الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثانية والعشرون
اتهام المحدثين بمخالفة القرآن
في قولهم بكون النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي
يقول المشكك:
«ويقول تعالى بأنه أغنى رسوله.
فيقولون بأنه مات مديونًا ودرعه مرهونة لدى يهودي»
(1)
.
وقال أيضًا: «وقولهم بفقر رسول الله، وإنه مات ودرعه مرهونة لدى يهودي.
بينما كتاب الله يقرر: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى:8]. ومات غنيًا بنص كتاب الله. فهل يجوز أن يموت رسول الله مديونًا ليهودي وهو يملك حديقة تدر عليه دخلًا؟
ولماذا لم يرهن درعه لدى مسلم؟ ومن الذي فك الرهن؟ أم ما زال الدرع لدى اليهودي؟
سننتظر تبريرات المبررين.
فمن كمال الدين أن تعتقد بغنى رسول الله؛ تصديقًا منك لقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى:8]. ولا تتخذ معتقدًا بفقره أو بغنى نفسه؛ لتنكر الآية وتنكر غنى رسول الله، وتضيّق إطلاق الآية ومنطلقها. فمن تمام الإيمان أن تعتقد وتؤمن بأنه كان غنيًا بمعنى الغنى الفعلي، وليس غنيًا غنًى نسبيًا، بما يعني: أن القائلين بفقره ينكرون الحقيقة القرآنية لمصلحة روايات بشرية».
والجواب:
أولًا: لا خلاف في أن الله تعالى قد أغنى رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء:
- أغناه بمال زوجه خديجة رضي الله عنها؛ وذلك لأن قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى:8] هي مكية
(2)
(1)
يشير إلى: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ). صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب (4/ 41)، رقم (2916).
(2)
قال القرطبي: «وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري. وفي هذا نظر؛ لأن السورة مكية، وإنما فُرض الجهاد بالمدينة» . تفسير القرطبي (20/ 100).
وقال الشوكاني: «وقيل: {فَأَغْنَى} بما فتح لك من الفتوح. وفيه نظر؛ لأن السورة مكية» . فتح القدير للشوكاني (5/ 559).
وقال الألوسي: «وقيل: بما أفاء عليك من الغنائم. وفيه أن السورة مكية، والغنائم إنما كانت بعد الهجرة» . روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي "المشهور بـ: تفسير الألوسي"(15/ 382).
- أو أغناه بعد ذلك بما أفاء الله عليه صلى الله عليه وسلم من غنائم الجهاد وأموال بني النضير خاصة التي كانت خالصة له صلى الله عليه وسلم، فكان ينفق على أهله منها قوت سنة، وما بقي يجعله في الكراع -السلاح- وعدة في سبيل الله، كما في الصحيحين وغيرهما
(1)
.
- أو أغناه بحديقته "فدك" التي غنمها في السنة السابعة، لكن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم أوقف حديقة فدك على أبناء السبيل
(2)
، وقيل: كان ينفق منها على فقراء بني هاشم ويزوج أيمهم منها
(3)
.
(1)
عن عمر رضي الله عنه قال: (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ). صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه (4/ 38 - 39)، رقم (2904)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء (3/ 1376)، رقم (1757).
(2)
عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: فيما احتج به عمر رضي الله عنه أنه قال: (كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حُبُسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ فَكَانَتْ حُبُسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ). سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال (3/ 141 - 142)، رقم (2967). وقال الألباني:«حسن الإسناد» . صحيح سنن أبي داود للألباني (2/ 239)، رقم (2967).
(3)
عن المغيرة بن مقسم الضبي قال: (جَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَنِي مَرْوَانَ حِينَ اسْتُخْلِفَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ فَدَكُ، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا وَيَعُودُ مِنْهَا عَلَى صَغِيرِ بَنِي هَاشِمٍ وَيُزَوِّجُ مِنْهَا أَيِّمَهُمْ، وَإِنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهَا فَأَبَى، فَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، فَلَمَّا أَنْ وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، فَلَمَّا أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ عَمِلَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلَا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ أَقْطَعَهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ صَارَتْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ عُمَرُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ-: فَرَأَيْتُ أَمْرًا مَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ عليها السلام لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، وَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ، يَعْنِي: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال (3/ 143)، رقم (2972). وقال الألباني:«ضعيف» . ضعيف سنن أبي داود للألباني (ص:235)، رقم (2972). وقال محققا سنن أبي داود -شعيب الأرناؤوط ومحمد كامل قره بللي-:«أثر صحيح» . سنن أبي داود "نسخة أخرى" بتحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد كامل قره بللي (4/ 591)، حاشية رقم (1).
