الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهبة والعطية
إن شرط فيها عوضاً معلوماً صارت بيعاً، وعنه: يغلب فيها حكم الهبة، لقول عمر (:"من وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته إذا لم يرض منها". وقال أحمد: إذا وهب على وجه الإثابة فلا يجوز، إلا أن يثيبه منها.
وتلزم بالقبض، وعنه: في غير المكيل والموزون بمجرد الهبة، وقال مالك: تلزم بالعقد، لقوله: "العائد في هبته
…
إلخ". ولنا: أنه روي عن أبي بكر وعمر ولم يعرف لهما مخالف.
وفي الموطإ حديث أبي بكر، وقوله لعائشة:"كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً.. . إلخ". قال المروذي: "اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة". ووجه رواية اللزوم قبل القبض: ما تقدم من الحديث، ولأنه روي عن علي وابن مسعود. وأما هبة أبي بكر فيحتمل أنه غير معيّن، وهو لا بد فيه من القبض، وقول عمر:"ما بال قوم ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي. لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد" أراد به: التحيل لنحلة الولد بنحلة موقوفة على الموت. وإذا مات أحدهما قبل القبض بطلت. قال أحمد في رجل أهدى هدية فلم تصل حتى مات المهدى إليه: عادت إلى صاحبها.
وإن أبرأ الغريم غريمه برئ، وإن لم يقبل. وتصح البراءة من المجهول إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته. وقال الشافعي: لا يصح. ولنا: أنه
صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: "اقتسما وتوخّيا، ثم استهما، ثم تحالاّ". 1 رواه أبو داود.
فإن كان الموهوب له طفلاً أو مميزاً، قبض له أبوه أو وصي أبيه أو الحاكم، قال أحمد: لا أعرف للإمام قبضاً، ولا يكون إلا للأب؛ ويحتمل أن يصح القبض والقبول من غيرهم عند عدمهم، لأن الحاجة داعية إليه، لأن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه. فإن وهب لولده الصغير قبض له، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الرجل إذا وهب لولده الطفل داراً بعينها أو عبداً بعينه، وقبض له من نفسه وأشهد عليه، أنها تامة وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض. وقال مالك: إن وهب له ما لا يعرف بعينه كالأثمان لم يجز، إلا أن يضعها في يد غيره.
وتصح هبة المشاع، أمكنه قسمته أم لا. وقال أصحاب الرأي: لا تصح ما لا يمكن قسمته. ولنا: قوله: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". 2 رواه البخاري.
ولا تصح هبة المجهول كالحمل في البطن، وأجازه مالك.
ولا يجوز تعليقها على شرط ولا توقيتها إلا في العمرى والرقبى، وهو أن يقول: أعمرتك أو أرقبتك هذه الدار، أو جعلتها لك عمرك أو حياتك، فإنها تصح وتكون له ولورثته من بعده. سميت:"عُمْرى"" لقيدها بالعمر، و"رُقْبى" لأن كلاهما يرقب موت صاحبه، وهي أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو هي لك حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إليّ، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك. وعن بعضهم: لا تصح، لقوله: "لا تعمروا ولا ترقبوا". 3 ولنا: قوله: "العمرى جائزة، والرقبى جائزة لأهلها". 4 حسنه الترمذي. والنهي: إعلام أنكم إن فعلتم نفذت، وسياقه يدل عليه، فإنه قال: "فمن أعمر عمرى، فهي للذي أعمرها حياً وميتاً
1أحمد (6/320) .
2 النسائي: الهبة (3688) .
3 النسائي: العمرى (3731) .
4 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2626)، ومسلم: الهبات (1626)، والنسائي: العمرى (3754)، وأبو داود: البيوع (3548) ، وأحمد (2/347، 2/429) .
وعقبه". 1 وقال مالك والليث: "العمرى تمليك المنافع، فإذا مات عادت إلى المعمر". وسئل القاسم عنها فقال: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا.
قال ابن الأعرابي: لم تختلف العرب أن العمرى والرقبى والفقار والمنحة والعارية والسكنى، أنها على ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له. ولنا: قوله: "أمسكوا عليكم أموالكم؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبة ". 2 رواه مسلم.
