الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة التاسعة عشرة
اتهام المحدثين بمخالفة القرآن
في قولهم بالتضييق على من لم يقاتلنا
يقول المشكك:
«يقول الله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة:8].
فيقولوا: بل نضطرهم إلى أضيق الطريق، ونفرض عليهم الجزية، ولا نبدؤهم بالسلام، ولا نعود مرضاهم، ولا يتم تهنئتهم بأعيادهم.
فهل تلك التعاليم المحمومة والفقه المعتوه من البر الذي أمرنا به القرآن»؟
والجواب:
أولًا: هذه الآية وما فيها من جواز البر والإحسان والعدل إلى أهل الكتاب -اليهود والنصارى- هي في غير المقاتلين والمحاربين منهم، قولًا واحدًا؛ لأن المحارب -وهو: الذي بينه وبين المسلمين جميعًا أو بعضهم قتال، أو أعلن عليهم الحرب مباشرة أو بغير مباشرة بالتأييد والنصرة أو بالسلاح ولو كان يعيش بين ظهراني المسلمين- لا يجوز البر والقسط إليه إلا في الحالات الإنسانية التي تقتضيها أخلاق الحرب في الإسلام.
ثانيًا: ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)
(1)
.
وفي رواية: (أَهْلِ الْكِتَابِ)
(2)
.
والكلام على هذا الحديث في عدة نقاط:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: (الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى) أو (أَهْلِ الْكِتَابِ) هذا لفظ عام يشمل المحاربين وغيرهم، فيحمل الحديث على أن المراد بذلك: هم المحاربون؛ تغليبًا. وهؤلاء لا بر معهم ولا كرامة.
2 -
إذا سلمنا أن المراد بهم اليهود والنصارى جميعًا المحاربين منهم وغير المحاربين فمن السنة ألا نبدأهم بالسلام؛ وذلك للآتي:
(1)
صحيح مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (4/ 1707)، رقم (2167).
(2)
نفس المصدر السابق والكتاب والباب والجزء والصفحة.
أ- أن السلام تحية خاصة بالمسلمين.
ب- أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكيف تلقيه على من لا يؤمن به سبحانه وتعالى ولا يقر بألوهيته ووحدانيته؟ فإلقاؤه على الكافر فيه مناقضة لمعناه؛ لأن من معانيه: أنه المُسلِّمُ لعباده من عذابه. فكأنك حين تلقيه عليه تدعو له أن يسلمه الله من عذابه. ولا يصح هذا في حق الكافر.
ج- ما في السلام من إعزاز وتودد وتحبب إلى الكافر، وقد نهانا الله عن ذلك.
وأما بدؤهم بغير السلام فلا مانع منه، مثل: صباح الخير، ومساء الخير، وأهلًا، ومرحبًا، ونحو ذلك من التحايا.
3 -
لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم ولا عن أحد من السلف أنهم كانوا يضيقون على الواحد من أهل الكتاب الطريق حتى يلصقونه بالجدار مثلًا.
وإذا كان الحال كذلك فمعنى قوله في الحديث: (فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)، أي: لا توسعوا لهم إذا قابلوكم في طريق بحيث تكون لهم السعة فيه ولكم الضيق، بل استمروا في طريقكم، فإن وجد ضيق فيكون عليهم لا عليكم. وهذا أمر طبيعي في كل شخص يمشي في طريق، فإنه يسير في الطريق الواسع ويترك الضيق منه لغيره. والله أعلم.
ثالثًا: إنكار هذا المشكك الجاهل لفرض الجزية على أهل الكتاب هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، وإنكار لمحكم القرآن الكريم الذي يدعي الإيمان به والاكتفاء به عن السنة، وذلك ردةٌ. قال تعالى في بيان فرض الجزية على أهل الكتاب:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة:29].
رابعًا: لم يرد حديث صحيح في النهي عن عيادة مرضى الكفار من غير المحاربين، وما روي في ذلك لم يثبت، بل حكم عليه بعض العلماء -كالجوزقاني- بالوضع، بل عكسه -وهو زيارتهم- هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال:(كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ)
(1)
.
وفي رواية: (فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ)
(2)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام (2/ 94)، رقم (1356).
(2)
مسند أحمد (21/ 78)، رقم (13375). وقال محققو مسند أحمد -شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون-:«إسناده صحيح على شرط الشيخين» . مسند أحمد (21/ 78)، حاشية رقم (2).
خامسًا: تهنئة اليهود والنصارى بأعيادهم فيها تفصيل:
1 -
إن كانت أعيادًا دينيةً فلا يجوز تهنئتهم بها بإجماع العلماء؛ لأن فيها إقرارًا لهم على شركهم واعتقاداتهم الباطلة.
2 -
إن كانت أعيادًا غير دينية أو كانت أفراحًا اجتماعية كأعياد الأم والعمال والتهنئة بالزواج وسلامة السفر والسلامة من الحوادث ونحو ذلك فلا مانع منها.
قال الإمام ابن القيم: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به
(1)
فحرام بالاتفاق، فيقول: عيد مبارك عليك، أو: تهنأ بهذا العيد، ونحوه. فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قَدْرَ للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هَنَّأَ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه»
(2)
.
سادسًا: قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29] أي: ما حرم الله تعالى في كتابه وما حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.
وفي هذا دلالة على: وجوب العمل بالسنة القولية التي ينكرها هذا الدعي المشكك.
والله أعلم.
(1)
يعني: باليهودي أو النصراني.
(2)
أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 441).