الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
انفراد السنة بالتشريع
استقلت السنة بأحكام كثيرة وجملة كبيرة من التشريعات لم ينص عليها القرآن، وهذه الأحكام والتشريعات التي جاءت في السنة وإن كانت تندرج عند بعض العلماء تحت الأصول العامة للقرآن الكريم -كـ: الأمر بطاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، والحذر من معصيته ومخالفته- إلا أن أكثر العلماء يرون غير ذلك، فهم يرون أن العمومات لا تكفي في الدلالة على القضايا الخاصة والتي تحتاج في ثبوت حكمها إلى نص خاص بعينها.
ومن تلك التشريعات على سبيل المثال لا الحصر:
1 -
في الطهارة: المسح على الخفين، وحرمة الصلاة والصوم والطواف والمكث في المسجد على الحائض والنفساء، والسواك.
2 -
في الصلاة: صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء.
3 -
في الزكاة: زكاة الفطر.
4 -
في البيوع: الحوالة، والشفعة، واللقطة، والمساقاة، وغيرها.
5 -
فيما يُطعم: الأضحية، والعقيقة، وتحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتحريم أكل السباع وكل ذي مخلب من الطيور.
6 -
في الأنكحة: تحريم نكاح المتعة والتحليل والشغار، والجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وإحداد المعتدة.
7 -
في الوصايا والفرائض: العُمرَى والرُقبَى، وإرث الجدة، وغير ذلك.
8 -
في الحدود: حد الخمر، وحد الرجم، وحد الردة.
9 -
في الجنايات: القسامة.
وغيرها.
قال الإمام الشافعي محمد بن إدريس مبينًا خلاف العلماء في استقلال السنة بالتشريع: «فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبيّن رسول الله مثل ما نص الكتاب.
والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيّن عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسنّ فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسنّ سُنّة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنّ من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]. فما أحل وحرم فإنما بيّن فيه عن الله، كما بين الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأَثبتت سنته.
ومنهم من قال: أُلقي في روعه كل ما سنّ، وسنته:"الحكمة" الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما أُلقي في روعه سنته»
(1)
.
وقد علق الدكتور مصطفى السباعي على هذا الخلاف الذي ذكره الإمام الشافعي بعد أن ذكر حجج الفريقين بقوله: «ويتلخص الموقف بين الفريقين في: أنهما متفقان على وجود أحكام جديدة في السنة لم ترد في القران نصًا ولا صراحة.
فالفريق الأول يقول: إن هذا هو الاستقلال في التشريع؛ لأنه إثبات أحكام لم ترد في الكتاب.
والفريق الثاني -مع تسليمه بعدم ورودها بنصها في القران- يرى: أنها داخلة تحت نصوصه بوجه من الوجوه -التي ستذكر فيما بعد-. وعلى هذا فهم يقولون: إنه لا يوجد حديث صحيح يثبت حكمًا غير وارد في القران إلا وهو داخل تحت نص أو قاعدة من قواعده، فإن وجد حديث ليس كذلك كان دليلًا على أنه غير صحيح ولا يصح أن يعمل به.
وأنت ترى أن الخلاف لفظي، وأن كلًا منهما يعترف بوجود أحكام في السنة لم تثبت في القران، ولكن أحدهما لا يسمي ذلك:"استقلالًا"، والآخر يسميه. والنتيجة واحدة»
(2)
.
(1)
الرسالة للشافعي (ص:91 - 93).
(2)
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى بن حسني السباعي (ص:385).