وقد روى مالك حديث العمرى في الموطإ، وهو صحيح، رواه جابر وابن عمر وابن عباس ومعاوية وزيد بن ثابت وأبو هريرة. وقول القاسم لا يقبل في مقابلة مَن سمّينا من الصحابة والتابعين، فكيف في مخالفة سيد المرسلين؟! ولا يصح دعوى إجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم، وقضى بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك.
وقول ابن الأعرابي لا يضر إذ نقلها الشرع إلى التمليك الرقبة، وإن شرط رجوعها إلى المعمر بعد موته أو قال: لآخرنا موتاً، صح الشرط، وعنه: لا يصح. وهي للمعمر ولورثته، لقول جابر:"إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها"، وفي الموطإ عنه، مرفوعاً:"أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى من أعطاها"، 3 لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وحجة الرواية الثانية: الأحاديث المطلقة، والحديث الذي احتجوا به من قول جابر، وقوله في الحديث الآخر: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، هو من قول أبي سلمة بن عبد الرحمن.
وقال مالك: الرقبى باطلة، لأنها روي أنه أجاز العمرى وأبطل الرقبى. ولنا: ما ذكرنا من الأحاديث، وهذا الحديث لا نعرفه. وأما إن قال: سكناها
1 مسلم: الهبات (1625)، والنسائي: العمرى (3737)، وأبو داود: البيوع (3551)، وابن ماجة: الأحكام (2380) ، وأحمد (3/312، 3/317، 3/385) .
2 مسلم: الهبات (1625)، والترمذي: الأحكام (1350)، والنسائي: العمرى (3736) ،3737) ، وأحمد (3/312) .
3 مسلم: الهبات (1625)، والترمذي: الأحكام (1350)، والنسائي: العمرى (3745)، وأبو داود: البيوع (3553) ، وأحمد (3/399)، ومالك: الأقضية (1479) .
لك عمرك، فله أخذها، أي: وقت أحب، وتبطل بموت أحدهما، وبه قال الأكثر.
وقال الحسن وقتادة: هي كالعمرى. ولنا: أن هذا إباحة المنافع كالعارية.
ولا خلاف في استحباب التسوية بين الأولاد وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يستحبون التسوية بينهم حتى في القُبلة، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله، وقال مالك والشافعي: يعطي الأنثى كالذكر، لقوله:"سوِّ بينهم"، وعلله بقوله:"أيسرك أن يستووا في برك". ولنا: أن أولى ما اقتدي به قسمة الله، وقضية بشير قضية عين لا عموم لها، إنما ثبت حكمها في مثلها، ولا نعلم حالهم هل كان فيهم أنثى، ولعله علم أن ليس له إلا ذكر. ثم نحمل التسوية على كتاب الله، وما ذكر عن ابن عباس رفعه:"سوّوا بين أولادكم، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النساء"، الصحيح أنه مرسل. وقول عطاء خبر عن جميعهم، فإن خص أو فضل رجع أو أعطى حتى يستووا، وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء، وأجازه مالك والشافعي لخبر أبي بكر لما نحل عائشة، واحتج الشافعي بقوله:"أشهد غيري"، فأمره بتأكيدها. ولنا: حديث بشير، وفيه:""اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". فرجع أبي وردّ تلك الصدقة ?"، 1 وفي لفظ قال:"فارددها"، وفي لفظ:"فأرجعه"، وفي لفظ:"أتشهدني على جور؟ "، وفي لفظ:"سوِّ بينهم ". متفق عليه، وهو دليل على التحريم، لأنه سماه جوراً، وأمره بردّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا يوقع القطيعة، كتزويج المرأة على عمتها. وقول أبي بكر لا يعارض النص، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن الكسب، ولكونها أم المؤمنين، وقوله:"أشهد غيري" ليس بأمر، لأن
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587)، ومسلم: الهبات (1623) .
أقل أحواله الاستحباب؛ ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يأمره بتأكيده مع أمره؟ وحمله على هذا محمل [له] على التناقض.
وإن خص بعضهم لزمانة أو كثرة عائلة أو صرف عنه لفسقه، فعنه: ما يدل على الجواز، وظاهر لفظ الحديث: المنع على كل حال؛ والأول أولى، لحديث أبي بكر. وإن مات قبل ذلك ثبت للمعطى، وعنه: لا يثبت، وللباقين الرجوع. والأول قول أكثر أهل العلم، لقول أبي بكر:"وددت لو أنك حزتيه"، وقول عمر:"لا أعطيه إلا ما حازه الولد". والثاني قول عروة، قال أحمد: عروة روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"يردّه في حياة الرجل وبعد موته"، و"لأن أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد بردّ قسمة أبيه حين ولد له ولد لم يعلم به".
وسئل أحمد: عمن زوَّج ابنه فأعطى عنه الصداق ثم مرض، وله ابن آخر، هل يعطيه في مرضه كما أعطى الآخر في صحته؟ فقال: لو كان أعطاه في صحته فيحتمل أن يصح، وهو الصحيح، ويحتمل أن لا يصح. وقال أحب ألا يقسم ماله، يدعه على فرائض الله، لعله أن يولد له؛ فإن فعل ثم وُلد له، فأعجب إليّ أن يرجع فيسوي. فإن أعطى ولده ثم مات، ثم ولد له ولد، استحب للمعطي أن يساوي أخاه، لحديث قيس بن سعد. فإن سوى بين الذكر والأنثى في الوقف، أو وقف ثلثه في مرضه على بعضهم، جاز، وقياس المذهب: لا يجوز. قال أحمد: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال وبه حاجة فلا بأس، "لأن الزبير خص المردودة من بناته". وقال فيمن أوصى لأولاد بنيه بأرض توقف عليهم، فقال: إن لم يرثوه
فجائز، وعنه: لا يجوز. قال في رواية الميموني: يجوز. قيل له أليس تذهب إلى: "لا وصية لوارث"؟ 1 قال: الوقف غير الوصية، لأنه لا يصير ملكاً، واحتج بحديث عمر:"تليه حفصة ما عاشت ثم ذوو الرأي". وفيه: "لا حرج على من وليه أن يأكل". ولنا: "أن عمر لم يخص بعض الورثة"، والنزاع في تخصيص بعضهم، وجعل الولاية إلى حفصة ليس وقفاً.
ولا يجوز لغير الأب والأم الرجوع في الهبة، وقال الثوري وإسحاق: من وهب لغير ذي رحم، فله الرجوع ما لم يثب عليها، لقول عمر:"من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة الرحم أو على جهة صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها ما لم يرض منها". رواه في الموطإ. ولنا: قوله: "العائد في هبته
…
إلخ". فأما الأب فله الرجوع، وبه قال مالك والشافعي، وعنه: لا يرجع، لقوله: "العائد في هبته
…
إلخ". ولنا: حديث بشير، وعن ابن عمر وابن عباس، مرفوعاً: "ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده". 2 حسنه الترمذي.
فأما الأم فظاهر كلام أحمد: ليس لها الرجوع، لأنه سئل فقال: ليست عندي كالرجل، وذكر حديث عائشة:"أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه"، 3 أي: كأنه الرجل. ويحتمل أن لها الرجوع، وهو مذهب الشافعي، لدخولها في قوله:"إلا الوالد فيما يعطي ولده"، وفي قوله:"سوّوا بين أولادكم". 4 وقال مالك: لها الرجوع ما كان أبوه حياً، فإن كان ميتاً فلا رجوع، لأنها هبة ليتيم.
وحكم الصدقة حكم الهبة، ولم يجوزه مالك في الصدقة بحال، لقول عمر:"أو على وجه الصدقة". ولنا: حديث بشير، فإن النعمان قال:"تصدق أبي عليّ بصدقة". فإن تعلق بها رغبة لغير الولد، مثل أن يهب ولده شيئاً فيرغب الناس في معاملته
1 الترمذي: الوصايا (2121)، والنسائي: الوصايا (3641، 3643) ، وأحمد (4/186)، والدارمي: الوصايا (3260) .
2 الترمذي: البيوع (1299)، والنسائي: الهبة (3703) .
3 الترمذي: الأحكام (1358)، والنسائي: البيوع (4452)، وأبو داود: البيوع (3528، 3529)، وابن ماجة: التجارات (2137، 2290) ، وأحمد (6/31، 6/41، 6/126، 6/127، 6/162، 6/173، 6/193، 6/201، 6/202، 6/220)، والدارمي: البيوع (2537) .
4 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587)، ومسلم: الهبات (1623) .
فيداينوه، أو مناكحته فيزوجوه، أو يهب بنته فتتزوج لذلك، ففيها روايتان: أولاهما: لا رجوع، قال أحمد في الرجل يهب ابنه مالاً: فله الرجوع إلا إن يكن غرَّ به قوماً، فلا يرجع؛ وهذا مذهب مالك.
واختلف عن أحمد في هبة المرأة زوجها، فعنه: لا رجوع لها، وبه قال مالك والشافعي، لقوله تعالى:{إِلَاّ أَنْ يَعْفُونَ} ، 1 وقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية، 2 وعموم الأحاديث. وعنه: لها الرجوع، وذكر حديث عمر:"أن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها شيئاً، ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق به"، وذكر الحديث:"إنما يرجع في المواهب: النساء وشرار الرجال"، وعنه: إذا وهبت له مهرها إن سألها رده إليها، وإن لم يكن سألها فجائز، لأن الله إنما أباحه عن طيب نفس، وشاهد الحال يدل على أنها لم تطب به نفسها.
وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشرطين:
أحدهما: أن لا يضر بالابن.
الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده ويعطيه الآخر، نص عليه، لأنه ممنوع من التخصيص من مال نفسه.
وقال مالك والشافعي: لا يأخذ إلا بقدر حاجته، لقوله: " فإن دماءكم وأموالكم
…
إلخ". ولنا: حديث عائشة، مرفوعاً: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، 3 ولأن الله جعله موهوباً، قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، 4 {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} . 5 وقوله: "أحق به من والده وولده"، الحديث مرسل، ثم هو يدل على
1 سورة البقرة الآية رقم: 237.
2 سورة النساء آية: 4.
3 الترمذي: الأحكام (1358)، والنسائي: البيوع (4450)، وابن ماجة: التجارات (2290) ، وأحمد (6/41، 6/162، 6/201) .
4 سورة الأنعام آية: 84.
5 سورة الأنبياء آية: 90.
ترجيح حقه على أبيه، وهو أحق به فيما تعلقت به حاجته.
وليس لغير الأب الأخذ، ويحتمل أن يجوز للأم، لقوله:"أولادكم". وليس له مطالبة أبيه بديْن، ولا قيمة متلف، ولا غير ذلك. وقال مالك والشافعي: له ذلك. وروى الزبير بن بكار بإسناده: "أن رجلاً استقرض من ابنه مالاً فحبسه فأطال حبسه، فاستعدى عليه الابن علي بن أبي طالب، وذكر قصة في شعر، فأجابه أبوه بشعر، فقال علي:
قد سمع القاضي ومن ربى الفهم
…
المال للشيخ جزاء بالنعم
يأكله برغم أنف من رغم
…
من قال قولاً غير ذا فقد ظلم
…
وجار في الحكم وبئس ما جرم
…
قال الزبير: وبه أقول". وإذا برئ المريض أو كان مرضه غير مخوف، فعطاياه كعطايا الصحيح، وإن كان مرض الموت المخوف فعطاياه صحيحة "لأن عمر أوصى حين جرح، وأبو بكر عهد إلى عمر حين اشتد مرضه، وكذلك عليّ بعد ضرب ابن ملجم، وصّى وأمر ونهى"، ولم يختلف في صحة ذلك. وهي كالوصية لا تصح لوارث ولا لأجنبي بزيادة على الثلث، وحكي عن الظاهرية: أن الهبة المقبوضة من رأس المال. ولنا: حديث: ستة الأعبد، فإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى.
ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب، أو في لجة البحر عند هيجانه، أو وقع الطاعون ببلده، أو قدم ليقتص منه، أو الحامل عند المخاض، فكالمريض، وكذلك الأسير والمحبوس إذا كان عادتهم القتل. وقال إسحاق والثوري: ولو لم يخف القتل.
وقال مالك: الغازي عطيته من الثلث. وقال إسحاق: إذا ثقلت الحامل فعطيتها من الثلث، وقال قتادة:"عطية الحامل من الثلث". وقال الزهري: عطيتها كعطية الصحيح.
فإن قضى بعض غرمائه ووفت التركة، لم يكن للغرماء الاعتراض عليه، وإن لم تف فوجهان: أحدهما: الاعتراض، وهو قول أبي حنيفة، لأن حقهم تعلق بماله في مرضه. والثاني: الاعتراض عليه، وهو قول الشافعي. فإن لم يف الثلث بالتبرعات المنجزة، بدأ بالأول فالأول، سواء كان الأول عتقاً أو غيره، وبه قال الشافعي. وقال أبو يوسف: يقدم العتق تقدم أو تأخر. وإن تساوت، قسم بين الجميع بالحصص، وعنه: يقدم العتق.
وتفارق العطية الوصية في أربعة أشياء:
أحدها: أنه يبدأ بالأول فالأول، والوصايا يسوى بين المتقدم والمتأخر منها.
الثاني: أنه لا يجوز الرجوع في العطية.
الثالث: أنه يعتبر قبول العطية، وتفتقر إلى شروط الهبة. والعطية تقدم على الوصية، وهو قول الشافعي والجمهور.
الرابع: أن الملك يثبت في العطية من حينها.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وإن شرط ثواباً مجهولاً لم يصح، وعنه: قال: يرضيه بشيء، ذكرها الشيخ. وقال: إن أعطاه ليعاوضه أو ليقضي له حاجة فلم يف، فكالشرط. ولو وهب الغائب هبة وأنفذها مع رسول الموهوب له، ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل وصولها، كانت للموهوب له.
وإن أبرأ غريم غريمه وهما يعلمانه صح، وإن أعلمه المبرَأ، بفتح الراء، أو جهله، وكان المبرِئ، بكسرها، يجهله، صح. وعنه: يصح مع جهل المبرأ، بفتح الراء. وعنه: لا يصح إلا إذا تعذر علمه. وأما إن علم المديون فروايتان.
ولا تصح هبة الدين لغير من هو في ذمته، قال في الفائق: المختار: الصحة.
ولا تصح البراءة بشرط، كقوله: إن متَّ فأنت في حل، نص عليه. فإن ضم التاء فهو وصية. وجعل أحمد رجلاً في حل من غيبة بشرط أن لا يعود. وقال: ما أحسن الشرط. وأخذ صاحب النوادر من شرطه أن لا يعود، رواية في صحة البراءة بشرط. وفي صحيح مسلم: أن أبا اليسر قال لغريمه: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل. وأعلم به الوليد بن عبادة وابنه وهما تابعيان فلم ينكراه واختاره الشيخ. وقال: لا تصح هبة المجهول، كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئاً من مالي فهو له، واختار هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة.
واختار جواز التوقيت كقوله: وهبتك سنة، واختار، إن شرط رجوع العمرى إلى المعمِر بكسر الميم عند موته، أو قال: لآخرنا موتاً، الصحة. قوله: فإن مات يعني: الأب قبل الرجوع ثبت للمعطى، وعنه: لا يثبت، وللباقين الرجوع، إلا أن يتعلق به حق أو رغبة، اختاره الشيخ. وقال: يرجع فيما زاد على قدر الديْن أو الرغبة.
وقال: ليس للأب الكافر الرجوع، إذا كان وهبه في حال الكفر وأسلم الولد. وقال يستثنى مما للأب أن يأخذ سرية الابن، وإن لم تكن أم ولد، فإنها ملحقة بالزوجة، نص عليه أحمد. وسأله ابن منصور وغيره عن: الأب يأكل من مال ابنه؟ قال: نعم، إلا أن يفسده؛ فله القوت فقط. وقال الشيخ: قياس المذهب: أنه ليس له أن يتملك من مال ابنه في مرض موت الأب ما يخلفه تركة، كما لو تملك في مرض موت الابن.
وقال: لو أخذ من مال ولده ثم انفسخ سبب الاستحقاق، وجب رده إلى الذي كان مالكه، مثل أن يأخذ صداق ابنته ثم تطلق، أو ثمن السلعة ثم تُردّ بعيب. وقال: يملك الأب إسقاط ديْن الابن عن نفسه.