر يختص بمنفعة في مدة الإجارة. ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة، بل يجوز إجارتها مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت، هذا قول عامة أهل العلم، غير أن
1 الترمذي: البيوع (1234)، وأبو داود: البيوع (3504)، وابن ماجة: التجارات (2188) ، وأحمد (2/174، 2/205)، والدارمي: البيوع (2560) .
بعضهم حكى عن الشافعي: لا تجوز أكثر من سنة. ولنا: قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . 1 ولا يشترط أن تلي العقد، وقال الشافعي: يشترط، إلا أن يستأجرها من هي في إجارته، ففيه قولان.
الثاني: عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات السلَم، كخياطة ثوب، ويسمى الأجير فيها: الأجير المشترك، مثل الخياط الذي يتقبل الخياطة لجماعة فتكون منفعته مشتركة. ولا تجوز على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالحج والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد الله بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها المعلمون من السحت؛ وعنه: يصح، وأجازه مالك والشافعي. فأما الأخذ على الرقية فإن أحمد اختار جوازه، لأنها نوع مداواة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 2 يعني به: الجعل في الرقية. وأما جعل تعليم القرآن صداقاً، فعنه: فيه اختلاف، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق، بل يحتمل أنه زوجه بغير صداق إكراماً له، كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه. فإن أُعطي المعلم شيئاً من غير شرط جاز، قال أحمد: لا يطلب ولا يشارط، فإن أُعطي شيئاً أخذه، وقال: أكره أجر المعلم إذا شرط. فأما ما لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة ومعناه كونه مسلماً، كتعليم الخط والحساب وبناء المساجد، فيجوز أخذ الأجر عليه. فأما ما لا يتعدى نفعه من العبادات المحضة، كالصيام والصلاة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، بغير خلاف. فإن استأجر من يحجمه صح، ويكره للحجام أكل أجرته، ويطعمه الرقيق والبهائم، وقوله: "أطعمه
1 سورة القصص آية: 27.
2 البخاري: الطب (5737) .
رقيقك" دليل على إباحته؛ وتسميته خبيثاً لا يلزم منه التحريم، فقد سمى الثوم والبصل خبيثين. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله، ولا تجوز بمن هو أكثر ضرراً منه ولا بمن يخاف ضرره.
والإجارة عقد لازم، وبه قال مالك والشافعي، فلا تنفسخ بموت أحدهما، وقال الثوري وأصحاب الرأي: تنفسخ. ولا تنفسخ بعذر لأحدهما مثل أن يكتري للحج فتضيع نفقته، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للمكتري فسخها لعذر، مثل أن يكتري جملاً ليحج عليه فيمرض، فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته.
ولا ضمان على الأجير الخاص.
قال أحمد فيمن أمر غلامه يكيل لرجل فسقط المكيال من يده فانكسر: لا ضمان عليه، قيل: أليس بمنزلة القصار؟ قال: لا، القصار مشترك. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر مذهب الشافعي، وله قول آخر: أن جميع الأجراء يضمنون. وروى في مسنده عن علي: "أنه كان يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا". "والأجير المشترك يضمن ما جنت يده، كالحائك إذا أفسد حياكته، والطباخ والخباز والحمال يضمن ما سقط من حمله عن دابته، أو تلف من عثرته"؛ روي ذلك عن عمر وعلي وشريح والحسن، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي. وقال في الآخر: لا يضمن ما لم يتعدَّ، قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به، روي عن عطاء وطاووس. ولنا: ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي "أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا على ذلك".
واختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من
حرزه أو بغير فعله بغير تفريط، فروي عنه: لا يضمن. وعنه: إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه، وإن كان عدواً أو غرقاً فلا ضمان؛ والصحيح الأول، وهذه الرواية تحتمل إنما وجب الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة، لأنه متهم. وقال مالك: يضمن بكل حال، لحديث:"على اليد ما أخذت حتى تؤديه". 1 والعين المستأجرة أمانة، إن تلفت بغير تفريط لم تضمن. قال أحمد فيمن يكري الخيمة إلى مكة فتسرق من المكتري: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن إذا ذهب؟ ولا نعلم في هذا خلافاً. فإن شرط المؤجر الضمان، فالشرط فاسد. وروى الأثرم عن ابن عمر قال:"لا يصلح الكري بالضمان". وعن فقهاء المدينة أنهم قالوا: لا يكرى بضمان، إلا أنه من شرط على المكتري أن لا ينزل بطن واد، أو لا يسير به ليلاً، مع أشباه هذه الشروط، فتعدى ذلك فتلف، فهو ضامن.
وإذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة أو الرائض لم يضمن، وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتأديب، وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي وإسحاق. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن، لأنه تلف بجنايته فضمن كغيره. وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي، لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب. وإذا اختلفا في قدر الأجرة فقال: أجرتنيها سنة بدينار، فقال: بل بدينارين، تحالفا؛ ويبدأ بيمين المؤجر، نص عليه. وقال أبو ثور: القول قول المستأجر، لأنه منكر للزيادة. وإن اختلفا في المدة، فقال: أجرتكها سنة، فقال: بل سنتين، فالقول قول المالك، لأنه منكر للزيادة. وتجب الأجرة بنفس العقد، إلا أن يتفقا على تأخيرها؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يستحق المطالبة بها إلا يوماً بيوم، إلا أن يشترط تعجيلها. وإذا
1 الترمذي: البيوع (1266)، وأبو داود: البيوع (3561)، وابن ماجة: الأحكام (2400) ، وأحمد (5/8، 5/13)، والدارمي: البيوع (2596) .
انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو نبات، لم يشترط قلعه عند انقضاء الأجل؛ فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالأجرة، أو قلعه وضمان نقصه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: عليه القلع من غير ضمان، لأن تقدير المدة يقتضي التفريغ عند انقضائها. ولنا: قوله: "ليس لعِرق ظالم حق" 1 مفهومه: أن غير الظالم له حق. وإذا تسلم العين بالأجرة الفاسدة، فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا شيء له، لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها. وإن استوفى المنفعة فعليه أجرة المثل، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب أقل الأمرين من المسمى وأجر المثل، بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وأما بلفظ البيع، فقال الشيخ في قاعدة له في تقرير القياس: التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان، وهذا علم في جميع العقود، فإن الشرع لم يحد حداً لألفاظها؛ وكذا قال في إعلام الموقعين: لو أجره الأرض وأطلق، فقال الشيخ: يعم، أو قال: انتفع بها بما شئت، فله زرع وغرس وبناء. ويستحب أن يعطى عند الفطام عبداً أو وليدة، قال الشيخ: لعله في المتبرعة بالرضاع، وليس عليها إلا وضع الحلمة في فمه وحمله ووضعه في حجرها، قال في الهدي: الله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصوداً أصلاً، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفًا ولا شرعاً. ولو أرضعت الطفل وهو في مهده استحقت الأجرة، ولو كان المقصود
1 الترمذي: الأحكام (1378)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) .
إلقام الثدي لاستؤجر له كل من لها ثدي ولو بلا لبن، فهذا هو القياس الفاسد حقاً والفقه البارد، والمقصود إنما هو اللبن. ولا يستأجر الدابة بعلفها، وعنه: يصح، اختاره الشيخ. وقال: لو أنزى الفحل على فرسه فنقص ضمن نقصه، ويجوز استئجار امرأته لرضاع ولده، وعند الشيخ: لا أجرة لها مطلقاً.
ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، قال الشيخ: ليس هذا إجارة، بل إذن في الإتلاف، وهو سائغ، كقوله:" من لقي متاعه"، واختار جواز إجارة قناة ماء مدة، وماء فائض ير له راياه، وإجارة حيوان لأجل لبنه قام به هو أو ربه، فإن قام عليها المستأجر فكاستئجار الشجر، وإن علفها ربها وأخذ المشتري لبناً مقدراً فبيع محض. وإن أخذ اللبن مطلقاً فبيع أيضاً، وليس هذا بغرر. ولأنه يحدث شيئاً فشيئاً فهو بالمنافع أشبه، فإلحاقه بها أولى، ولأن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان، وهو ما يحدثه من الحب بسقيه وعمله، وكذا مستأجر الشاة للبنها مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها، فلا فرق. والآفات التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن، ولأن الأصل في العقود الجواز وكظئر.
وتجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر لم تنفسخ، وقيل: تنفسخ، قال الشيخ: هذا أصح. وقال ابن رجب: هو الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها تلقياً عن الواقف بانقراض الطبقه الأولى. ومحل الخلاف: إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فإن كان
هو الناظر العام أو من شرطه له وكان أجنبياً، لم تنفسخ بموته، قولاً واحداً، قاله الشيخ. فإن شرطه للموقوف عليه، أو أتى بلفظ يدل على ذلك، فقال الشيخ: الأشبه أنه لا ينفسح، قولاً واحداً. فعلى الأول: يستحق البطن الثاني حصته من الأجرة من تركة المؤجر إن قبضها. وعلى الثاني: يرجع المستأجر على ورثة المؤجر. وقال الشيخ: إن قبضها المؤجر ففي تركته، فإن لم يكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات، فللبطن الثاني فسخها والرجوع بالأجرة على من هو في يده؛ قال: والذي يتوجه أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه، لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا، فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة، لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر. وقال: يجوز إجازة الإقطاع كالوقف، ولم يزل يؤجر من زمن الصحابة إلى الآن، وما علمت أحداً قال: إنها لا تجوز، حتى حدث في زمننا.
قال: وليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما، قلت: الصواب: الجواز إن رأى مصلحة، والذي يظهر أن الشيخ لا يمنع ذلك. وفي الفائق: عدم صحة إجارة المشغول بملك غير المستأجر، وقال شيخنا: يجوز في أحد القولين، وهو المختار. وقال الشيخ أيضاً فيمن استأجر أرضاً من جندي وغرسها قصباً، ثم انتقل الإقطاع عن الجندي: إن الجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى، وأنه إن شاء أجرها لمن له القصب، وإن شاء لغيره. قال: ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجر. وغلط بعض الفقهاء فأفتى
بفسادها، ظاناً أنه كبيع المبيع، وأنه تصرف فيما لا يملك؛ وليس كذلك، بل تصرف فيما استحقه على المستأجر. وإن أجره في أثناء شهر سنة، استوفى شهراً بالعدد وسائرها بالأهلة، وعنه: يستوفي الجميع بالعدد. وعند الشيخ: إلى مثل تلك الساعة، وقال: يعتبر الشهر الأول بحساب تمامه ونقصانه.
الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة، ويلزمه الشروع فيه عقب العقد، كخياطة ثوب، وبناء دار، وحمل إلى موضع معيّن. فلو ترك ما يلزمه، قال الشيخ: بلا عذر فتلف، ضمنه. ولا تصح على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وعنه: يصح، وقيل: يصح للحاجة، اختاره الشيخ. وقال: لا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة، وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدي إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. والمستحب أن يأخذ الحاج ليحج، لا أن يحج ليأخذ، ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من يقصد الدين فقط، والدنيا وسيلة، وعكسه؛ والأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق. ولو أجر أرضاً بلا ماء صح، فإن أطلق صح، إن علم المستأجر بحالها. وإن ظن تحصيل الماء وأطلق لم يصح. وإن ظن وجوده بالأمطار أو زيادة الأنهار صح. ومتى زرع فغرق أو تلف أو لم ينبت، فلا خيار له وتلزمه الأجرة. وإن تعذر زرعها لغرقها، فله الخيار؛ وكذا له الخيار لقلة ماء قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرق يعيب به بعض الزرع. واختار الشيخ: أو برد أو فأر أو عذر، قال: فإن أمضى العقد فله الأرش كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى
كماله. قال: وما لم يروَ من الأرض فلا أجرة له، اتفاقاً، وإن قال في الإجارة: مقيلاً ومراحاً أو أطلق، لأنه لم يرد على عقد كأرض البرية. قوله: وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وقيل: يملك الإمساك مع الأرش، وهو من المفردات؛ قال الشيخ: إن لم نقل بالأرش، فورود ضعفه على أصل أحمد بيّن.
ولا ضمان على طبيب إذا عُرف منه الحذق، بشرط إذن المكلف أو الولي، وإلا ضمن. واختار في الهدي عدم الضمان، قال: لأنه محسن لو أجلها فمات المستأجر لم تحل الأجرة، وإن قلنا بحلول الدين بالموت، لأن حلها مع تأخير استيفائه المنفعة ظلم، قاله الشيخ. وقال: ليس لناظر الوقف تعجيلها كلها إلا لحاجة، ولو شرطه لم يجز، لأن الموقوف عليه يأخذ ما لا يستحقه الآن، كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت وورثت، فإن الحكر من الانتقال يلزم المشتري والوارث، وليس لهم أخذه من البائع، وتركه في الصحيح من قولهم. وقال: من احتكر أرضاً بنى فيها مسجداً أو بناء وقفه عليه، متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف، وما زال البناء قائماً، فعليه أجر المثل، كوقف علو ربع أو دار مسجداً، فإن وقف علو ذلك لا يسقط حق ملاك السفل، كذا وقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض، قلت: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك.