الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة السادسة والثلاثون
اتهام الفقهاء بمخالفة القرآن
في قولهم بعدم دخول الجنة بالعمل
يقول المشكك:
«ومع كون مصير الإنسان في الآخرة متوقفًا على عمله في الدنيا، يقول تعالى:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل:90]
(1)
.
فيقول
(2)
الفقهاء بأن دخول الجنة يكون برحمة الله، وليس بالعمل».
والجواب:
أولًا: لا خلاف بين المسلمين في وجوب العمل الصالح لدخول الجنة، كما نص الله تعالى في كتابه على ذلك في عدة آيات، ومن ذلك:
1 -
قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف:110].
2 -
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} [البقرة:82].
3 -
قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} [النحل:32]، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الصالحات.
فهذه الآيات التي ذكرتها ونحوها هي الدالة على دخول الجنة بالعمل الصالح، وليس قوله تعالى:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل:90]؟
وقد ذكر المشكك خمس آيات أخرى بمعنى هذه الآية، وقد أخطأ في الاستدلال بها؛ لأن هذه الآيات سيقت في بيان جزاء الكفار وأنه سبحانه لم يظلمهم، وإنما جازاهم بعملهم الذي عملوه لا غير.
(1)
وقد ذكر المشكك في الاستدلال لقوله خمس آيات، وهي:
1 -
آية النمل التي أوردتها في شبهته.
2 -
{وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} [يس:54].
3 -
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} [الصافات:39].
4 -
{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} [الجاثية:28].
5 -
{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور:16].
(2)
كذا في المنشور.
ثانيًا: ومع كون العمل الصالح واجبًا لدخول الجنة إلا أن دخولها متوقف على مشيئة الله تعالى ورحمته، وليس على عمل الشخص مهما كان عظيمًا. والقرآن يفسر بعضه بعضًا. ومن الآيات التي جاء فيها التفسير بأن دخول الجنة إنما يكون برحمة الله تعالى وفضله ومشيئته:
1 -
قال تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة:284].
2 -
قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة:105، وآل عمران:74].
3 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة:218].
فبين سبحانه أنهم مع إيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله لا يعولون في دخولهم الجنة على عملهم، بل على فضل الله تعالى ورحمته.
4 -
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء:175].
5 -
قال تعالى في حال أهل الأعراف وإدخالهم الجنة برحمته: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} [الأعراف:49].
6 -
قال تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور:27].
فبين - جل وعلا - أن مغفرته لعبده المؤمن وإدخاله له الجنة ووقايته له من النار هو مَنٌّ منه عليه، وليس بعمله ولاسعيه.
ثالثًا: وإذا كان العمل الصالح واجبًا لدخول الجنة ودخولها متوقف على مشيئة الله تعالى وفضله ومغفرته ورحمته فكيف التوفيق بين ذلك -أي: بين ما جاء أن دخول الجنة يكون بالعمل وبين ما جاء أن دخولها إنما يكون برحمة الله وتفضله ومشيئته-؟
فيقال: نعم يجب العمل الصالح كما أمر الله تعالى، فمن قَبِلَه الله تعالى وغفر له ورحمه دخل الجنة، ومن لم يقبله لم يدخلها، فإذا دخلها نزل فيها وارتفع في درجاتها بفضل عمله وسعيه، كما في قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} [النحل:32].
وهذا ما أشار إليه الحديث الذي ينكره هذا المشكك، وهو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ)
(1)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم (5673)، وصحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (4/ 2169)، رقم (2816).
قال ابن القيم في كتابه القيم "حادي الأرواح": «فصل: وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو: أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى، وليس عمل العبد مستقلًا بدخولها وإن كان سببًا، ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} ، ونفى رسول الله دخولها بالأعمال بقوله:(لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ). ولا تنافي بين الأمرين؛ لوجهين:
أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال: «النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِ
(1)
اللَّهِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ، وَانْقِسَامُ
(2)
الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ».
ويدل على هذا: حديث أبي هريرة -الذي سيأتي إن شاء الله تعالى-: (أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ)
(3)
. رواه الترمذي.
والثاني: أن الباء التي نفت الدخول هي "باء المعاوضة" التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي "باء السببية" التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره وأن لم يكن مستقلًا بحصوله. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمرين بقوله:(سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)
(4)
.
ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به. والله سبحانه وتعالى المستعان»
(5)
.
والله أعلم.
(1)
في حادي الأرواح: يفعر. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2)
في حادي الأرواح: واقتسام. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3)
سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب صفة الجنة (2/ 1450)، رقم (4336)، وسنن الترمذي، أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في سوق الجنة (4/ 685)، رقم (2549). وقال الترمذي:«غريب» . وقال الألباني: «ضعيف» . ضعيف سنن ابن ماجة للألباني (ص:363)، رقم (5001).
(4)
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ). صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (8/ 98 - 99)، رقم (6467)، وصحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (4/ 2171)، رقم (2818).
(5)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (ص:87 - 88).