- أو أغناه بغنى النفس الذي لا يعدله كنوز الأرض كلها. فكل ذلك ثابت في حقه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
قال الشنقيطي: «لقد كان فقيرًا من المال فأغناه الله بمال عمه
…
ثم أغناه الله بمال خديجة، حيث جعلت مالها تحت يده
…
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار، لقد قدم المدينة تاركًا ماله ومال خديجة، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد، وكان بعد ذلك فيء بني النضير، وكان يقضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما هما الأسودان: التمر والماء.
ثم جاءت غنائم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر ورجع بدون شيء، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله، وأخيرًا تُوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في آصع من شعير.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى:8] يشير إلى هذا الموضع; لأن (أَغْنَى) تعبير بالفعل، وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان صلى الله عليه وسلم من حيث المال حالًا فحالًا، والواقع أن غناه صلى الله عليه وسلم كان قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة». أضواء البيان للشنقيطي (8/ 562).
وكذلك مما أغنى الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم: الغنائم والفَيء والصَّفيّ، وهدايا الصحابة رضي الله عنهم وهدايا الملوك وغيرهم.
ثانيًا: ليس بمستنكر في العقل ولا العرف ولا الواقع أن يقترض الغني لسبب من الأسباب، كتأخر الحصاد مثلًا، أو نفاد محصوله، أو ضخ رأس ماله كله في مشروع تجاري، أو إنفاق جميع ما معه من أموال في وجوه الخير، كما هو حال النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.
وهذه الدول الكبرى الغنية لم تزل ولا تزال تقترض لسد العجز الحاصل في ميزانيتها، ولا لوم عليها في ذلك. ولم يشنع عليها أحد لأجل ذلك كما شنع هذا المشكك.
ثالثًا: ليس في الاقتراض أي عيب على الشخص حتى ولو كان غنيًا، وكذلك أيضًا ليس فيه أي عيب إذا اقترض من غير بني جنسه خاصة إذا كان في مقابل رهن، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه:
1 -
مما جرى به العرف بين الناس.
2 -
أنه قائم على السداد ولو بعد حين.
وإذا لم يسدد المقترض لعجز أو موت فإن الدائن يملك الرهن شرعًا وعرفًا وقانونًا.
رابعًا: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من يهودي وليس من مسلم فلعله لم يكن عند المسلمين بغيته من الطعام في ذلك الوقت، أو لعله من باب تقريب اليهودي إلى الإسلام. وفوق كل ذلك فعله لبيان الجواز في هذا النوع من المعاملة وغيرها مع أهل الكتاب.
خامسًا: ذكر ابن حجر في "الفتح" عن ابن الطلاع في كتابه "الأقضية النبوية": «أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
ثم قال بعد ذلك: «لكن روى ابن سعد
(2)
عن جابر: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَضَى عِدَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ عَلِيًّا قضى دُيُونه)
(3)
»
(4)
. وكل ذلك محتمل.
(1)
فتح الباري لابن حجر (5/ 142).
(2)
يعني: في الطبقات الكبرى.
(3)
ولفظ الحديث عند ابن سعد: عن جابر رضي الله عنه قال: (قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَضَى أَبُو بَكْرٍ عِدَاتِهِ). الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 243).
(4)
فتح الباري لابن حجر (5/ 142).
وحتى لو لم تفك الدرع فلا ضير في ذلك؛ لأن الرهن هو في مقابل المرتَهَن، فإن تم السداد رد لصاحبه، وإن لم يتم تملكه المُقْرض عند انتهاء الأجل، كما هو المعمول به شرعًا وقانونًا.
سادسًا: إثبات هذا المشكك حديقة للنبي صلى الله عليه وسلم هو اعتراف منه بالسنة ولو من حيث لا يشعر.
وفي إثباته هذا إظهار لتناقضه العجيب، وما أكثر تناقضاته في هذه التشكيكات الزائفة.
والله أعلم.